الأصالة اللامتناهية لجورج بيريك

مقال لباول جريمستاد

ترجمة: أحمد فتحي إسماعيل

نُشر في النيويوركر

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


جورج بيريك، عن wikimedia

.حتى وإن لم يكتب جورج بيريك روايته «الاختفاء» «La disparition»، الرواية التي تخلو من حرف «E» والتي نقلت بخاصيتها تلك إلى الإنجليزية تحت عنوان «الفراغ» A Void، حتى لو لم يحدث ذلك، لظل بيريك واحدًا من أكثر الكتاب غرابة في القرن العشرين.

تتضمن أعماله أطروحة حول لعبة Go الورقية، مسرحية إذاعية عن ماكينة تحلل الشعر، سيرة ذاتية في شكل رواية عن مدينة كاملة من الرياضيين، قائمة من حوالي ألف ومئتي كلمة تقرأ من الجهتين، تشريح ماركسي متخف لباريس الاستهلاكية، بحث تاريخي متناهي الدقة عن لوحة خيالية مقدسة، قائمة مهام شديدة الغرابة (تتضمن «اشتر عددًا من الأجهزة المنزلية» و«سافر على متن غواصة»)، مذكرات من أربعمائة وثمانين جملة لا علاقة لإحداها بالأخرى، يبدأهن جميعًا بـ«أتذكر»، قصة قصيرة ليس فيها حرف متحرك سوى حرف «E»، دراسة شاعرية عن جزيرة إليس، بالإضافة إلى أحجية كلمات متقاطعة أسبوعية في جريدة Le Point بدءًا بعام 1976 وحتى وفاته بالسرطان في 1982. سيكون من الصعب أن نختلف مع إيتالو كالفينو حول أن بيريك «لا يشبهه أي أحد على الإطلاق»، أو أن نختلف مع بيريك نفسه حين قال في مقابلة قبيل وفاته بعدة سنوات أنه لم يكتب نفس الشىء مرتين أبدًا.

بعيدًا عن تجميعاته تلك المكونة من ألعابه المجنونة، غالبًا ما تواجه كتابات بيريك الحقائق التاريخية الأكثر ترويعًا. وبدا أن فقدانه لوالديه مبكرًا دون حتى أن تسنح له فرصة التعرف عليهما -قتل والده برصاصة ألمانية وأرسلت والدته إلى أوشفيتز وقتل كلاهما قبل أن يبلغ بيريك التاسعة من عمره- بدا أن ذلك سيكون أكثر إيلامًا كلما تقدم به العمر. حرف «E»  المفقود على امتداد روايته «La disparition» لا يمكن تفريقه صوتيا عن الضمير «eux» «هم»، بالتالي «هم» مفقودون -وعنوان الكتاب مأخوذ من acte de disparition  وهي الوثيقة الرسمية التي تلقاها بيريك من وزارة الحربية تخبره أن والدته مفقودة منذ فبراير 1943.

ويتضح أن روايته عن مدينة/جزيرة الرياضيين ما هي إلا استعارة مموهة بالكاد عن معسكرات الاعتقال. الدراسة الشعرية عن جزيرة إليس هي خيال ينعى ما كان ليحدث لو أن والديه -من بين كثيرين- استطاعوا أن يعبروا المحيط.

كان بيريك وريثًا شرعيًا للرايمونديين الفذين -رايموند روسل ورايموند كونو[1]، وكهؤلاء المحنكين عمل بيريك على تحرير العوالم الغريبة والمتشنجة للغة، ومع هذا، لا يمكن فصل تشكيلاته، حتى الأكثر صعوبة منها، عن رهافة حادة للمعاناة الإنسانية. وهنا نسأل: هل من الممكن التعبير عن تلك القسوة اللامتناهية باستخدام أحجية جيجسو (Jigsaw) وأريحيتها الطفولية؟

تسجل أولى روايات بيريك الصادرة عام 1965 «الأشياء: حكاية من الستينيات»  تقلبات جيروم وسيلفي صعودًا وهبوطًا (يغلب عليهما الهبوط)، وهما موظفان يتهافتان على نيل مكانة في «العالم الغريب واللامع، هذا الكون المبهر لثقافة السوق».

