بُغْض البشر بروح فلسفية
النص مُحاضرة لإيان جيمس كيد من احتفالية مجلة "الفلسفة اﻵن" في لندن - يناير 2020.
إيان جيمس كيد محاضر في الفلسفة في جامعة نوتنجهام
ترجمة: محمد عثمان
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
التَنديد بالجِنْسِ البَشَريِّ أصبح شائعًا هذه الأيام. بِالأخْذ في الاعتبار الأزمة البيئية العالمية، وصعود الأيدولوجيات اليَمِينية المُتَطَّرِفَة، وتقويض أُسسِ المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والعديد من الشرور الأخلاقية الأُخرى، يُنَدد الكثير من الناس بحالة البشرية. أحيانًا، لا يتجاوز التَنديد الكلام: تعبيراتُ الغضبِ عن انهيارنا الأخلاقي. ومع ذلك فأحيانًا يكتسب التَنديد روحًا عَمَليةً. في أقصى الطرف نجد هؤلاء الذين يَحضّون على نهاية جِنْسِنا، مثل مُناصري تحديد النَّسل ومن بينهم الحركة الطواعية لانقراض الجنس البشري (VHEM)[1]. العديد من المواقف المُعتَدِلة تُنادي بتَغيير جَذريِّ للبشرية، ربما باتجاه جعل طُرق الحياة أزهد وأبسط. إن انهيار نَمَط حياتنا الصِناعيّ والاِستهلاكيّ ربما يَلِيه حياة بِطِباع مختلفة ونأمل أن تكون أفضل –هذا الأمل يقدمه على سبيل المثال الفيلسوف والناشط البيئي روبرت ريد Rupert Read في كتابه الصادر عام 2019 باسم (انتهاء الحضارة، Civilization is Finished).
المُصْطَلَح المناسب لكل تلك المُمارسات المُنددة بأخلاق البشرية هو بُغْضُ البشرِ.
فإن مُبْغِضَ البشر في معناه العام واليومي هو شخصُ يَكْرَه البشر أو ينفر أو يشمئز منهم ويحاول تَجنُبَهُم. في مَسْرَحِية موليير (مُبْغِضُ البشرِ)، التي نُشِرَتْ عام 1666، يقول بطلُ العملِ «ألسيست» بأنه «يَكْرَه جميع البشرِ»، فبَعِضَهم «خَسيس» والبقية تُعاونهم على «شَرِّهم». في نهاية المسرحية، يُعلن هذا المُبْغِض عن رغبته في الهروب من مجتمعه الفاسد والمُفْسِد.
رغم هَجر المصطلح مُنذ وقتِ طويلِ إلاّ إنْه ما زال مُحتَفِظًا بمعناه: أن تكون مُبْغِضًا للبشرِ تعني أن تَكْرَه البَشَريّةَ وتُريدُ الهروبَ منها، أو ربما مُمارسة العنفِ ضِدّها. الفَيلَسُوفة جوديث شْكلَر Judith Shklar تُحذر من أن بُغْضَ البشرِ خطيرُ –لديه القُدْرةُ التي «تجعلنا تُعَساء وبدون أصدقاء»، و«يَنْكِبُنا بغَثَيَانِ في أرواحنا، ويحرمُنا من كل النِعَمِ ما عدا القَدْحِ والسّبِ»(Ordinary Vices 1984). وطِبقًا لتَحذيرها الصائبِ فالكَرَاهيةُ والعنفُ لا يَصلُحان كأساسِ لحياةِ جَيدةِ. فلو أن فَلَسفةَ بُغض البشرِ بالضرورة تَشْملُ الكراهيةَ والعنفَ فينبغي علينا أن نتجنَّبها. لحُسنِ الحظِ، فهي لا تَشملهُما.
تَعريفُ بُغْضِ البشرِ بأنه «كراهيةُ أو نَفورُ من البَشّرِ أو البَشّريةِ» مُحدودُ جدًا. فهناك العديد من أشكال البُغض، وفقط القليل منها يَحتوي على الكَراهيةِ. ففي مُوَاجَهَةِ تلك الرَذائِل نشعر بالغضَبِ -أو بالمَرَارةِ، أو بالإِحْباطِ، أو بالاِستِسلاَمِ المُحزِنِ، أو في أكثر الأحوال تفاؤُلًا؛ بأملِ مؤكدِ في قُدْرتنا على التَحْسُنِ للأفضل. وفي الواقع، بعض فَلاسِفةِ البُغْضِ يرفضون بوضوحِ أن تكون الكراهيةُ ردَ فعلِ على انهيارنا الأخلاقي.
