ما الذي يفعله الكُتَّاب والمُحرِّرون؟

مقال لكارل أوفه كناوسجارد*

مقال منشور بالإنجليزية على موقع The Paris Review، ترجمه مارتن إيتكن عن النرويجية.

ترجمة: محمد عثمان

*كارل كناوسجارد: أديب نرويجي لقى احتفاءً نقديًا وجماهيريًا واسعًا بعد نشر سيرته الذاتية سداسية الأجزاء، «كفاحي»، التي تُرجمت إلى 35 لغة.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


يُساق عمل المحرر الأدبي إلى مكان أشبه بالظل، يطرحه جانبًا اسم المؤلف. قلة هم المحررون الذين خطوا خارج هذا الظلِ، ربما حتى هؤلاء نالوا التشهير أكثر من الشهرة، فلقبيّ «محرر» و«مشهور» يبدوان كتعارض في المصطلحات، كتناقضِ جوهري. على سبيل المثال جوردون ليش (Gordon Lish) المعروف في العالم الأدبي باسم «رُبَّان السرد» (Captain Fiction) ومن بين مؤلفيه ريموند كارفر (Raymond Carver). المثال الآخر هو ماكسويل بيركنز (Maxwell Perkins) صاحب لقب «محرر العباقرة» الذي حرر أعمال هيمنجواي وفيتزجيرالد. وواحد من أكثر أعمال التحرير شهرة هو ما قام به إزرا باوند الذي لم يقم بذلك تنفيذًا لأي تكليف رسمي بل بشكل ودي، فيداه القاسيتان قلَّصتا المسودة المبدئية لقصيدة تي إس إليوت «الأرض اليباب»* للشكل الذي نعرفه حاليًا. كان عمل جوردون ليش التحريري إلى حد ما متمردًا وغير مقيد، وما نظنه أسلوب كارفر هو في الحقيقة عمل ليش، كارفر نفسه كان مترددًا تجاه الأسلوب، لكن هذا الأسلوب وبلا شك رسّخ اسمه ككاتب. ظهر هذا جليًّا في مخطوطة كارفر التي نُشِرَت بعد وفاته، فقصصه فيها تبدو مختلفة؛ فضفاضة، ومتشعبة، وبالكاد يمكن تمييزها. هناك شك ضئيل بأن محرر كارفر أفضل من كارفر نفسه، لكن كيف يؤثر هذا على شعور المؤلف وهو تُسلَّط عليه الأضواء ويتلقى عبارات الثناء ويُحتفى به اسمًا جديدًا عظيمًا في الأدب الأمريكي؟ هذا المثال مثير للاهتمام، فمهمة المحرر ممارسة التأثير، ليس من أجل مصلحته، ولا بالضرورة من أجل المؤلف، بل من أجل الكتاب، ولو في مقدرتنا أن نخمن أن ليش قد تمادى في عمله، فيجب علينا أن نسأل بأي شيء تعلق علمه؟ فبعد كل شيء ظهر الكتاب بالتأكيد في صورة أفضل. هل مشاعر المؤلف الجريحة أكثر أهمية؟ بدون ليش كانت ستصبح كتب كارفر أردأ وكارفر نفسه كان سيصبح مجرد كاتب جيد وليس كاتبًا بارعًا، هذا يثير السؤال عن ماهية الكاتب، وعن الحدود بين المؤلف والكتاب والعالم المحيط.

لدى أمريكا تراث من المحررين المؤثرين، لكن القضية ليست حِكرًا على أمريكا. أعرف محررين نرويجيين يحركون عمليًا أقدام المؤلفين، أو كما يُقال، يوجهونهم بشكل أساسي في رقصتهم الأدبية؛ القدم اليسرى هنا، القدم اليمنى هناك، اليسرى هنا، اليمنى هناك. وأعرف أيضًا كُتَّابًا نرويجيين على الطرف النقيض، يُسلمون مخطوطتهم جاهزة للطبع للمحررين ويُسارعون إلى تغيير الناشر عند أي اقتراح بتعديل أي شيء.

ربما كان عمل ليش على نصوص كارفر مُبالَغًا فيه ليكون مثالًا على دور المحرر، ولكن دائمًا أي تجاوز للحدود يجذب الانتباه للحدود نفسها. في حالة الكاتب والمُحرِّر، فكلاهما بالإضافة للنص أشبه بمثلث برمودا حيث تدفع قوته كل شيء قيل أو فُعِلَ للاختفاء فيه دون أثر. حتى لو تمادى ليش في عمله، فكل شيء في نصوص كارفر يُنسب بوضوح إلى كارفر، كل الروايات، القصص القصيرة، المجموعات الشعرية تُنسب بوضوح إلى الكاتب. لنفهم ماذا يحدث بتلك المنطقة الظليلة علينا أن نسأل أنفسنا: كيف ستبدو الكتب بدون محرريها؟  في حالتي فالإجابة بسيطة: لن تكون هناك كتب، ولم أكن لأصبح كاتبًا. لا أقول بأن محرري يكتب لي، ولكن بصيرته وأفكاره وإسهاماته كلها ضرورية لكتابتي. هذه الأفكار والبصيرة والاسهامات خاصة بي وبعمليتي في الكتابة؛ فعندما يعمل محرري مع مؤلفين آخرين يضيف إلى كل منهم شيئًا مختلفًا. بهذا الشكل فعمل المحرر قابل للتأويل ولا يمكن تعريفه بدقة، فهو معتمد على احتياجات الكاتب الفردية، وتوقعاته، وموهبته، وما يفتقده، قائم منذ البداية وبشكل رئيسي على الثقة، يرتكز على القدرات الشخصية والتوافق الإنساني أكثر من ارتكازه على الاختصاص الأدبي الرسمي.

