«عن الحب والمُلْك»

مقال: مهاب نصر

مهاب نصر: شاعر وكاتب وناقد مصري، نُشِرتْ له عدةُ دواوين شعرية منها: «يا رب اعطنا كتابًا لنقرأ»، و«لا توقظ الشعبَ يا حبيبي».

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منها.


«زوِّدينا من حسن وجهك مادام * فحُسن الوجوه حال تحول
وصليــنا نَصلُكِ في هذه الدنـيـا * فإن المـقــام فيــها قليــــــل»

المتنبي

«إن الكلام عن أصل الوعي هو إذن بالضرورة صراع حتى الموت من أجل (الاعتراف)».

هيجل، «فينومنولوجيا الروح»

1

على أي قدر من الهشاشة كانت الدولة العربية في عهدها الخِراجي، شبه الإقطاعي في العصر الوسيط؟ لا أعني بالهشاشة ضعف قدرة هذه الدولة على إنفاذ أوامرها وإحكام سيطرتها وتنظيم شؤونها، بل كونها على الرغم من نفوذها فإن منطق سلطتها نفسه، وخيال هذه السلطة كان محوطًا بظلمة لم يُعبَر عنها بوصفها إشكالًا سياسيًا، بل بوصفها غموضًا يقتضي التسليم. هذا الغموض تمت إزاحته إلى مساحة أخرى مدهشة تمامًا، هي مساحة الحب؛ فكما الحب، بدا السلطان مطلقًا وقلقًا، شاملًا ومتقلِّبًا، موضوعيًّا ومُتوَّهمًا كالسراب.

في قصائد المديح العربية ذات المطالع الغزلية، كان بنيان هذه الدولة مكشوفًا في تناقضه المتغطرس الاحتفالي والزائل معًا، وهو ما أدخل التأريخَ القديم نفسه، من حيث أدبيات تدوينه لمراحل عِمارة تلك الدول وفنائها، في باب العبرة والاعتبار، أي الحكمة المتكررة والمُتحصَّلة من تكرار الشيء ذاته. وهو، بدوره، ما كان يلقي على مدونة التاريخ نفسها ظلًا من الأسى.

بقدر ما كان يبدو الحب في مطالع قصائد المديح الموجهة إلى سدة المُلْك، رقيقًا ومغناجًا، شاكًّا وسريع العطب، كانت الدول نفسها التي كُرس جوهر القصيد المدحي لتدعيم عمارتها المهيبة الفاتكة.

من المتعارف عليه أن استفتاح القصائد بالغزل كان إدامة لتقليد أدبي اتخذ طابعًا تأسيسيًّا في ما يعرف بـ«عمود الشعر»، والذي يعني طريقةَ بناء وتتابع الموضوعات في القصيدة العربية القديمة. لكن بإمكاننا إعادة النظر في هذه التقليد الإحيائي خارج الشرط الفني والجمالي الخالص، باعتباره نوعا من البروتوكول الملكي، ومن الأداء الرمزي المتفق عليه. ولم يكن من المتصوَّر أنه يمثِّل ثقافةً عامة، بل ثقافة فروسية البلاط. إنه منهج أعيد إحياؤه داخل البلاط في وضع جديد تمامًا لا يعبر عن الحب في إطار الخبرة البدوية، بل باعتباره مقابلًا للعالم الفروسي ونظيره المتهتك لبلاط المُلْك. كان الحب استفتاحًا وحَدًّا، أي أنه يقع عند أطراف القصيد نفسه مثل حدود دولة، تلاعبًا وهوى يكتسب قوة ماجنة هائلة من نقيضه الصارم الدموي.

2

يصح أن نسمِّي المُلْكَ العربي بأنه كان «مُلْك الضرورة»، فهو الذي لم يُؤسَّس على «الحقيقة»، ولم يُعنَ كثيرًا بتأسيس معنى حصري وكُلِّيٍّ للسلطة ومرجعيتها، بما في ذلك الحقيقة الدينية نفسها، ولم تكن له صلةً فعلية بتمثيلها إلا بقدرٍ واهن وشكلي، لم يعرف معنى السياسة إلا كآداب ذات رمزية مكثفة. مع هذا فإن عالم المُلْك العربي القروسطي هو عالم مُعقْلَن بدرجةٍ كبيرة، ومغلق أيضًا على ترتيباته الداخلية. وبسببٍ من هذه العقلنة بالذات، كانت الدول نفسها مُتقلِّبة المزاج كالهوى.

