ضد المتع التافهة التي تشعرنا بالذنب: أدورنو عن جرائم الثقافة الشعبية
مقال لأوين هولات
ترجمة: مريم سليمان وسهير رجب الشرقاوي
نشر على موقع aeon في 20 فبراير 2018
* أوين هولات: أستاذ فلسفة في جامعة يورك، يركز في بحثه على مسألة العمق في الموسيقى والفن.
الترجمة خاصة بـ Boring Books
تحتفظ المترجمتان بحقهما في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهما دون إذن منهما.
توسطت الموسيقى الكلاسيكية والثقافة الأوروبية الرفيعة حياة ثيودور أدورنو وفلسفته ونظرته للحياة. وُلد أدورنو في عام 1903 في فرانكفورت بألمانيا، ونشأ مستمعًا وعازفًا للموسيقى، وكانت والدته ماريا كالفيلي أدورنو مغنية، فيما كان أدورنو الشاب عازف بيانو موهوبًا. التحق ثيودور بمعهد الموسيقى العالي، وكان تلميذًا للملحن النمساوي ألبان بيرج. اختار أدورنو أن يكون فيلسوفًا حيث شغل منصبًا في جامعة فرانكفورت في عام 1931. لكن ظلت الموسيقى والثقافة محور اهتمامه.
أصر أدورنو على المعايير الرفيعة، فلم ير في الثقافة مجرد مسألة تقدّم تقني، بتلحين مقطوعات أكثر جمالًا وتعقيدًا على سبيل المثال، لكن أيضًا —ولو بطريقة غير مباشرة— مسألة أخلاقية. فالموسيقى مثلها مثل كل أنواع الثقافة، يمكنها إما تطوير أو عرقلة تقدم المجتمع نحو الحرية. وهذا التقدم كان تحت التهديد.
حتى بفيينا فترة ما قبل الحرب، رأى أدورنو بوادر تحذيرية لانهيار الثقافة الأوروبية. فكتب في ما بعد عن باليه إيجور ستراڤينسكي «قدسية الربيع»، الذي عُرض لأول مرة في عام 1913، بأنه احتجاج للثقافة ضد جوهرها كثقافة، ويُستمتع به فقط كاستمالة على معارضة التحضر.
لم تكن مغازلة الباليه للهمجية موسيقية فقط، ولكنها عكست حقائق اجتماعية، وأظهرت بالفعل أدلة على وجود اتجاه ثقافي نحو الانحدار، وهيمنة المجتمع على الفرد.
نشأت توجهات الانحدار والهيمنة تلك مع صعود النازية. كان والد أدورنو، أوسكار ڤيزنجروند، يهوديًا، وألغى النازيون رخصة أدورنو لممارسة التدريس في عام 1933. مما قاده لقضاء أربعة أعوام في جامعة أوكسفورد، يدرس للحصول على الدكتوراه في الفلسفة تحت إشراف الفيلسوف جيلبرت رايل.
هاجر أدورنو للولايات المتحدة، ومعه معهد فرانكفورت للبحوث الاجتماعية، ليستقر بنهاية المطاف في لوس أنجلوس عام 1941. الفيلسوف الذي هاجم ستراڤينسكي بعنف، أصبح الآن في مواجهة ميكي ماوس. في كتابه «الأدب الصغير» (Minima Moralia)، كتب أدورنو يائسًا: «بالرغم من حذري الشديد، تجعلني كل زيارة للسينما أسوأ وأغبى».
ارتبك أدورنو مثل العديد من المهاجرين من الثقافة الجماهيرية في الولايات المتحدة، والتي لم تكن تغلبت بعد على الثقافة الأوروبية كما حدث بعد الحرب، وتحول ارتباكه لمبدأ عدم ثقة . فقد ادعى أن الثقافة الجماهيرية الرأسمالية، مثل الچاز والسينما وأغاني البوب الشعبية وغيرهم، «تتلاعب بنا لعيش حياة خالية من الحرية الحقيقية، وتهدف فقط لتشويه رغبتنا. فالثقافة الجماهيرية ليست مجرد تعبيرًا عفويًا عن الناس، لكنها صناعة هدفها الربح، تسلبنا حريتنا وتتلاعب بنا للامتثال مع حاجتها للربح».