يعمل التعديد المستفيض لمكونات الشقة الأنيقة التي يحلمان بامتلاكها في الفصل الأول كمؤشر مبكر عن ولع بيريك بكتالوجات المسميات وتلذذه بتكوين القوائم. عندما تحصل سيلفي على وظيفة كمدرسة في إحدى المدارس التونسية، يرى الثنائي فرصتهما في الهروب من ذلك السباق الحيواني الاستهلاكي، ليجدا نفسيهما في متاهة من الشوارع القديمة، حينها فقط تبدو مخاوفهما المادية، في ذلك المكان شديد الفقر، منحطة تمامًا. تبقيهما بعض الأشياء الباريسية -صف من إصدارات Pléiade، مشغل موسيقى وبعض الإسطوانات، خريطة بحرية قديمة معلقة على الحائط- متمسكين، وإن كان بنوع مختلف من التلهف، بآمالهما في مستقبل مترف. ما يمنع الرواية أن تكون مجرد إدانة للمادية الفجة (رغم كونها كذلك فعلًا) هي قدرة بيريك على التقاط الظلال الرفيعة للعادية، مما يجعلها تقرأ باعتبارها نواة أولية لروايات التفاصيل الدقيقة مثل رواية الميزانين The Mezzanine لنيكولسون بيكر. للرواية أيضًا نبرة مضللة فهي تأخذ موقعها في مكان ما بين التوثيق التفاعلي engagé documentary وبين التنقيب الذوقي archaeology of taste.

حازت رواية «الأشياء» على جائزة رينودو واتبعها بيريك عام 1965 بنوفيلا مدهشة وغريبة، «من مسح القضيب اليدوي المطلي بالكروم خلف الباحة؟»، وتلك النوفيلا ضمن أشياء أخرى عديدة هي إعادة توجيه ازدرائية لمصطلحات استطرادية التقطها بيريك أثناء حضوره العبثي لمحاضرات رولان بارت. «رجل نائم» التي نشرت عام 1967 هي الخليفة الحقيقية لرواية «الأشياء». رويت بلسان المخاطب الثقيل، «أنت« «tu»، التي استعملها بيريك. كانت كترس متبلد يلعب البينبول ويذهب للسينما على نحو عشوائي، يشرب نفس النسكافيه الفاتر ويطلب نفس قطعة اللحم المشوية الغليظة والبطاطس المزيتة والنبيذ الأحمر الرخيص من نفس الحانات، يحملق في شروخ سقف شقته، يلعب الورق، تأتيه هلاوس بصرية حيث تتحول الأضواء الشريطية إلى نمور تتموج فوق رأسه.

بعض من هذه الأشياء يقع في المنطقة الخاصة بصمويل بيكيت، وأحيانًا يبدو أنها أقرب للسرد المعذب للذات الخاص برواية «الجوع» لكنوت هامسون، وفي أحيان أخرى إلى سلبية الزومبي الفعالة في «بارتلبي النساخ» رواية ميلفيل، وهي حكاية سيرجع إليها بيريك فيما بعد.

أصبح بيريك عضوًا في مجموعة أوليبو Oulipo group التي تضم كتابًا وعلماء رياضيات، وبدأ بعدها بالتجريب بشكل معلن مستخدما قيودًا على التأليف. كما هو واضح، فإن فكرة وضع قيود جزافية لخلق الأعمال الفنية ليست مستغربة: التفعيلات الخماسية، البناء الشعري، مفتاح الـ B-flat، قطعة قماش الرسم المشدودة، شاشة عرض الأفلام محددة الأبعاد، كل هذه أشكال مختلفة من القيود.

بالنسبة لبيريك، فإن كتابة رواية كاملة بدون حرف «E» وهي أكثر محاولاته أوليبية لدرجة أن وضعتها مجموعة أوليبو مباشرة تحت عنوان مقياس الحذف الخاص بهم Lipogram، بالنسبة إليه فإن هذه الرواية لا تمثل تجربة معملية على غرار تجارب الساحر هوديني الاستعراضية بقدر ما تمثل أداة لاستخراج الأفكار. وكما عبر عن ذلك دايفيد بيلوز في كتابه الممتاز لسيرة حياة بيريك، «جورج بيريك: حياة من الكلمات»،  حين قال: «بدأ بيريك الـ lipogram العملاق الخاص به بمعقولية كافية حيث جمع كل الكلمات التي لا تحتوي على حرف (E)  يومًا بيوم، ثم دونها في ملفات مصنفة حسب استخداماتها السردية المختلفة». ألف بيريك هذه الرواية أثناء الثورة الطلابية عام 1968 وعكست حبكتها الدولة البوليسية وأحداثها، حيث يتعرض الشباب للمضايقات، وكذلك تحديها للنظام (الأبجدي) الحاكم، عكست كل هذه الأشياء ما كان يحدث في باريس وقتها. وكان من خلال مجموعة أوليبو أيضًا أن أبرم بيريك صداقة طويلة الأمد مع الكاتب الأميركي هاري ماثيوز، الذي ترجم له بيريك بعض رواياته إلى الفرنسية. وبدوره أبدى ماثيوز إعجابه الشديد بما سماه حس بيريك الفكاهي العميق.