ونتيجة «لتَعَدَّدِ الآراءِ حول بُغْضِ البَشّرِ» يُمكنُنا أن نَتَعرف على فَظَاعة الأخلاقِ البَشّرية دون أن ننساق للكراهيةِ، للعنفِ، أو لليَأْسِ. ولنفعل ذلك سيكون علينا أن نفهم بُغْضَ البَشّرِ بشكلِ أفضل.
تَعريفُ بُغْضِ البَشّرِ
من الغريب عدم وجود ما يكفي من الكتاباتُ الفَلْسَفيةُ عن بُغْضِ البَشّرِ. إنه مُصْطَلَح لا يُفضل الفلاسفة الأخلاقيون استخدامه.
أحياناً يُقْتَرن بُغْضَ البَشّرِ بالتَشاؤميَّةِ والعَدَميّةِ، فكلاهما يُعْرِبُ عن نظرته الكَئِيبة للوجود الإنساني. ربما يكون أرتور شوبنهاور (1788-1860) الفَيلَسوفَ الأكثر تَشاؤميَّة بلا مُنازع وأيضًا الأشد بُغْضًا للبَشّرِ. لكن التَشاؤميَّةُ والبُغْضُ ليسا نفس المُصْطَلَح: فالفَيلَسوفُ المُتَشّائمُ يَعتقدٌ بأن هُناك سِماتُ مُتَأصِّلَةُ في الكونِ بشكل عام تمنع سعادةَ الانسانِ وتجعل ازدهارَه مُستحيلًا مثل: الحَماقة، اِنعدام المعنى، المُعَاناة، بينما في المُقابلِ يَصُبُّ فَيلَسوفُ بُغْضِ البَشّرِ تَرْكِيزَه على عُيُوبِنا ورَذائِلُنا. وبفرض أن التَشاؤميَّةّ والبُغْضَ مُتْقَارِبان، لكن ذلك لا يعني أنهما مُتطابِقان. كمثالِ: يُمكنني الإيمانُ بأن الوجودَ الإنسانيَ في الكونِ بلا معنى بدون أن أقصد أنه بَغْيضُ أخلاقيًا. فقد نكون بلا معنى لكن أخلاقنا تُثير الاعجاب بشكل عام.
يُدافع ديفيد كوبر David E. Cooper عن فَلسَفةِ بُغْضِ البَشّرِ من خلال كِتابِه «الحيوانات وبغض البشر» (Animals and Misanthropy 2018). وكما يُشير العنوان، فهو يُناقش بأن التقييمَ الأمينَ لمُعاملتُنا للحيواناتِ سيُبَررُ الحُكمَ ببُغْضِ البَشَريّة. فالمِحْنَةُ التي تَعيشُها مِئات الملايين من الحيوانات غَير الإنسانية تكشفُ عن نَسَقِ كاملِ من عُيُوبِنا ورَذائِلِنا: العَجرَفة، القَسوة، الفَظَاظَة، الطَمَع، الغُرُور، الطَيْش، الجهل المُتَعْمد، الزُهُو.. والقائمة طويلة وكِئيبة.
بينما يُرَكِزُ كوبر على الحيواناتِ يُمكننا أن نفحص جوانبَ مختلفةَ من حياةِ الانسانِ. سَنَجْدُ، كما يُجَادلُ فَلاسِفةُ بُغْضِ البَشّرِ، أن الوجودَ الإنسانيَ مُشَبَّعُ بالعُيُوبِ والرَذائِلِ ومن بينها العَجرفة (في صدارة القائمة مرة أُخرى)، قَسوة القلبِ، تَصلُّب الرأي، الجَشع، النِفاق، بلادة الحِس أمام الجمال، قِصر النظر، التواني الأخلاقي، الأنانية، الاستخفاف بمعاناة الأخرين، العُنف، الإسراف، وبلا شك هناك العديد من الرَذائِلِ لم نُسمها بعد.
بالنظر إلى كل ما سبق، من السهل فِهم النقد المُبْغِضِ للبَشّرِ. ومع ذلك، فقائِمةَ بالأخطاء البَشّرية غَير كَافية لتأمينِ ما تَدعيه فلسفة البُغْضِ. تصور أحد مُنتقدي فلسفة بُغْضِ البَشّرِ وهو يَقبلُ بأن لنا رَذائِلُ ولكنه يُصّر بأنها سطحيةَ، عَرَضيةَ، ومُحدَدةَ. سيُجادلون بأن تلك الرَذائِلُ مقصورةَ على المواقف القاسية مثل الحرب والتَبَدُّلاتِ السياسية –ظروف تُجبِرُنا بأن نكون أنانيين، عنيفين، ضد طبيعتنا الخَيِّرَةِ– أو بأن هذه الرَذائِلُ مقصورةَ على المتطرفين مثل المضطربين عقليًا أو الوحوش الأخلاقية، الذين لا يمكن اعتبارهم مُمثلين أخلاقيين عن البَشّريةِ كُلها.