من اللافت أن عَقْلَنة المُلْك العربي كانت نتاجًا للانفصال عن الغاية، أي عن أيديولوجيا مُحكمة. فطابع الغلبة الذي وسم الصراع القَبَلي، قبل الإسلام، لم يتغيَّـر فعليًّا إلا بتكوين نخبة عسكرية عشائرية موطدة الأركان من خلال تحالفات براجماتية، أما النظم والترتيبات المدنية، بله العلوم والمعارف، دينية وغير دينية، فقد ابتعدت عن الأسطورة قدرَ نفورها من الغموض والنزعة الغنوصية. ومع هذا فنصرة الوضوح التي مثَّلها بالذات أهلُ السنة والجماعة كانت عصبية المزاج بقدر ما تقف على أرضٍ لا قرار لها، ولا تستطيع حتى النظر إليها. كان «الغامض» مُستبعَدًا، أي صاحب النص وقائله، وحين يأتي، يأتي مثل خراب المدن؛ عارمًا وشاملًا.

الوجه الآخر للممارسة السياسية الذي تمثَّل في منطق الغزو (أو الفتح) لم يكن إنتاجيًّا (من حيث الاقتصاد)، ولا معنيًّا، من جهة الإدارة البشرية، بتمثيل سكانٍ هم في الواقع ينتمون إلى ثقافات بالغة التنوع. فقد كان الحكم يعني مجموعة من الامتيازات، مع الحد الأدنى من التمثيل الشعائري الذي يصون الشرعيةَ ويبرر الاستعلاءَ. كان تحصيل الدنيا وثروتها إذن تمتُعًا أرضيًّا ومكافأةً للمؤمنين الموعودين باللذائذ في الأرض والسماء، وإن في نطاق الاعتدال القابل للاختلال دائمًا. هذه كانت حدود العَلْمنة التي مورِستْ كترتيب عقلاني إلى حدٍ بعيد، بقدر دنيوية هذا العقل. وهي بالتأكيد عَقْلَنة مبتورة وفق بنية الحكم ذاتها.

3

لا ينفصل إذن هذا الملك الدنيوي عن الرغبة، ما دام التمتُع واللذة يشكلان عنصرًا فيه ووعدًا. لكنها رغبةً لعوب غير مُفسَّرة بقدر ما هي محصورة في التمتُع، ومن هنا ثمَّة أرض مشتركة بين الملك وبين معنى خاص للحب، معنى انقلابي إذا صح التعبير. فبينما كان احتياز المُلْك لا يقتضي الاعتراف من الآخر إلا تحت بطش القوة أو البَيْعة القسرية الصورية، كانت حدود هذا الاعتراف، الذي يقع فيه الآخر، منقلبة على ذاتها. وعند أقصى هذه الحدود وأشدها حلكة، كانت الرغبة في السلطة تنقلب إلى نوع من استجداء الاعتراف من الطرف  المحروم أصلًا من حق الدخول إلى ما نسميه الآن «المجال العام» إلا من وراء ستار. المرأة بالطبع. هذه الإزاحة، وإن جعلت المُلْك في أمان السيادة، لكنها أحاطت السيادةَ كلها بالشك. كان حضور المرأة المبهج والأسيان حقيقةً عصيَّةً كالحلم تحيط بالمُلْك ذاته وتستفتحه، وتكون تاج عموده المتأرجح. 