كان عدم الثقة في ثقافة الولايات المتحدة متبادلًا. كان كل من أدورنو ورفيقه ماكس هوركهايمر ماركسيين بدرجة ما، ووُضعا فورًا تحت المراقبة من قبل المباحث الفيدرالية (FBI)، واعتُرضت برقياتهم، وتم استدعاء هانز أيزلير، أحد مساعدي أدورنو في الكتابة، أمام لجنة الأنشطة غير الأمريكية في عام 1947، ورُحل في عام 1948.
شك مكتب التحقيقات الفيدرالية في أدورنو بأنه عميل من خلفية ماركسية زُرع في مجتمع رأسمالي. والآن، لا يثق به الناس كعميل في مجتمع تقدمي من خلفية اجتماعية غنية. الرد الأسهل على إدانة أدورنو للثقافة الجماهيرية هو رفض أدورنو باعتباره متكبرًا، فتصبح كراهيته للثقافة الجماهيرية ببساطة كراهية للجماهير الذي ينظر إليها باستعلاء. يبدو متعالِ عندما ينظر للناس كجماعة سهل خداعها وتضليلها، وعندما يرى أنَّ الثقافة الجماهيرية سطحية وخادعة. في تلك الرؤية، لا تحتوي حُجة أدورنو أي بصيرة سوى النخبوية، بينما تُمتع الثقافة الجماهيرية عامة الناس وتمنحهم صوتًا في الواقع.
لكن تلك الإجابة السهلة مُضللة. لم يُدن أدورنو الثقافة الجماهيرية بتلك البساطة، ولم يتطلع لحكم الثقافة الرفيعة أيضًا، وجد أدورنو في كليهما مشكلات جسيمة. وهذه المشكلات تنبع من احترام أدورنو العميق للمتعة والمطالبة بها، مدفوعًا بقلق أخلاقي قوي على سلامتنا. وقد يبدو الأمر غريبًا، لكن انتقادات أدورنو للثقافة الجماهيرية كانت مدفوعة برغبته في تحديد ما يحول ضد ازدهارنا وتجنبه. ليست الثقافة الجماهيرية فنًا سيئًا فحسب —بالرغم من أنها كذلك، كما يدعي— ولكنها أيضًا فن ضار، يقف في طريق حريتنا الحقيقية.
لفهم هذا الموقف الأخلاقي، يمكننا التفكير في مثال مألوف. ألا وهو المتع التافهة التي يصاحبها الشعور بالذنب (guilty pleasures). فنحن الآن نعمل في المتوسط لفترات أطول، مع عدم وجود أمان كافي، مقابل رواتب منخفضة. العالم مليء بالمشكلات الاجتماعية والسياسية والتي لا نجد طرقًا واضحة وحاسمة للتعامل معها أو تحسينها.
تبدو أوقات فراغنا المحدودة أكثر راحة عندما نقضيها مخففين من الأعباء التي نثقل بها أنفسنا، هاربين من ضغوط الحياة اليومية. برغم أنَّ المتع التافهة التي تشعرنا بالذنب غير مثالية، فعادة ما تتيح لنا متعة غائبة عن حياتنا المزدحمة. من المفترض أنها تمنحنا متعة فورية وليس فنًا رفيعًا، في حين أنها تتطلب وقتًًا وانتباهًا ونفقات أقل بالتأكيد.
أدورنو ليس معارضًا للمتعة، لكنه متشكك جدًا تجاه المتع التافهة التي يصاحبها الشعور بالذنب. ما هو هذا العالم الذي يربط المتعة والذنب معًا؟ ما نوع المتعة التي تأتي مع وعي مهما كان ضئيلًا، بأن الأمور يجب أن تكون أفضل؟
يدعي أدورنو إنه عالم يعطينا نسخة باهتة فقط من المتعة، متسترة في زي الحقيقة، التكرار متستر كهروب، استراحة مؤقتة من العمل متسترة كرفاهية. الثقافة الجماهيرية تقدم نفسها كمتنفس لعواطفنا ورغباتنا المكبوتة، وبالتالي كزيادة في الحرية، لكن في الحقيقة، فإنها تسلبنا من حريتنا مرتين، جماليًا (بفشلها في تقديم حرية جمالية للاستمتاع بالفن) وأخلاقيًا (في عرقلة الطريق لحرية اجتماعية حقيقية).
