زوجة الأب الخبيثة

مقال لسابرينا أوراه مارك*

نُشر في باريس ريفيو، أبريل 2019

ترجمة إسراء أمان

* سابرينا أوراه مارك شاعرة أمريكية من أثينا بولاية جورجيا

ترجم هذا المقال ضمن أعمال الدورة السادسة من مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) – ربيع 2020.

الترجمة خاصة بـ Boring Books وسيلاس اﻹسكندرية

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.


رسم عن قصة سنو وايت، فرانز جوتنر، 1905، عن باريس ريفيو

تتذبذب زوجة الأب مثل المصباح ذهابًا وإيابًا، وهذا يستدعي إلى القلوب غياب الأم التي لا تنير المكان، فهذه هي وظيفتها.

أنا أم، أم بديلة، وأم لأم بديلة، الزوجة الثالثة لزوجي، وهو لديه بنات من زوجته الاولى وابنة من زوجته الثانية.

كما أنني أم لولدين كذلك. «هذه ليست إحدى قصصك الخيالية». هكذا قال لي زوجي أثناء جدال شب بيننا. لم يكن يقصد ديزني، بل قصد جريم. قصد أنني دفنت ذاتي في جسد زوجة الأب في الحكايات الخيالية، وعشت على هذا الأساس.

عندما تجتمع كل فتيات زوجي في المنزل، أتضاءل أكثر. حيث أن وزن هؤلاء الفتيات اللاتي لا تربطهن بي رابطة دم يُميل المنزل وينزلق بي نحو الباب، بينما يعيدني وزن أولادي إلى الداخل. هكذا ترتفع تلك الأرجوحة وتسقط. وليس لزوجي أي دور في تلك الأرجوحة، فهو ينمو بلا وزن ضبابي.

في العطلات الأسبوعية، تخرج ابنة زوجي ذات الأعوام السبعة عشر من الحجرة في بدايات الظهيرة ملتحفة رداء أبيض سميكًا، وتتحرك ببطء، مثل السحب المتجمعة في السماء. يقدسها أولادي، فهي لطيفة وطيبة، ويندفعون حولها مثل الفئران. «العبي معنا».. يرجونها، وهي تتثاءب. تراوغهم وتذهب إلى الحمام، لكنهم ينتظرونها أمام الباب. عادةَ تبقى بالداخل مدة طويلة جدًا. اسمها مثل أول امرأة على وجه الأرض، إيف (أي حواء).

أحب ابنة زوجي، لكني لا أحب كوني زوجة أب. فهو عمل شاق. لو كنا نقف جنبًا إلى جنب، إيف وأنا، ونظرنا إلى المرآة، فلن تظهر عليها انعكاساتنا، بل سينعكس شيء وحشي وقاس. جِلد أم منبوذ. عقاب لحبك ما لا تمتلكينه.

في قصص الأطفال، تظهر زوجة الأب بسبب موت الأم،  الأم رماد مدفون أسفل شجرة أو تشاهد أفعالنا من الجنة أو توفيت أثناء عملية الولادة. هي جميلة وحسنة الخلق، لكن كان عليها أن تعرف أكثر بدلًا من أن تنخس إصبعها وتقطر ثلاث نقاط من الدم فوق الثلج، لكي تعتق مجاز الدنس. هذا المجاز تنبت منه زوجة الأب كزهرة الجثة في حقل من زهور الربيع. كظل يتسع.

في قصة «شجرة العرعر» للأخوين جريم، قدمت زوجة الأب لابن زوجها تفاحة، وعندما انحنى ليأخذها من الصندوق الثقيل، أطبقت الغطاء بعنف شديد «فأطارت رأس الولد». ثم طبخته في حساء بلا ملح لأن الصغيرة مارلينا -ابنتها البيولوجية- ملحَّت الطفل بدموعها. قدمت زوجة الأب الحساء لزوجها، الذي تساءل شاردًا أين ذهب ابنه بينما كان يأكله، كان الأب حاضرًا غائبًا يومض حينًا وينطفئ حينًا آخر مثل مصباح قديم، لكن زوجته ثابتة على الأرض ملقى عليها ضوء صارخ. في قصة «العبد الشاب» لباسيل، قصت زوجة الأب شعر ابنة زوجها، أجبرتها على ارتداء ملابس رثة، «زرقت عيناها بالكدمات»، جعلت فمها «يبدو كأنها أكلت حمامًا نِيْئًا».