هذا القِناعُ الأخلاقيُ بالضبط هو ما ترفضه فَلسَفةُ بُغْضِ البَشّرِ. يَعتقدُ المُبْغِضون للبشرِ بأنه لا يوجدُ شيءُ غير مُعتاد أو عَرَضي بخصوص عُيُوبِنا –إنها مُتَجَذِرةُ فينا وتنتشرُ في كامل حياتنا. سيُشيرون إلى أن دليل ذلك أننا لا نستغرقُ وقتًا ولا جهدًا لنجد أمثلةَ على عُيُوبِ البَشّرِ ورَذائِلِهم. أحيانًا كل ما نحتاجه أن نقرأ الأخبارَ، أو ننظُر عبر النافذةِ، أو في المرآةِ. وبفرض صحة كل ما سبق، فمعظم سلوكنا الشَرِس لا يعدو كونه أفعالًا قاسية صغيرة لا تسترعي انتباهنا؛ تيارُ مُتَدّفِقُ من أكاذيبِ ضئيلةِ. يُسميها ميشيل دي مونتين (1533 – 1592) بـ«الرَذائِلُ المُعتادةُ»، لأنها تُشكل عاداتِنا اليَوْمِيَّةَ، أنْشِطَتَنا، طُرُقَ تَحْدُثِنا. في الحقيقة، لو أننا نعتقد بأن رَذائَلنا لا يُعتدَّ بها إلا في صِوَرِها المُتَطَّرِفةِ، فنحن بذلك نُقلل من قيمتها خدمةً لأنفسنا.
لذلك يُصّرُ فَيلسَوفُ بُغْضِ البَشّرِ على أن عُيُوبَنا ورَذائِلَنا لديها صفاتُ تؤكد ادعاءاتَه ضِدّ ردِ الفعلِ المُحِبّ للإنسانية. ثلاث من هذه الصفاتُ التي تُمَيزُ عُيُوبَنا وهي أنها راسخةُ، واضحةُ، موجودةُ في كل مكانِ وزمانِ: مُتَجَذِّرَةُ بعُمْقِ في أنْشِطَتِنا، مَشَارِيعِنا، طُرُقِ حياتنا التي اِعْتَدناها مُنذ القِدم؛ إن عيوبَنا في أغلب الأحيان جَليّةُ، مثل أن نتحدث عن «قَسوتِنا المُطْلَقةِ» و«جَشعِنا الصارخِ»، وعُيُوبُنا مُنتشرةُ عبر العالمِ ربما فيما عدا بعض الأماكنِ المُنعزلةِ. فعلى كل مُبغِضِ للبَشّرِ أن يُدركَ هذه الِنقاط الثلاث وإلا سيعجز عن الإدانةِ الأخلاقيةِ للبَشّريةِ.
إن مُناصري الحَركاتِ البِيئيةِ الحَديثةِ المُبْغِضةِ للبَشّرِ السَاعيّةِ لتغييرِ جَذريِّ مثالُ جيدُ للأشخاصِ الذين يُدركون النِقاطَ الثلاث السابقة فهم يعتبرون التدميرَ، وعدم الاكتراث بالطبيعة، والإسراف، مُتَجَذِرين في طُرقِ وأسسِ حياتِنا. مِثالُ آخر وهم مُناصرو الحركاتِ النسويّةِ الذين يُجادلون بأن تَصّلُبَ الرأيِ، والظلمَ، والاستغلاليةَ مُتَجَذِرْون بعُمْقِ في النِظام الذكوريّ حتى أن أي محاولة لإزالة هذه العُيُوب سينهار لوقعها النظامُ الذكوريّ. من الواضح كما نرى أن هناك أشكالًا مُتَعَددةُ من فلسفةِ بُغْضِ البَشّرِ. الجَوهرُ المُشتركُ هو الإدانة الأخلاقية للجنس البشري، لكن تُحَفِزَه اهتماماتِ مختلفةَ مثل المِحْنَة المُعَذِبة للحيوانات، تَدمير الطبيعةِ، اِضطهاد المرأة. قد يشعر مُبْغِضُ البَشّرِ بالغضبِ الممزوجِ بالكُرهِ، أو بالنْشَاطِ المملوء بالأملِ، أو حتى الاِستِسلَام اليَائسِ وتِبْعًا لهذه التغيُرات في وجهات النظر يختار مواقفَه المختلفةَ.