أتذكر قديمًا كنت في أواخر العشرينيات من عمري وكنت أعمل في مجلة أدبية، وعُهِدَ إلينا بنص من شاعر مرموق، وكُلِّفت بالاهتمام بالنص. قرأت القصيدة وكتبت بعض التعليقات وبعض الاقتراحات لتغييرات طفيفة واستفسار مبدئي عما إذا كان ممكنًا اضافة تطور ضئيل للقصيدة في نفس اتجاهها. الرد الذي وصلني يمكن تلخيصه في سؤال واحد: «من تكون؟». في الحقيقة كان هناك إيحاء في الرد يُنذر بكلمات أكثر قسوة: «من تكون أيها الحقير؟» ارتبكت، فتعليقاتي كانت حذرة، وبحسب رأيي، مُبررة. ربما كان السبب أسلوبي في التعليق الذي اعتدت استخدامه في الأعمال غير المنتهية لأصدقائي الكُتَّاب، لكنني توقعت أن شاعرًا بمثل خبرته وشهرته سيكون أكثر احترافية في ما يتعلق بالتحرير.   

ولكن ردة فعله لم تكن حول القصيدة. كانت حول هذا المحرر المجهول الذي يريد أن يغير القصيدة، أظن أن هذا فُسِّر على أنه هجوم على شخصه، كما لو أن هناك خطأ بالقصيدة وهذا الشاب الأكاديمي الصغير المجهول يظن نفسه يعرف المطلوب لإصلاحها. موضوعيًا أعتقد بأن تعليقاتي كانت صحيحة، ولكن عندما يتعلق الأمر بالكتابة فلا وجود للموضوعية، بل يتعلق الأمر كله بالشخص الذي يكتب والشخص الذي يقرأ. لو أنني قابلت هذا الشاعر عدة مرات من قبل، لو كان بإمكاننا تكوين انطباعات عن بعضنا، وفكرة عن تفضيلاتنا الأدبية، أعتقد حينها سيكون لتعليقاتي وقع مختلف، ربما تؤدي إلى تغييرات فورية بالنص وليس بالضرورة أن تكون تلك التغييرات بالشكل الذي تصورته.

الحالات التي تُخلَق فيها الكتابة الإبداعية غالبًا مُعقدة على أقل تقدير. أي شخص له علاقة ولو ضئيلة بمهنة الكتابة، كما نحب أن نسميها بفخر، يعلم أنها ورطة هائلة من لحظات العُصاب، والتوقف، والانغلاق، والضعف، والطباع الشاذة، وإدمان الخمر، والنرجسية، والاكتئاب، والاضطراب العقلي، وفرط النشاط، والهوس، وتضخم الذات، واحتقار الذات، والإرغام، والالتزام، والأفكار المتهورة، والفوضى، والمُماطلة. العمل في مهنة الكتابة بهذا السياق يعني أن مفهومًا مثل جودة العمل هو في الحقيقة معيار رديء، على الأقل حين نعتقد بأن الجودة معيار موضوعي. في التحرير الأدبي، الجودة مفهوم ديناميكي، عملية أكثر من كونها درجة، مفهوم يتغير طبقًا لشخصيتي الكاتب والمحرر.

تخرج الكتب من التحرير لتُعامل بطريقة متباينة تمامًا في النقد الأدبي، الذي يهتم بالمقاييس والمعايير والمقارنات مع الكتب الأخرى، وغالبًا ما يُصْدَم المؤلف وهذا أمر لا يمكن أبدًا اعتياده. يبدو وكأن هناك نسخًا مختلفة من الكتاب الواحد؛ نسخة المحرر، ونسخة الناقد، ونسخة المؤلف، وبالنسبة للمؤلف فهذا أمر صعب. هل على الكاتب أو الكاتبة أن يستمع لمحرره أو محررها —الذي سيقول دائمًا بأن النقاد يجهلون ما يتحدثون عنه وبأنهم عديمو الإحساس وأغبياء وتحركهم مطامعهم الخاصة، إلخ— أم يستمع لحكم النقاد؟

يستغل إرلند لو (Erlend Loe) هذه الكوميديا القابعة في التباين بين عمل المحرر وعمل الناقد في روايته الأحدث «Vareopptelling» (الجرد)، التي يفتتحها بمحرر يُهاتف شاعرة مُسِنة ليخبرها عن روعة المراجعات بخصوص مجموعتها الشعرية الأخيرة، أيًا كان ما يقوله فنِيَّته واضحة في حجب حقيقة الأمر عنها، وبعدها تبدأ الشاعرة في دفاع شخصي عنيف لتمحو أي تباين بين فهمها الخاص للكتاب وفهم النقاد. الأمر مُضحك لأنه من السهل ملاحظة محاولات المحرر للتعامل مع المراجعات الرديئة بالإضافة إلى أفكار الثأر التي تثيرها هذه المراجعات في عقل المؤلف. لقد لمس لو وترًا حساسًا، حتى أن كاتبًا مثل ستيج لارسون، الذي اشتهر اسمه من أول كتاب نشره وظل مُمَّجدًّا طوال حياته، ترك التعليقات الرديئة تنال منه، ولم يستطع التخلص منها، وفي مجموعته الشعرية «Natta de mina» (تصبحون على خير) فانتازيا غريبة حيث جعل أحد النقاد المعروفين مُشَوَّهًا. وبول أوستر، المؤلف ذائع الصيت الذي يُمدح لدرجة أن يتصور المرء ألا يتأثر بالمراجعات الرديئة، أسرف في انفعاله في خطاباته مع جي إم كوتزي بسبب انتقادات جيمس وود (James Wood) لكُتُبِه في جريدة النيويوركر، ولم يرد أوستر بالحجة وإنما بوصف مشاعره تجاه النقد، الذي يشبه التعرض للسرقة في وضح النهار..

كل هذا سببه أن كتابة كتاب ونشره تُعري جزءًا من الذات، فيستحيل الدفاع عنه بعد ذلك، ثم يُقيِّمه شخص ليس لديه ما يفقده. فالمُحرِّر الذي يعمل أيضًا كناقد ويفسر ويصدر الأحكام على جودة العمل —ونعم هؤلاء موجودون— يخدم الأدب بشكل سيء، لأن التفسير والتقييم يُنهيان العمل للأبد، بينما عليه أن يُبقي النصَ مفتوحًا أطول فترة ممكنة. فالأدب شيء يُصنع، يُخلق، بينما القوالب الأدبية موجودة بالفعل. وبما أن الفن قوة تدفع الذات خارج ما هو موجود بالفعل إلى ما هو مفتوح، إلى مكان حيوي ومجهول بالنسبة لنا حتى نصله، لذا فالوحيدون الذين في مقدرتهم الكتابة هم من يجهلون طريقة الكتابة، والوحيدون القادرون على كتابة رواية هم من يجهلون كيفية كتابتها. مما سبق فلا يمكن أن يتمثل دور المُحرِّر في المعرفة، فالمعرفةُ في هذه العملية مدمرةُ.