أخبر بيريك محرره موريس نادو في عام 1969 أنه يخطط لكتابة رواية مغامرات تصدر كسلسلة مجزأة على غرار قصص جول فيرن. وكانت النتيجة هي رواية «W: ذكرى الطفولة» وهي حكاية عن تحطم سفينة وكذلك سيرة ذاتية متخفية وأيضًا فانتازيا غرائبية وتفصيلية عن مدينة على جزيرة أرض النار Tierra del Fuego، تتمحور بالأساس حول منافسات رياضية مشؤومة يرتدي فيها الرياضيون أطقمًا مطرزة بالحرف «W». وإذا كانت الرواية تقع ، بانطباعها المبدئي، في مكان ما بين جمهورية أفلاطون وبين «مباريات الجوع»[2]، فإن سرد الأحداث يدفع بها رويدًا بصبر نحو دراسة إثنوغرافية عن تخيل أقرب لمعسكرات الاعتقال النازية، يكشف عنها نظام المكافأة والعقاب الهرمي للمتنافسين -يحتفي بالفائزين ببذخ يتخمهم عن المشاركة في اليوم التالي ويهان الخاسرون أو حتى يعذبوا أو يقتلوا بصورة منهجية. ومجددًا تنكشف التفاصيل الأكثر ترويعًا من خلال أكثر الألاعيب سخافة، فعن طريق بعض التبديلات في الرسم يمكن لحرف الـ «W» في العنوان أن يتحول إلى نجمة داوود أو صليب النازية المعقوف على حد سواء.

طوال حياته ككاتب تقريبًا، اشتغل بيريك في الأرشفة الطبية وبدا أنه يستمتع بتلك الوظيفة دنيئة الأجر لمجرد تلذذه بتصنيف الأشياء. «الحياة: دليل المستخدم»، رائعته الصادرة عام 1978، تنقب عن القدرة الفاتنة للتصنيف على الاختزال. تكونت العوالم المبقعة اللانهائية لرواية «الحياة»، أطول روايات بيريك وأكثرها تشعبًا، عبر وضع قيود أكثر تعقيدًا من مجرد حذف حرف متحرك. أراد بيريك ولمدة سنوات أن يحبك رواية تدور في حدود بناية سكنية، وتوصل إلى ذلك عن طريق إدماجها بأسلوب «جولة الحصان» التي اكتشفها في قاموس للشطرنج، وهي الحركات التي لا بد وأن يقوم بها الحصان ليحط على كافة مربعات رقعة الشطرنج دون أن يمر على أي خانة مرتين.

الكثير من الفصول الناتجة عن ذلك الأسلوب في رواية «الحياة» تتضمن حكايات مبهرجة لا تضيف شيئًا. يعمل بيرسيفال بارتليبوث -مزيج من نساخ ميلفيل (بارتلبي) مع مليونير فاليري لاربو غريب الأطوار (بارنابوث)- وهو الشخصية الرئيسية في الرواية، على ذلك المشروع حيث يرسم سلسلة من لوحات مائية يرسلها إلى رجل لكي يحولها إلى أحجية جيجسو ثم يسترجعها بارتليبوث ثانية ويستعيد صورتها الأصلية. يحكي فصل آخر عن رجل وظيفته هي أن يبحث في دار لاروسيه المختصة بالقواميس والمعاجم لكي «يقتل» الكلمات التي لم تعد تستخدم كثيرًا، مثل كلمة schuele (قطعة من الخشب في نهاية عمود تستخدم لتسوية الجرجير في الخنادق المغمورة) وكلمة ursuline (سلم صغير يؤدي إلي منصة ضيقة يصعد عليه الماعز المدرب من قبل الغجر في معارضهم). يقرر الرجل، بعد قتل مئات آلاف الكلمات من هذه العينة، أن يؤلف قاموسًا يتكون حصرًا من هذه الكلمات التي أبادها. يتراكم التدفق الاعتباطي لهذه الحكايات في تسعة وتسعين فصلًا لتشكل رواية «حياة»، كموسوعة هائلة من العادية المنحرفة. وإذا كان مفهوم الرواية، كما تصفه فيرجينيا وولف على نحو رائع «كشبكة العنكبوت.. تتصل بجميع أركان الحياة الأربعة»، فإن «حياة» تتصل بها بزوايا على درجة من الغرابة تكفي لكي تبدو لاإقليدية.

