وحدة توني موريسون ونينا سيمون الروحية مع موسيقى السول

مقال لإيميلي لوردي

ترجمة ريم سعيد

نشر في النيويوركر في أغسطس 2019

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها


إن توني موريسون ذات الموهبة الفذة والبصيرة النافذة التي خَلَص نتاجها الأدبي من صراعات عصرها المحتدمة حتى كدنا ننسى أنها ابنة زمانها قد عُرف عنها ولعها الشديد بأعمال مجايليها من الموسيقيين، وقد أفضت بذلك للمؤرخ الموسيقي «بول جيلروي»، مخبرة إياه برغبتها بأن تحاكي في كتاباتها «كل تركيبة لحنية وكل وقفة نغمية» شنَّفت مسمعها في أداءات الموسيقيين السود.

وفي بعض الأحايين، قارن النقاد الأدبيون بين منجزها الأدبي وموسيقى الجاز، ذلك النوع من الموسيقى الذي عنونت به روايتها الصادرة عام 1992، حتى لقد رأى بعضهم أنهما صنوان، فكما احتلت موسيقى الجاز أهمية ثقافية لكونها «موسيقى أمريكا الكلاسيكية»، فقد كانت توني موريسون كذلك قامة أدبية من نوع خاص. ونجدها ترصد بلغتها الساحرة في رواية «العين الأشد زرقة» الجوانية العفوية التي عجزت معايير المقبولية الموضوعة للإناث عن قمعها. ونتلمّسُ في إيقاع الكتابة مسًا من البراعة الأدائية لمغنِّي موسيقى السول، يضارعه تأثرٌ مماثل بأكثر أنواع موسيقى الجاز عبقرية. لنرى أن أصداء تأثرها بفناني موسيقى السول، قد طبعت جملة مشروعها الأدبي مانحة إياه سمات جمعتها بالأسلوب الغنائي لهؤلاء الفنانين: كالطموح المتأجج الذي ميّز إسحاق هايز، والالتزام الأخلاقي إزاء قضايا المجتمع الذي امتاز به كرتس مايفيلد، والشفافية الحسّية التي وصُفت بها أريثا فرانكلين. ودونًا عن الجميع، كانت نينا سيمون صاحبة التأثير الأكبر على موريسون. فعقب وفاة نينا سيمون في عام 2003 قالت توني موريسون في تأبينها، «لقد أنقذت نينا سيمون حياتنا». وقد احتلت في قلب توني موريسون منزلة لا تضاهى، كما تعلقت بها النساء السود الأخريات. وفي اعتقادي أن هذا التعلق مرده إلى قدرة نينا على تمثيل معاناة الإقصاء المجتمعي الذي عاشه السود بجمال شفيف لمس شغاف قلوبهم. وهو ما تنطوي عليه موسيقى السول في قدرتها السحرية على المواساة وتوحيد الروابط الروحية لمتلقيها. ولما كانت نينا سيمون الكاهنة العليا لموسيقى السول، فقد ألقى أثرها انعكاسًا ذا أساسٍ مكين في بنيان توني موريسون الأدبي.

ولدت نينا سيمون بعد موريسون بعامين في 1933، وكانت أعجوبة موسيقية بكل المقاييس. اعتادت عزف البيانو في كنيستها الأم وهي في شرخ الطفولة، وأقبلت على دراسة الموسيقى الكلاسيكية في سنين حياتها الأولى. وما لبثت أن أمست أحلامها الأولى هشيمًا تذروه رياح العنصرية، بعد أن رفضت مؤسسة كيرتس للموسيقى بفيلادلفيا ضمها في فئة عازفي الموسيقى الكلاسيكية على آلة البيانو. ورغم ما ألم بها من عظيم مصاب، فإن ذلك لم يفت في عضدها، واتخذت من ذائقتها الفنية منوالًا تنسج عليه ألوانًا موسيقية شتى في ثوب لحني آسر تفردت به، جامعة بين الموسيقى الكلاسيكية وبين الترانيم الإنجيلية والبلوز وكل ما راقها من صنوف الإيقاع والنغم. فقالت مرةً، «إن كل صوت يتهادى لأذني يطبعني بميسمه» وأتت على ذكر أمثلة، من موسيقى باخ إلى موسيقى لويس أرمسترونج وماريان أندرسون. وبعد أن أدارت ظهرها للنبذ المؤسسي، أطلقت ساقيها للريح في ترحال فني لا يقر.

