المقال عبارة عن ترجمة للجزء الرابع من الفصل الثالث من كتاب (مقدمة كامبريدج لصمويل بيكيت Cambridge Introduction to Samuel Beckett) للكاتب: رونان مكدونالد*

الكتاب صدر عام 2006

ترجمة الفصل الأول من الكتاب

ترجمة الفصل الثاني من الكتاب

ترجمة الجزء الأول من الفصل الثالث من الكتاب

ترجمة الجزء الثاني من الفصل الثالث من الكتاب

ترجمة جزء من الفصل الرابع من الكتاب

ترجمة أمير زكي

* رونان مكدونالد محاضر اللغة الإنجليزية بجامعة ريدينج ومدير سابق لمؤسسة بيكيت الدولية.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


جون هرت، شريط كراب الأخير

مثل جل المخلوقات الهَرِمة المتهالكة التي تتحرك بطيئة على مسرح بيكيت، لدى البطل الذي يحمل عنوان مسرحية «شريط كراب الأخير» ازدراء مرتبك للبحث العقلي المجرد أو التحليل الذاتي. وحيدًا في وكره، يبحث عن شريط تسجيل صُنع منذ ثلاثين عامًا، وهو في عمر التاسعة والثلاثين، ويتعثر ثلاث مرات عند فقرة طنانة عن «رؤيته» في نهاية الشريط، الإلهام في جملة «الظلام الذي صارعت دومًا من أجل إخفائه» سيكون المادة الصرف لفنه. يستقبل كراب العجوز هذا الوحي باللعنات والغضب، وليس لديه سوى السخرية من الشخص الراضي عن نفسه والذي يُنَظِّر على الشخصية الأصغر منه: «كنت أستمع لتوي إلى هذا الوغد الذي كنته لثلاثين عامًا، من الصعب أن أصدق أنني كنت بهذا السوء». الفقرة التي يريد الاستماع إليها ليست الرؤية المتعلقة بالحاجز المائي، التي قدمت له النداء الحرفي الذي سعي لتلبيته بعد ذلك، ولكن المشهد الموحي الحسي الموصوف عن المرأة عند الحاجز المائي، المشهد المفهرس في الدفتر بعنوان «وداعًا للحب». ما يثير اهتمامه ليس الطريق الذي اتبعه في الحياة، الذي قاده إلى وضعه المميت الحالي، ولكن الطريق الذي تحول عنه. مثل معظم مسرحيات بيكيت، «شريط كراب الأخير» مهتمة بشكل واضح بفساد الزمن. ولكن على خلاف العديد من المسرحيات الأخرى، لا تتعاطى هذه المسرحية مع النوستالجيا والضياع فحسب ولكن مع الندم أيضًا.

عادة ما تقول النظرة الوردية التي تتبناها شخصيات بيكيت تجاه الماضي الكثير عن عدم واقعية الذاكرة الإرادية، وعن الهجران المقارن في الوضع الحالي، أكثر مما تقوله عما كان الماضي عليه في الواقع. «آه ياللأمس!» تُكَرِرها نيل في مسرحية «لعبة النهاية» في نوستالجيا معبرة وغير ناقدة للماضي. تفتح الشرائط في مسرحية «شريط كراب الأخير» بعدًا جديدًا للتعامل مع الماضي في دراما بيكيت، لأننا هنا ليس لدينا الماضي ذي اللون القاتم المعاد تشكيله ليناسب احتياجات الحاضر. إنما يجري القبض على الصوت في لحظة التسجيل، بدون تشويهات عملية الاسترجاع. ولكن الشريط يُحفَظ فقط بالمعنى الضيق للاحتفاظ. إنه يحمي ذاكرة السنوات التي مضت، ولكن عندما يؤدي هذا الدور يضاعف شعور الضياع المتعذر إصلاحه في الحاضر. الحفاظ على الزمن يكثف الوعي بالمسافة بيننا وبينه.

