تنويعات التجربة الدينية لويليام جيمس (1902)

مقال: روبرت مَكروم

نُشر في الجارديان، فبراير 2017

ترجمة: إسلام سعد

الترجمة خاصة بـBoring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


ويليام جيمس وهنري جيمس، عن الجارديان

أنْتَجَ هذا العملُ الثَّوريّ، الذي كتبه أخو هنري جيمس (1843 - 1916) الأقل شهرة، دَفْعَةً تجعل مجال الاعتقاد الديني حقًا في متناول الجميع.

إن الولايات المتحدة مجتمعٌ، كما وصفه لأول مرة توماس جيفرسون (1743 - 1826) بكلماته الثورية في 1776، يعيد كتابة سرديته ـــ في القانون والفلسفة والاقتصاد والاعتقاد، وكذلك من خلال الشِّعْرِ والدراما وأدب القصص. في لحظات التغيير، غالبًا ما وَجَدَ أفضلُ كُتَّابها أشكالًا جديدة من التعبير والأفكار التي تضيء القِّصَةَ الأمريكية وتعين على إعادة تعريفها.

كان ويليام جيمس، أخو هنري الأشهر منه، مفكرًا أمريكيًا كلاسيكيًا، كان عبقريًا من نيو إنجلاند ومُتَبَنيًا ذائع الصيت لمذهب البراجماتية ـــ كان شخصيةً مشهورةً في زمانه، وصَكَّ تعبير «تيار الوعي». استجاب ويليام للاختمار الثقافي والاجتماعي الحادث في أواخر القرن التاسع عشر بمحاضرات جيفورد، المُلقاة في إدنبره خلال عامَي 1900-1902. عندما حَوَّل هذه المحاضرات لمادة كتابٍ، وضع جيمس نفسه، وهو أستاذ علم نفس بجامعة هارفارد ومؤلف كتاب مبادئ علم النفس، في تقاطع طرق علم النفس والدين ليضع تفصيليًا مقاربة للتجربة الدينية ستساعد على تحرير العقل الأمريكي في بداية القرن العشرين من قيوده البيوريتانية[1] عبر تعزيز رؤية تَعَدُّدِيَّة تُلهِمها تقاليد التسامح الأمريكية. مَثَلُه كَمَثَلِ أخيه، كان مهووسًا بمشكلة التعبير عن الوعي الفردي من خلال اللغة؛ وهذه المسألة واحدة من المباحث الأساسية لكتاب تنويعات التجربة الدينية.

بوضع علم النفس جانبًا، هذا الكتابُ غريبٌ من عدة وجوه، بالأخص لمقاربته غير التقليدية لمبادئ الدين المُنَظَّم. وصفه أحد المُعَلِّقين باعتباره «كتابًا كلاسيكيًا، فيه الجانب السيكولوجي أكبر من أن يشكل تقصيًا دينيًا عميقًا، والجانب الديني فيه أكبر من أن يكون باعثًا للكثير من أفكار البحث السيكولوجي». وعلى الرغم من ذلك، وفق كلمات مجلة Psychology Today [الأمريكية]، يبقى هذا الكتابُ «الأبرز من بين كلِّ الكتب في مجال علم النفس والدين وربما من المُقَدَّر له أن يكون الكتاب صاحب التأثير الأكبر في القرن العشرين عن الدين».

كان لعائلة جيمس، التي كانت في الأصل أسكتلندية - أيرلندية، مَثَلُها كَمَثَلِ الكثير من الأمريكيين الأوائل، أثرٌ قوي على ويليام جيمس في تكوين نَصِّه. لم يَكُن أبوه، هنري الأكبر (1811 - 1882) مجرد كالفيني لا يلتزم بالاعتقاد القويم، وإنما كان أيضًا (مع إمرسون ويونج) تلميذًا في طائفة الصوفي إمانويل سويدِنبورج (1688 - 1772)، وكان عازمًا على إيجاد نظريةٍ من شأنها تفسير كيفية ارتباط المادة بالروح. لقد قادت رغبة سويدنبورج في فهم نظام الخلق وغايته صاحبها إلى البحث الدقيق في بنية المادة وعملية الخَلْقِ نفسها: كان طموحه شغوفًا حَدّ السُّكْرِ وألهمت تعاليمه إمكانيةَ أن تكون الدوافع الدينية حقًا في متناول الجميع، وهي الدوافع التي لاقت ميلًا عند الجِيمْسَيْن، الأب والابن، اللذين لم يتقيدا بالاعتقاد القويم.

تَكَفَّلَت فكرة أن كلَّ المواطنين كانوا قريبين من الله على نحوٍ متساوٍ ومستقل في الوقت نفسه برعاية القناعة السارية بين أفراد عائلة جيمس بأن التجربة الدينية لا يجب أن تصبح مُقَيَّدَةً بالسجن الضيق للطائفة الدينية. شجَّعَ نفسُ الاستخفافِ بمسألة التصنيفات ويليام جيمس على تَبَنِّي نمط كتابة يتراوح بين التعقيد واليُسْر مَنَح كتابتَه سمةً جديدة وشعبية تختلف تمامًا عن نمط الكتابة الناضج لأخيه الروائي. استخدم ويليام جيمس نزوعَه الشعبي ليقترح أن أيَّة تجربةٍ دينيةٍ صادقةٌ لو كانت نتائج تَبَنّيها والتَّمَسُّك بها مُرْضِيَةً للفرد المَعْنيّ. أعْطَت هذه العمليةُ من إعادة بيان السعي الأمريكي وراء السعادة جمهورَ ويليام تقديرًا جديدًا للكرامة الإنسانية المتأسِّسَة في الواقع اليومي.

