هل ماتت الفلسفة؟

مقال لفريت جوڤن

نُشر في apaonline مارس 2017

ترجمة فاطمة الزهراء صفوت

*فريت جوڤن أستاذ الفلسفة بكلية إيرلهام في ريتشموند إنديانا

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها


عن Apaonline

أما سمعتم بالرجل الغريب الذي أوقد فانوسه في وضح النهار، وصار يجري في المؤتمر صائحًا بلا توقف: أَبْحثُ عن الفلسفة! إني أَبْحثُ عن الفلسفة! ولمّا كان الكثير من الحاضرين هناك أساتذة فلسفة فقد أثار هذا سخطهم؛ ماذا حدث للفلسفة؟ هل فوّت محاضرتك؟ ألم تسجل في أي منها؟ ألا تفهم اللغة الإنجليزية؟ صاح الغريب: أنا سأخبركم ما الذي حدث لها، لقد ماتت الفلسفة! لكن كيف ذلك؟ كيف جعلنا الناس يتوقفون عن التفكير، كيف توقفنا عن العيش فلسفيًا؟ لقد قتلناها، جميعُنا؛ اعتبرناها تخصصًا ضمن باقي التخصصات، أصبحنا متخصصين نبيع الفلسفة، عندما أصبحنا خبراء، عندما أعددنا السير الذاتية والهويات وروجنا لأنفسنا لأجل المال، أردنا أن نحظى ببصماتنا الخاصة، عندما ألفنا الكتب، ونشرنا المقالات التي كُتبت للحصول على درجة علمية أو لمجرد النشر، بحضورنا المؤتمرات على غرار المنظمات المهنية الأُخرى وعندما اتخذنا من الفلسفة حياةً مهنية.

وتساءل الأساتذة، لكن كيف نواصل الانشغال بالفلسفة إن كانت ميتة؟ كيف نؤلف الكتب؟ ما الذي سنفعله في المؤتمرات؟

قرأت منذ حوالي عامين تدوينة نمطية نوعًا ما (نمطية من حيث إنها تتكون من قائمة، وهي عبارة عن عناوين مضللة مشهورة لسبب ما) حول أن المؤتمرات ليست بالشكل ولا المحتوى الملائم للعلوم الإنسانية. علّقتُ بأنني لم أعد أذهب إلى مؤتمرات الفلسفة لنفس المشكلات التي أوردها المقال. لم تكن المقالة «سلبية»، فقد ذكرت عشرة معايير (لمَ دائمًا عشرة؟) لجعل كلمات المؤتمر أفضل حتى لا يساهم المتحدث في موت الإنسانيات. بدأتُ في الاعتقاد أنه ربما ليست المشكلة في طريقة تحسين المؤتمرات أفضل، بل شكل المؤتمر نفسه يُمثل منتدى إشكاليًا للفلسفة. غير أن شكل المؤتمر لا يُمكن فهمه بمنحى مُستقل عن جميع النشاطات «المهنيّة» للإنسانيات عمومًا والفلسفة تحديدًا. تتعلق ملاحظاتي بالفلسفة «كتخصص» حيث لا أعتقد أن فروع الإنسانيات الأُخرى تتعارضُ مع التأهيل المهني بالضرورة.

تُمثل معارضتي لشكل المؤتمرات جزءًا من قلق أكبر حيال موت الفلسفة في القرن الحادي والعشرين. وكنتيجة لملاحظاتي فيما يتعلق بالمدونة التي ذكرتها، علق زميل بالآتي:

ألم تقابل قط شخصًا، أي شخص، وأصبح زميلًا وصديقًا ما زلت تتعاون معه؟ أو باحثًا كبيرًا أُعجب بعملك وأصبح مرشدك بعدها؟ أو طالبَ دراسات عُليا ساعدته في فهم فكرة صعبة؟ ألم يسبق أن طار عقلك؟ ألم يحدث أبدًا أن تتلقى ملاحظات مرجعية ساعدتك في جعل ورقتك البحثية مقالًا أفضل؟ إن بعض المؤتمرات والكلمات أفضل من غيرها؛ لا أحد يجبرك على الذهاب. ربما المشكلة تكمن فيك.