ماذا يعني أن تفتقر إلى الحرية الجمالية؟ بالنسبة لأدورنو، يتعلق الأمر بالحرية في تجربة، وتفسير، وفهم الأعمال الفنية، وتلك الحرية تتطلب عملًا فنيًا يمنحنا الوقت والمساحة لنعيشه ونختبره كموضوع موحد. ومع ذلك يدعي أدورنو فقدان الثقافة الجماهيرية لقدرتها على خلق تلك الوحدة المدمجة المتكاملة، بدلاً من ذلك تُنتج الأعمال الفنية الآن كمجموعة مفككة من اللحظات نختبرها كسلسلة سريعة ومتقطعة.
ليس غريبًا سماع أفلام تُمتدح لأجل «مشاهدها المثيرة والصاخبة» أو «لمؤثراتها الخاصة»، وإذا نظرنا لما وراء اللغة المألوفة، نجد غرابة، فنحن نمدح فيلمًا مدته ساعتان للحظاته الممتعة والمكلفة، لاحتوائها على مشاهد المطاردة، والانفجار، ومشاهد العنف. اعتدنا تقسيم ما يقدم كوحدة واحدة لمجموعات صغيرة منفصلة.
هذا ادعاء بشأن كيفية اختبارنا للأفلام، ولكن يمكن أن نجد أمثلة أيضًا من طريقة حديثنا عن الأفلام. مثلًا على موقع «AV Club» يمكن أن نجد قائمة بأفضل مشاهد عام 2017، لائحة من المشاهد المتقطعة مأخوذة من أفلام وموصوفة بمعزل عنها. زيادة على ذلك، تسرد مجلة «Variety Magazine» أفضل 10 لقطات أو صور، منفصلة عن الأفلام والحركة التي تضفي عليها المعنى.
ندرك نفس الظاهرة في الموسيقى، تحتوي الأغاني الناجحة على «عُقر» (hooks)، وهي شظايا أخاذة من الألحان الموجودة في الكورَس (chorus) أو «القنطرة» (bridge) والتي تُصمم الأغنية لتقديمها مرارًا وتكرارًا. يمكننا على الفور استدعاء الكورَس من أغنية «Satisfaction» لفريق الرولينج ستونز، وقد نجح هذا الكورس لمدة طويلة، واستخدم مرارًا في الإعلانات والموسيقى التصويرية وإعلانات الأفلام، ويستمتع الناس بها وحدها، بل لا شك أن العديد من الناس لم يسمعوا قط الأغنية كاملة.
يُمكن للأغنية أن تتحلل إلى عناصرها دون فقدان للمعنى، فيمكن قطع بعض اللحظات منها وإعادة استخدامها. صُممت الأغنية بأكملها لإنتاج الشد والجذب الذي يأتي مع توقع الكورَس والاستماع له مرة أخرى. بالنسبة لأدورنو، يُعتبر هذا تحريفًا وحجبًا للحرية الجمالية الحقيقية، اللعب والاستمتاع والعمل على توحيد مختلف أجزاء العمل الفني كوحدة متكاملة.
التجربة الجمالية دون تنازلات أو مؤهلات تكون غير متوقعة، سائلة ولها بنية معقدة توجد وتتطور عبر فترات زمنية طويلة. في المقابل، تُدرّبنا صناعة الثقافة على التركيز على دقائق زمنية متقطعة من الوقت والمحتوى، مما يضعف قدرتنا واستعدادنا لتجربة الأعمال الفنية كأشياء معقدة.
وأيضًا تعودنا صناعة الثقافة على نوع من التجربة الجمالية مشابهة كثيرًا للعمل التي نبغى التحرر منه. القياس المستمر للأعمال الفنية على المعايير والمجازات القائمة بالفعل. فكر في نُدرة مشاهدة الأفلام الجماهيرية، على سبيل المثال، وعدم إدراك هدف المشهد، فهناك مشهد يؤسس العلاقات التي ستحدد الأحداث التالية، والآخر مشهد حركة، والآخر يعطي دافع لشخصية الشرير. عادة ما نكون مزودين بفهم لاواعٍ لوظيفة كل مشهد، وطوله المتوقع.
عندما يعرض المشهد الافتتاحي شخصًا يستيقظ في غرفة فوضوية، نكون على يقين من أن هذه هي شخصيتنا الرئيسية، وعندما يرن المنبه ستستيقظ تلك الشخصية قلقة بشأن التأخر على شيء ما. وعندما يزور جيمس بوند كيو، نعلم أن الأدوات تُستعرض لأنها ستستخدم لاحقًا، لذلك نتذكرها، ونعلم أن النقاش لن يطول، ولن تقع محادثة عاطفية عميقة، وتوقعاتنا نادرًا ما تخيب. في المشاهدة نعمل من أجل تنظيم، وفحص، وملء لحظات الفيلم أثناء مرورها. بدلًا من أن نُعطيَ الوقت للفهم والتفسير، فإننا منخرطون في التصنيف والترتيب الذي يُميز عالم العمل الذي اعتقدنا أننا نهرب منه.
