كان قراء نيتشه في أمريكا مفتونين ومشدوهين، احتقاره للزهد المسيحي والعواطف البرجوازية والارتقاء الديمقراطي كانت كلها بمثابة اعتداء صريح على أبرز قيم المجتمع الأمريكي في القرن التاسع عشر.

ما فعله فريدريش نيتشه بأمريكا

مقال أليكساندر ستار

عن النيويورك تايمز يناير 2012

مراجعة لكتاب «نيتشه اﻷمريكي» الصادر عن دار جامعة شيكاجو

ترجمة: محمد بدر


من غلاف كتاب "نيتشه الأمريكي"

عندما عانى فريدريش نيتشه من الانهيار العقلي عام 1889 لم يكن قد ذاع صيته بعد، لكن بحلول وفاته في عام 1900 عن عمر يناهز خمسة وخمسين عامًا، كان قد أضحي حينها واحدًا من ألمع فلاسفة عصره. من روسيا إلى الولايات المتحدة أحيا المعجبون من جديد تقديره لذاته كشخصية عملاقة يمكنها أن تغير مسار التاريخ، «بقدر كبير أنا أفظع شخصية جاءت إلى الآن، لا يلغي هذا احتمالية كوني ربما الأكثر إفادة». جذوره تبدو متواضعة بالنسبة لهذا الدور، حيث ترعرع في بلدة صغيرة في كنف والده القس اللوثري، كان قارئًا نهمًا للأدب الكلاسيكي خلال فترته نشأته في شرق ألمانيا، في عامه الرابع والعشرين شغل منصب بروفيسور لدراسات اللغة في جامعة بازل بسويسرا، وبعد بضع سنوات نشر كتابه الأول وباكورة أعماله «مولد التراجيديا»، كاعتراض على وجهة النظر السائدة للحضارة الاغريقية باعتبارها مثال التوازن الهادئ، تبني نيتشه فيه ثنائية اﻹله ديونيسيس رب المجون والطيش الذي يكمل بخصاله فضائل الإله أبولو إله التعقل والعفة، لكن نجاح الكتاب كان محدودًا، حينها سخر من مؤلفه واحدًا من أبرز المفكرين الكلاسيكيين معتبرًا العمل على درجة من البربرية والهمجية «التي تشترط أن يجتمع حول ركبتيه النمور والفهود وليس شباب ألمانيا».

وفي واقع الأمر، لم يكن نيتشه ليجتذب أحدًا، ففي ظل معاناته من نوبات الصداع النصفي استقال نيتشه من منصبه الأكاديمي في عمر الثالثة والأربعين وشرع في حياة المفكر حديث العهد، مرتحلًا بين المنتجعات الاوروبية، ومع اكتساب معرفته مزيدًا من الزخم، أصدر أعمالًا مبتكرة تحدي بها كل القيم السائدة في الحضارة الأوروبية، واحتفى بالجانب البطولي في فن بيتهوفن وجوته، واحتقر الأخلاق المسيحية بوصفها «أخلاق عبيد» تترجم الضعف على أنه فضيلة والقوة التي تهبها الحياة كخطيئة. بَشَّر باﻹنسان الأعلى القابع خلف قوة الإرادة منتظرًا الخروج في سبيل قلب كل القيم أو كما يطلق عليه نيتشه «Ubermensch» أي اﻹنسان الفائق، لم يخش الحسد أو يحن لحياة ما بعد الموت، عوضًا عن ذلك تمنى أن تعيد حياته نفسها كما كانت مرارًا وتكرارًا، ببراعة متواترة وجنون العظمة المتزايد كتب نيتشه في أعمال لاحقة عن ازدرائه لثقافة «القطيع» السائدة ومخاطر العدمية وإمكانية النزوع إلى القوة باعتبارها «المرجع الأم لكل فصل من فصول التاريخ». قضى نيتشه العقد الأخير من حياته البائسة تحت رعاية والدته ومن ثم شقيقته، التي كانت من أشد المتعصبين ضد اليهود، حيث جعلت منه نموذجًا يتلاءم وأهواء القوميين الألمان الذين كان يحتقرهم نيتشه.