نحن الآن بعيدون عن المحرر الكلاسيكي؛ الرجل المسن ذو الستة وخمسين عامًا بردائه من صوف التويد، منحنيًا فوق المخطوطة بقلم في يده، ونقترب من محرري؛ الذي لا يُظهر قلمه إلا بعد تحديد موعد النشر وبدء التدقيق اللغوي على المخطوطة النهائية. لا أستطيع أن أقول بالتحديد ماذا يفعل خلال تلك الفترة، غير أننا نتحدث كثيرًا جدًا. هذه النقاشات تحدث خلال كل مراحل الكتابة، من قبل كتابة كلمة واحدة على الورقة وحتى حين تكون الرواية التي نستكشفها مجرد فكرة مشوشة، حتى صدور الكتاب مرورًا بكل تلك الاجتماعات التي لا تنتهي والتي تكون كارثية أحيانًا مع الشخص الذي يعرف ما استُثمر في الكتاب لأنه هو من استثمر فيه.

رغم أننا اعتدنا فعل ذلك من سبعة عشر عامًا، نشرنا خلالها ثمان روايات وتحدثنا لساعات لا تُحصى على الهاتف أو في المكتب أو بقاعة الاجتماعات، وقرأنا آلاف الصفحات من المخطوطات، إلا أنني ما زلت غير قادر على قول «هو يفعل ذلك»، «هذا عمله»، «هذه طريقة تفكيره». بالطبع أحد الأسباب أنني لم أعتد رؤية الأخرين جيدًّا، وأنني منغلق على نفسي فلا أرى أبعد من ذاتي أحيانًا، لكن ليس هذا السبب الوحيد. السبب الآخر يتعلق بطريقة عمله أيضًا، فهو ليس بعيدًا ولا ينتهج وجهة النظر الشهيرة برؤية النص من الخارج، بل هو قريب جدًا، يرى النص من داخل ثناياه، وهذا أصعب في رؤيته وتعريفه. ما نكون فوقه نراه بسهولة، وما نكون أسفل منه نراه بسهولة، وما نكون بجواره نراه بسهولة، أما ما نكون في قلبه فمن الصعب رؤيته.

عندما كنت أكتب سيرتي الروائية «كفاحي» كان هناك ثلاثة أشخاص بالتحديد وجدت صعوبة في رسمهم وفي إيجاد صوت لهم. لا يهم كم حاولت بجدية فلم أستطع رؤيتهم ولا سماعهم. كنت أعلم مكانتهم عندي ولكن كان من المستحيل تقريبًا إيجاد هيئة لهذا الوعي بهم. إحداهم كانت أمي، والأخرى زوجتي، والأخير محرري. ما المشترك بين هؤلاء الأشخاص المختلفين الذي يجعلهم حبيسي تلك المنطقة الظليلة في عقلي ككاتب؟ بطريقة ما كنت أعرفهم بداهة، ولم يريدوا مني التحدث عنهم، فلقد تحدثوا عن أنفسهم. بالنسبة للمؤلف فهذا أمر مثير للاهتمام؛ فالكتابة تتمحور حول إضافة الهيئة على شيء ما، تكوين شيء ما سواء كان مألوفًا أو غير مألوف، عادة يكون الأمر أسهل كلما كان الشيء غير مألوف؛ فمن السهل وصف تجوال بقرة في شارع فقير بالهند، بينما وصف رجل يشاهد التلفاز بشقته أمر صعب. تقريبًا تهتم معظم الأعمال الأدبية بالصراعات، وبالاختلافات التي أنتجتها، فيولد المغاير من رحم المألوف ليتيح لنا فرصة الإلمام به. لكن أن يتوافق الشبيه مع شبيهه في ما يشبه الانسجام فحينها يكون من المستحيل معرفة شيء عنهما. وهنا بالضبط كانت توجد أمي، وزوجتي، ومحرري. ما الأدوار التي أدوها في حياتي؟ منحوني كل شيء، مقابل لا شيء تقريبًا، أو بمقابل زهيد جدًا. وصف الشخص الذي يمنحك دون أن تكون له مُتطلبات في الحقيقة أمر عسير. فللمتطلبات هيئة، لكن ماذا لو اختفت؟ هذا الاختفاء هو اللا شيء، هو انعدام الهيئة، ومع ذلك مؤثر، وجوهري في كل ما هو إنساني.

نحن نتحدث عن كل شيء نفقده ويُنتزع منا ولا نتحدث أبدًا عما نناله. هذا حقيقي على كل المستويات. والدي أخذ مني شيئًا، ونافست أخي، وكل هذا يسير عليَّ لكي أراه وأكتب عنه، لكن والدتي أعطتني شيئًا، وهذا صعب في رؤيته والكتابة عنه. ماذا منحتني؟ لست متأكدًا. محرري، ماذا منحني؟ اقتراحات لكتب يجب عليَّ قراءتها؟ نعم، ولكن العديد من الأشخاص فعلوا ذلك أيضًا. متفهم لما أقوم به؟ نعم، ولكني أفعل ذلك بنفسي وإن لم يكن بشكل مثالي، هناك العديد من الأشخاص بإمكانهم ملء هذه الفراغات. الإلهام؟ بالتأكيد، ولكنني أنال الإلهام عند قراءة أي كتاب للفن تقريبًا.

كل ما سبق مهم ولكنه غير مؤثر. المؤثر هو ذلك الإحساس، إحساس غامض ومُحير، ربما أفضل كلمة تصفه هي الثقة. لدي ثقة مطلقة به. وتقريبًا كل شيء أكتبه، حتى أصغر مقال صحفي، عليه أن يقرأه قبل أن أنشره في أي مكان. هذا أمر مفروغ منه وأعتمد عليه تمامًا. هذه ليست وظيفته، وعمل لا يمكن لأحد أن يقوم به، لأن هذا ليس دور المحرر، هذا أمر يتعلق به، بشخصه. وهذا هو دور المحرر بالنسبة إلي.