تخبر زوجها دائمًا أن «الطفل لا ينصلح حاله إلا بالجلد، وعلى المرء أن يضرب تلك الفتاة للأبد». وفي قصة «سنو وايت» للأخوين جريم، استدعت زوجة الأب قناص لاقتلاع رئة سنو وايت وكبدها لتستطيع طهيهما وأكلهما. من السهل رفض زوجة الأب البشعة والمتوحشة، فهي دائمًا كذلك. لكنني قرأت أيضًا رغبة زوجة الأب في منح الأطفال وتقديمهم وطبخهم كوسيلة لإعادة زرع الطفل في جسد العائلة. إنها طريقة زوجة الأب لتربية طفل أم ثانية في تربتها الخاصة. هذا كله يدور حول إعادة الهيمنة والرسوخ. فهمت الآن. فعلًا لقد فهمت. مجازيًا أقصد.

حفرت أسماء أبنائي حول عنقي في سلسلة ذهبية رفيعة، لكنني لم أضع اسم ابنة زوجي فيها. اقترحت عليَّ صديقة ذات مرة بنبرة مرحة أن أضيف اسمها، وأضافت: «هذا سيشعرها بالسعادة!» لكنني شعرت بالغثيان وأجبت: «لا أعلم إن كان اسمها لي لأضعه حول عنقي». فأنا أم سارقة أو غليظة القلب. ثم أضافت: «ما زلت أمها على قيد الحياة.. فلدى أمها عنق أيضًا».

كتب كولسون وايتهيد: الوحش هو الشخص الذي توقف عن التظاهر.

زوجة الأب مطمورة. في رواية روبرت كوفر، تعيش زوجة الأب مع ابنتها المدانة في ريبر وودز مع «سحرة، قتلة، مغتصبين، أقزام وعمالقة، وحوش خطرة، ملائكة صغيرة، أولاد يبحثون عن الثروات وفتيات مرعوبات، حطابين فقراء، خياطين مغامرين، موسيقيين ضائعين، طيور متنبئة، ضفادع مسحورة»، فهي تحيا أينما تترسخ الأشياء وتضطرب في الوقت ذاته، حيث «يستعصى عليك التأكد من أن الصخور أو لإبر الخياطة يعكسان ما تراه حقًا»، حيثما تغني العظام وتتكلم الأواني، فهي امرأة قادرة على تغيير جلدها، دخيلة وعالمة ببواطن الأمور معًا.

أُلقى عليها اللوم خطأً لأفعال شريرة تسببت فيها أمهات وأرامل ضعفاء أو خبثاء، وعامةً تعتبر المشتبه بها في كل الجرائم المرتكبة، وحتى الجرائم المفتعلة. أعتقد أن ابنة زوجي تحبني، لكن من خلال ضباب يشبه الأمومة، ولكي تشعر بالراحة عليها ارتداء ملابس فصلين مختلفين: فستان صيفي (الأم) ومعطف صوف (زوجة الأب). وكانت أفضل محادثة أجريت بيننا في السيارة بمفردنا، بشفافية ضبابية، بلا نوافذ مفتوحة.

أيجب أن أكتب كل ذلك؟ هل أنوي ارتكاب جريمة ما؟ أتخيل أمهات بنات زوجي يقتحمن منزلي ليلًا، يلقين كيسًا فوق رأسي، ويقذفن بي في النهر، كأول مرآة للأرض.

في النسخة الأولى من قصة «سنو وايت» للأخوين جريم، لم تكن هناك زوجة أب، وأضيفت في عام 1819، لكي ينقلب أي غضب قد يشعر به طفل تجاه الأم إليها، ومثلما أمرت زوجة الأب سندريلا بفصل العدس عن الرماد، فصل الأخوين جريم الحب عن الغضب والفضيلة عن الشر. في الأصل الأم هي من تغار من ابنتها الجميلة، في الأصل شملت الأم النقيضين، لكن الآن الأم الحقيقية ميتة وطاهرة.

أحب التنظيف. مر على مسامعي مرة لمز واحدة من بنات زوجي قائلة، «إنها تعاني من عقدة النظافة». حتى وأنا طفلة عشقت النظافة، ففي المخيم الصيفي كنت أتغيب عن أنشطة الظهيرة ﻷبقى بمفردي داخل الغرفة الصغيرة وأكنس، أحب الفرز والتطهير والترتيب، ولديَّ ولع بالصناديق. فقد كانت أول مؤلفاتي مجموعتين من القصائد النثرية، كل قصيدة عبارة عن صندوق منمق ومنظم. وبعدما تزوجت ورزقت بالأطفال، كبرت القصائد وتمزقت الحواف، ومثلما تخطى جسد ابنة زوجي حدود فساتينها الصغيرة، تمددت القصائد وطالت وتحولت إلى قصص، وما كان مغلق بإحكام فر وانسكب.

