استهلاكية بلا استهلاك واستهلاك بلا استهلاكية

مقال لروب هورنينج

نشر في مجلة متروبوليس إم عام 2016

ترجمة عمر شاهين

ترجم هذا المقال ضمن أعمال الدورة السادسة من مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) – ربيع 2020.

الترجمة خاصة بـ Boring Books وسيلاس اﻹسكندرية

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


في كتابه "نظام الأشياء" (1968)، يرى جان بودريار أنه في المجتمع الاستهلاكي لا يستهلك الناس الأشياء، بل مدلولاتها: "إن كان ثمة معنى للاستهلاك، فهو أنه نشاط ينطوي على تلاعب بنيوي بالعلامات"1.

وبقدر ما يبدو هذا المفهوم ساريًا، فإنه لا يتيح المجال للنظر في كيفية تداول المجتمع الاستهلاكي للسلع المادية وإهلاكها. لذا من المفيد أن نطلق على ما وصفه بودريار "بالاستهلاكية"، بينما نطلق على العمليات الاجتماعية في علاقتها بالأشياء المادية "الاستهلاك". فمثلًا: تسويق الغذاء وعلاماته التجارية هي استهلاكية، أما هضمه فهو استهلاك. طبقًا لقوالب التسويق: الاستهلاك هو المنتج، والاستهلاكية هي التجربة المعيشة للمنتج2.

لم ينفصل الاستهلاك عن الاستهلاكية، لكن التقنية تساعدنا على توهم فصلهما والتمتع بهما بعيدًا عن الحدود التي تفصل أحدهما عن الآخر. كما أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي والتواصل الرقمي الدائم أن نسلك الطريقين في نفس الوقت، تجاه استهلاكية بلا استهلاك وتجاه استهلاك بلا استهلاكية.

إذا أمكن أن يستهلك المرء بلا استهلاكية، فإنه بذلك قد يصل إلى القيمة الاستعمالية للمنتج، لا القيمة التبادلية، أي دون تزييف، وهذا يعفي المستهلكين من وصمة الاستهلاكية كالتكلف والسطحية الظاهرة في ربط الهوية بسلع العلامات التجارية. لكن في هذه الحالة، أنت تأخذ ما تريد دون أن تحتك بالاختيار أو تخمن كيف سيتقبل الناس ما تستهلكه.

دائمًا ما غرق المستهلكون في الاختيارات –وهي حالة فاقمها الإنترنت بانتشار مواقع البيع بالتجزئة وآليات التخصيص، لكن التقنية كذلك حلت مشكلة الاختيارات الضخمة التي أنتجتها: بالخوارزميات التي تنتج الاقتراحات وتطبيقات "الطلب" لتوفير كل شيء ابتداء بطلب سيارة الأجرة مرورًا بالوجبات وغسيل الملابس، وكل ذلك يقلل من مجهود المستهلك في الاختيار بين علامات تجارية مختلفة لحساب سهولة الاختيار الفوري وسلاسته. وتبدو "تطبيقات المشاركة" هذه قادرة على توصيل السلع المادية بنفس السرعة الرقمية، فكما توصل الهواتف البيانات على الفور، توصل هذه التطبيقات كل الشيء بنفس السرعة تقريبًا.

إن ما يطلق عليه "مشاركة" خلال هذه التطبيقات لا يعدو كونه وهم أن يتحرر المرء من العلامات التجارية بأن يستبدلها "بالمنصات". هذه المنصات التي تبدو كأنها توصل البائع بالمشتري عبر وسيلة عقلانية تمامًا، تطمح إلى وضعية احتكارية تكون معها علاماتها التجارية تحصيل حاصل. فمثلًا إذا قام مستهلك باستخدام "أوبر أو مثيلاتها" لطلب أي شيء فإنه ليس مهمًا مَنْ طلب الخدمة أو وصّلها، ففي واقع "الاستهلاك بلا احتكاك" ليست الأشياء المادية إلا بيانات لوجستية [وليست علامات دالة كما يرى بودريار] حتى تصل إلى نقطة استهلاكها، حيث يرى المستهلكون أنفسهم في مركز كونهم، متوجين على عرشه؛ فأصابعك تنساب على شاشة لا يراها سواك، وما تريده يصلك بسهولة.

وعلى جانب آخر تأتي مواقع التقييم الاجتماعي المتخصصة مثل تمبلر Tumblr وبنترست Pinterest التي تسمح باستغلال إمكانات السلع ودلالاتها وعرضها دون الاضطرار إلى استخدامها ناهيك عن شرائها. وهذا ما يحوّل الهاتف من آلة معزولة إلى بوابة يقيم من خلالها المستهلكون روابط وتقييمات واعترافات اجتماعية لا نهائية عبر تنسيق صور للمنتجات، ويطورون وسائل أدق للدلالة على الذوق والشخصية، وينغمسون كما يشاؤون في صفات خيالية ومثيرة لسلع ليسوا بحاجة إلى لمسها البتة. وقد تكون السلع في الحقيقة غير قابلة للاستهلاك على نحو تقليدي أو أشياء مستحيلة الوجود إلا صورًا رقمية.