*

هناك العديد من المفاهيم حول الكتابة. أشهرها أن الكتابة عمل منفرد، عمل يقوم به الكاتب بمفرده. عن نفسي لا أعتقد هذا. على خلاف ذلك، طوال السنين التي تدبرت فيها أمري ككاتب اعتمدت على مساعدة الأخرين لكي أكتب. عندما كنت أكتب «كفاحي» كنت أقرأ كل كلمة بصوت عال على صديقي چير أنچيل أويجردن (Geir Angell Øygarden)، أهاتفه كل يوم وأقرأ عليه ما كتبته، قرأت عليه ما يقارب خمسة ألاف صفحة. لماذا؟ لأنه على شخص ما أن يخبرني أن ما أكتبه جيد بشكل كافٍ، هذا سبب، ولكن ما كنت أفعله حقًا وهو الأكثر الأهمية أنني كنت أريد شخصًا يخبرني في أي اتجاه أستطيع أن أتقدم بكتاباتي. كنت أحتاج أفكاره، إنها تتوافق مع أفكاري ولكنها تأتي من مكان مختلف، وهذا أمر جوهري: لأنني كنت أكتب عن نفسي وأحتاج بشدة إلى نظرة من خارجي، وفي هذه الحالة لم تكن مجرة نظرة بسيطة بل وجهة نظر كاملة، بينما كنت أخلق وجهة نظري في الرواية. هذه المحادثات خلقت مساحة، وأعتقد بأن كل الكتب تنشأ من هذه المساحة، سواء بشكل واضح (كما في حالتي) أو بشكل أقل وضوحًا، فعلى سبيل المثال قد تكون تلك المساحة هي الأدب الذي يقرأه الكاتب أثناء كتابته أو الذي قرأه قبل أن يبدأ كتابته. وقت بدايتي في الكتابة بعمر الثامنة عشر لم أكن أعلم شيئًا عن ذلك، حينها كنت ما زالت أهيئ هذه المساحات، يبدو وكأن الاحتياجات خلقتها. فعل الكتابة نفسه يحدث في العزلة، ولكن كل شيء يحيط به، وهذا الأكثر أهمية، يجب مشاركته مع الاخرين. على سبيل المثال، عندما كنت في التاسعة عشر أدرس الأدب في جامعة برجن قابلت إيسبن ستولاند (Espen Stueland). كان يكتب، وكنت أكتب، فصرنا صديقين، وشاركني كل شيء يكتبه ويقرؤه، وكل شيء كتبه وقرأه. وعرفني على العديد من الكتب التي كتبها أول روبيرت سوند (Ole Robert Sunde) وتور ولڤين (Tor Ulven) وكلود سيمون (Claude Simon) وجونار اكيلوف (Gunnar Ekelöf) وأوسيب ماندلشتام (Osip Mandelstam) وصمويل بيكيت (Samuel Beckett)، هذه بعض الأسماء التي كانت تحوم حولنا في ذلك الوقت. كنا نقرأ نصوص بعضنا، وأقرأ انتقاداته التي كانت صادقة وجدية وشجعتني على إعادة الكتابة أو إعمال عقلي فيما كتبته. ولكن حتى حينها عندما أعيد التفكير في ما أكتب، كان يصيبني الاضطراب، لأنني فجأة وبسبب إيسبن وصلت لمنزلة موضوعها هو الأدب، وربما الأدب هو موضوعها الأهم على الإطلاق، منزلة يستحيل فيها الخداع ويستحيل فيها الغش ويستحيل فيها الفتور في كل ما قرأناه أو كتبناه، فإما أن نقبل الأدب بأكمله أو لا ننال منه شيئًا. بعد وقت قليل أصدر إيسبن أول مجموعاته الشعرية «Sakte dans ut av brennende hus» (رقصة هادئة من منزل يحترق)، ثم انتقل لأوسلو، وانخرط في مجلة «Vagant» (الجوال)، كان يشاركني كل هذا أيضًا ويقدمني للعديد من الكُتاب والنُقاد الذين تعرف عليهم. وأنا تخلفت عنه في برجن، وهناك قابلت طالبًا آخر كان يكتب واسمه تور رينبيرج (Tore Renberg) وأيضًا صرنا صديقين، وشاركني كل ما يكتبه ويقرؤه، وكل ما كتبه وقرأه. كانت تفضيلات تور الأدبية مختلفة عن إيسبن ولكنها شملت بعض الأدباء المشتركين مثل: تور ولڤين الذي كان من المستحيل تجاهله من أي دارس للأدب في بدايات التسعينيات، ومثله أول روبيرت وصمويل بيكيت الذين كانا في كل مكان. ولكن الكتاب الذين كان تور متأثرًا بهم بشدة وقتها هم ألدريد لوندين (Eldrid Lunden) —التي لم أقرأ أعمالها قط— وتارياي فاساس (Tarjei Vesaas)، وسيجورن أوبستفيلدا (Sigbjørn Obstfelder). وأيضًا قرأنا نصوص بعضنا، وبعد وقت قليل كتب مجموعة من النصوص النثرية القصيرة وقُبلت للنشر وكان عنوانها «Sovende flokke» (العقدة النائمة)، ومثل إيسبن انتقل لأوسلو ونُشرت أول أعماله وبعد وقت قليل عمل في «Vagant».