مع تدهور حالته، طفقت كتاباته في الانتشار، في الدوائر الصغيرة للراديكاليين الأوروبيين، والأدباء الارستقراطيين، وغير الأسوياء والمتطرفين الذين رأوا في أنفسهم مشروع للإنسان الأعلى حاملين على عاتقهم ابتداع قيم جديدة تناسب تطلعات العصر. تحايل الكونت الألماني والخبير بالفن هاري كيسلر من أجل إنشاء نصب تذكاري لنيتشه في فايمار أملًا في أن تأثير «تمثيل شخصية نيتشه في شكل مجسم معماري ضخم» من شأنه أن يعبر عن مزيج من الخفة والقوة والمرح. وبوصفه كان مقدسًا للسعادة القصوى والتفاني، لم تخل حياته مع ذلك من التيه والفزع أغلب الوقت. في أوج عزلته القاسية الفريدة تغنى نيتشه بالمكابدة والقسوة. شجب المسيحية باعتبارها «جريمة ضد الحياة» برغم اعتقاده أنها جعلت من الإنسان كائنًا مثيرًا للاهتمام في بداية الأمر. قال إن مجمل ما نعرفه لا يأتي سوى من منظور ضيق للمعرفة وأطلق بعضًا من أكثر العبارات الأيقونية والمثيرة للجدل كـ«موت الإله»، و«لا يمكن تبرير العالم والوجود إلا باعتبارهما ظواهر جمالية»، و«لا توجد حقائق بل فقط تأويلات».

منذ البداية، كان قراء نيتشه في أمريكا مفتونين ومشدوهين، احتقاره للزهد المسيحي والعواطف البرجوازية والارتقاء الديمقراطي كانت كلها بمثابة اعتداء صريح على أبرز قيم المجتمع الأمريكي في القرن التاسع عشر، ولنفس السبب ألهم نيتشه الشباب الأمريكي الذين شعروا بالانفصال عن ثقافتهم وما زال يفعل ذلك، لكن نيتشه المحير هذه اﻷيام والذي لا مناص منه ليس بالضرورة أن يكون نفس المفكر الذي ألهم القراء في الماضي، وهنا يأتي عمل الكاتبة جينفر راتنر-روزنهاجن «نيتشه الأمريكي» في إيضاح تلك المسألة. 

علي الرغم من أن نيتشه كان معاديًا لليسار إلا أن ذلك لم يمنع اليساريين من الإعجاب به. وكما توضح راتنر-رزونهاجن أن «الأناركيين»، و«الرومانسيين الراديكاليين»، و«الأدباء الكوزموبوليتانيين من مختلف المشارب السياسية» رحبوا به في أمريكا ورأوا فيه التجسيد الأمثل للشاعر إيمرسون الذي يعتبر الفكر «روح حية كالتي للحيوان والنبات»، قراءة نيتشه تعني أنه ينبغي تجاوز ذاك الانقسام المثبط للحضارة بين التفكير والشعور. تقول إيزادورا دنكان إنه «أنعش وجودي» في حين أن كلا من جاك لندن ويوجين أونيل رأوا فيه تجسيدًا للسيد المسيح. أنهت إيما جولدمان علاقتها بالنمساوي الأناركي إد برادي لأنه لم يقدر الكاتب الكبير الذي حلق بها عاليًا فوق مرتفعات لم تكن لتحلم بها، بالنسبة لتلك النوعية من القراء كان هكذا تكلم زرادشت بدعوته المطلسمة لجيل الإنسان الأعلى بتأسيس أخلاق جديدة مفادها «أن تظل مخلصًا للأرض» هي مطمح نيتشه الجوهري. وكنبض لهذا الوجدان والجموح تيقن هؤلاء أن أمريكا المحافظة والسلطوية ليست مكانًا واعدًا للمفكر الجاد. ببراعة تكتب جينفر روزنهاجن، «قبل سنوات عديدة، كان أبناء هذا الجيل تائهون في أوروبا، فشعروا أنهم في موطنهم عند نيتشه وأنهم بلا مأوى في أمريكا الحديثة».

لكن معجبي نيتشه الأميركيين واجهوا مشكلة محبطة: كيف يمكنهم الفصل بين هجماته الاندفاعية على التقاليد وبين ازدرائه للديمقراطية وسياسة الدهماء داخلها، رحب بينجامين تاكر الذي نشرت صحيفته الأناركية أول سلسلة ترجمات لنيتشه في أمريكا بميلاد «أناني عظيم آخر»، لكنه كان قلقًا أيضًا من أن إطلاق العنان لغرور الإنسان الأعلى قد لا يكون فكرة سديدة، كما تصف راتنر-روزنهاجن، «لكي يرتقي شخص ما في المقابل يعني ذلك انحدار شخص آخر». في الوقت ذاته جعل آخرون من مناهضة نيتشه نقطة تحسب لصالحه، تلقي الصحفي فانس طومسون تأييدًا بشأن استخفافه بالمغالطة الوحشية بأن جميع البشر يولدون أحرارًا ومتساوين، في حين المترجم الأمريكي لنيتشه الأكثر تأثيرًا هنري منكن احتفى «بأعظم فرداني جاء منذ آدم لكشفه عن حقيقة بدائية مفادها أن: الفئة المستضعفة فقط.. هي من تؤمن بالمساواة».