في مقاربته للتجربة الدينية، كتب ويليام جيمس أنه اضطر لمواجهة مشكلة عسيرة: «أولًا: الدفاع عن التجربة ضد الفلسفة المثالية باعتبارها العمود الفقري الحقيقي للحياة الدينية في العالم. وثانيًا: لجعل المستمع أو القارئ يعتقد أن [الحياة الدينية] ... هي أهمُّ وظيفة للبشرية».[2]

يبدأ جيمس حُجّته بالتأكيد على توفير الدين لإجابات ترتبط باحتياجات الإنسان الأساسية. من هنا، يفصل جيمس الاعتقاد عن أصوله القَبَلِيَّة. لقد أصبح الدين، كما يقول ويليام، مادة استهلاكية للأفراد. كان شاغله الوحيد بالدين متعلقًا بما يخبرنا به الدين عن «ما يجري داخل الإنسان الفرد». ثم يبتكر تعريفًا مشهورًا:

«سيعني الدين بالنسبة إلينا: المشاعر التي يشعر بها الأفراد، والأفعال التي يقومون بها، والتجارب التي يختبرونها في عزلتهم على قدر ما يعون أنفسهم بوصفهم في علاقة مع ما يعتبرونه الإلهي، أيًا كان». [3]

مُسْتَخْدِمًا لسيرٍ ذاتية موجزة [وغير موجزة تمتد لصفحات] لكُتَّابٍ ومفكرين مشهورين، من ضمنهم تولستوي (1828 - 1910) وجون بونيان (1628 – 1688)، ينتهي ويليام جيمس إلى استكشاف طويل ومدهش «للعقل الصحي»، و«النفس السقيمة»، و«النَّفْس المُتَشَظِّيَة»، مع فصول ختامية عن التَّصَوُّفِ والقداسة والتكفير عن الخطايا والتَّحَوُّل الديني. قّدَّمَ ويليام جيمس هنا أيضًا تقريرًا عن الله باعتباره كيانًا محدودًا، وثيق الصلة بشؤون العالَم على نحوٍ لا يمكن فصله، ومرتبطًا بالنشاط الإنساني والطموحات الإنسانية. يختتم ويليام محاضراته بسؤال ذَكيّ: «ومن يدري! لعل إخلاص الأفراد الموجودين هنا على الأرض لاعتقاداتهم المفرطة الفقيرة قد يساعد الله في أن يكون، بدوره، مخلصًا على نحو أكثر فاعلية لمهامه الخاصة الأعظم؟»[4]

جملةٌ تصلح توقيعًا ختاميًّا:

«وحينما ننبذ الفكرة السخيفة التي مُفادُها أننا ندمر قيمة الشيء حالما نصنفه إلى جانب أشياء أخرى، أو حالما نُظهر أصله؛ وحينما نتفق على الاستمساك بالنتائج التجريبية للظاهرة وبطبيعتها الداخلية، باعتبارها معيارًا للحكم على قيمتها ـــــ من يسعه إنكار أننا سنتمكن، على الأرجح، من فهم وتَبَيُّن الدلالات المميزة للسوداوية الدِّينِيَّة والسعادة الدِّينِيَّة والغشية الدِّينِيَّة، بشكل أفضل بكثير، إذا ما قارناها على نحو شامل ومُعَمَّق قدر استطاعتنا، مع التنويعات الأخرى للسوداوية والسعادة والغشيان، مقارنة بفهمنا وتَبَيُّنا لها إذا ما أنكرنا أن لها مكانًا ضمن تنويعات التجربة البشرية الأعم، وعاملناها كما لو كانت خارج نظام الطبيعة بالكلية؟»[5]


[1]  البيوريتانية Puritanism: مذهب مسيحي بروتستانتي ظهر في إنجلترا في القرنين السادس عشر والسابع عشر سَعَى لـ«تطهير» الكنيسة الإنجليكية من بقايا ممارسات الكنيسة الكاثوليكية مثل الأزياء الخاصة والرتب الكهنوتية. ذاع صيت البيوريتانيين في القرن السابع عشر بسبب روح الجدّيَّة الأخلاقية والدينية التي أعطت شكلًا وجوهرًا لطريقة حياتهم. وأسهمت جهودهم في تأسيس مستعمرات بأمريكا باعتبارها نماذج عملية لطريقة الحياة البيوريتانية. [انظر: ويليام جيمس، «تنويعات التجربة الدينية»، ترجمة: إسلام سعد وعلي رضا، مركز نهوض للدراسات والنشر، الكويت، 2020، ص: 277].

[2]  انظر: ويليام جيمس، «تنويعات التجربة الدينية»، ترجمة: إسلام سعد وعلي رضا، مركز نهوض للدراسات والنشر، الكويت، 2020، ص: 41

[3]  المصدر نفسه، ص: 79

[4]  المصدر نفسه، ص: 561

[5]  المصدر نفسه، ص: 73