بينما يحدث كل ذلك، كنت أجلس في المقاهي مع تور أو إيسبن، نتحدث حول الأدب أو الموسيقى أو كرة القدم. كان يجمع ثلاثتنا حقيقة أننا كنا نكتب ونريد أن نصبح كتابًا، لم يكن لهذا معنى. لا أحد منا كان يعرف كيف سيعود علينا كل ذلك بالفائدة. كنا بالكاد نعرف ما نفعله. وهل كنا نفعل شيئًا بالأساس؟ ألم نكن نضيع وقتنا، ولا نفعل شيئًا سوى اتباع ميولنا؟ كل هذا كان بلا ملامح، ولا يمكن تعريفه، ولو كانت القراءة لتور ولڤين على سبيل المثال سيُشار إليها مستقبلًا كدلالة لتأثير تور على جيلنا الأدبي، وهذا لا خلاف عليه الآن، فإننا وقتها كنا غافلين عن ذلك تمامًا بسبب أننا لم نكن نعتبر أنفسنا جيلًا، لم نكن نمثل شيئًا، وما نكتبه يظل بيننا، ولم يكن لدينا جمهور، وكانت فكرة كوننا جيلًا أدبيًا وقتها سخيفة. كنا مغمورين أكثر مما تتخيل، نشرب قهوة فاترة، والأمطار الغزيرة لا تتوقف عن الهطول في الخارج، وإن أردت التبول كان علي أن أنتظر أدبًا. عندما أكتب عن هذا الآن أشعر وكأن هذا اللا شيء قد أصبح شيئًا، وكأنها حقبة دفعتنا للكتابة، محيط خلقناه، وتاريخ لنرويه. ونعم، عندما أنظر لوضعنا الآن؛ إيسبن ذي الاثنين وأربعين عامًا وأب لطفلين، وتور ذي الواحد وأربعين عامًا وأب لطفلين، وأنا ذي الأربع وأربعين عامًا وأب لثلاثة أطفال، ثلاثتنا في منتصف أعمارهم ومؤلفين لعدد معتبر من الكتب والمقالات والقطع النثرية، يبدو وكأن كل هذا نبع من جلساتنا ونقاشاتنا وجعلنا نصبح ما نحن عليه الآن: مؤلفين جيلنا.

وهكذا فالتاريخ يضلل دائمًا، يحول ما كان متناقضًا في كل شيء، وربما كان بلا معنى، إلى شيء متوافق، مُنظم، وذي معنى. الأحداث والمواقف التي حدثت بأشخاصها وبمناقشاتها بالتأكيد حقيقية، فأنا لا أدعي بأن الكتابة حول أمر ما تشبه التضليل أو التحريف، ولكن في اللحظة التي يُكتب فيها الواقع فإنه يأخذ شكلًا جوهريًا ثابتًا ولا يمكن تغييره، وكأنه يُحصَر في قالب ما، بينما ما يجعل الواقع مؤثرًا أنه يحيط بنا ولا يمكن حصره بقالب. الكتابة عن موقف تعني محو جزء من احتمالاته، وفي نفس الوقت ما يبقى من تلك الاحتمالات يختفي في ظلال الكلمات التي لم تُقَل، الأفكار التي لم ترد على بالنا، والتي لم تُكتب، تُفقَد في وادي الفرص الضائعة.

على كل حال، كنت وحدي في برجن وعمري ستة وعشرون عامًا. وصديقاي المقربان (والوحيدان) حققا الشيء الوحيد الذي أريده في حياتي، نشرا أول أعمالهما الأدبية وانتقلا إلى أوسلو، المركز الرئيس في الحياة الأدبية النرويجية. بدا الأمر لي وكأنهما هجراني، وإذا لم يكونا يعلمان كم كنت أشعر بالغيرة، فبالتأكيد مرت هذه الخاطرة برأسيهما أو يجب أن تكون مرت برأسيهما، لأن حياة ثلاثتنا كانت متشابهة، كُتَّاب شباب طامحون، نتشارك نفس الطموح لنصبح مؤلفين، نتشارك كل ما نقرؤه، وما نتعلمه، وما نجحنا فيه —ومما يدعو للفخر أن تور حصل في تلك السنة على جائزة أفضل كاتب شاب— بينما أنا غارق في فشلي وفي حياتي في برجن التي لم تقدني لشيء، لأنني وبعكس إيسبن وتور لم أستطع الكتابة؛ كنت أجلس إلى الكمبيوتر فلا أكتب شيئًا، ولا جملة، ولا كلمة، كنت فارغًا تمامًا. أخبرت نفسي بأن طموح الكتابة أو الايمان بأنني أستطيع أن أكتب هو تضليل وخداع لذاتي. تور لديه هذه القدرة، إيسبن لديه هذه القدرة، أما أنا فلا. ما فعلته تاليًا هو التركيز على دراستي. وخلال عام درست مقررًا دراسيًا إضافيًا عن تاريخ الفن وبدأت أتخصص في الأدب. كنت أفكر في الاتجاه للكتابة عن الأدب بدلًا من كتابة الأدب. ولكن حينها حدث شيء غير متوقع على الإطلاق، فقد هاتفني محرر ليسألني إذا كان يمكن أن نلتقي لنتحدث، فقد قرأ قصة قصيرة لي ويريد أن يناقشها معي.

الآن هناك طريقة مُعتادة نوعًا ما للتعامل مع هذه الأمور. قديمًا في بداية التسعينيات لم يكن الأمر كذلك. فأي شخص يأمل أن يصبح مؤلفًا في نهايات الثمانينيات أو بدايات التسعينيات يفعل ذلك بتلك الطريقة: تكتب كتابًا وترسله لدار نشر، وبعدها تنتظر لشهر أو اثنين قبل أن تتلقى ردًّا في البريد، غالبًا يكون بالرفض، ولكن الرفض عدة أنواع: قد يكون الرفض المعتاد، وهذه علامة سيئة، لأن هذا يعني أن المخطوطة رديئة لدرجة أنها لا تستحق بذل جهد في كتابة تقييم خاص بها. ولو أُرفِق بها تقييم من قارئ فهذا انتصار صغير حتى لو كانت المراجعة سلبية، لكن هذا يعني أن أحدهم وجد فيها ما يكفي ليُكلف من أجله قارئًا ليقرأها ويقيمها. ربما يَخلُص التقييم إلى المستقبل الباهر الذي ينتظر المؤلف ولكن مخطوطته الحالية لا يمكن ترشيحها للنشر، أو (يا للفرحة!) يُطلب منه تعديلها وإعادة إرسالها. ولكن لأن هذه المراجعة يقوم بها المؤلف منفردًا بمساعدة القليل من الملاحظات التحريرية الغامضة، فمن الطبيعي أيضًا أن تُرفض المخطوطة بعد المراجعة. نادرًا جدًا جدًا أن تُقبل مخطوطة كما هي، وأتذكر أنني كنت أسمع حينها أن هذا احتمال واحد بالمائة.