ينبغي أن يكون واضحًا أيضًا أن هذا البُغْضُ ليس مُوَجَهًا للأفرادِ. فهذا البُغْضُ حُكمُ على شيء جماعيّ وهو: البَشّرية، الحضارة الإنسانية، الطُرُق التي يعيش بها الإنسان. يمكن لمن يُبغِض البشر أن يشعر بالودِّ، وبالإعجابِ، وحتى بالحُبِ تجاه أحدهم –ومفهوم بالطبع أن هؤلاء الأفراد النادرين الذين يُحبهم خالون من أخطاء البشرية. ومن المهم القول بأن مُبْغِضَ البَشّرِ قد يرى في أحد الأفراد مثالًا لكل عُيُوبِ البَشّريةِ. إذا اتخذنا دونالد ترامب مثالًا، فمُنْتَقِدوه يعتبرونه رَمزًا لكل عيبِ في جِنْسِنا –مثالُ حي لكل الرَذائِلِ من الجَشع، الغُرُورِ، والزُهُوِ.
وبهذا تَتَبدى فلسفة بُغْضِ البَشّرِ في أشكالِ مُتَعددةِ لكن هذه التَعَدُّديّةّ تَخلِقُ مجموعةَ مُعقدةَ من المواقفِ الأخلاقيةِ والعَمَليِةِ تُفضي إلى سؤالِ صعبِ: كيف ينبغي على المرء عيش حياتَه عندما تَنْغَرِسُ في روحِه تلك الأفكار المُبْغِضةُ للبَشّرِ؟ فمن الواضح أن الأفكارَ الناقدةَ لوضع الأخلاقِ البَشّريةِ الشَنيعِ ليس مُجرد عقيدةَ نظريةَ فارغةَ بدون مُقتضياتِ على سلوكِنا وحياتِنا. قبول هذه الأفكارُ يعني أن تُغير طريقةَ حياتِك، شعورِك، تفكيرِك. وكل من يكتب عن بُغْضِ البَشّرِ يُحاول الإجابةَ على السؤالِ السابقِ. حتى كَاتبو المَسرحياتِ، فهو مَبحثُ دراميُ بعد كُل ذلك.
خِلاَل تاريخِ الفَلسَفةِ، الغَربيةِ والشَرقيةِ، أعتقد أننا نستطيع أن نتبين أربعةَ مواقف مُبْغِضة للبَشّرِ. قد يكون لدينا موقفُ تُهيمن فيه العاطفةُ أو وجهةُ نظرِ مصحوبة بأفعال مُختلفة وتَعهُداتِ. إنها طريقةُ لفهمِ العالمِ وإدارتِه –طريقةِ ليتعايش المرءُ مع بَغْضِه للبَشّرِ دون محاولةِ تغييره. وبلا شك هناك مواقفُ عديدة أخرى لكن المواقف التالية الأكثر شُهرةً.
فلنبدأ بموقفين وصَفهما واحدُ من أكثر الفَلاسِفة الغربيين الأخلاقيين تأثيرًا، إيمانويل كانْط.
العَدُوُّ والهَارِبُ
ربما يكون إيمانويل كانْط (1724-1804) الفَيلَسوفَ الأرفع شأنًا على الأقل في التُراث الغربي، وواحد من الفَلاسِفةِ القليلين الذين كَرَسَّوا انتباهَهم بشكلِ خاصِ لبُغْضِ البَشّرِ. يُفَرِقُ كانْط بين موقفين مُعَقَدين مُبْغِضين للبَشّرِ ؛ الأول «عَدُوُّ البَشّريةِ» الذي تُهيمن عليه الكراهيةُ والاشّمِئْزَازُ من عُيُوبِ البَشّرِ وينْسَاقُ لأعمالِ العُنفِ.
أحيانًا يُمارسُ العنفَ البدنيّ حرفيًا –يكون من النوع الذي ربما يَطمح إلى تمزيق الحياةِ الاجتماعيةِ، أو يرغب ببساطة في إنزال أذاه على الآخرين. في حالات أخرى، يكون العنف رمزيًا، مثل الِنقَاشات المُتشكِكَة في المُثُل العليا المُقدَسة. يُناسب هذا الوصف بعض ناشطي البيئة المُبْغِضين للبَشّرِ: هؤلاء الذين يريدون «تفكيك الحضارة» و«هَدْمِها بالكامل»، أو من يَتطلّعون عامةً إلى انقراض البشرية برضا تام.