لا يصعب علينا أن نرى تأثير محاولات بيكيت في تجربة وسيط الراديو على مسرحية «شريط كراب الأخير». أراد بيكيت أن يستخدم التأثير الدرامي للصوت غير المجسد على المسرح، بعدما استخدم إمكانياته على موجات الهواء في مسرحية «كل الساقطين». كانت مسرحية «شريط كراب الأخير» تدعى في الأصل «مونولوج ماجي»، لأنه كتبها وهو يضع في ذهنه الصوت الحاد لباتريك ماجي، واحد من ممثلي بيكيت المفضلين. استمع بيكيت إلى ماجي وهو يقرأ أجزاء من عمل بيكيت الإذاعي «من عمل مهجور» (المكتوب حوالي عام 1954-1955) في البرنامج الثالث بالبي بي سي في ديسمبر عام 1957. إذن من البداية كان الحس السمعي هو الملهم للمسرحية، هذا ترك أثره على العمل المكتمل. استخدام جهاز التسجيل على المسرح جعل الصوت غير المجسد للراديو موجودًا في مادية العرض المسرحي. ولكن في الوقت نفسه حل المشكلة الأبدية للدراما المبنية على المونولوج: كيف يمكن تحقيق الصراع الدرامي؟ ورغم وجود شخص واحد على المسرح إلا أنه مع وجود جهاز التسجيل تمكنت المسرحية في النهاية أن تحتوي على سيكولوجيتين. طرح بيكيت منذ وقت طويل، منذ دراسته عن بروست، التأثير الراديكالي الذي يفرضه الزمن على الذات. المسألة ليست فحسب أننا نقضي الوقت؛ إنما هو الذي يقضينا، يُحَوِّل الفرد بشكل أساسي إلى آخر مختلف عما كان عليه: «نحن لم نعد أكثر ضيقًا بسبب الأمس، نحن آخرون، لم نعد ما كناه قبل كارثة الأمس» (صـ 13). نصل إلى الصراع الدرامي عن طريق وضع الفرد في مواجهة ذاته الماضية، ويكشف في هذه العملية المسافة والآخرية التي يولدها الزمن والتجربة.

الصراع هنا إذن بين كراب الكبير الساخر والمتخلي عن الوهم، والرجل المتفائل الذي كانه في منتصف العمر. الاختلاف لا يتضح فقط من وجود صوت أكبر في العمر ولكن أيضًا عن طريق اللغتين المختلفتين المستخدمتين للشخصيتين اللتين نستمع إليهما، والسيكولوجيتين المختلفتين اللتين يمثلانهما الصوتان. كراب الأصغر ذو طاقة وثقة أكبر: «أنا في التاسعة والثلاثين اليوم، ذو صوت كالجرس، بعيدًا عن ضعفي الكبير، والذكاء الذي لديّ الآن، فأنا لديّ كل الأسباب لأتشكك في... (يتردد)... ذروة الموجة – أو ما نحوها». لغة كراب الأكبر أكثر حدة، ومجزأة بشكل أكبر، تعكس وضعه المهجور والضعيف: «نحن في أي عام الآن؟ الطعام الحامض والمقعد الحديدي». مصطلحات الشاب متخصصة وغامضة أكثر («الأم تستلقي ميتة»)، في بعض الأحيان يكون هذا صعبًا جدًا على كراب الأكبر، الذي كان عليه أن يوقف الشريط ليبحث في قاموسه عندما يستمع إلى كلمة «الترمل». ولكن في الوقت نفسه الذي تخلق فيه هذه الاختلافات في اللغة والطبع الصراع، توجد إشارات متكررة عن الاستمرارية: وصف الوكر، عادة تناول الموز، وشرب الكحول وهكذا. كراب وهو في سن التاسعة والستين يمكنه أن ينضم متحمسًا إلى صوت كراب المسجل في التاسعة والثلاثين ساخرًا من سذاجة كراب ومثاليته في أواخر عشرينياته:

«من الصعب تصديق أنني كنت هذا الجرو الصغير. الصوت! يا يسوع! والطموحات! (الضحك القصير الذي ينضم إليه كراب). والقرارات! (ضحك قصير ينضم إليه كراب). أن تشرب أقل على وجه الخصوص. (ضحك قصير لكراب وحده)».