لقد قورنت المرأةُ بالدنيا، أي بـ«أمومة» لا تُعَدُّ مرجعًا، بل استمتاعًا غير مسؤول. أما العلاقة بالمرأة الواقعية فبدت وكأنها استعارة للتحريم الكبير، والذي يمكن انتهاكه بشكل مؤقت. إن المسلم مطرودٌ أصلًا، لا بسبب ذنب أو إثم هتك التحريم، كما سنرى، وإنما بسبب وضع عبودي قدري وتراتب مهيمن للأمر الإلهي. هنا كانت السلطة لا تفقد معناها بالضرورة، بل لا تبحث عنه أصلًا، وما يدعمها ويؤكدها بشكلٍ يائس هو نقيضها الذي أُزيِحتْ إليه، فهي تكتسب قوةً وديمومة من خلال (الحب/ التحريم)، كما من خلال الإذلال واليأس الذي تعرض نفسها له، والمحدودية المفروضة عليها بلا أمل.

4

مخيفٌ عدد المرات التي رثى فيها الشعراءُ حالاتَ عشقهم، ودعوا فيها المعشوقَ إلى قتلهم وتمزيق أوصالهم، وملفتٌ عدد المرات التي أغشي فيها على الملتاعين من الهجر، والذين التصقت أجفانُهم بالنجوم، فلا تعرف جُنُوبُهم إلى أي جهةٍ تميل.

كان هذا الأداء رمزيًّا أيضًا وبروتوكولًا مقابلًا ومكملًا للبروتوكول السياسي، حيث كل شيء في مكانه: رغبةٌ في موضوعٍ جامح ماكر لا يمكن الوثوق به، مثل سرابٍ لا نهاية له، يحيط بواقعية السيادة المشكوك فيها وفي نرجسيتها الضروريَّة والهَشَّة في الآن ذاته.

لا يعني ذلك أن الحب كان استعارة للمُلْك أو أن المقصود هو مقارنة بينهما من نوعٍ ما، بل أن كليهما كانا يتبادلان وضعًا استعاريًّا جذريًّا لحقيقةٍ غائبة ومستحيلة. وكانت الاستحالة هي ما تصبغ الشعر والمُلْك على السواء بروحٍ قدرية ما زالت تشيع فيها الحيوية والتجدد.

يمكننا أيضًا النظر ليس فقط إلى تأسيس الجندرية في واقع هذا الزمان وفقَ ترتيبات حقلي الحب والسياسة كما سبق، لكن باعتبار الحب والسياسة ينتميان إلى حقل واحد أُسِّسَ على ثنائيَّةٍ جندرية، كثنائية (حاكم/ رعية)، (الإنسان/ العالم)، باعتبار الثالث ليس مرفوعًا بل حاضرًا ومُستوحَشًا في الآن ذاته؛ إله يقف وحده في صورة الأَمر. هذا التوسُّط الذي مثَّله الوحيُ السماوي ربما بدا حاضرًا بصورةٍ استثنائية في شخصية الرسول. لا يجب أن ننسى أن الرسول نفسه قد استُبعِد من الوحي باعتباره رسولًا بالذات.

وتحت مظلة الوحي المنقطع والصلة المستحيلة، لم يكن التفكير في السياسة ممكنًا آنئذ إلا باعتبارها نزوة، ولا في الحب إلا باعتباره سلطانًا قاهرًا، لأن كلاهما ينتمي إلى فرديةٍ غريبة لا تطاق. يحوز الفردُ المتسلِّط بعضَ صفات الإله، لكن بانحرافٍ دائم بسبب اعتماده على موضوع التملُّك والحيازة الزائلة، فهو لا يصل أبدًا إلى الكفاية التي صُوِّرَ بها الإلهُ. إن ميزة الإسلام وغرابته ألا أمل فيه مطلقًا للتطابق، ومن هنا طابعه الدنيوي الحاسم، وعدم رفضه للغواية بشكل قطعي. إنه يعترف بها ويديمها ويهذبها من خلال فصلٍ جندري مُؤسَّس على أداء دورٍ أبدي، حتى في الجنة نفسها.