الموقف الثاني المُبْغِض للبَشّرِ هو ما يُسَميه كانْط «الهَارِب من البَشّريةِ». وبعكس الفارين مِنْ العَدالةِ، فالهاربين الأخلاقيين يهربون بدافع الخوفِ وليس بذنبٍ اِقْتَرَفوه. يُهيمن عليهم الخوفُ؛ مما نحن عليه، من الأذى الذي نتسبب به، من تأثيراتِ الفساد الأخلاقي عليهم وهم بيننا. وبلا شك فهؤلاء الهاربين لديهم نصيبهم من العُيُوبِ لكنهم يَتَجْنَّبون المزيدَ من الفسادِ الأخلاقيِّ بهَرَبِهم. وهذا يعني الهروب حرفيًا إلى جزيرة مُنْعَزِلةِ أو الانفصال عن العالمِ؛ في الأجيال السابقة كانوا يَنْسَحِبون إلى مُجتمعاتِ دِينيةِ مُنْعَزِلةِ أو أي مكان آخر يَعزلهم عن الرَذَائِلِ الراسِخةِ في العالم الفَسِيحِ. وعندما أعلن بوذا (وُلِدَ تقريبًا 563 قبل الميلاد – تُوفى تقريبًا 483 قبل الميلاد) عن سُمُوّ حياة الرَهبنة كان سبب ذلك أنها خاليةُ من التأثيراتِ الفاسدةِ التي تُغذي رَذَائِلَنا أو كما قال خاليةُ من الشهواتِ المَاديةِ والإغراءات الحِسّيةِ.
يرفض كانْط كلا الموقفين، لأنه يرفض الكراهيةَ، ليس لأنها تجعلنا تُعساء أو بدون أصدقاء، بل لأنه يعتقد أن علينا أن نحترم كرامةَ الأخلاقِ[2] عند رِفَاقِنا حتى لو كانوا يُخطئون باستمرار. الكراهيةُ تَتناقض مع الاحترامِ، إنها تدمره. لهذا السبب يحكم كانْط على موقف عدو البشرية بأنه «جدير بالازدراء». ويَرفُض بالمثل موقفَ الهَارِبِ من البَشّرِ. فعلى فَرضِ اِختفاء الكَراهيةِ ودَوافعِ العُنفِ في تلك الحالة [الانعزال عن البَشّرِ] فلن تكون ثَمّة أعمال اِنسانية صَادقة وصَالحة بدون مُجتمعِ إنساني. ورغم ذِيوع صَيته بوصفِه مُفكرًا مُنعزلًا، إلا أن كانْط يؤكد أننا كائناتُ أخلاقيةُ واجتماعيةُ. لا يمكن لمن يهرب من الأخرين أن تَزدهر حياتَه. ربما يستطيعون العيش مُنزوين ومَعزولين – لكن لن يعيشوا حياة طيبة.
وُجِدَ كلا الموقفين طويلًا قبل كانْط. لو أننا رَجِعنا للعصور القديمة، نستطيع أن نجد أُناسًا أعلنوا عن كَراهيةِ راسِخةِ أو خَوفِ من البَشّريةِ. يُعلن بلوتارخ (وُلدَ نحو 45 - توفي نحو 125 ميلاديًا) بأن «مَنْ يَكْرَهٌ الرَذَائِلَ، يَكْرَهُ البَشّريةَ» –ما أجمله من شعارِ لكل عَدُوِّ للبَشّريةِ. هِرَقْليطُس «الفَيلَسوف البَاكيّ» نَدَبْ حماقةَ ورَذِائِلَ رِفَاقِه وفي النهاية –كما تقول الأسطورة– هَرِبَ ليعيش في الجِبالِ. يبدو هذا مُبَالغًا فيه، ومع ذلك فهو يُبين لنا رغبة مفهومة لهَجْرِ العالمِ البَشّريِّ. لكنْ الكراهيةُ والخوفُ قد لا يمكن اِحتمالهما. فربما لو تَجَذَّر بُغْضُ البَشّرِ في مَفاهيمِ وعواطفِ أُخرى لتجعله مُحْتَمَلًا. ونستطيع أن نَجِدَ هذه المواقف الأُخرى بالتَوَجَّهِ شَرقًا.