بسبب الهوة السحيقة بين المؤلف والناشر، اعتمد الكثيرون منذ البداية على جذب انتباه هذا القارئ الغامض والممتنع عليهم. بعنوان مؤثر، بخط جذاب للعين (لو أسعفتني الذاكرة، وقبل أن تظهر برامج الخطوط والكتابة، كنا نشتري صفحات الحروف، على سبيل المثال بالخط القوطي ونبدأ في قصها ولصقها)، ونرفق خطابًا مكتوبًا بإتقان، بلا أخطاء مطبعية أو خطوط سيئة. أتذكر نصيحة قرأتها من أويستين لون (Øystein Lønn) عندما كنت في أكاديمية الكتابة: ضع أفضل أجزائك أولًا، لا يهم قلة ما تخبرنا به هذه الأجزاء عن النص بأكمله، ضع أفضل أجزائك أولًا. الخدعة كلها أن تُقرأ، أن تكون واثقًا بأنه أيًا كان الشخص الذي سَيُعهد إليه بالمخطوطة في دار النشر فإنه لن يلقيها جانبًا، بل ستأخذ بعقله ليواصل القراءة.

لا بد أن أول رواية أتممت مخطوطتها كانت في العام 1989، واستحققت جراءها رفضًا نموذجيًا لم يتعد بضعة أسطر؛ قرأ الناشرون المخطوطة باهتمام —وهذا أمر جيد— ولكنها لم تصلح للنشر. ما زال كل ذلك لا يُقارن بما حدث مع تور، الذي أخبرني ببعض الكبرياء أنه فشل ثماني عشرة مرة من قبل. كان بعمر التاسعة عشر. وعندما نشر لأول مرة حدث ذلك بشكل مختلف تمامًا. لم يرسل مخطوطته إلى دار نشر كما اعتاد أن يفعل أجيال من المؤلفين النرويجيين من قبله بدايةً من كنوت همسون، لا، في حالته اتصلت به دار النشر.  كان يكتب مراجعات بمجلة «Vinduet» (النافذة) و«Morgenbladet» (جريدة الصباح)، ذات يوم رن الهاتف وكان يكلمه شخص عرفه بنفسه بأنه محرر بدار نشر «تايدن» (Tiden) وسأله إذا كان يمكن أن يكتب مراجعات من أجل الدار. وافق تور بسعادة، رغم أنه لم يذكر للمحرر أنه كاتب بالأساس، إلا أن المحرر تزايدت شكوكه حول تور، وفي الوقت المناسب طلب أن يلقي نظرة على كتاباته.

هكذا أخذت تايدن بيد تور وجعلته مؤلفًا. السنة التالية، طلبت منه دار النشر تحرير مختارات أدبية لما أسموه أصوات شابة في الأدب النرويجي وسألني إذا كان لدي شيء له. وفعلت. كنت أدخر محاولة لكتابة رواية عن سفينة لنقل العبيد مُعتمدًا بالكامل على قراءة كتاب غير أدبي حديث، وكانت هذه القصة هي ما أرسلته لتور، وبسبب غيرتي التي بالتأكيد أحس بها وجعلته يشعر بالأسف على حالي قرر نشرها. لم تكن قصة جيدة على الإطلاق، لكن تكرر الأمر معي أنا أيضًا، فتلقيت اتصالًا هاتفيًا من نفس المحرر، وبعد أسابيع قليلة كنت أجلس في مكتبه في «ممر الأوبرا» بأوسلو (Operapassasjen)، أسترق النظرات لأكوام المخطوطات لعلها تفصح لي عن شيء مهم بينما هو بالخارج يجلب لنا القهوة. عندما عاد، تحدثنا قليلًا، أو بالأحرى تحدث هو، وبعدها عدت للشارع مجددًا. من العسير كتابة شيء عن اللقاء، لكنه كان كافيًا، رحلت وإحساس يتملكني بأن أحدهم قد اكتشفني.

يا إلهي، ما أرق ذكرى هذه الأشياء. من العسير وصف إحساس أن يكتشفك أحدهم، أن يؤمن بك، كان هذا كافيًا لي للبدء في كتابة رواية جديدة، رواية ذهبت فيها إلى أبعد مما ذهبت سابقًا. هل كان هذا بسببه، ذلك المحرر؟ سأوضح الأمر: إذا لم يطلب مني القدوم ورؤيته، لم أكن لأعود أبدًا للكتابة مجددًا، على الأقل ليس بنفس الطريقة. عندما أرسلت له البدايات الأولى بالرواية، شعرت بالعار وبأنني كلب. الآن أنا متأكد أنني أحبطته، خنت ثقته، وأفسدت كل شيء. هناك جزء بالتحديد جعلني أشعر بالعار: في نقطة ما، يذهب بطلي الرئيس في الرواية لكشك الهاتف العمومي بشارع «تورجالمينجن» في برجن ويجري اتصالًا مع نفسه بعمر العشر سنوات. ما أسخف هذا!

مرت عدة أسابيع وهاتفني المُحرِّر. أعجبه ما كتبته، خاصة ذلك الجزء حيث يُهاتف بطل العمل نفسه في طفولته، هذا جيد بالفعل! وقال شيئًا آخر: بطل العمل، هنريك، يواصل تكرار فكرة، شيء داخل العالم، خارج العالم، داخل العالم، خارج العالم. يبدو هذا كعنوان، أليس كذلك؟ خارج العالم؟

هذان التعليقان كانا حاسمين، ووجها بقية عملية كتابة الرواية حتى انتهت. التحرك من زمن لآخر، من مكان لآخر، باستخدام المجاز أو التشبيه، وحتى شيء مميز كمكالمة الهاتف العمومي، كل شيء انسجم مع الرواية وبطريقة التفكير، وبالأزمان، وبالأماكن، كل شيء في وعي واحد. والعنوان الذي أعطانيه، «خارج العالم»، وجه عقدة الأحداث بنفس الطريقة.