عرَّف تشارلز سيميك القصائد النثرية، «بأنها نتيجة دوافع متناقضة: النثر والشعر، وبناءً عليه لا يمكن أن توجد، لكنها موجودة». تأتي زوجة الأب كذلك نتيجة دوافع متناقضة، بين أم ولا أم، ومن ثم يستحيل وجودها، لكنها موجودة!

في رواية أليس نوتينج «الأخ والطائر» (إعادة تخيل عبقرية لقصة الأخوين جريم «شجرة العرعر»)، زوجة الأب «بعيون مشوشة وشبكات شعر كثيرة، نظفت باستمرار وبحثت بانتباه عن القاذورات»، لذلك هي عادة ما تستخدم المكنسة الكهربائية التي بدت كأنها فرع شجرة، ونُسيت يداها، فهما دائمًا وأبدًا «داخل قفازات مطبخ سميكة صفراء»، فهي تحاول محو انعدام أمومتها، لا نجاسة ابن زوجها.

تستطيع زوجة الأب أن تفرك وتنظف للأبد، لكنها لن تستطيع التخلي عمن لم ينم بداخلها. لأن رماد الزوجة الأولى مدفون أسفل شجرة العرعر ترويها بالمُبَيِّض. كم أتمنى لو كنت الزوجة الوحيدة. غرفتي بقعة واضحة في المنزل، ولا يمكن إخفائها. عندما كان ابني «نواه» رضيعًا، ظلت معنا إحدى صديقات زوجي لبضعة أيام، كانت تعرف زوجته الأولى، وقالت عنها، «أتذكر كيف كانت جميلة وهي حامل. تشع نورًا في المنزل وهي ترتدي ثوب النوم. كان شفافًا وكانت متألقة فيه». شعرت بالغثيان. ضممت نواه بشدة كأن صورة نمو أول طفل لزوجي في جسد امرأة اخرى قد يخفينا نحن الاثنين.

مرآتي، يا مرآتي، من هي الأم الأكثر أمومية من بينهن جميعًا؟

أنا أيضًا كان لدي زوجة أم. سمعت أول مرة لفظ «عاهرة» وأنا في العاشرة من عمري. انحنت أم صديقتي وابتسمت وكأنها أقحوانة متعفنة، ولمعت عيناها وقالت، «أنتِ تعرفين أنها عاهرة، أليس كذلك؟». لكن رغم ذلك، قبل وفاة جدتي بليلة، كانت زوجة أبي هي من تنظف جسد جدتي الناعم الداكن الهامد. هذا يناقض القصة الخيالية.

مرآتي، يا مرآتي، من الأم الأكثر أمومية من بينهن جميعًا؟

السبب لبقاء القصص الخيالية هو أنها تسمح لنا أن نمعن النظر في أنفسنا من خلال نافذة زجاجية شفافة وعاكسة معًا. إنها لمحات مزدوجة لنرى أنفسنا من دواخلنا إلى ظواهرنا، ومن ظواهرنا إلى مكنوناتنا، وتعظم أدوارنا كفاية لكي نركز على القطع الصغيرة من الوحش الذي ينمو داخل قلوبنا.

بدأت المسافة بين «سنو وايت» وزوجة أبيها تتضاءل عندما واجهت الأقزام الذين خرجوا حولها كالأمهات، كالأطفال، كولادة مزدوجة سحرية. وعندما تحلق اﻷقزام حولها، تولت سنو وايت الدورين: ابنتهم الغريبة وأمهم غير المألوفة، فهيأها ذلك للتابوت الزجاجي، صورة ولدت من مرآة زوجة الأب، والآن كلتاهما محبوستان داخل الزجاج، وبمجرد أن يكونا داخل ما يمكن كسره بسهولة، تعود زوجة الأب وسنو وايت إلى بعضهما أخيرًا.

في فترة حملي دعوت بأن يرزقني الله بصبي. تخيلت أن الفتيات قد يسامحنّي لو رزقت بصِبْيَة. لو رزقت بطيور أو فئران أو أي شئ إلا أن ألد فتاة.

ما سقط فوق رأس زوجة الأب في نهاية قصة «شجرة العرعر» كان حجر الرحى. دفع الطائر -الذي كان يومًا ما نفس الابن الذي طبخته وأطعمته لأبيه- الحجر فوق رأسها، فسُحِقْت حتى الموت. ما سقط فوق زوجة الأب كان الثقل الذي يذكرها، مع وجود طفل، بأنها غير كافية. ما سقط فوق رأسها كان تذكرة بأنها امرأة مجوفة، آلة نفخ تصدر لحنًا بعيدًا. إنني أعرف زوجة الأب هذه، كنت قريبة منها للدرجة التي جعلتني أشم رائحة سم التفاحة المشتعل في الجزء الخلفي من حلقها. كان رائحته مثل الغيرة والخوف من الاغتراب، وحتى من الحب.