يبدو أن القرآن في إيراده لقصة الخروج من الجنة لم يعتمد على فكرة تدنيس المرأة باعتبارها مصدرًا للغواية، إن الغواية بالأحرى تجمع الرجلَ والمرأةَ كليهما - «فوسوس لهما الشيطانُ فأخرجهما مما كانا فيه». إن الخروج الأول كان بسبب العصيان فحسب، مطلق العصيان، وهو يشير إلى اعتباطيةٍ مطلقة أيضًا للقانون. فطاعة القانون لا تعني معرفة علته. بغياب الإله الحاضر في صورة الآمر فقط فإن العلة والغاية لا تُدركان. وثمَّة نقطة هامة هنا، هي أن التحريم باعتباره أساس القانون أمر موقوت بالظرف الدنيوي، وليس عقابًا على جرمٍ أصلي مُتوَارَث، ولا يأتي بالصورة المركبة في العهد القديم التي تربط بين تحول الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة وتأسيس الجندر والتحريم في آن واحد.

5

لا يوجد مُلْك على الحقيقة في الإسلام، وإنما استخلاف مشروط. كان المُلْك نوعًا من الانحراف المُؤثَّم أو المشبوه. وذم السياسة عمومًا هو تقليد ما زال مُتبَعًا، لكنه الضامن للعبودية الدائمة، فالواقعة المنقوصة للسياسة كانت تؤكد بالمثل على الواقع البشري الممكن والنهائي، فلا أمل مطلقًا في الالتحاق بالكينونة الكلية للإله، وبالمِثْل تظل السياسةُ العادلة والمجردة مجردَ حلمٍ شخصي لا بنيةً مؤسَّسيَّة.

من المهم أن ننظر إلى طبيعة الذوات في الإسلام باعتبارها موضوعَ الحكم وأداته أيضًا. فالذات المسلمة ليست ضائعة أو مُغترِبة لكنها مُبتسَرة، إنها تعرف موقعها لكنها تظل أيضًا مرهونةً به، وتضمن لها الطاعةُ أو التوبةُ حياةً أبدية بمعنى غامض جدًا للزمن والدوام، وثمَّة خلاف بين المفسرين أصلًا في فهم موضوع الخلود كما ورد في القرآن. وإذا كانت «الرغبة» هي، كما صوَّرها التحليل النفسي ومن قبله الفلسفة، على أنها جذر الاغتراب وحافز إعادة الالتحام بالهوية المتوحدة، فإن الرغبة لدى المسلم لا تنتهي، لا في الحياة الدنيا ولا في الحياة الآخرة، بل تضمن هذه الحياةُ تجدُّدَها بعد انتهاء معنى التحريم، ولكن حتى هناك يظل هذا التجدُّد موقوتًا. 

إن الذوات في الإسلام حوفظ على فرادتها من حيث مسؤوليتها القانونية. وكون هذه الذوات في موقع «المُخاطَبة» كما يجسِّده الكلامُ القرآني. فهي تتعيَّـن بقدر ما يوجَّه لها الأمرُ والنَهْي، وتتحدد مسؤوليتها، كما تتمتع بصفةٍ قانونية كاملة في التعامُلات اليومية تُعيِّـن حضورَها الحقوقي، ولكن ليس الأخلاقي. ولنلحظ أن الإسلام يتوفر على أدب المغفرة والتوبة (باعتبار الذنب متعلقًا بعصيان الأمر) ولكن ليس على الاعتراف. فلا أدب اعترافيًا في الإسلام، بل سترٌ وحفاظ. ويُعتَبر هتكُ الستر إخلالًا بالمروءة، وتجرؤًا يضاعف الإثمَ. وهكذا تنتفي المسؤولية الأخلاقية، لأنها تعاقديًا لا تكون إلا مع الله، فهي مسؤولية مؤجلة، وتحضر تلك «القانونيةُ» التي تُعنى بما ظهر فحسب، وتحكم السلوكَ العيني المنظور وفقًا للقاعدة الاعتباطية بالأساس التي يشكلها القانونُ. إن اعتباطية القانون كانت في ربطه بالطاعة باعتبارها الواجب والشرط المكتفي بذاته، حتى وإن كان المصدر الأصلي للقانون هو الواقع التاريخي والعرفي.