هكذا يمكن لكل من الكرابين أن يزدريا الطموحات والقرارات الغضة لذاتهما الأصغر، بمعرفة كم كانت تافهة. كراب الكبير يسخر من رغبته في التقليل من الشُرب، ونفترض أن السبب هو أن كراب متوسط العمر لم يتوقف عن تبني القرار نفسه، وما زال يحاول أن يقلل من تناول الكحول. وبينما نستمع إلى نزع كراب الكبير لغطاء زجاجة في الظلام، نعرف أنه لن ينجح. هكذا وعلى الرغم من أن الكرابين مختلفان كفاية لخلق الصراع، توجد مع ذلك استمراريات ماهرة ومربكة. كل منهما يميل للهجوم على التفاؤل المفرط وسذاجة الشخص الأكثر شبابًا الذي يستمع إليه. حتى الشاب الصغير في نهاية العشرينيات، بكل تفاؤله، «يزدري ما يُطلق عليه شبابه ويشكر الله على انتهائه» (صـ 58). إنها تقنية سخرية ثرية ومتضاعفة، يتهكم فيها الرجل متوسط العمر من طموحاته الشابة وبالتالي في السنوات اللاحقة يتهكم من المتهكم. قليلًا ما عُرض الإحباط التام من التقدم في العمر بالمسرح بإيجاز وبشكل مرض يمزج بين السخرية والكآبة بهذه الطريقة.

يبدو أن «العمل العظيم» الذي استطاع كراب أن يكتبه في النهاية، أو ربما استطاع أن يكتب له ملاحظات في عيد ميلاده التاسع والثلاثين، قد فشل تجاريًا: «بيعت 17 نسخة، منها 11 بسعر الجملة لمكتبات الإعارة خارج البلاد». يستدعي هذا المبيعات المحبطة لأعمال بيكيت المبكرة، مثل رواية «مورفي». دار عام كراب التاسع والثلاثين حول ليلة «الاعتدال الربيعي الجديرة بالذكر» عندما مر برؤيته، كعلامة على التجسد الإبداعي. عليه أن يستكشف الظلام بداخله، بدلًا من البحث عن المادة الفنية في العالم الخارجي. ربما دفعته رؤيته إلى أن يتجاهل الارتباط الرومانتيكي، رافضًا الحب والصحبة وباحثًا عن حياة الفنان المعزولة، نداء يمثل بالنسبة له انغماسًا في الذات، في الظلام الذي كافح لإخفائه. هذا «الوداع للحب» يأتي بعد «الاعتدال الربيعي»، سيدعم الدفتر هذا التفسير. القرار، الذي ينكشف بالتذكر، يعيده إلى السن الكبيرة المتسمة بالغموض والفشل والوحدة.

ولكن بالتأكيد «اتخاذ القرار الخاطئ» مستبعد جدًا وجرى تجنبه كسبب للتعاسة في عالم بيكيت. البؤس الذي يعانيه هام واللامسمى يصعب تفسيره بفكرة اختيارات الحياة الخاطئة، إنما يبدو مشتبكًا في أنساق حتمية تضغط على إمكانيات الإرادة الإنسانية. تبدو مأساة كراب مختلفة. على الأقل لديه بعض التحكم في حياته. نعم، هو أسقط فرصته في السعادة، ولكن على الأقل كان لديه الخيار. ولكن من جهة أخرى ربما يجعل عبء الحرية الأمور أسوأ على كراب. يزيد عذابه سوءًا بسبب معرفة أنه كانت لديه القدرة على تجنبه، إذا اتخذ قرارًا مختلفًا. بينما لدى الشخصيات الأخرى عزاء النوستالجيا، يعاني كراب عبء الندم.

إلا أن الندم يبدو متوهمًا مثله مثل النوستالجيا. في عالم بيكيت يحدث الإحباط إن لم يحصل المرء على ما يريده، ويحدث التوهم إن حصل عليه. ربما يتخيل كراب حياة سعيدة لا يقول فيها الوداع للحب، ولكن هذا متوهم مثله مثل ذكريات الماضي الخالي من الهموم الذي يعزي شخصيات بيكيت الأخرى. حافظ بيكيت على كون كراب اتخذ طريقًا آخر في الحياة، إن اختار الفتاة وتخلى عن «العمل العظيم»، موقفه سيكون بنفس القدر من السوء:

«فكرت في كتابة مسرحية عن الموقف المواجه، أي السيدة كراب، الفتاة الموجودة في الزورق، تتذمر خلفه وفي هذه الحالة سيكون فشله وعزلته على حالتهما بالضبط».[23]

يبدو بيكيت مصرًا على عدم إتاحة حلول لمآزق شخصياته. تبدو معاناتهم بلا مخرج زمني أو واقعي، على الرغم من أن بعضهم ربما يوهم نفسه بالتفكير بأنه لو حدث شيئًا في المستقبل، إن وصل جودو، أو في هذه المسرحية إن حدث شيئًا مختلفًا في الماضي، فهذا المأزق سينتهي. يبدو أن الحقيقة مماثلة لما قاله هام: «أنت على الأرض، لا يوجد علاج لذلك».