المُنَاضِلُ والمُسْتَكين
التقييم المَنهَجيّ لمُقَوِّماتِنا وحالتِنا الأخلاقيةِ راسخُ بقوةِ في التُراثِ الفَلسَفيّ الهِنديّ والصِينيّ مُنذ أقدم العهود التي نَعرفها. بالنظر إلى المدارس الهِندية، فالصورة كِئيبة: فالإنسان مُحتَجَزُ في دورات من الدوكخا (تعني الألم، أو انعدام التوازن، أو المَرَض) وإعادة الميلاد، مُحتَجَز ضمن «عجلة المعاناة» مدفوعة بعُيُوبِنا ورَذَائِلِنا –و«بالجِذورِ الفاسدةِ» (خاصةً عند البوذية) من الجهلِ، والضَلالِ، والجَشعِ. كُل المَدارسِ الصِينيةِ التَقليدِيةِ تتشارك تلك الصِورة الكِئيبة عن حالة البشرية. يرون أن العالم تُهيمن عليه القَسوةُ، الجَشعُ، الكَذِبُ، الأنانيةُ، التزعزُعُ، تَبْديدُ القُدراتِ، العُنفُ القَاسيّ. يَنْعِي أتباع الكونفوشية الطقوسَ الدينيةَ وتعاليمَ الملوكِ الحُكماءِ التي واراها النسيانُ. بالنسبة للطّاوية، فالبَشّرُ قد ضّلوا طريقَ السماءِ. وكُل من أتباعِ الموهية[3] والشرعوية[4] يعتقدون بأن الانضباط الذاتيَّ الصارمَ بالأخلاقِ وبأساليبِ حازمةِ للثوابِ والعقابِ قد تُغير حالتنا اللا-أخلاقية للأفضل. وبِفرضِ بأن المدارس الصِينيةِ والهِنديةِ تؤكد على العديد من الأشياء الجَيدة مثل: الفضائل، الحِكمة، الشَفقة، الفِطنة، السلوك الديني، التنوير، واتباع الطريق. لكن الحقيقة الواضحة أنه يجب عليهم تَدريس تلك الفضائل وهذه علامة على الخلل. فالوعظ الأخلاقي نفسه علامة على الانحلال، على عالم يسير بشكل خاطئ. فكما يتنبأ لاو تسي (وُلِدَ نحو 604 قبل الميلاد – تُوفي نحو 531 قبل الميلاد) فعندما يهتدي العالم إلى نسق أخلاقي صالح، فلن تكون هناك حاجة لتعاليم الملوك الحكماء، للطقوس الدينية، ولا لتدريس الفضائل.
وبشكل عام ترفض المَدارسُ الصِينيةُ والهِنديةُ الكراهيةَ كاتجاه ضِدّ البَشّريةِ. البوذيّة تعتبر الكراهيةَ رَذِيلةَ، ورغم عدم التوافق بين الكونفوشية والطّاوية إلا أنهما يتفقان على أن الكُرْهَ والعُنْفَ ليسا من تعاليمِ الملوك الحُكماء الحقيقية.
لَكنْ الصورة أقل وضوحًا عندما تَتَعلق بالهُروبِ الأخلاقي المَمْلوء بالذُعرِ. فبوذا علَّمَ أتباعه سُمُوّ حياة الرهبنة المُنْعَزِلةِ، وأتباع الطّاوية يَرتابون من فَسادِ و«خِداعِ» حَياةِ المَدينةِ. لكنْ المَدارسُ الصِينيةُ الأُخرى ترفض تلك الرُوحَ الانسحابيةَ. أتباع الكونفوشية، الموهية، والشَرْعَوية يُريدون إصلاح العالم الاجتماعي وليس هَجْره. أحياناً كان كونفوشيوس يُعلن عن غضبه وعن رَغْبتِه في الإبحار بعيدًا الى جزيرة نائية، لكن عندما يهدأ يعود لمهمته الأخلاقية. ولذا فالمَدارس الصِينية والهِندية تُقدم لنا مواقفَ مُختلفةَ من بُغْضِ البَشّرِ.
ربما نَصِفْ أولى هذه المواقف بالنِضَالِ. فهذا المُبْغِضُ للبَشّرِ يُحفِزَه الأملُ. يَرون العُيُوبَ الأخلاقيةَ الراسِخةَ في العالمِ، ويستجِيبون لها بعزمِ وَطيدِ لإصلاحها. يَتَبْدَى إحساسهم بالأملِ في جهودهم الطّموحةِ والضخمةِ لترميم حالتِنا الجماعيّةِ. وهذا ربما يشمل تعليم الأخلاق، الوعظ الديني، النِضَال السياسيّ الاجتماعيّ، أو خليط من كُل هذا.
كونفوشيوس (وُلِدَ نحو 551 – تُوفي نحو 479 قبل الميلاد) مِثَالُ جَيدُ لهذا المُنَاضِل. وطوال حياته الصعبة وضع خططًا مُنَاضِلةَ ليُصْلِحَ البِنيةَ الأخلاقيةَ. كَوّن مُجتمعًا من تلامِذَتِه، نَشرهم حول العالمِ. ليؤدوا الأعمالَ الصالحةَ. ليَلْقوا على مسامعِ الحُكامِ النصيحةَ إذا رَغِبوا في الاستماع لها. ليكونوا مثالًا مُفْعَمًا بالفضيلة ليُلْهِموا اﻵخرين لها وليسْتَعِيدوا الاحترامَ للتَقْاليدَ وللطُّقوسِ الدينيةِ.
