نيللي حنا ومهمة التأريخ الجنوبي
مقال ﻷسامة دياب
مراجعة كتابين للمؤرخة المصرية نيللي حنا عن التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لمصر العثمانية، اﻷول«حرفيون مستثمرون: بواكير تطور الرأسمالية في مصر» ترجمة كمال السيد عن المركز القومي للترجمة - 2011 والثاني «مصر العثمانية والتحولات العالمية 1500-1800» ترجمة مجدي جرجس عن المركز القومي للترجمة - 2016
المقال خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
ما يميز التاريخ عن السرد البسيط للأحداث هو عنصري الدراما والتطور. باستعارة لغة الأدب يكون التاريخ مثل العمل الدرامي عبارة عن أحداث بها صراع وجدلية وتطور، وليس مجرد متوالية من أشياء تحدث. ربما لن يكون هذا مستغرَبًا عند النظر لأصل كلمة «تاريخ» في اللغات اللاتينية (histoire في الفرنسية وstoria في الايطالية على سبيل المثال) والتي تعني «قصة» و«دراسة التاريخ» في نفس الوقت.
لو جاءت لحظة وخلا فيها العالم من الدراما والتطور، سيكون هذا بمثابة نهاية التاريخ كما أعلن عنها في بداية التسعينيات المُنَظِر السياسي فرانسيس فوكوياما في كتابه الشهير «نهاية التاريخ والإنسان الأخير». استند فوكوياما في حجته بنهاية التاريخ إلى انهيار الاتحاد السوفيتي وبالتالي سيادة النموذج الغربي الليبرالي كمرحلة أخيرة في التطور الإنساني لا يمكن تجاوزه، فالعالم بدون صراع وتناقضات وجدليات وتطور يكون قد وصل لنهاية التاريخ.
لكن كما أن للتاريخ وفقًا لهذا المنظور نهاية، فله أيضًا بداية في بعض الأماكن وفقًا لبعض السرديات التاريخية. كما كان الثبات المتوقع ونهاية التطور حجة فوكوياما على نهاية التاريخ، فهناك أيضًا ثبات مزعوم وجد في السابق قبل اتصال العالم خارج أوروبا بالمستعمر الأوروبي، وهذا الثبات وعدم التغير المزعوم عادة ما يوحي بأن التاريخ بدأ مع وصول الرجل الأوروبي. هذا بالطبع لا يقال صراحة ويتم التلميح فقط به عن طريق تركيز أغلب جهد التأريخ في الكثير من دول الجنوب على مرحلة الاستعمار وما بعده.
تختلف أيضًا حدة نفي التاريخ من مكان لآخر، فيقول إيمانويل والرشتين في كتابه «مدخل إلى تحليل النظم العالمية» World-Systems Analysis: An Introduction، أن الأفراد المنتمين للمجتمعات التي كان ينظر لها على إنها مجتمعات «بدائية» كانت تُعامَل على أنها مجتمعات بلا تاريخ قبل احتكاكها الاستعمار والذي عرضهم للاحتكاك الثقافي الخارجي ومن ثم التغير الثقافي. هذا التغيير، وفقا لوالرشتين، يعني أن الباحث الاثنوغرافي حاول عادة إعادة تصور العادات كما كانت قبل هذا الاتصال الثقافي (الذي كان حديثًا نسبيًا وقتها)، ثم توصل إلى افتراض أن هذه العادات كانت موجودة منذ الأزل حتى فُرِض الحكم الاستعماري (ص 21).
يرى والرشتين أن حدة نفي التاريخ كانت تقل في المجتمعات التي كان يُرى أن لها حضارات قديمة مثل الهند ومصر والصين، لكن بالرغم من وجود حضارات قديمة كان يتم التعامل مع تلك المجتمعات على أن تاريخها توقف لفترات طويلة، وتحرك مرة أخرى فقط بعد الاتصال بالحضارة الأوروبية الحديثة، فالجنوب في هذه الرواية ليس له تاريخ مستقل عن الوجود الأوروبي. ينبغي بناء على ذلك لأي مهمة جادة لصياغة تاريخ لدول الجنوب أن ترصد التغيرات والتطورات السابقة على عصور الاستعمار الأوروبي في مجتمعات الجنوب. تنجح المؤرخة المصرية نيللي حنا في هذه المهمة بامتياز، ليس فقط في تأريخها لفترة مصر العثمانية السابقة على الحملة الفرنسية ووصول محمد علي للحكم، بل أيضًا في أسلوب هذا التأريخ.
المهمة الثانية التي تقوم بها حنا هي تطوير خطاب يواجه المركزية الأوروبية لكن دون الوقوع في فخ رطانات الاستثنائية القومية التي دائمًا ما تعتمد على تصدير خطاب عن استثنائية مجتمع معين من البشر. الاستثنائية الموجودة في حالة الطبيعة/شبه الطبيعة بشكل عام منزلق خطير، لأنه يفتح المجال أيضًا لخطابات الاستثنائية السلبية الموجودة في حالة الطبيعة/شبه الطبيعة. لذلك من الممكن أن يؤدي التأريخ ذو النزعة الوطنية بهدف إظهار عظمة ثقافة معينة وتفوقها الطبيعي على ثقافات أخرى للعكس تمامًا. المهمة إذن هو رصد التشابه لا التباين في التجارب، والتأكيد على أن التشابه بين البشر ومجتمعاتهم يتخطى بكثير التباين، وبالتالي لا مجال للحديث عن تفوق ثقافي في حالة الطبيعة أو شبه الطبيعة خارج مجالات الصدفة التاريخية.