في المرة القادمة التي قابلت فيها المحرر من تايدن، سألني إذا كنت أريد أن أوقع العقد الآن أم عندما يُحدَّد موعد النشر. تقريبًا فقدت وعيي. حتى هذا النقطة كنت أنظر للأمر بأكمله كأنه اختبار، شيء ربما يؤدي إلى شيء آخر. إنه يريد أن ينشرها! لم أفهم إلا بعد عدة سنوات أنه لم يظن الرواية جيدة بأي شكل حتى ذلك الحين، لكنه اقترح النشر لكي يطبع في نفسي إحساسًا بالثقة، والإيمان، وشعورًا بأن كتابة رواية أمر أملكه في قبضتي. بكلمات أخرى، لقد تلاعب بي. الأمر أشبه بما فعله ذات مرة محرر المجلة مع هانتر تومبسون. عُهد إلى تومبسون برحلة إلى مكان والكتابة عما رآه، عندما عاد للمنزل لم يستطع أن يدون كلمة، أُغْلِقَ عليه تمامًا. هاتفه المُحرِّر وطلب منه فقط أن يكتب بضع مُلاحظات ليعطي للمجلة فكرة عن المقال الذي سيكتبه. استجاب تومبسون، ثم هاتفه المُحرِّر بعد عدة أسابيع وأخبره بأن ملاحظاته أُعِدَت للنشر. صارت ملاحظاته هي المقال. وهكذا أعتقد أن هذه الطريق هي الأهم في كل ذلك. لو كافحنا من أجل شيء، تُغلَق الطريق أمامنا، لأن هناك العديد من التوقعات، والعديد من المتطلبات، وسوء الفهم ما يجعل شق طريقك خلال كل هذا مستحيلًا. لكن لو أننا لم نكن نعلم، ونعتقد بأننا نفعل شيئًا آخر، وكأنه تحضير للشيء الحقيقي، حينها فإن الشيء الحقيقي، الذي يتطلب حالةً أشبه بخلو البال، يخرج للنور.

*

هناك مفهوم آخر عن الكتابة، على الأقل في مثل شهرة «أن الكاتب يكتب منفردًا»، وهو أن الكتابة حرفة. ولا أرى نفسي في هذا أيضًا، ومجددًا مرة أخرى أجد نفسي في الجانب المقابل. الكتابة تجاوز حدود ما يمكنك فعله وما تعلمته، وهذا أمر لا يمكن للحرفي تصوره، فعلى سبيل المثال النجار لا يستطيع البداية من الصفر في كل مرة. هذا لا يعني أن النجار ليس مبدعًا، أو أنه لا يجد حلولًا جديدة لمشاكل قديمة، ولكنني أعتقد بأن النجار يكون بأفضل أحواله عندما لا يفكر بما يفعله، ببساطة يقوم به، كالسائق الذي يكون بأفضل أحواله عندما لا يفكر في مهارات القيادة التي يكتسبها بل يؤديها ببساطة. والأمر مشابه مع الموسيقي أيضًا: التقنية أو الحرفة التي يجيدها الموسيقي وإدراكه بها ليس إدراكًا واعيًا، تصبح الموسيقى فنًا فقط عندما تتدفق. لاعب كرة القدم الذي عليه أن يفكر كيف يتحكم بالكرة، والذي يسأل نفسه هل من الأفضل أن يراوغ خصمه يمينًا أم يسارًا ليتخطاه، والذي يتساءل ما الذي سيفعله إذا تخطاه؛ يمرر الكرة إلى اليمين أم اليسار، أم يسدد، هو لاعب سيئ. بالنهاية، ما يجمع الموسيقي، والنجار، ولاعب كرة القدم أن ثلاثتهم يتدربون على تقنياتهم لساعات وساعات، حتى تصبح جزءًا من الجسد وتصبح رد فعل لا إرادي وطبيعي. يرغب الكثيرون في تطبيق هذه الحالة على الكتابة. ذات مرة قرأت مقابلة صحفية مع المؤلف البريطاني إيان ماك إيوان قال فيه إن الكتابة تنقله إلى حالة من «اللا إرادية»، وكيف يشعر أن تلك الحالة، التي نادرًا ما تحدث، هي ذروة عملية الكتابة. ولكن بعكس الأنشطة السابقة التي ذُكرت، لا يوجد فعلًا ما يمكن التدرب عليه في الكتابة، لا توجد تقنيات للتدرب عليها للأبد حتى إتقانها، ولو وجدت فما قد تكون؟ نقطة درامية فاصلة تُعاد مرة بعد أخرى؟ طريقة معينة لوصف وجه أو شخصية؟ لا، لا يمكن التدرب على الكتابة بهذا الفهم، ولا يمكن اختزال الكتابة إلى مجموعة تدريبات، لا يمكن إلا أن تكون شيئًا حقيقيًا، شيئًا قائمًا بذاته، لأن الكتابة تتمحور حول إدراك الجوهر، شيء يمكن أن يحدث مرة واحدة، وبهذه الطريقة، لا يمكن تكراره، لأنك لو كررت ما فعلته فأنت لم تدرك بعد الجوهر بل شيئًا زائفًا يشبهه. تتعلق الكتابة، أكثر من أي شيء آخر، لا بالتدريب بل بالفشل. الفشل، وليس النجاح، ألا تصبح قادرًا على العمل، الفشل، الفشل، الفشل، ليس بهدف إدراك الجوهر في المستقبل، فهذا يبدو فاترًا، والفتور نقيض الكتابة، لا، الفشل يجب أن يأتي من المخاطرة بكل شيء، بكل جدية، وبأقصى جهد ممكن. الفشل في التحكم بكرة القدم في المباراة قد يكون مزعجًا ولكنه غير مؤذ. الفشل في الأدب مؤذ، وإذا لم يؤذيك فهو بذلك مجرد تدريب لن يقودك لشيء. بكلمات أخرى، لكي تكتب عليك أن تخدع نفسك، عليك أن تؤمن أنه في هذه المرة ستكتشف شيئًا، لا يهم كم قد يكون تافهًا. ففي هذه العملية، كل شيء غير مؤكد، كل شيء في سيولة، وحتى لو كان يجب أن تحدث تلك الحالة اللا إرادية البراقة، فهذا لا يعني أن ما تكتبه له قيمة، أو أنه اكتسب أي شكل من الجودة، فبعد كل شيء، أغلب من يتلاشى في الحالة اللا إرادية هم الأطفال.