تَنْجَذِبَ المشاعرُ الحديثةُ لموقف المُنَاضِلِ المُفْعَمِ بالأملِ أكثر من انجذابها لبُغْضِ البَشّرِ الكانْطي؛ وهذا مفهوم بالنسبة لأجيالِ ألهمتها حركاتِ العَدالةِ الاجتماعيةِ، النِضَالَ البيئيّ، والجهودَ الأُخرى العازمةَ على إنقاذِ الكوكب. لكن لا ينبغي علينا الاندفاع نحو ذلك الموقف دون نقدِ. فالعديد من مُبْغِضي البَشّرِ يُحذرون من النِضَالِ المُتَحَمِس لتغيير العالم. فبوذا يَنفُر من المَشاريعِ النِضَاليةِ الطّموحةِ. لسبب واحد، أن الأسباب الجَوهرية لفظاعتِنا الأخلاقيةِ ترجع إلى رسِوخ سمات الدوكخا في الواقع وعَرَضية كُل «الحالاتِ» الإنسانيةِ. هذه الأسباب قد تُعالجها الأخلاقُ الشّخصيةُ والتَدريباتُ الرَوحيةُ. ولسبب آخر، هو أن حماسَ هذا المُناضل لا يتناسب مع فضائل البوذيّة من سكونِ، واتزانِ، وسَكِينَةِ. ولهذا السبب نحتاج موقفًا آخر.
الِاسْتِكَانةُ هي الموقف الرئيسيُّ الرابع المُبْغِض للبَشّرِ. ومثل كل المواقف الفلسفية السابقة، فهي تعكس تقييمًا ناقدًا وسلبيًا لحالة الأخلاق الإنسانية. ما يُميزها هو الروح المُسْتَسْلِمَة. يُقرر المُستكينون بأنه لا يوجد شيء يمكن فعله لجعل البشرية أفضل ولو وُجِدَ شيء فهو ضئيلُ مُقارنةً بضخامةِ عُيُوبِنا العَصِيَّةِ على الإصلاح. ربما يَتَملَّكهم الخوفُ من النتائجِ العَكْسِيةِ لمحاولاتِ الإصلاح الكُبرى التي قد توفر نِطَاقًا خِصْبًا جديدًا لاستعراض هَوَسِنا بالعَظْمَةِ، بالغُرُورِ، وبالضّلالاتِ عن أنفُسِنا. لذا يُفَضِلون الاستجابةَ بالطُرُقِ المُسْتَكِينةِ. لذا يجد المُسْتَكِينون المُبْغِضون للبَشّرِ طُرُقَهم للتَكّيُفِ مع عُيُوبِنا الجَماعيّةِ. فيتجنَّبون فخَ أكثر المجالاتِ فسادًا في الحياة البشرية حيثُ تكون إغواءاتُ الطموحِ والقوةُ في أقصى مداها، ويبحثون عن طُرُقِ أبسط للعيشِ وغير مُلْفِتَة للأنظار بعيدًا عن الاندفاع إلى الاتجاه السائد والانشغال به، يبقون مُخْتَفين وآمِنين من مُعْتَرَكِ الحياةِ حيث يُكافحون في تَنْمِيّةِ الفضائلِ مثل الانعزال والسَكِيْنَة.
تُعطينا الطّاويةُ مِثالًا جيدًا من خِلال الفَيلَسوف جوانج زي (وًلِدَ نحو 369 – تُوفي نحو 286 قبل الميلاد) صاحب قصة «حلم الفراشة» الشّهيرة. يشّتهر جوانغ زي بين الجماهير الغربية الحديثة بوصفه حِالمًا وحتى فوضويًا، يشتهر بصورة الثائر على المعتقدات، المُبْتَهِجِ، بشَعْرِه الطويل وأقدامه الحافية، الذي يَزْدَرِي تعاليمَ الملوكِ الحُكماءِ الرنّانةِ ويتجنَّب رسمياتِ الكونفوشية المُتْمَسِكة بالطّقوسِ الدينيةِ. لكن في الحقيقة، الأمور أكثر تعقيدًا. فنظرته لحياةِ البَشّرِ كِئيبة. فالعديد من الناس يشعرون بالحِيرَة وبالجَفاءِ من المُجتمعِ، قال مُتَفَكِرًا: «البشر يَهْصِرَهم الألمُ، القَلقُ ثم الحُزن»، لأن حياتهم «تنْسَاب أمامهم كجِوَادِ رَاكضِ»، لأنهم ضّلوا الطريقَ (الطّاو) (Dao).