توضح فكرةُ الشيطان أكثر من أي شيءٍ آخر مفاهيمَ عدة عن الحقيقة والذات والمعصية. فجريمة الشيطان نفسها مُتأسِّسة على رفض الأمر الاعتباطي المتمثل في السجود لآدم. يواجه إبليسُ إلهَه بالمنطق، الذي يعتبره الإلهُ  «كِبرًا»، أي جريمة أخلاقية في فراق مزعج بين الأخلاق والحقيقة. «قال إني أعلم ما لا تعلمون»، هو رد الإله على الملائكة أنفسهم بشأن خلق آدم، وهو ما يعني أن العلم/ الحقيقة ليسا الطريق إلى الحكم الخلقي، بل الطاعة وحدها. لا ينافس إبليسُ الله في موقعه، ولا يقدم مشروعًا مُناقضًا، بل يستعر حقدًا خالصًا وانتقامًا مُلتاثًا.

ومن المفارقات أنه مع اصطدام المجتمعات الإسلامية بالحداثة حدث نوعٌ من الانقلاب الناتج عن شعورٍ بالإهانة، حيث اجتهد دعاة الصحوة الدينية أو النزعة الإصلاحية المؤيدة للشريعة في تجاهل التركيز على فكرة «الطاعة» بوصفها أساسًا خالصًا للعقيدة والسلوك، تلك الطاعة المُعتَمدة على اعتباطية القانون. كانت الحداثة قد وضعتْ تمثيلَ الحقيقة باعتباره ركنًا أساسيًا فيها، وبها يكتمل معنى الفرد وتتأسس مسؤوليته الأخلاقية.

في المقابل بدت الأوامرُ المطلقة والاعتباطية للشريعة مهينةً، مقارنةً بقانونٍ وضعي وبمعرفة علمية قادرة على تبرير نفسها بالمنفعة أو بتمثيل الإرادة العامة.

هكذا انخرط أبناءُ الصحوة والدعاةُ الجدد في حالٍ من هوس التبرير المتأخر لإبراز القيمة، أو العلة الأخلاقية، أو النفعية الدنيوية لقانونٍ انتفت حاجته الاجتماعية والتاريخية أصلًا، وهو ما يُكسب العلاقاتَ التي نتجت عن تأبيد تلك القوانين حجةً عقلانيّةً زائفة في برهانٍ يدور حول نفسه. هكذا نصل إلى مفارقةٍ أخرى؛ فبينما أفاد مسلمو العصر الوسيط من اعتباطية القانون، الذي لا يشكل الخروجُ عليه بالضرورة أكثرَ من خطيئةٍ مقبولة، جعلت هؤلاء السلف أكثر مرونة في التعاطي مع الخطيئة نفسها، فقد أصبح الالتزام بالشرع في حاضرنا عبئًا أخلاقيًّا عامًا يعوض عن الكرامة المهيضة للجماعة المؤمنة، حيث يتخذ القانونُ طابعًا رمزيًّا كما هو الشأن في الحجاب ومعركته العجيبة. لقد صار الشرعُ تمثيلًا للجماعة الغائبة. اغترب وابتكر عقيدةً للذنب، ووجد في المرأة ضالتَه ورمزَه المكثف وسترَه المكشوف.

بالعودة إلى موقع «الذات» في الإسلام، نجد أنها لم تعرف رحلة الاغتراب تلك التي كونت الأنا المسؤولة أمام نفسها، وهو ما يعني أن الآخرية أيضا لم تكن مكتملةً ولا مُتصوَّرةً باعتبارها موضوعًا للنفي أو التماهي. كان الآخر الكبير (بالتعبير اللاكاني) مستحيلًا بشكلٍ ما، ومن ثمَّ فلم يكن الآخرُ الصغير موضوعًا لاستيهام صورة المطلق، بل موضوعًا حاضرًا للإفادة واللعب الدنيوي وحتى الاستغلال. لم يعرف المسلمون في ذلك العصر، العنفَ الجامح لـ«الأنا» التي تسعى للتطابق مع ذاتها من خلال الآخر، كما هي حال الحداثة الأوروبية في صيغتها الهيجلية بالذات. والغريب أن ممارسة الإسلام «التوحيدي» كانت ثنائية لعوب لا تنتهي، بينما كان «التثليث» المُطوَّر فلسفيًّا في الغرب صراعًا من أجل التئام الواحد من خلال توسُّط الآخر. وهو ما انعكس بكل تأكيد على طبيعة الحب والسياسة في الجهتين، فبينما ظل الحب العربي تعابثًا ومُجُونًا حذرًا في معظمه وقابلًا للتعدُّد والتقلُّب، كانت الذكورية الحق قد تمثَّلتْ في صرامة الحب الأحادي وفي صورته الرومانسية الغربية على وجه الخصوص.