لاحظ العديد من النقاد أهمية النور والظلمة، والأبيض والأسود، كأداة بنيوية تضفي مفارقة صورية، وكمجاز لبعض الثيمات المركزية بالمسرحية. أشار بيكيت على مخرجه الأمريكي إلى أن هذه الأصداء «المتناقضة البسيطة طوال النص: الكرة السوداء، الممرضة البيضاء، القارب الأسود، بيانكا، قيدار[i] – جناس الشارع المظلم، العاصفة السوداء، في مقابل نور الفهم إلخ. القاموس الأسود إن أمكن والدفتر. خشبة مسرح مكونة من اللونين الأسود والأبيض بشكل مشابه»[24]. إضاءة المسرحية، مع الضوء الأبيض القوي على الطاولة والمساحة المجاورة لها، والمتبقي في الظلام، تحتوي على دعائم لهذا الموتيف. كراب ذو التسعة وثلاثين عامًا يقول عن الشريط: «الضوء الجديد فوق طاولتي بمثابة دعم عظيم. مع كل الظلمة من حولي أشعر بأنني أقل وحدة. (صمت) بطريقة ما. (صمت) أحب أن أنهض وأتحرك تجاهه، ثم أعود إلى... (يتردد)... إليّ. (صمت) كراب». العودة إلى النور تشير إلى العودة إلى الذات بالنسبة لكراب، مثلما أن المسرحية عن الشرائط القديمة هي محاولة لاستعادة الذوات المفقودة في السنوات السابقة. إنها بطريقة ما بحث عن السلامة، محاولة لمعالجة الشقوق في الذات التي حوّلها الزمن.

الإصرار المستمر على تضاد الضوء-الظلام هنا يعتبر رمزًا للثنائية الجوهرية في المسرحية[25]. ملاحظات بيكيت على عرض «شريط كراب الأخير» الذي أخرجه في مسرح شيلر في برلين عام 1969 كانت واضحة حيال هذا الموضوع بشكل غير معتاد، شارحًا السلسلة المانوية من الأضداد المتعلقة بالنور والظلمة. كان بيكيت على دراية كبيرة بالثيولوجيا المانوية ويعرّف النور/الأبيض في المسرحية على أنه «روحاني» والأسود/الظلمة على أنه الحسي. الحس المانوي (المتخذ من تعاليم ماني، الثيولوجي الإيراني الذي عاش في القرن الثالث) يعود إلى عالم واقع في شرك مزيج مدنس من الخير والشر، وواجب المؤمن تحرير النور أو الخير المسجون من الشرك الحقير لعالم الشر المادي من خلال إنكار طرق الجسد. هناك ثلاث أو أربع صفحات من التوضيح لهذا البعد المانوي في المسرحية في دفتر ملاحظات عرض بيكيت. من النادر بالنسبة له أن يشرح بشكل موسع الإطار العقلي لقراءة مسرحياته، ولكن بالتأكيد كان جيمس نولسون على حق في نصيحته المتعلقة باتخاذ الحذر. أشار بيكيت أنه نفسه اكتشف البعد المانوي للمسرحية عندما أخرجها – أي بعد 11 عامًا من كتابتها. لو كان الأمر كذلك، إذن فتنويعات الأسود والأبيض استخدمت أولًا، على الأقل على المستوى الواعي، بغرض إبراز المفارقة والشكل الدرامي، أكثر من غرض الترميز الفكري أو الثيولوجي.