حياة جوانغ زي المُسْتَكِينة تَكيّفت مع هذا العالم. كتاب جوانغ زي يُظْهِرَه مُتجنَّبًا للسياسةِ، وللنِقَاشاتِ مع الدارسين المُجادلين، يبقي في صُحبة مجموعة مَحدودة مَوثوقة من أصدقائه، يقضي وقتَه في تَنْمِيّة مَحبة عَفَوية لكل ما في العالم من ضوارٍ وطيورِ. هذه الأساليب المُسْتَكِينة مَكَنته من العيش في العالم البَشّري ومواجهة أو تجنُّب فساده وإغراءاته.
مَأزَقُ فَلسَفةِ البُغْضِ
من السهل اِعداد قائمة طويلة من الأعداء، الهاربين، المُنَاضِلين، والمُسْتَكِينين. وخلال تُراثِ الفَلسَفةِ عَبر العالمِ تتكرر هذه المواقف الأربعة مرة بعد أخرى. كل منها يبين لنا طريقته الخاصة للعيش بنظرة مُبْغِضة للبَشّرِ. ورغم ذلك، فنحن نحتاج إلى اِختبار دقائقِ هذه المواقف في ضوء أسئلة مثيرة للاهتمام لم أناقشها: ما علاقة بُغْض البَشّرِ بالدِّينِ؟ وهل من المقبول أو من العدل إدانة الَبشّريةِ، بدلًا من مجموعات مُحَددة من البَشّرِ؟ ماذا لو كان قرار هذه الفلسفة [ببُغض البشر] مُبَالغًا فيه؟ ولو كان صحيحًا، هل ينبغي علينا نشر هذه الأنباء السيئة عن البشرية؟
كل ما سبق أسئلة مُهمة، لكننا لن نتمكن من تَقَصّيها إلا إذا اقتنعنا بجدية فلسفة بُغْضِ البَشّرِ. وهذا يعني نبذ التعريف القاموسي بوصفها «كراهية البشر». فهناك العديد من الطُرُقِ لتكون مُبْغِضًا للبشر، فقط واحدة منها تتصف بالكراهية. في الحقيقة، لا يُلزم مبغضو البشر أنفسهم بالتمسك بموقف واحد.
بالنظر إلى العديد من الكتابات المُبْغِضة للبشر، أجد كثيرًا تأرجُحًا مُؤلمًا بين المواقف المختلفة –لحظات من الغضب والكُره يَعْقِبها هدوء مُسْتَسْلِم ما يَلْبَث أن يُصبح أملًا مُتفائلًا ثم يتكرر الأمر مرة أخرى. أراد كونفوشيوس دائمًا الاستسلام لكنه دائمًا ما كان يقبض على الأمل من أجل البشرية. في سنواته الأخيرة استحال نِضَاله اِسْتِسْلَامًا. وهذا يُبين لنا أن المُهمة الفلسفية الحقيقية ليس في تجربة إحدى المواقف المُبْغِضة للبَشّرِ، لكنها في التعامل العاطفي والأخلاقي مع هذا التَأرجُحِ بين المواقف. التعامل مع هذا هو جَوهر المَأزَقِ الذي تُواجهه تلك الفلسفة.
[1] VHEM الحركة الطوعية لانقراض العنصر البشري والتي تختصر إلى (VHEMT) هي حركة اجتماعية تؤيد فكرة انقراض الجنس البشري عن طريق الحد من عملية التكاثر. وتدعم تلك الحركة فكرة الانقراض في حد ذاتها وفي المقام الأول، الأمر الذي من شأنه أن يمنع الانحلال البيئي.
[2] كرامة الأخلاق: يذكر كانْط في أكثر من خمسة عشر موقعًا كلمة «الكرامة» في كتابه تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق وقد رأيت أن أقتبس من كانْط نفسه تعريف «الكرامة» عنده لكي نفهم كيف نحترم كرامة أخلاق رفاقنا فإليك الاقتباس: «لكل شيء في مملكة الغايات (ثمن أو كرامة)؛ فما له ثمن فمن الممكن أن يستبدل بشيء آخر (مكافئ له)، أما ما يعلو على كل ثمن، وما لا يسمح تبعا لذلك بأن يكافئه شيء، فإن له كرامة».
[3] الموهية: Mohism هي فلسفة صينية قديمة، نشأت من الفيلسوف الصيني موزي ما بين سنة 470 - 491 ق م، وقد تطورت من كونفشيوسية والطاوية.
[4] الشرعوية: Legalism فلسفة سياسية صينية قائمة على فكرة أن كفاءة الحكومة العالية والقوية هي مفتاح النظام الاجتماعي.