قبيل وفاته بقليل، كان بيريك منشغلا بروايته «53 يومًا»، أحجية من نوعية «من فعلها؟» على غرار أسلوب أجاثا كريستي. ويبدو أن تناوله لجريمة القتل الكلاسيكية الملغزة تلك جاء على شاكلة لعبة كلو Clue الورقية بتخطيطها الأفقي لنزل ريفي بغرف متراكبة وأسلحة وضحايا وجرائم قتل. لم ينه بيريك سوى أحد عشر فصلًا من فصول الرواية الثمانية وعشرين المفترضة، وعمل ماثيوز وصديقه جاك روبو، باستخدام الهوامش التمهيدية التي كان بيريك يتلاعب بها، في حبك تصورهما الافتراضي، وذيلا كثيرًا من المفاجآت والتباديل في الحواشي بالإضافة إلى الرسوم والتوضيحات. يحكي الجزء الذي أكمله بيريك عن مدرس رياضيات في دولة بوليسية خيالية في شمال أفريقيا، عهد إليه بمخطط لكاتب الألغاز روبرت سيرفال والذي يحتوي على خيوط تفسر اختفاء سيرفال المفاجئ. فيما بعد سيعثر عالم الرياضيات المحقق -خلف مدفأة ببيت أحد المشتبه فيهم- على رواية بعنوان «القاضي هو القاتل» مبنية إلى حد ما على رواية أجاثا كريستي «ثم لم يبق أحد»، ثم تبدأ من هنا عرائس الماتريوشكا بالظهور واحدة تلو الأخرى، تاركة القارئ في متاهة من أنصاف الأدلة (اعتمادًا على ذوقك الشخصي ستجدها إما ممتعة أو خانقة). كل ذلك أثمن من أن يؤلف على سبيل الاستعراض الخيالي المتجاوز فقط، وبالفعل فقد نجح الجزء الذي أكمله بيريك كقصة إثارة وتشويق. ويجب علينا، عندما نبدأ في الأجزاء التي لم يسعف بيريك الوقت في إكمالها، أن نحقق بأنفسنا لنتصور كيف كانت لتؤول الأحداث في مخيلته لو امتلك الوقت لإنهاء الرواية قبل أن يموت.

رغم افتخار بيريك بأنه لا يكرر ما كتبه مرتين، إلا أن ذلك لم يمنعه أن يعود، كما لو أنه يدور في فلك دائري، إلى هوسه ذاته: الدولة البوليسية، المواطنون المختفون، الوحشية المنظمة، الهشاشة الإنسانية.

تتشكل هذه التيمات المتكررة عبر سلسلة من الكتب شديدة الغرابة، كل منها متفرد في قالبه وآليات تكوينه. يشكلون معا رفض بيريك على مدار عمره امتثالًا من أي نوع للتنظيمات الصارمة ذات المشية العسكرية (أوليبو هي المجموعة الوحيدة التي انضم إليها بيريك، وحتى هناك كان يعد من غريبي الأطوار). ويبدو أن تحسس بيريك الشديد تجاه التماثل المحبط لثقافة السوق وانتشارها الاستهلاكي، والتي تنزع إلى تقليص خصوصيات التجارب إلى تعميمات طيعة (ومربحة)، يبدو أن ذلك يجعله يبلغ مكانة محورية في زماننا الحالي. تتقابل حياة بيريك القصيرة وشديدة الخصوبة مع حياة متسلقي المهن careerists الحذرين والذين يبرزون سريعًا ويلتصقون بالأساليب المعهودة خوفًا من إرباك العملاء المأمولين. كل واحد من أعماله بمثابة مباغتة مفزعة، عمل ذاتي وغير اعتيادي بالمرة، لن يجني من قرر قراءته حسًا جديدًا بما هو ممكن في الأدب فحسب، وإنما كذلك حسًا بمدى الغرابة والإثارة والتسلية التي يمكن للأصالة الحقيقية أن تكون عليها.


 [1]  رايموند روسل شاعر وروائي فرنسي لعب دورًا هامًا في الحركة الأدبية في فرنسا في القرن العشرين، رايموند كونو هو شاعر وناقد فرنسي وأحد مؤسسي حركة أوليبو الأدبية.

[2]  مباريات الجوع هي سلسلة روايات ديستوبية ألفتها الروائية الأمريكية سوزان كولينز وتحولت إلى ثلاثية أفلام بنفس العنوان.