في حين أن قراء نيتشه الأوائل تعاملوا معه كترياق للقومية الأمريكية، فهذا لا يعني أنهم اعتبروه ممثلاً لألمانيا، اعتقادًا منه بأن أسلافه كانوا من الارستقراطيين البولنديين معروفين باسم نيزكي، عزا البعض طريقة تفكيره إلى العواطف السلافية، كل هذا ذهب أدراج الرياح بحلول عام 1914 عند بداية ما أطلقت عليه صحيفة بريطانية «الحرب الأوروبية النيتشوية»، حيث تحول فيلسوف التحرر الذاتي إلى مؤجج للصراعات والعواصف الذي آمن بأن القوة تصنع الحق ورحب بالنهوض المشؤوم لفرسان «الوحش الأشقر». وفي عام 1924، اكتسبت سمعة نيتشه ضررًا إضافيًا عندما ارتكب ناثان ليوبولد وريتشارد لوب، الابنان المراهقان لعائلات شيكاجو الثرية، جريمة قتل عشوائية بنية ظاهرة لإثبات صدق نواياهم كإنسان نيتشه المنتظر. (وكما توضح جينفر راتنر، أربكت القضية على نحو كبير محامي الدفاع العظيم كلارنس دارو الذي حاول إلقاء اللوم على صاحب كتاب «ما وراء الخير والشر» لكنه لم يتماد في ذلك، وخلال مرافعته التي استمرت 12 ساعة أمام القاضي وصف نيتشه بأنه «أكثر مفكري القرن الماضي أصالة»، وسعي جاهدًا للمجادلة بأن «ناثان ليوبولد ليس الصبي الوحيد الذي قرأ نيتشه، لكنه ربما الوحيد الذي تأثر به بهذا الشكل»).

إذا كانت سمعة نيتشه في حالة يرثي لها خلال الحرب العالمية الثانية عندما قام هتلر بإهداء موسوليني طبعة من أعماله الكاملة وكتب المؤرخ كرين برينتون كتابًا مدعيًا فيه أنه كان بإمكانه أن يكون «نازيًا جيدًا»، فسرعان ما ابتعث مرة أخرى. أحيا المهاجر الألماني وأستاذ جامعة برينستون والتر كوفمان بمفرده تقريبًا مكانته من جديد بترجماته العديدة وتذكيره القاطع بأن نيتشه كان في الواقع معاديًا لكل معاديي السامية والقوميين الألمان بنفس الدرجة التي يكره بها المتصوفة الرومانسيين. كان نيتشه كوفمان زهرة متأخرة من التنوير، عقلانيًا عنيدًا ومتحليًا بالشجاعة لمواجهة تعرية داروين للحقيقة العبثية للطبيعة والوجود. الهدف الأسمى للإنسان الأعلى هو أن يتجاوز ذاته وليس اﻵخرين، والقيام بذلك عن طريق نحت دوافعه وأفكاره وإرثه داخل إرادة موحدة تندرج تحت مسمى «الأسلوب».

لكن هل تغافل كوفمان وغيره ممن كانوا يقدرون فردانية نيتشه المتعنتة كدفاع ضد تهديد الشمولية وثقافة القطيع عن كتاباته الفعلية؟ فكما توضح جينفر راتنر، احتفى الجيل اللاحق من المترجمين الأمريكيين ممن تأثروا بميشيل فوكو وجاك دريدا بنيتشه ليس كضامن للفردية بل كمفكك لها. «اﻹنجاز ليس إلا خيال نضيفه إلى المنجز»، كما كتب نيتشه في «جينالوجيا الأخلاق»، وكان المجاز واضحًا: إذا كان اﻹله قد مات وبنفس الدرجة تلك الكينونات الوهمية مثل الذات، فليس هناك حقائق موضوعية وإنما يستمد مفهوم الحقيقة صلاحيته من عمل القوة وتأرجحات اللغة، وحتى عندما غزا نيتشه ما بعد البنيوي الجامعات عام 1980 تمخض عن ذلك ردود فعل مضادة من المفكرين المحافظين. في كتابه «انسداد العقل الأمريكي» شجب آلان بلوم نيتشوية اليسار فيما وصفها بصعود النسبية العدمية التي تفترض أن كل اعتقاد مقبول بقدر الآخر. بالنسبة لبلوم وتلاميذ ليو شتراوس لم يكن نيتشه هو الداء فقط، لكنه كان التشخيص وربما الدواء أيضًا، وببراعة دونًا عن سواه سبر نيتشه أغوار الخطر المتمثل في العدمية الحديثة والحاجة لصناعة نفوس قوية تكافح لتحقيق التفوق دون الحاجة للاعتقادات الدينية السلطوية.