كان أدورنو محقًا في أن العديد من اﻷفلام تشبه ذلك، يتبع سردها أساليب مألوفة عمومًا، وشخصياتها على الأغلب تمثل أنماطًا معروفة، ولكن ليس هذا هو مربط الفرس، فنحن لا نقع تحت وطأة الانطباع السائد بأن كون فيلم رائج مثل «The Dark Knight Rises» على نفس مستوى عمل فني مثل «Andrei Rublev»، وليس علينا أن ننتظر منه ذلك، وإنما نتوقع منه أن يهبنا ساعتين أو ثلاثة من الإثارة، ولا نتوقع منه أن يصمد أمام النقد والتمحيص، فقط نستمتع به لما هو عليه، وهذا هو ما يعرف بالمتعة التافهة التي تشعرنا بالذنب.
لكن الشأن المثير للفضول في المتعة التافهة التي تشعرنا بالذنب هو كونها «تافهة»، فنحن على علم بأن ما نقوم به من الممكن أن نقوم به بشكل أفضل، لكننا نعزم على الاستمتاع به على أية حال، يرى أدورنو في ذلك لب ما هو خاطئ بشأن الثقافة الشعبية، ففيما يتعلق بأدورنو، نحن لا نُخدع، بل نعرف تمامًا ما نحصل عليه، وكم هو رديء، لكننا نظل نرغب فيه كما هو تمامًا.
هذا هو انتصار الإعلان في صناعة الثقافة، التقليد القهري من قبل المستهلكين للسلع الثقافية والذين يدركون أنهم على خطأ في الحين نفسه، فمقولة أن العالم يود لو يخدع أصبحت حقيقية الآن أكثر من أي وقت مضى، فالناس ليسوا فقط، كما يسري القول، يغويهم السراب، بل إذا ما كانت تضمن لهم حتى ولو أكثر المتع هشاشة، ستجدهم يرغبون في ذلك الخداع المتسم بالشفافية.
بينما يطالب أدورنو بأن تكون على أتم دراية بما تفعله وما تختاره، لا تزال صناعة الثقافة تشكل وسيلة للخداع والأذى، لماذا؟ لقد سبق أن قلت إن دافع أدورنو وراء رفاهيتنا هو دافع أخلاقي، وهذا الدافع الأخلاقي ينعكس على كون الثقافة الشعبية تضر بنا. ولفهم هذا الزعم يتوجب علينا الرجوع بالنظر لهذه السمات الجمالية التي استعرضناها توًّا، مثل استخدام الثقافة الشعبية للتكرار، النوع الفني (genre)، الاستعارات والأنماط المألوفة، ليتضح لنا أن الحرية الجمالية والحرية الاجتماعية متشابكان بشدة بالنسبة لأدورنو.
فكم كبير من الأذى الذي تسببت به الثقافة الشعبية بالنسبة لأدورنو هو أذى يعيق قدرتنا على التصرف بحرية وتلقائية، ويدعي أن الثقافة الشعبية علاوة على أنها مصدر للمتعة هي أيضا نوع من التدريب، فهي تعزز نمطًا معينًا من التفكير وتدفعنا نحوه، وتؤثر في وعينا الذاتي الذي يضر بقدرتنا على عيش الحياة كأشخاص أحرار بحق. تحقق هذا جزئيًا من خلال القدرة على التنبؤ، فقد كتب أدورنو في «جدل التنوير» (1944)، بالاشتراك مع ماكس هوركهايمر:
«يمكن دون استثناء توقع الخاتمة منذ البداية في أي فيلم، من سيكافأ، ومن سيعاقب، ومن سينسى، وبالنسبة للأذن المعدة فيمكنها دومًا تخمين كيفية الاستمرار بعد أول نوتة موسيقية لأغنية شهيرة، وهو أمر يرضيها عند حدوثه».