6

إن الافتقار إلى مبدأ الاعتراف، الذي أشرتُ إليه في فقرة سابقة، كان أمرًا طبيعيًّا وأحد الدلائل على غياب الأنا التي عرفتها الحداثةُ، والتي بدا وكأنها من جانبٍ ما تطوُّر حاسم للفكرة الاعترافية في المسيحية الغربية، بوقوف الذات أمام نفسها وأمام المجتمع. 

ومن الملاحظ مثلًا أن الخلل في ترجمة «كتاب الشعر» لأرسطو وتفسير مصطلح التراجيديا (أو «الطراغوديا» كما عُرِّبتْ)، بمقارنته بقصائد المديح، قد حدث لغياب فكرة «التمثيل» ذاتها، فلم يكن ثمة فهم للوضعية التوسُّطية للخيال، والفكرة المرآوية المكوِّنة للأنا. 

لا معاناة من الازدواج إذن في الإسلام، بل تأكيد واستثمار له. نحن أمام مسرحية بلا ظل ولا مرآة، حال من الأداء. فالوجود البشري لا يضاهى بعالم آخر، بل العكس، تبدو العوالم الأخرى عوالم مغلقة أيضًا ومسرحية بلا أصالة. لا أصالة إلا للخالق، وهو ما يتفرَّدُ به يومَ الدينونة من خلال هذا السؤال الإثباتي الرهيب «لمن المُلْك اليوم؟»

يضفي هذا الوضعُ، من عدم الأصالة، ظلًا مرحًا وتعدديًا إلى أبعد حد، على هذه الشكل من التحضُر الذي تخترقه نبرةُ أسى دائمًا، مُصاحبةً لما هو عابر ومنقلب. فعدم المضاهاة بالإله كان يسمح برؤية الأشياء في تعدُدها، هذا التعدُد الذي لم يعرف علاقةَ الحب الأحادية الدائمة، ولم ينظر حتى إلى بنية الأسرة أو العائلة الصغيرة تلك النظرة المحافظة التي عرفتها البرجوازيةُ الأوروبية قبل الحداثة مباشرة، ثم أعادت المجتمعاتُ المسلمة تبنيها كما لو كانت ذات أصلٍ إسلامي. فلا الحب ولا الأسرة كانا تمثيلًا لشيء خارج عنها، أو لرباطٍ أصلي متزمت، بل للعواطف الفردية المتقلبة. وربما كانت فكرة النزوة هي الأكثر ملاءمة لاقتصاد اعتمد على الغزو. لكنه اقتصاد أيضًا بدا ملزمًا بخلق الآخرية مع الإبقاء والحفاظ على هويتها في الآن نفسه. لذا لم تكن الآخرية جذرية أبدًا، كما هو الشأن في الغرب الحديث، إلا حين منازعة السلطة، تمامًا كما أن الله كان يغفر الذنوب إلا الشرك؛ أي عند منازعته في الانفراد بالمُلْك.   

لا غموض في الإسلام، لأن الغموض لا يعني الستر بل الإبهام. ولذا كان عالم الرجل والمرأة من حيث الرغبة مكشوفًا وواضحًا. ولكن اقتصاد الغزو/ الخراج كان يصنع شيئًا آخر، لقد كان يلد الغموضَ ويبتكره من أجل التمتع، ومعه الآخرية أيضًا والغرابة كما في كتب الرحَّالة والتاريخ المخلوط بالأسطورة، وحتى «ألف ليلة وليلة». لم تشكل المرأة مثلًا لغزًا جذريًّا، واستعارةً للطلب المضني على الحقيقة، كما هو الشأن في الحداثة ذات الأصل الديني الواضح. فالذكورة والأنوثة كانا دورين يُتَلاعب بهما ويُعاد تمثيلُهما دون خبط الرأس بالحائط.