حين سجلت نينا سيمون أغنية الجاز الشهيرة «امنحني حبك وإلا فاتركني» (Love Me or Leave Me)، مزجت فيها عزفًا منفردًا مع «فوجة» Fugue* بأسلوب باخ. وحين غنت «اللعنة عليك يا مسيسيبي» (Mississippi Goddam) تنديدًا بالظلم الواقع على السود، صدحت بصوت جهوري مكلوم يواري نار الحنق المضطرمة في صدرها. أما في أغنية «لا أملك شيئًا سوى حياتي» (Ain’t Got No, I Got Life) المصاحبة لعرض موسيقى الروك «هير» (Hair)، استطاعت بملكاتها الصوتية الفائقة تحويل صور التهميش إلى معكوسها. وبصوتها الغني الواضح والقاطع شرعت تسرد قائمة حرماناتها: «لا أملك منزلًا ولا أحذية، لا أملك مالًا ولا طبقة..»، كما لا أسرة لها ولا أصدقاء ولا ثقافة أو عطر أو طعام أو إيمان أو حب أو حتى إله، وهي ببساطة لا تملك إلا نفسها، «أملك شعري، أملك رأسي، أملك عقلي، أملك كعبي، أملك قدمي، أملك عيني، أملك فمي، أملك أنفي، أملك ابتسامتي، أملك قلبي، أملك روحي، أملك ظهري، أملك أنوثتي».

وعلى وجه التحديد، فإن أغنية نينا سيمون «أربع نساء» (Four Women) التي سردت فيها «العذابات التي لا تفتأ تتكرر» تعرضت لها النساء السوداوات على مختلف أطيافهن، تؤسس لتقديس الجسد الأنثوي الأسود والاعتداد به كمصدر للمتعة والفخر، وهو ما يظهر في تسجيلها لأغنية «حياة» (Life). وبدا وكأن الأغنية تتنبأ بمشهد بارز في رواية موريسون، «محبوبة» (Beloved)، حين قامت «بيبي سجز» بوعظ جموع السود بأن يحبوا كل جزء من جسدهم المنبوذ. وعلاوة على كلمات أغنياتها ذات الدلالة، فقد أتقنت استخدام أسلوبٍ يدمج إيقاعات موسيقية متباينة، من الترانيم المعزوفة على البيانو، إلى إطالات البلوز اللحنية، والفقرات اللحنية القصيرة والمتكررة. لتنفى خرافات الحرمان بحق السود، وتؤكد امتلاكها لفائض من الطاقات التعبيرية لا ينضب معينه.

وبالنظر إلى جملة أعمال توني موريسون، نلحظ استبطانها للنمط ذاته، الذي ينقلب معه الافتقار المزعوم إلى وفرة وامتلاء، ويبرز هذا النمط بوضوح في روايتها «سولا» الصادرة عام 1973، والتي كتبتها توني موريسون تزامنًا مع فورة موسيقى «السول». وحين تصف موريسون «شادراك» –إحدى شخصيات الرواية– يبدو وكأنها تردد أصداءً من تسجيل نينا سيمون لأغنية «حياة»، فهو جندي شاب خاض غمار الحرب العالمية الأولى، التي أذهلته أهوالها عن نفسه، ليجد نفسه «بلا ماض، ولا لغة، ولا أقرباء، بلا منشأ، بلا دفتر عناوين، بلا مشط أو قلم رصاص أو ساعة. بلا قطعة صابون، وبلا صندوق تبغ، ولا حتى ملابس داخلية متسخة، لا شيء أمامه، لا شيء على الإطلاق»، وفي وسط تلك الخطوب التي ألمت به لم يملك إلا سواد بشرته، يتلمس انعكاس وجهه في المرحاض –فهو لا يملك مرآة– فتغمره السعادة حين يطالع انعكاس قسمات وجهه الأسود، «حين يحييه سواد بشرته معلنًا عن ثبوتية وجوده، تمتلئ نفسه بالرضا والغبطة، ولا يرجو لنفسه أكثر مما لديه».

يقطن «شادراك» في إحدى ضواحي مدينة «بوتوم»، وكل سكان المدينة من السود، وهي المدينة ذاتها حيث تقطن بطلتي القصة «سولا» و«نيل» وهما صديقتان مقربتان لبعضهما، وفي عشرينيات القرن المنصرم، قد بلغتا معًا سن الرشد، وفي معرض كتابتها عن الفتاتين تقول توني موريسون، «أدركت الفتاتان في وقت مبكر، أن كلتيهما ليستا من البيض أو الذكور، ولذا كانت كل أشكال الحرية والنجاح محرمة عليهم»، ومن ثم «قد شرعتا في خلق شيء آخر يتحققان من خلاله». ولا ينجح هذا «الشيء» في التشكل بالكامل، لكن البحث عنه يوطد عرى صداقتهما، التي استمرت رغم ما اعترضها من خيانة واغتراب وموت.