ورغم ذلك، فالحديث عن المانوية في ملاحظاته عن العرض مثيرة للاهتمام. إنها تشير إلى أن «الخطيئة» التي يعاقب عليها كراب هي «التوفيق» بين النور والظلمة «فكريًا باعتبارها عقلية-لاعقلية». يتحول كراب من «حقيقة المناقض للعقل المغترب عن العقل» إلى «فكر المناقض للعقل المكون للعقل». مثلَّت صور مزيج النور والظلمة، الأبيض والأسود التي تجري خلال المسرحية هذا المكون التقدمي. مستعيدًا الأحداث المحيطة بموت أمه، يتذكر كراب في الشريط ممرضة ترتدي ملابس رسمية بيضاء إلى جانب عربة أطفال سوداء («أكثر الأشياء الشبيهة بموقف الجنازة») والكلب الأبيض الذي يقدم له «كرة مطاطية صغيرة وقديمة وسوداء وقوية ومتماسكة. (صمت) سأشعر بها، في يدي، حتى يوم موتي. (صمت) كان بإمكاني الاحتفاظ بها. (صمت) ولكني أعطيتها للكلب» يهتم النقاد كثيرًا بهذا الحادث المفعم بالدلالة. بيكيت في دفتر ملاحظات إخراجه، يربطه بالمخطط المانوي: «لاحظ أنه لو كان تقديم الكرة السوداء إلى الكلب الأبيض يمثل تضحية الحس تجاه الروح، فالشكل هنا أيضًا هو عبارة عن مزيج».[26]

المزج بين الأبيض والأسود، النور والظلمة، الروح والجسد هو هجوم كراب على العالم المانوي بالأخلاق التي يفصل بها الزاهد الروح عن الجسد، العقل عن اللا العقل. ربما المثال المركزي لهذا «الهجوم» يحدث في «الرؤية» عند الحاجز المائي. هذه اللحظة تمثل بوضوح مزج النور بالظلمة، العقلي باللا العقلي:

«روحيًا كان عامًا من الفقر والكآبة العميقة حتى الليلة المذكورة في مارس، في نهاية الحاجز المائي، الريح العاوية، التي لا تنسى، عندما رأيت فجأة الأمر كله. الرؤية في النهاية. هذا الذي أعجب به هو ما أسجله بشكل رئيسي في هذا اليوم، في مواجهة اليوم الذي سينتهي فيه عملي، وربما لا يوجد مكان متبق في ذاكرتي، دافئ أو بارد، لهذه المعجزة التي... (يتردد)... لهذه النار التي أشعلتها. هكذا ما رأيته فجأة هو أن الإيمان الذي اعتنقته طوال حياتي، أي (يتوقف كراب بنفاد صبر، يقدِّم الشريط للأمام، يشغله مجددًا – الصخور الجرانيت العظيمة تهز الزبد الطائر في ضوء المنارة ومقياس الرياح يدور كمروحة، يتضح لي في النهاية أن الظلام الذي كافحت أن أخفيه صار في الواقع أكثر الـ...» (60)

يمتزج الوضوح هنا بغير المخترق، الضوء الآتي من المنارة يومض في ظلام الليل، «النار» التي «تشعل» رؤيته مع الظلمة «التي أخفاها». تدل كل تلك الاستعارات على قراره أن يضم إلى فنه الجوانب غير العقلانية وغير المنيرة وغير الكلامية لروحه – الظل الذي كافح أن يخفيه –. من المفترض أن «العمل العظيم» الخارج عن هذه الرؤية مثَّل أدب بيكيت في ما بعد الحرب، يتحول من الفناء والمعرفة الكلية والكاملة إلى فن الجهل والعجز. ولكن لأغراض «شريط كراب الأخير» فاختيار النسك الأخلاقي، خطيئة «عوقب عليها كما أظهر الدهريون» وفقًا لدفتر عرض بيكيت الذي كتب فيه عن المانوية[27].

على خلاف مسرحياته اللاحقة كـ «الأيام السعيدة» أو «مسرحية»، حيث النور بالأعلى هو بوضوح جزء من العذاب، النور - بالمقارنة - له حضور لطيف في «شريط كراب الأخير». كما رأينا بالفعل، كراب في التاسعة والثلاثين يحب أن يغادر النور ويخاطر في الظلام، بالتالي يمكن أن يرضى بالعودة إلى النور الحامي. على الرغم من أن موقف كراب منعزل وبدون أمل في المستقبل، يمكن للمرء أن يذهب إلى أن هذه أكثر مسرحياته لطفًا وإنسانية وإثارة للمشاعر. في مسرحية «لعبة النهاية» القيم نفسها التي تجعل الفقدان تراجيديًا فُقدت بدورها، أما هنا ما يزال يوجد حس واقعي بأن الفرص المفقودة في الحياة الضائعة تستحق الحزن. يوجد عزاء بارد محدد في إدراك أن الانهيار الذي عوقب به كراب يعني شيئًا مهمًا. إنه منعكس في اللغة وبشكل خاص في المشهد المتعلق بالفتاة في الزورق، الذي يعتقد كراب أنه يستحق الاستماع إليه مرتين:

«لقد قلت مجددًا إنني أعتقد أن الوضع يائس، ولا خير في الاستمرار، وهي وافقت، بدون أن تفتح عينيها. (صمت). طلبت منها أن تنظر إليّ بعد عدة لحظات – (صمت) – بعد عدة لحظات فعلت ذلك، ولكن لم تنفتح عيناها كثيرًا بسبب وهج الضوء. انحنيت لأظلل عليها فانفتحتا. (صمت. بصوت أضعف) دعيني أدخل. (صمت) تسللنا للداخل وسط الأعلام وجلسنا. الطريقة التي نزلا بها، متنهدين، بجانب مقدمة! (صمت) استلقيت عليها ووجهي على صدرها ويدي على يديها. استلقينا هناك دون أن نتحرك. ولكن تحتنا كان كل شيء يتحرك، ويحركنا، بلطف، لأعلى وأسفل، ومن جانب إلى آخر».

على الرغم من أن هذا المشهد يصف اللحظة التي بدأ فيها المستمع رحلة بؤسه القائم، قبل ثلاثين عامًا، حقق اقتصاد الوصف ودقته هنا جمالًا نادرًا وأخَّاذًا. تمتزج العديد من المشاعر: وضاعة وضع كراب الحالي، والنغمة الواثقة لذاته الأصغر، وحزن العاشقين الراحلين. ولكن يصبغ الكل لطف الزورق الطافي، وحميمية الحبيبين بداخله. علق بيكيت على ذلك لجيمس نولسن: «إن حذفت مقطعًا وحيدًا من تلك السطور، ستفسد صوت الماء المتحرك على جانب القارب».[28] كتابة بيكيت الناضجة ليست كتابة متورطة على الإطلاق؛ لا تفرط أبدًا في الوصف أو الإسهاب. اللذة التي تنتجها تأتي من دقتها واقتصادها، مستخدمة الحد الأدنى من الكلمات لتؤدي التأثير الأقصى. إنها تنمو داخل جماليات النضوب والإيجاز، وهذا هو سبب أن عمله يصير أقصر مع تقدمه في العمر. بالتالي الفقرة الشاعرية التي يلقيها أمامنا كراب على الزورق لها قوة خاصة. على الرغم من وضع كراب الحالي المثير للشفقة، إذ أنه لا ينتظر سوى الموت، إلا أن جمال اللغة وأصالة الشعور هنا تضفي على المسرحية، على خلاف كل المسرحيات الأخرى، تأكيدًا محددًا هشًا.


[23] McMillan and Fehsenfeld, Beckett in the Theatre, PP. 288-9.

[24] Letter from Samuel Beckett to Alan Schneider, 4 January 1960, in Maurice Harmon (ed.) No Author better served: The Correspondence of Samuel Beckett and Alan Schneider (Cambridge, MA, and London: Harvard University Press, 1998), p.60.

[25] استكشف جيمس نولسون هذا البعد في Light and Darkness in Theatre of Samuel Beckett (London: Turret Books, 1972) and James Knowlson (Ed.), The Theatrical Notebook of Samuel Beckett, vol. III: Krapp’s last tape (London: Faber and Faber, 1992).

[26] Knowlson, Light and Darkness, P.141.

[27] Ibid., p. 141.

[28]  From Martha Fehsenfeld’s Rehearsal Diary, quoted in James Knowlson (ed.), Happy Days: The Production Notebook of Samuel Beckett (London and Boston: Faber and Faber, 1985), p. 177.


[i] بيانكا تعني بالإيطالية أبيض، وقيدار تعني بالعبرية أسود، والكلمة الأولى كانت اسما لفتاة بالمسرحية والثانية اسما لشارع.