إن اللا أصالة كانت تعني أكثر مما يبدو، أي لا أصالة الحب ذاته، ومن ثم لا قسيم للروح، كما لو كان ضميرها المعذب، ما دامت الروح نفسها ليست لك.

7

ليس ما أريد قوله هنا إن السياسي كان ينشأ في حقل العلاقة الثنائية (ذكر/ أنثى)، أو (رجل/ امرأة)، من جهة أو سلطة/ جماعة أو مجتمع من جهة أخرى، بل إن الحقلين متداخلان في تعريف وإدراك علاقة الإنسان بالرغبة.

في التحليل النفسي، أو جانب منه على الأقل، ثمَّة منشأ واحد للرغبة يجعل استعادتها في كل مرة ذات طابع استعاري أو مجازي يفلت المصدرَ الغائب والمهيمن في نفس الوقت. لكن ما أريد قوله أن الرغبة تنشأ اجتماعيًّا وتاريخيًّا وفق اقتصادٍ مطروح. إن هذه الرغبة تنشأ أساسًا مستوعبة البرتوكول المحدد لموقع الذات وموقع الآخر وحدود تمثُّلهما المنعكسة حتى في اللغة. وإذا كانت الحداثة، بعنفها، سعيًا لتجاوز الوضع الاستعاري، وبحثًا بصورة محمومة عن الأصالة؛ نظرًا للعري الفادح الذي وجد الإنسانُ نفسَه فيه، فإن العالم بالنسبة إلى المسلم كان كله استعاريًا دون أن يجد غضاضة في هذا، ما دامت الاستعارات تحافظ على أدوارٍ يمكن إدامتُها والتنبؤُ بها. كانت المشكلة في الطابع اللاتاريخي للتصورات الجندرية، والذي تم تمثيله قانونيًّا وتشريعيًّا، بحيث بدا الآخرُ وكأنه معروف سلفًا. 

ولكن هل كان ذلك خطأ؟ تكشف لوحاتُ الفنان المسلم في العصر الوسيط باختفاء المنظور منها، وإن كان ذلك بشكلٍ غير حصري، غيابَ الوضع المرآوي. أشخاصٌ منهمكون في العمل داخل المشهد الدنيوي، واضحون وضوحَ الشخصية القانونية، ولكن لا يعني ذلك كونهم أفرادًا بالتعبير الحديث، في عالمٍ تراتبي جدير كله، أي غير متمركز غالبًا، مكشوف لقسمة واحدة من الضوء. هنا تنوع، وقصة هي «قصة» فقط، كالحياة تمامًا.

لقد وضعت الذواتُ نفسَها عند السطح، لأن العمق انفردت به حقيقةٌ لا تُدرَك. ولهذا تعايش الناسُ بلا لوعةٍ جذرية كتلك التي نراها في الأدبيات الرومانسية. كان الجندر أداءً لكن الأداء كان كل شيء، وهذا الأداء هو ما وجد نفسه بإزاء الحداثة في عالم غريب تمامًا، عاريًا ومُضْطرًا إلى استرجاع خطيئة أصلية كتلك التي اجتهدتْ الحداثةُ في التخلص منها. فمن المفارقات أن مفهوم الخطيئة الأصلية الذي لا يتوفر في الإسلام، ظهر في حقبة الاستعمار وما بعد الاستعمار كنوع من لوعةٍ متأخرة على نوع من التفريط؛ لوعة يُعاد تمثُّلها بعنف وتمزيق أجساد، وباستعداد لابتكار أزمة جندرية، حيث أصبحت إعادة تعريف الرجولة الحقة، والأنوثة الصالحة بحساسيةٍ مفرطة تجاه الجنس عمومًا وكأنها تحمل كل رموز الانتهاك السياسي والفشل الاجتماعي.