«نيتشه الأمريكي» عمل رصين من التاريخ الفكري، لكن كما يصر نيتشه بأن كل معرفة تعكس طابع مبتكرها، ومن الواضح أن روزنهاجن لم تجد ضالتها لا في المحافظ أو حتى في ما بعد البنيوي. في نهاية كتابها الذي يتسلسل ببراعة متواترة، حولت قلمها صوب هارولد بلوم والفيلسوف ستانلي كافيل الذي أكدا على تقارب نيتشه مع المفكر الذي اعتبره هو نفسه «المؤلف الأكثر خصوبة في عصره»، وهو رالف والدو إيمرسون. يمكن للمرء أن يستشف بوضوح تمهيد إيمرسون للعديد من أحكام نيتشه الأكثر شهرة. هناك تماس مباشر بين «الروح المتفوقة» و«الإنسان الأعلى»، قبل عدة عقود كتب نيتشه «ما لا يقتلني يقويني»، وكتب إيمرسون «بشكل عام كل شر لا نستسلم له هو هدية». وعلى نحو أكثر عمقًا أنذر إيمرسون باهتمام نيتشه بمسألة كونية مبدأ القوة والتغيرات المستمرة وقيمة تجاوز الماضي. «الحياة ليست إلا منفعة»، كتب إيمرسون ذات مرة، «ليست تلك التي عشناها. تخبو القوة في لحظات الراحة العارضة لكنها تحيا في لحظات التحول من الماضي إلى دولة جديدة».

وتخلص راتنر روزنهاجن إلى أن ستانلي كافيل وآلان بلوم والفيلسوف البراجماتي ريتشارد رورتي صنعوا نسخة «نيتشه الأمريكي» بناءً على التفسيرات الفلسفية التي تفترض عالمًا بلا أسس ثابتة فإن آرائنا عن الحقيقة واللغة والذات ليست مرآة للواقع لكنها خيالات مفيدة لبحث سبل جديدة في رحلة الاستكشاف والتعجب. تؤكد راتنر على أن حاملي إرث نيتشه سواء من أتباع إيمرسون أو البراجماتيين أهملوا حتمًا بعضًا جوانبه اﻵخرى، أنها لا تأخذ في الاعتبار بشكل كامل موقف نيتشه من أستاذه إيمرسون باعتباره كان متيمًا بالحياة أو كيف أنه شكك بقدرات السواد الأعظم من الناس على اكتشاف أي شيء على اﻹطلاق ولا حتى تسرد الكثير عن حضوره الأوسع في الثقافة. في عام 1933، أجبر مكتب هايز منتجي فيلم الممثلة باربرا ستانويك «وجه الطفلة» على سحب كتاب إرادة القوة من يد عامل ألماني أمريكي يعمل إسكافيًا حيث يقوم بإلهام ستانويك لتحقق ذاتها وتصبح عاملة في مجال الجنس. والكثير من أقوال نيتشه الطنانة ستدخل فيما بعد الثقافة الشعبية دون استئذان، في كل جيل يجد نيتشه معجبين يقومون بطمس رسالته، أليستر كراولي المنجم القارئ لنيتشه الذي يكتب «أن تفعل ما تشاء يجب أن يكون ذلك روح القانون».

إذا اعتبرنا نيتشه مريعًا، فهل يمكنه أن يكون مفيدا؟ في كتاب صادر عام 1985 «نيتشه: الحياة بوصفها أدبًا»، جادل الفيلسوف ألكساندر نياماس أن منظورية (نسبية المعرفة) نيتشه لا تعني بالضرورة أن كل معتقد صحيح بقدر الآخر لكن «معتقدات المرء الشخصية ليست ولا من المفترض لها أن تكون صالحة للكل». في هذه القراءة، القبول بجمع من المعتقدات بشكل كامل يعني أن نقبل بالقيم وطرق العيش المرتبطة به، وبما أنه لا توجد طريقة محددة للعيش تناسب الجميع بالتالي لا توجد حزمة من المعتقدات تناسب الكل أيضًا. إن الفردانية الأمريكية في أفضل صورها لا تتعلق بالتضخيم المفرط للذات أو الافتراض الخاضع بأن لكل شخص ببساطة الحق في الاعتقاد كيفما يشاء، بل تكرس لمفهوم أن القناعات هي ملكية شخصية بحتة ويجب أن تؤخذ بجدية وبحرية تصرف مثلها مثل أي ممتلكات شخصية أخرى أو كما يتصور نيتشه أن يقول الفلاسفة ذات يوم: «إن حكمي أمر خاص بي، وليس لأحد الحق في حشر أنفه بسهولة».


الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه