العزاء غير المتوقع في تعلم عزف البيانو

نص ورسوم كريستوف نيمان*

ترجمة: أحمد طارق عبد الحميد

نشر في النيويورك تايمز

*كريستوف نيمان: رسام ومصمم ومؤلف كتب أطفال

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


عندما أغلقَ فيروس كورونا أبوابَ الحَجرِ المنزليّ على العالَم، حاولتُ تعلُّم مهاراتٍ جديدة (مثل الطبخ والبَرمَجَة) لكني لم أجد في عقلي مُتَّسَعًا لتطوير روتين جديد، فلم يكن أمامي إلا استغلالُ الروتين القديم.

لدي هوايتان: الجَريُ وعَزفُ البيانو. الجَريُ لا يُعدُّ هواية في الواقع، بل هو أقرب للواجبات المنزلية الثقيلة: أقوم به إشفاقًا مما قد يحدث لو لم أقم به (فهو أشبه بالتخلُّص من القمامة). كما أنِّي أستنفِدُ حِصَّتي من الجَريِ اليوميِّ كل صباح. هكذا يتبقى لي البيانو.

عادةً ما أعزفُ أغنيات چاز باستخدام تسلسُل الكوردات [chord progression]. مستوى إتقاني: بإمكاني عزف نسخةٍ غناءٍ جماعيٍّ بسيطةٍ من "Moon River"، شريطة أن يكون المُغنِّي المُخصَّص ثَمِلاً تمامًا وأنا على العكس منه.

لطالما أردتُ إتقان الموسيقى الكلاسيكية، لكني لا أحقق أي تقدم كبير مع باخ أو موتسارت لأنني لم أتعلَّم قَطُّ قراءةَ نوتةٍ موسيقية.

وبعد محاولاتٍ قليلةٍ كفيلةٍ بتوعيتي على مدار أعوام، بدأت أقتنع أن عَقلَ الناضجين لا يناسبه تعلُّم مَهارةٍ كهذه.

لعلها كانت فرصتي الأخيرة لدفع نفسي دَفعة كافية للتعلُّم…

… ولو كان هذا يعني أن أبدأ من الصفر:

إن النظام واضحٌ وبسيط. إذا أراد مني المؤلفُ أن أعزف نغمةً مُعينة فإنه يضع لي علامةً في مكان مُحدَّدٍ على نِظامٍ من الخُطوط، بما يجعلها تتطابق مع مفتاح فريدٍ في لوحة المفاتيح. لا عيب في ذلك.

أعزف الأنغام بالترتيب الصحيح وبوتيرة مُحددة مُسبقًا. سهل!

لكن الأنغام تتزايد بعد ذلك أكثر فأكثر. وسرعان ما يؤدي فهمُ تعليمات رموز النوتة وتوجيهها لأصابعي من أجل تنفيذها، إلى إرهاق قدرتي على الاستيعاب. ويَسُوء الأمرُ أكثر.

تنفَدُ منِّي الأصابعُ سريعًا، ولهذا تُوجد بالنوتة أرقامٌ صغيرةٌ تخبرُني بالإصبع الذي عليَّ استخدامه بالتحديد لعزفِ نغمة ما.

إن هذا مفيدٌ نظريًا، لكنه يُمثِّلُ في الواقع معلوماتٍ إضافية يجبُ عليَّ استيعابها.

ثم تأتي "الكوردات" [chords]. وهذا يعني أن علي عزف العديد من النغمات في الوقت نفسه.

وهناك نغماتٌ قصيرةٌ ونغماتٌ طويلة. وغالبًا ما تتداخلُ النغمات، فتظَلُّ بعضُ الأصابع مُستقرَّة على مفتاحٍ ما، بينما يتوجَّبُ على الأصابع الأخرى أن تمضي سريعًا لعزف مفاتيح مختلفة أخرى من اللوحة.

والآن نواجه إشاراتِ التحويل العارضة [accidentals] (وهو اسمٌ مناسب لها): رمزُ الشباك [# دياز] على يسار النغمة يعني أن عليّ في الواقع عَزفُ نِصفِ النَّغمَةِ التالي في صعودنا السُّلَّم الموسيقي، أما علامة b [بيمول] الصغيرة فتعني أن عليَّ عزفُ نِصفِ النغمة التالي في نزولنا السُّلَّم الموسيقي.

إنني أُحبُّها، لأنها تُشيرُ عادةً إلى أن الموسيقى على وشك أن تصبح أكثر إثارةً للاهتمام.

أما ما لا أُحبُّه، فهو أن تكون إشاراتُ التحويلِ العارضةِ ساريَةً على المقطوعة الموسيقية بالكامل.

إن رمز شباك في بداية السطر يخبرني أن كل مرة أصادف فيها بالمقطوعة نغمة "فَا"، سيتوجَّبُ عليَّ في الواقع أن أعزف المفتاح الذي على يمينها.

يُشبه الأمرُ قراءةَ فاتورة، لكن عليك أن تتذكر كلما قرأت كلمة "سكين" أنها تعني في الواقع "فلفلاً حارًّا".

وعند ذلك تصير الأمورُ جُنونيَّة، لأنني بحاجة لقراءة مقطوعتين موسيقيتين في وقت واحد. مقطوعة ليدي اليسرى، ومقطوعة ليدي اليمنى. إن هذا يبدو للسامع مستحيلاً، وهو كذلك في الواقع.

مهلاً، لقد نسيت أن أقول: بينما أقوم بكل ذلك، يُفترض بي أن أُثبِّت عَينَيَّ على النوتة…

… وألّا أنظر نهائيًا على الإطلاق إلى أصابعي ولوحة المفاتيح.

وأخيرًا، توجد أكثر العقبات إثارةً للدهشة: التحدّي الجسدي. إنني أرسم طوال اليوم - ولذا تَرَسَّخ لديّ اعتقادٌ بأن مهاراتي الحركية الدقيقة قد تكون أعلى من المتوسط.

أتود أن تعرف كم هو ضئيلٌ بالفعل نصيبُنا مَعشَرَ الفانِينَ مِن التحكم بأيدينا؟ شاركني تدريبًا بسيطًا.

ضَع يدك على طاولة، واجعل راحةَ يدك مُرتفعة، وأطرافُ الأصابع فقط تلمس سطح الطاولة (تخيَّل أنك تضغط خمسةَ أجراسٍ منزليَّةٍ في وقت واحد).

ارفع السبابة وانقر على الطاولة بحزم. في حين تظل الأصابع الأخرى في مكانها. راحة يدك لا تتحرك. هذا سهل وطريف، أليس كذلك؟

والآن قُم بالأمر نفسه مع النَّقرِ بإصبعك البنصر على الطاولة في حَزم. إذا كنت مثلي، فلن تجد هذا الأمر سهلاً أو ممتعًا.

وإذا كنت مستعدًا لمزيد من العِقاب، جرِّب التبديل بين (1) إصبعك البنصر وكلٍّ من (2) إصبعَيك الوسطى والخنصر.

والآن تخيل القدرة والمرونة الهَزليَّتَين اللتَين يتطلَّبُهما أداءُ سوناتة بيتهوفن "Waldstein".

إن تعلُّم البيانو صعبٌ للغاية، لكني أعلم على الأقل ما أنا بصدد التعامل معه.

متى سيتمكن الأطفال من العودة للمدارس؟ هل ستظل المناعة موجودة؟ كلُّ جديدٍ في هذه الأزمة إما أنه مُرعِبٌ وإما أنه يُضيفُ إلى ارتباكي ارتباكًا.

إن الحاجة المُلِحَّة لمتابعة الأخبار تُبدِّد قدرتي على التركيز في كِتابٍ أو الإنصات لمقطَعٍ مُسجَّل، وهو ما يتطلَّب صَفاءَ النَّفس.

إن التدرُّب على البيانو يُناسبني لأن بإمكاني عندئذٍ أن أجلس، وأبدأ تمريناتي بغض النظر عما إذا كنتُ مُلهَمًا أم لا.

إن بإمكاني تكرار المازورَتَين نفسَيهما لأيامٍ ومن دون توقف - وقَبُول الوقوع في الخطأ نفسه مرّاتٍ عديدةٍ بتصالُحٍ رُواقيّ.

إنني أعزف دائمًا وأنا أستخدم سماعات رأس، لنفسي فحسب. لا توجد إعجابات، أو متابعون، أو تعليقات.

ولا يوجد ما هو أهون عاقِبةً في هذا العالم من سُلَّمِ "سِي بيمول" الذي أعزفه.

ومع كل ذلك: أنالُ فرصة قضاءِ بعض الدقائق في عالَمٍ مُوازٍ، حيث أستطيعُ التحكم بمصيري.

هناك كثيرٌ جدًا من الحقائق الجديدة التي يجب أن أعتادها.

لكن مع البيانو، هناك حقيقةٌ واحدةٌ موثوق بها، لا تتبدَّل، ويمكنني اتباعها.

في عام 1878، ألّفَ تشايكوفسكي "الصلاة الصباحية".

إن هذه الأسطر القليلة من الموسيقى الإلهية إنجيلٌ أبديّ، مَحفوظٌ بصورةٍ نهائيةٍ في هيئة علاماتٍ مُجرَّدةٍ على قطعة ورق.

على مدار الـ142 عامًا الأخيرة وللأبد، ستظل المُهمة هي نفسها كما كانت: اتبَع هذه التوجيهات الدقيقة، لتَبعََثَ الحياةَ في هذا العمل الموسيقيّ لثوانٍ زائلة.

هناك أيضًا شعورٌ بالأُلفة. على الرغم من عزفي على انفراد، تُطمئنني معرفة أني لستُ وحيدًا، إذ تجمعني صِلةٌ بكل التلاميذ في كل مكانٍ وزمان؛ هؤلاء الذين اجتهدوا لعزف مقطوعة موسيقيةٍ مُؤلَّفة.

تأمَّل مقدمة شوبان [Prelude] مِن سُلَّم "مِي الصغير". أتخيل أننا جميعًا نبتهج في البداية ونحن ننظر إلى الكوردات ونفكِّر، على الأقل: مقطوعة عزفها أسهل مما تبدو عليه.

بل إنها تُتيح زمنًا يكفي بالضبط لعزف "فَا دياز" بالمازورةِ الثانية، ثم تأتي، بعد بهجةِ المازورةِ الثامنة الرقيقةِ والمُفرِحَة كذلك، لحظةٌ من الاعتداد بالنَّفس…

"أترى، ليس الأمرُ شديدَ الصُّعوبة رَغم كلِّ شيء" بينما أنطلق بخِفَّة خلال الموازير من 9 إلى 16…

… وقبل أن أصل الآن إلى الأشلاء الدامية لمجزرة الموازير من 16 إلى 18، ثم أستميتُ في استعادة ضبط المقطوعة قبل الوصول الوشيك إلى النهاية…

… وأخيرًا أُقِرُّ بهزيمتي بينما أحل رموز ذلك الكورد الأول في المازورة 24.

إن تشابُه الشَّهرَين الماضيَين جعلني أدرك أني أحكم على وقتي عند طاولة الرسم بالاقتصار على ما أنتجته في نهاية اليوم.

أما عزف البيانو فعلى النقيض من ذلك تمامًا، فأنا أعلم أني لن أنتج أي شيء بمستوى طفلٍ موهوب ذي 8 سنوات على اليوتيوب.

لكن عندما أقعُ على لحظةٍ من الجَمَالِ غير المُتوقَّع، لا يكون أمامي خيارٌ سوى الاستمتاع بها.

لأنها تتلاشى في لحظةِ إبداعها نفسها.

وبينما أتمرَّن، يلزمني في الوقت نفسه أن أقرأ وأُنصِت وأفكر وأترجم. تصبح كُل وَصلَةٍ عصبيَّةٍ في مُخّي مُستغرِقةً بالكامل، بحيث لا توجد أيُّ سِعَة متبقِّيَة للتفكير في أي شيء آخر بالعالَم.

ولأن كلتا يديَّ مشغولتان، فإني أبقى بعيدًا عن ذلك الهاتف الرَّذِيل.