لا مجال متبقٍ للمستهلكين لإظهار الخيال والعفوية، بل ينجرفون على مدار سلسلة من اللحظات التي يمكن التنبؤ بها، كل واحدة منها سهلة الهضم ويمكن استهلاكها على نحو ممتاز حتى وإن كانوا في حالة إلهاء. ولو كنا كما يعتقد أدورنو، في عالمنا الأوسع، نقع تحت ضغوط متزايدة لننسجم، لننتج، ولنصب طاقتنا في عملنا، فغياب المكان الذي يمكننا فيه التفكير بحرية، والتأمل، واختبار إمكانيات جديدة هو أمر يشكل خسارة عميقة ومؤذية. حتى في إجازتنا من العمل، لا نكون أحرارًا بحق في الحصول على ذلك النوع من المتعة الحرة والعفوية، والتي من الممكن أن تساعدنا في التعرف على الحرمان المؤذي من المتعة الذي نتعرض له في حياتنا العملية ورفضه.
افتقارنا للحرية الجمالية يساعد في بناء عقبة تحول دون تحقيق الحرية الاجتماعية. فإن كانت الثقافة الشعبية تجعلنا نعمل حتى في أوقات فراغنا، وإن لم نمتلك أي حيز للتفكير والتجريب بحرية ومن دون توقعات، فسنفقد قدرتنا على رؤية إمكانية وجود عالم لا يهيمن عليه العمل بالكامل. سيقل ذلك الحيز الذي يتيح لنا النظر في تلك الإمكانية شيئًا فشيئًا، وسنفتقر للخبرة في أي شأن غير ما يتطلبه العمل بشكل متزايد.
يزعم أدورنو أيضًا، في تكهنات لافتة للنظر لجوانب عديدة من سمات حياتنا الثقافية اليوم، أن هذا التماثل الجامد يطرح نفسه تحت ستار التمرد والحداثة:
«قد يكون التأثير العام لهذا النظام أكثر إلزامًا من القواعد الرسمية والحظر، حيث يتم التعامل مع الأغنية الشهيرة بقدر أكبر من التساهل اليوم إذا لم تحترم نظام الـ(32 بار) أو العودة للإئتلافات التساعية. فالسخط الذي يتصف بالواقعية يشكل علامة تجارية لهؤلاء الذين لديهم فكرة جديدة ليبيعها».
وفي هذا أيضا نوع من الضرر. الشكوى والعدوانية التي تتكون بداخلنا تجد منافذها في الفن الذي يعتبر «متمردًا». فلنأخذ الموسيقى كمثال، من فرقة ذي دورز (The Doors) التي تنتج موسيقاها شركة إلكترا التابعة الآن لمجموعة وارنر، وحتى فرقة «Rage Against the Machine» التي تنتج موسيقاها شركة «Epic» المملوكة لشركة سوني ميوزيك، وغير هؤلاء، نجد أن التحريضات والاحتجاجات المجتمعية قد سُخِّرت لتلائم موسيقى سهلة الهضم، مدعومة من تكتلات تجارية ضخمة، تستخدم لتفريغ غير ذي ضرر لهذا الاستياء، وفي هذا التفريغ، تفي الثقافة الشعبية باحتياجاتنا بالفعل، ولكنها تربطها من جديد بعملية تحقيق الربح، فتتشتت الطاقة التي كنا بحاجة إليها لنصنع تغيير حقيقي. المتعة المؤقتة التي نأخذها تشبع حاجاتنا، وتحرر خيبة أملنا، بينما تقف الثقافة الشعبية في طريق تغيير أعمق في أسلوب حياتنا، وهو ما من شأنه أن يخفف من إحباطاتنا، ويخدم متعتنا، بطريقة أعمق وأطول أمدًا. إن ارتياحنا الشديد يخدعنا، ويقف في طريق متعة تتسم بالمزيد من الحرية والدوام في المستقبل.
الثقافة الشعبية بالنسبة لأدورنو ليست سيئة لأنها تزودنا بمتع سريعة وسهلة المنال بعكس «الفن الراقي» الحديث المتطلب، بل على العكس من ذلك، هي سيئة لأنها تعِد بهذه المتعة وتفشل في الوفاء بها بطريقة حقيقية. اتضح في النهاية أن هجوم أدورنو على الثقافة الشعبية ليس هجومًا على المتعة، بل هجوم باسم المتعة، في رسالة لفيلسوف زميل هو ڤالتر بنيامين، أشار أدورنو للثقافة الرفيعة والشعبية كشقين ممزقين للحرية المتكاملة، لكنهما لا يجتمعان.
الثقافة الشعبية تهبنا المتعة، والتي هي حاجتنا وحقنا، لكنها تضر بقدرتنا على التفكير بحرية، وانتشال أنفسنا من عالم العمل والربح، والثقافة الرفيعة تخلق في أحسن الأحوال أعمالًا فنية تهبنا الحرية الجمالية الحقيقية، ومهربًا من استعباد العمل لكن هذه الأعمال تأتي مع عوائق كبيرة تحول دون الانخراط فيها، والذي يؤدي إلى سد منافذ الظروف المثالية لتجربة هذا النوع من الفن إلا للقلة القليلة.
فحضور أداء لسيمفونية لا يتطلب المال فقط، ولكن أيضا الوقت، والتحرر من الاحتياجات الملحة والقلق، كما يتطلب انعزالًا عن المخاوف المتعلقة بالمال، والمأكل، والأمن الذي أصبح غير متوفر بشكل متزايد في عالم حيث العمالة أصبحت أكثر خطورة وأقل أجرًا.
الفنون الراقية، والثقافة الشعبية كلاهما محطم ومؤذٍ، ولا يجادل أدورنو بشأن إلغاء أحدهما، فجميعنا نستحق حرية نيل المتعة بدون ذنب متعلق بذيلها، وبدون قلق، لكن مجتمعنا غير عادل، ومتطلبات حرية وتقدير فني حقيقيين باهظة الثمن لدرجة أن هذا محرم علينا جميعا تقريبًا، فإن كانت الثقافة الشعبية محبطة ومضرة لكنها سهلة المنال وممتعة، فهذا فقط لأنها صورة معكوسة عن الأضرار التي أحدثتها الثقافة الرفيعة، وعدم المساواة التي جعلتها ممكنة:
«الفن الخفيف.. هو الضمير المذنب للفن الجاد، والحقيقة التي لا يستطيع هذا الأخير الإمساك بها بسبب أساسه الاجتماعي تعطي الأول مسوغًا ظاهريًا، والفارق بينهما هو نفسه الحقيقة: فهي تعبر على الأقل عن سلبية الثقافة التي هي مجموع كلا المجالين».
اتضح أن أدورنو أقل تعاليًا عما بدا عليه، وربما أكثر راديكالية وأقل محافظة مما توحي به سمعته، ففي البداية بدا الوضع كما لو أننا على خطأ، وأن انغماسنا في الثقافة الشعبية فشل أخلاقي، لكن الآن يبدو أن غير الأخلاقي هو العالم الذي يمنعنا من إدراك قدراتنا، ويسد علينا أي فرصة للمتعة غير تلك التي لا تكرر سوى مطالب العمل، أو التي تستند بشدة إلى عدم المساواة غير الأخلاقي. إن شكاوى أدورنو ليست موجهة إلينا، ولكن للعقبات التي توضع في طريقنا.
فهو يأخذ المتعة على محمل الجد، ويطالب بأن تكون حياتنا مليئة بها. ولكن ما وجده أدورنو هو أن بنية العالم الحديث تضمن أن المتعة دائمًا غير مكتملة وغير كافية. فمن ناحية، يمكنني الحصول على المتعة فورًا وببساطة من الثقافة الشعبية، وفي المقابل يجب أن أخضع نفسي لتلاعب مشتت وغير موحّد وغير صادق بحواسي ومشاعري، ومن ناحية أخرى، قد أكون محظوظًا بالقدر الكافي لكي أتمكن من تكريس أجزاء كبيرة من الوقت والمال لتقدير الفن الرفيع، لكن قدرتي على فعل ذلك معتمدة على توزيع غير عادل للثروة، فحريتي المؤقتة تأتي بتكاليف يتحملها آخرون.
بالنسبة لأدورنو فإن بعض الأعمال الفنية أفضل من الأخرى، والثقافة الشعبية هي، إلى حد كبير، قمامة. ولكن بالنسبة له فإن العالم المثالي لن يكون محكومًا بالكامل بقاعات الحفلات الموسيقية الراقية، ولا بسلال ممتلئة بأجهزة التلفاز المحطمة. لم يعطنا أدورنو صورة عن العالم المثالي، فقط مجرد وصف للوعد الدائم بالمتعة واللذة والتي يرى أن مجتمعنا لا يفي بها إلا بالكاد، وعلى الأغلب لا يفى بها إلا بثمن باهظ للغاية.
2 Replies to “ضد المتع التافهة التي تشعرنا بالذنب: أدورنو عن جرائم الثقافة الشعبية”
مقال ممتاز
وترجمة جيدة وسلسة لهذا النوع من المقالات
شكراً لكم
جميلة جدل