ولأنه لا يوجد استهلاك فعلي على هذه المواقع، ولا توجد لحظة تفنى فيها السلعة، أو لحظة لتقرير ما إذا كانت تتوافق مع الصفات التي وصفت بها. ليس على المرء أن يستهلك سلعًا لن يريدها إلا باعتبارها كماليات، في المقابل، هناك إمكانات لا محدودة لتواصل اجتماعي ذي دلالة مضمرة. إذ يمكن لصور السلع، على عكس السلع المادية، أن تنتشر بشكل أسرع وأن تكون أكثر فاعلية [على مستوى التواصل أو الوظيفة الاجتماعية\الدلالية].

يُظهر مؤيدو كل من اقتصاد الطلب ومواقع التقييم المتخصصة أنهما خياران (مضادين للاستهلاكية) يقوّضان المكونات الأساسية للآلة الرأسمالية الاستهلاكية، فهما [خياران] يعطلان عمل الأسواق القائمة ويتحديان سلطة العلامات التجارية ويواجهان منطق الملكية ويرشدان من عملية خلق الطلب..إلخ، لكن بالنظر إليهما معًا فهما يظهران الطريقة التي يمكن بها للتقنية أن تتيح لمستخدميها المزيد من الاستهلاكية والاستهلاك؛ إذ ينتشران دون فحص إيديولوجي تجريه عليهما عملية [الاستهلاك التقليدية]. في هذه الحالة يمكن للمستخدمين أن يغضوا الطرف كل حين عن القطب الآخر [التقليدي] ويروا سلوكهم بعين الرضا. وهو ما يؤدي بدوره إلى تكثيف الاستغلال والتسليع والنفايات والتدهور البيئي وجميعها متوطنة في المجتمع الاستهلاكي.

تتحول (النزعة المضادة للاستهلاك) إلى العلامة المسلعنة "ضد الاستهلاكية" باعتبارها نمطًا حياتيًا واعتقادًا خرافيًا بأن خيارات المرء الاستهلاكية مستقلة، ومتجاوزة للمنطق الذي يحكم هؤلاء المستهلكين الآخرين بشكل ما. كما انتهى البحث عن مخرج "أصيل" من تسويق الذات إلى استغراق المرء في منطق تسويق العلامة التجارية، كما جعل البحث عن طريقة "أصيلة" لتنظيم حياة المرء -بعيدًا عن "الاستهلاك التفاخري"- منها غير محدودة ونافية لنفسها، فقد أفشَلَ كل اختيار لصورة مثالية كل خيار مثالي آخر. لقد أصبحت عملية الاستهلاك خيارَ المستهلك [ظاهريًا]؛ والاستهلاكية والاستهلاك قد اندمجا مع بعضهما مجددًا، حتى يأتي تطور تقني جديد يعد بفصلهما مرة أخرى وتبدأ الدورة من جديد.

وكذلك استهلاك الفن نجده عالقًا في نفس المعضلة: ما من عمل فني يبلغ من "الأصالة" ما يمكنه من تجاوز عملية التقييم الاجتماعية (ذلك أنه ليس عرضة للاستهلاك الخالص بخلاف الخيار الاستراتيجي اجتماعيًا). وكذلك، لا توجد عملية فنية نزعت عنها المادية بدرجة تمكنها من تجنب تشوهات تقييم السوق. قد ننظر إلى الفن على أنه استرواح من الاستهلاكية، على أنه فرصة للانغماس في تأمل غير مكترث، لكن نفس الصفات التي تجعله يبدو مخرجًا من الاستهلاكية هي ما تجعله أفضل دافع ممكن لها.

إن النزعة المضادة للاستهلاكية الخالصة لم تعد إلا استهلاكية مكتملة.


1 باختصار، يقوم تحليل جان بودريار للمجتمع الاستهلاكي على أساس سيميائي من العلاقة بين الدال والمدلول، الرمز / الصورة والحقيقة / الواقع، إذ يرى انفصال الدال عما يحيل إليه من مدلول وتبدل إحالته من الواقع إلى المصطنع. فثمة مسار لعلاقة الصورة بالحقيقة، تبدأ من عكس الصورة للحقيقة، ثم حجب وتشويه الصورة للحقيقة، ثم حجبها لغياب الحقيقة، ثم تكون بلا علاقة مع الحقيقة فتكون اصطناعها الخالص. والمجتمع الاستهلاكي عند بودريار في المرحلة الأخيرة مرحلة موت الواقع والاصطناع، الذي يختلف عن الإخفاء والتظاهر في أن الأخيرتين تنطويان على إحالة لواقع موضوعي، بينما الاصطناع يلغيه باختراعه واقعًا لذاته هو صورة متكررة عن واقع أصلي لم يعد موجودًا. على هذا الأساس يضع بودريار ثنائية بين نوعين من الحضارات الأولى تقوم على الثقافات الرمزية، والثانية على الثقافات المعولمة القائمة على التبادل (بما في ذلك تبادل الرموز بحيث لا يحيل الرمز إلى مدلول). للمزيد: جان بودريار: المصطنع والاصطناع، ومقدمة المترجم: جوزيف عبد الله، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2008 - المترجم

2 حرفيا: الاستهلاك هو شريحة اللحم، والاستهلاكية هي رائحة طهوها، steak and sizzle وهي أحد مبادئ التسويق التي وضعها إيلمر ويلر مفادها ألا يهتم المسوِّق بالحديث عن ذات المنتج بقدر اهتمامه بالحديث عن تجربة المستهلك معه، فما يبيع اللحم ليس الحديث عن الأبقار بل رائحة شوائه - المترجم