لا بأس أن تفشل بمفردك لقليل من الوقت، ولكن حتى نقطة معينة، لأن الفشل في الأدب ليس مُسليًا، الفشل في الأدب حقيقي، وعندما يحيطك أصدقاء وعائلة بوظائف يذهبون إليها وتعليم يواصلونه تزداد صعوبة الدفاع عن الكتابة، أن تواصل هذا العمل الذي يفقد معناه لأن نتائجك مخيبة للآمال، وفي هذه الحالة تكون النتائج المخيبة ألا يقبل عملك ناشر. الفشل في الكتابة تحت هذه الظروف يعني فشلًا اجتماعيًا. كل منا يعلم هذا الشخص الذي يقول بتحفظ «أنا أكتب»، وبعد عشر أعوام هل ما زال هناك أحد يؤمن به؟ وبعد عشرين عامًا؟ بالتأكيد هو نفسه قد فقد الإيمان بقدرته. وحينها تصبح الكتابة عملًا مشينًا، وصمة. ولو قرر أن يواصل، فيجب عليه أن يخدع نفسه، وهذا يزيد صعوبة، حتى يدرك في النهاية حقيقة الأمر، لقد فشل.

الكاتب الذي له أعمال منشورة له جانب اجتماعي مختلف تمامًا. ولكن الكتابة هي نفسها. لوهلة عندما تفشل تمامًا، يظهر دور المحرر، ووظيفته دعم المؤلف، وهذا يعني في كثير من الأحيان خداع المؤلف، أن يخبره أن ما كتبه جيد فعلًا، وأن يواصل العمل. تحدثت مؤخرًا إلى محرر سويدي وقال بأن هذا أصعب جزء في العمل، لأن المؤلف غالبًا ما يرتاب في أن ما كتبه ليس جيدًا، وفي نفس الوقت يريد أن يسمع أن ما كتبه جيد. المؤلف يريد أن يسمع تلك الكذبة ويجب أن تتغلب على شكوكه أنها كذبة، يجب أن تخدعه حتى يصدقها. نفس المحرر السويدي دائمًا يطلب من كتابه أن يدونوا ما يقوله لهم عن المخطوطة، لأنهم إن لم يفعلوا، فكل ما سيتذكرونه هو النقاط السلبية. فهو يُكوم الثناء على النص ويتحدث بالتفصيل كيف أن النص جيد بعدة طرق، وبعدها لا يلتصق بعقل المؤلف سوى التغييرات التي اقترحها عليه. ولم على هذه الأشياء أن تتغير؟ لأنها ليست جيدة بما فيه الكفاية، فشل النص، إنه غلطة. 

هنا يتوتر ميزان كل شيء، هنا يُخاطر بكل شيء. وما هو «الجيد» بالتحديد؟ في عالم الأدب، يتعلق الأمر بالأصالة، إيجاد صوت شخصي، الكشف عن شيء لم يُرَ من قبل، هذه هي المُثُل. ويقف في مقابلة كل هذا مفهوم الجودة، أساس كل تقييم، وكل تقديس. وحين تُقارَن بها الأصالة، الصوت الشخصي، والأشياء التي لم تُر، يصبحون بلا قيمة. لا يوجد طريقة واضحة لقول إن شيء ما «جيد». عندما يصدر الكتاب وعلى غلافه شعار الناشر فهذا هو شعار الجودة؛ عدد كبير من الأشخاص أصحاب الشهادات الأدبية المعتمدة، يعملون في مؤسسات مشهورة، يعلنون أن هذا هو الأدب، وبأن هذا كتاب قيم. منح الكتاب شعار الجودة عمل خطير. لو هناك كتاب يُقارن به فالمخاطرة ضئيلة، ولكن إذا لم يوجد كتاب مثله، فهذا شيء مختلف، ويصبح نشره والإعلان عن كونه عملًا ذا جودة أمرًا يتطلب جرأة. دائمًا ما يفتقد عالم النشر الجرأة، ويفقد معها الكثير من الاحترام. لو كان هناك محرر ولنقل إنه يعمل على خمسة كتب، واحد تلو الآخر، وكل منهم يذبحه النقاد، بالإضافة إلى أن كل منهم يفشل في البيع، سيُدفع المحرر في النهاية إلى الاختيار الآمن، إلى المعيار المُتعارف عليه، وسيرفض أي مخاطرة. لا أقول هذا لأنني أعتقد بأن النرويج غاصة بالأعمال الأدبية العبقرية التي لا تجد مُتنفسًا لها، لكن لأنه سواء كان المحرر جيدًا أم سيئًا فعليه القيام بالكثير ليكون جريئًا. أعلم عن كتب تُمجد في الأيام الأخيرة وقد رفضها ناشر تلو الآخر وهي مخطوطة، لسبب بسيط، أنها لا تتماشى مع تيار القيم الأدبية السائد، لكنها في حقيقة الأمر كانت تتطلب جرأة لتُنشر. أنا نفسي عملت مرشدًا للعديد من الكتابات الأولى للمؤلفين وأعلم كم هو صعب أن تحكم بالجودة على عمل أحدهم، فبدون كُتيب للتعليمات في يدك لتعرف كم من المعايير طبقت، هل هذا جيد بما يكفي؟ ما هو الجيد بما يكفي؟ ولو كان غير جيد بما يكفي، هل هناك شيء يمكن فعله ليصبح جيدًا؟ ولو كان جيدًا جدًا، فلن يجد المرء شيئًا يمكن مقارنته به، وسيعتمد على حكمه الخاص، فهل هذا جيد بما يكفي؟


* الأرض اليباب في ترجمة عبد الواحد لؤلؤة، أو الأرض الخراب في ترجمة توفيق صايغ.