وعلى غرار الرابطة الوثيقة التي جمعت بين بطلتي الرواية، كان للصداقة التي جمعت بين توني موريسون والنساء السوداوات عظيم الأثر في إتمام رواية «سولا». في تصديرها للطبعة التي ظهرت عام 2004، تحكي توني موريسون بأنه لدى شروعها في كتابة الرواية عام 1969، كانت أمًا عزباء يعوزها المال، إلا أنها ارتكنت إلى زمرة من الأمهات العزباوات اللواتي شكلن معًا رابطة أمدتها «بالوقت والطعام والمال.. والجسارة». وأثمن ما قدمن كانت الجسارة والإقدام؛ «ففي أواخر الستينيات، مع ارتفاع حصيلة الموتى والمحتجزين وجملة الصامتين، لم يكن التراجع خيارًا، وانقطعت أواصر الصلة بيننا وبين الماضي إلى غير رجعة، ووجدنا حينها أن بمقدورنا التفكير بأشياء، وتجريب أخرى، والاستكشاف.. لم يقم أحد وزنًا لنا، فأدركنا نحن قدر أنفسنا». وهاتيك النسوة كما «سولا» و«نيل»، قد نجحن في إيجاد تلك الرابطة وخلقها بأنفسهن. وتلك الألفة والمساكنة التي أحاطت توني موريسون من جماعتها المقربة، بصفتها صديقة ولاحقًا بصفتها محررة في دار «راندوم هاوس» للنشر، كانت على النقيض تمامًا مما لاقته نينا سيمون في حياتها الفنية من ضروب النفي والتغريب.

وربما كان إحساس الانفصال الذي استبطنته توني موريسون أثناء كتابتها لرواية «سولا» هو العامل الكامن وراء ظهور التنويعات السردية التجريبية في العمل، الذي بدا كمعادل أدبي لموسيقى نينا سيمون المتعددة المشارب. ويكتنف الرواية منذ بدايتها مناخ حلمي كالذي يمهد لحكاية خرافية، وتتابع الأحداث في سياق من الصور والمقولات الموجزة من مناظير متباينة، ليبرز صوت السارد العليم في رصده لسلوكات أهل القرية وتتبع ممارساتهم الدينية. وينكشف النص عن قوة في البيان، وإتقان للأدوات السردية، وتوظيفه للحوار المسرحي المحبوك بعناية الذي تبادلته الشخصيات على طول الرواية. ويتسم العمل بالغرابة والتفرد، التي جعلت منه أعظم أعمال توني موريسون قاطبة. برصدها للثراء الذي انطوت عليه حياة السود واستعصى على سواهم إدراكه، ورصدها لأسلوب حياتهم الذي أبقى معالم هويتهم قائمة رغم احتكاكهم بسلطة البيض. وذلك عينه هو جوهر المسعى الذي أفنت موريسون عمرها في شرحه وتقديمه.

حين أدت نينا سيمون أغنية «حياة» في تسجيل حي في فرنسا عام 1968، أوحت بنهاية وهمية للأغنية لمّا اقترب الإيقاع الختامي، ليبدأ العازفون بارتجال ألحان الفانك التي أبقت على الأغنية مستمرة. تلك المناورات الأدائية تعد خصيصة مميزة لموسيقى السول، وإذ تلقي الأغنية بظلالها على أحداث رواية «سولا»، فإننا نتوقع سيلًا سرديًا من النهايات المموهة. وقد يرجح المرء أن الرواية تصل إلى الخاتمة بموت الشخصية التي يعنون اسمها الرواية، أو قد يظن بأن النهاية تدنو عقب الموت الجماعي الذي نزل بأهل المدينة الذين قاد احتجاجهم «شادراك»، لكن النهاية اليقينية لا نصادفها في أي من الحالتين. رغم ذلك، نرى الرواية تجسد بوضوح تلك القدرة الفائقة على المواصلة رغم شظف العيش، والتي اعتبرتها موريسون من المحددات البارزة لحياة السود في أمريكا، لتعود وتنوه على المعنى ذاته في الفيلم الوثائقي حديث الصدور «توني موريسون: شظايا هويتي» حيث تقول فيه، «لم يتسع قلب امرئ من قبل للحب كما فعلنا، ولم يعرف أحد صروف الدهر وفنون العيش كما عرفناها، وحين نتأمل فيما واجهنا من المتاعب نجد أن الحياة لا تفتأ تفاجئنا بما لم نأخذه في الحسبان».

في واحدة من أكثر لحظات «سولا» إلغازًا، نراها واعية بموتها بعد أن فاضت روحها، «توقفت عن التنفس لأنها لم تحتج لذلك، لم يعد جسدها يطلب الهواء، كانت ميتة. واستشعرت وجهها يبتسم، وأخذت تفكر مندهشة: (ياإلهى! لم يكن الأمر مؤلمًا البتة، لكم أتحرق شوقا إلى إخبار نيل)». وسولا إذ يمتد وجودها عقب نفاد آخر أنفاسها، فإنها تجسد بذلك موسيقى السول في قدرتها على تجاوز كل شيء بارتجالاتها وإيقاعاتها الجذابة. وكذلك الأمر مع توني موريسون، إذ يصعب التسليم برحيلها، ونلبث ننتظر أن تخبرنا بنفسها بأنها لم ترحل.


* الفوجة: بناء موسیقی يعتمد على تكرار لحن واحد على أكثر من تردد، وإقامة تناغم بينهم.