بالطبع المشكلة فيّ أنا. إن الأمر يتعلق بما تعنيه لي الفلسفة، ولم أُفكر فيه أبدًا، وما زلت لا أُفكر فيه، ولا أظن أنني الوحيد الذي يفكر في هذا الأمر. لقد سمعت مراتٍ عديدة أن الناس تُعامل المؤتمرات على إنها فرصة لتطوير مسيرتهم المهنية في أفضل الأحوال، والانغماس في العلاقات الشخصية كأسوأ الفروض. ما الذي تعنيه الفلسفة «للمتخصصين»؟

حين قررت دراسة الفلسفة؛ قرأت كتابًا بعنوان «رجل غير عقلاني» للفيلسوف الأمريكي ويليام باريت، الذي يُعد كتابًا قديمًا حتى حينه، كان الكتاب عبارةً عن دراسة حول الوجودية، وقد عُنون الفصل الأول «نشأة الوجودية» واصفًا وصول الفلسفة الوجودية للأوساط الأكاديمية الأمريكية. وصف فيه باريت الفارق بين نوع فلسفة المشاريع الأكاديمية المهنية التي وصلت للولايات المتحدة، ونوعٌ آخر من الدافع للفلسفة التي كانت لا تزال حاضرة في فلسفة أفلاطون رُغم حقيقة أن فلسفة أفلاطون قد أصبحت مميزة ومتخصصة. يُوصف هذا الدافع بأنه «طريقة مُتّقدة للحياة». بحسب باريت فإن الفلسفة بالنسبة لأفلاطون تعني «سعي الأرواح إلى الخلاص»، «إلى النجاة من معاناة العالم الطبيعي وشروره». لم أتفق مع عبارة «شرور العالم الطبيعي»؛ بدا كما لو أنه أمر ميتافيزيقي أو ربما ديني لأنه بُني على الافتراض الضمني لعالم الحس وعالم الصيرورة بمفهوم نيتشه. ومع ذلك فوجئت بالجملة التالية:

حتى اليوم، يظل الدافع وراء مواصلة الشرقيين دراسة الفلسفة مختلفًا كليًا عن دافع الطالب الغربي: فإيجاد الراحة والسلام من عناء الحياة وحيرتها هو السبب الوحيد الذي يجعل الطالب الشرقي يتكبد عناء دراسة الفلسفة.

رغم إدراكي المشوش لطابع العبارة الاستشراقي، فقد تماهيت تمامًا معها. فقد كنت في نهاية المطاف شرقيًا نوعًا ما. في واقع الأمر كانت الفلسفة الأساس الذي قامت عليه الثقافة التي تُعرفني على أنني الآخر. فإذا كنت سأقاوم الأسلوب الذي أُقصيت به من الثقافة العالمية ومنطق الغيرية هذا، كان عليّ دراسة الفلسفة. وقد قمتُ بالأمر بشغف، فطالما اعتقدت أنها أهم نشاط (على الصعيد الفكري والعملي) ولا أعتقد ذلك لأن الفلسفة مهنتي؛ فالفلسفة ليست مجرد اهتمام بل شيء لا أستطيع العيش بدونه. فهي أمرٌ إلزامي يتخطى خياري الفردي. فلطالما اعتقدت أنها تتجاوزني، ليست كالدين أو الإله لكن كشيء جعل حياتي محتملة.

لكن عندما أقرأ هذه الأسطر الآن أُدرك مدى سذاجتي على عدّة مستويات مختلفة. فبعد عملي لأكثر من عشرين عامًا في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، عرفت أنني لم يكن لدي أدنى فكرة عن كيف أن الفلسفة الأكاديمية الأمريكية لم تكن تشويهًا للفلسفة كشغف وحسب، وإنما كانت بمثابة نهاية الفلسفة. للأسف تتعدى المشكلة أي شخص في الأوساط الأكاديمية. الأمر متعلقٌ بأن الفلسفة في الأوساط الأكاديمية ما عادت تُثير الإشكاليات التي وُجِدت الفلسفة في ظلها. إذ أن امتهان الفلسفة لا يفسدها فحسب؛ بل يبيدها.

تُصدرُ الفلسفة التخصصية الملاحظات والأطروحات في محاولةٍ منها للمطالبة بمكانتها لأن عليها تبرير نفسها من منظور خطاب السلطة، حيث يُقاس أي نشاط بمدى فائدته؛ لذا نخبر الطلاب كم أن الفلسفة مفيدة، وكيف ستحسن مهاراتهم التحليلية (أو ربما الإبداعية). لكنّي قطعًا لا أقوله بقلبٍ صادق. الفلسفة ليست مهارة ولا مجموعة افتراضات ولا نظرية وليست «ملكية» يُمكن للمرء تجميعها وتسويقها؛ إنها عملية تحوّل، شيءٌ يعيد الحياة، طريقة لعيش الحياة بوعيٍ ذاتي، تأمل يجعل الحياة تتحرك، أو يجعلها «مفعمةً بالحياة»؛ كالعلاقة مع الذات يختبرها المرء عند الكتابة، أو عندما يشارك المرء في مناقشة شغوفة أو عندما يقرأ نصًا مستفيضًا، والذي يحدث للأسف بعد انتهاء مؤتمرات الفلسفة.