أورهان باموق: جنيف 1959
نص لأورهان باموق
نُشر في النيويوركر 3 يونيو 2019
عن ترجمة: إيكين أوكلاب إلى الإنجليزية
ترجمة منار شريف
جرت هذه الترجمة ضمن أعمال مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) – 2020
الترجمة خاصة بـ Boring Books وسيلاس اﻹسكندرية
تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.
سُجِلت أنا وأخي şevke (شِوكِت) بمدرسة فرنسية بسويسرا في سبتمبر عام 1959، فوالدنا Gündüz (جوندوز)، المهندس التركي البارع في الرياضيات عُيّن في شركة آي.بي.ام. فرع جنيف، ومنذ وصولنا من إسطنبول في يونيو، قامت أمي بمحاولات مستميتة لتعليمنا اللغة الفرنسية. درست أمي اللغة الفرنسية بمدرسة Dame de sion (دام دو سيو) الكاثوليكية بإسطنبول؛ لذا كانت فرنسيتها جيدة، لكنها ليست مُعلمة. كان من الصعب أن تفرض أي نوع من الانضباط على ولدين مشاكسين بعُمر السابعة والتاسعة، تُرك لها أمر تعليمهما لغة جديدة معًا في نفس الوقت.
كان هناك عدد من الأطفال الأجانب في المدينة لا يتحدثون الفرنسية مثلنا، رأيناهم على شاطئ بحيرة جنيف، في المتنزهات، في الشوارع. ألم يكن التحدث مع زملائنا في المدرسة كافيًا لتعليمنا اللغة الفرنسية؟ بالإضافة لانشغال أمي كفاية بتلبية احتياجاتنا واحتياجات البيت، فلم يُمثل عدم تعلُمنا الفرنسية منها مشكلة.
بعد أن أوصلتنا أمي في اليوم الأول من المدرسة، شعرت بإحساس من الخوف، واستنزفني. في ساحة المدرسة، فُصلت عن أخي ووقفت مع باقي تلاميذ الصف الثاني، مع دخولنا الفصل الذي كان نظيفًا ولامعًا، دخلت المُعلمة مُبتسمة للجميع، وسرعان ما بدأت في شرح بعض الأشياء. أحيانًا، كانت تكتب شيئًا على السبورة، لكن لم أقدر حتى على تخمين معناه. ولأن بقية التلاميذ لم ينقلوه في كراساتهم، لا أنقله أنا ايضًا. بطرف عيني، كنت ألمح ما يفعله شريكي في المقعد، لكن لا أنظر له مباشرةً. كل من في الفصل كان لديه ما يقول، تسأل المُعلمة فيجيب الطلاب.
مساءً في البيت، فتحت أنا وأخي مقالم مصنوعة من بلاستيك يشبه الجلد، تلقيناها في المدرسة، أخذنا نستعرض الممحاة والقلم الرصاص والمبراة ومسطرة صغيرة.
اليوم التالي في الفصل، شعرت بوحدة أكبر. بين آن وآخر كنت أمسك بالقلم لأتظاهر بتدوين شيء من السبورة، لكني كنت أضعه ثانيةً. لم تكن هناك كلمة مميزة عن غيرها، وكانت المعلمة والطلاب يتحدثون بشكلِ مستمرِ. لم أستطع مواكبة ما يحدث حولي، وبدأ ذلك يوترني. كنت أنظر من النافذة متمنيًا أن أجد نفسي في البيت أقرأ صفحات كرة القدم من الجرائد الواردة أخيرًا من تركيا.
في اليوم التالي، تكرر الشعور بالوحدة. لم أستطع التقاط اللغة التي يتحدث بها كل من حولي بشكل طبيعي، وأشعرني ذلك بالحماقة والتخلف. كنت كمن عَلِق في دوامة بحر. بلا مُرتكز أو نقطة بداية. فكرت أحيانًا بأن ذلك الوقت لن يمر، أحيانًا تخيلت أنني شخص آخر في مكان آخر. أحيانًا كان يلاحظني شخص ما وينظر لي، لكني كنت أخجل عندما يضبطني أحد في شرودي العميق.
أصبحت أقضي وقتًا طيبًا منذ أن تعلمت القراءة والكتابة في العام الماضي. كنت أقرأ بصوت عالٍ أي إعلان أو رسوم على الحوائط تقع عليه عيناي. هذا ما ظللت عليه في جنيف، تهجئة أي مجموعة من الأحرف أصادفها: كلمات مثل مارتيني، بيكون، ايسّو، هيلفيتيا. كذلك الأرقام، التي كانت أساس دروس الفرنسية التي أعطتها لنا أمي في الصيف، لكني عانيت من صعوبة في تمييز أي منها من وسط الكلام الذي يُقال لنا في الفصل. كل كلمة في المنزل تبدو كطائر غريب ومتفرد، لكن في المدرسة تبدو كسرب من الكلمات تهوي من السماء. ما من طائر مميز عن غيره. في الأوقات التي كان شعوري بالعزلة في الفصل يتزايد، كنت أتوق لرؤية أخي في فناء المدرسة أثناء الفسحة. كنا نمسك بأيدي بعضنا أحيانًا. كان أخي أصغر بأسبوع على الالتحاق بالصف الرابع، كنا ما زلنا في إسطنبول في العام الذي كان يستطيع الالتحاق فيه، لذا سُجل بالصف الثالث. كان يعرف الأرقام بالفعل، وقد ذاع صيته في فصله بمقدرته على العد تنازليًا بثلاثة أرقام.
أعلنت بعد يومين، أثناء ما كانت أمي تجهزنا للمدرسة، "لن أذهب"، وخفضت رأسي ولم أستجب لأي من مُحايلات أمي أو أسئلتها.
"أنا سأذهب" قالها أخي، فأسرعوا بالذهاب.
أثناء وحدتي في البيت، أدركت أننا لو كنا في إسطنبول، لما سايرتني أمي في ذلك. مع أنه سُمح لي بعدم الذهاب، إلا إني شعرت بالغيظ. في السنوات التالية، تغيبت عن المدرسة عدة مرات، في كل مرة كانت تجتاحني نفس مشاعر الوحدة والذنب.
بعد ثلاث سنوات، أعلن أبي أن العيش مع جدتنا في تركيا أفضل لي ولأخي. وهكذا تركنا المدرسة الفرنسية.
ولم نستطع أبدًا تعلم الفرنسية.