وأخيرا تتحدى حنا هيمنة المركزية الأوروبية في التاريخ عن طريق الاهتمام بالاقتصاد والعقلانية وإدارة الموارد وتنظيم العمل في مجتمعات الجنوب في مرحلة ما قبل الاستعمار، في مقابل السردية الأوروبية التي عادة ما تظهر الذات الجنوبية على إنها ذات عاطفية/ثقافية أسيرة للعادات والتقاليد الأصيلة والثابتة في مقابل الرجل الأبيض الاقتصادي/العقلاني/الديناميكي. هذا التركيز ليس بغرض الترويج للحتمية الاقتصادية لكن لتحدي ثنائية العقل/العاطفة التي شكلت خيالنا الجمعي الحديث، التي عادة ما تربط العقلانية والتطور بالمراكز الرأسمالية في الغرب والشمال، بينما تربط العاطفة والتقاليد بأنظمة الأطراف الرأسمالية في الشرق والجنوب.
أُثبِت أيضًا في العقود الأخيرة زيف هذه الثنائية بواسطة العديد من الأبحاث التي تتناول دور العواطف في اتخاذ القرار الاقتصادي متحدية «نظرية الاختيار العقلاني» القائلة بأن قرار الفرد عادة ما يعتمد على حساب للمكاسب والخسائر، وعلى مفاضلات بين الخيارات المتاحة للوصول للخيار الذي يحقق أكبر قدر من المنفعة لصاحبه. تم توجيه نقد مكثف لتلك الثنائية لإهمالها دور العاطفة في عملية اتخاذ القرار وفي توجيه الأفعال بشكل عام. في مجال الاقتصاد فقط ظهر في العقود الأخيرة مجالان أكاديميان على الأقل يبحثان في دور العاطفة في اتخاذ القرارات وهم الاقتصاد العصبي والاقتصاد السلوكي.
توجد أيضًا نظريات أخرى في علم النفس مثل «النظرية العقلية للعواطف» تحاول أن تفعل العكس، أي البحث في المحددات العقلانية للفعل العاطفي. من أبرز دعاة هذه النظرية الفيلسوف الأمريكي روبرت سولومون الذي يذهب لأن العواطف –مثلها مثل المعتقدات– تخضع لتقييمات ومراجعات عقلانية. يقول سولومون أنه غير صحيح أن العواطف لا تخضع للإرادة كما يذهب الظن الكلاسيكي لكنها «أحكام إرادية» أو على الأقل بها بعد إرادي.
التاريخ الاجتماعي لحداثة مصر المبكرة
قامت نيللي حنا بسد فجوة كبيرة في التاريخ المصري، ليس فقط عن طريق توثيق حقبة لا نعلم الكثير عنها كالحقبة السابقة على قدوم الحملة الفرنسية الممتدة من القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر في مجموعة من الكتب المهمة، لكن أيضًا عن طريق تبني نهج التأريخ الاجتماعي وليس السياسي أو العسكري لتلك الفترة. تتناول حنا هذه الحقبة من زاوية علاقة الحرفيين المصريين بالتطورات التاريخية الهامة في حقبة الرأسمالية التجارية السابقة على (وفي بعض الروايات المؤدية إلى) صعود الرأسمالية الصناعية.
كان الإنتاج غير الزراعي في حقبة الرأسمالية التجارية يعتمد أغلبه على الحرفيين في الورش، قبل ظهور المحرك البخاري والمصنع الحديث وفصل أدوات الإنتاج عن المنتجين في الظاهرة التي من الممكن وصفها بتحويل طبقة الحرفيين إلى بروليتاريا proletarianization of artisans.
تهتم حنا كثيرًا بهذا المنظور وتدرس شكل التجارة والصناعات الحرفية وتحديدًا الغزل والنسيج في تلك الحقبة، لما كان لتلك الصناعة من أهمية في عصور الحداثة المبكرة بسبب كونها الصناعة الرئيسية التي دفعت لقيام الثورة الصناعية الأولى في إنجلترا.
تتحدى حنا الرؤية المركزية الأوروبية للتطور الرأسمالي والتي دائمًا ما تنظر بحكمة الأثر الرجعي بأن الرأسمالية ومن ثم الحداثة نشأت في أوروبا ثم انتشرت إلى بقية العالم من هناك، لكن تجادل حنا بأن جذور التحديث المصري في القرن التاسع عشر، وتحديدًا في فترة حكم محمد على، لم تظهر على الجانب الآخر من المتوسط، لكن في مصر نفسها.
ترى الرؤية المركزية الأوروبية أن هناك نسخة واحدة من الحداثة ظهرت في أوروبا ثم نشرها الاستعمار والتوسع الرأسمالي الأوروبي، لكن حنا تتبنى نظرية الحداثة المتعددة القائلة بأن أنماط مختلفة من الحداثة حدثت في أماكن متفرقة من العالم في نفس الوقت.
تقول حنا على سبيل المثال في كتابها «حرفيون مستثمرون: بواكير تطور الرأسمالية في مصر» Artisan Entrepreneurs in Cairo and Early-Modern Capitalism أن الهند وجنوب شرق آسيا في الفترة السابقة على الثورة الصناعية كانا مركزين مهمين للنمو والعلاقات الاقتصادية والتحالفات السياسية المركبة والمعقدة على عكس تصويرهم كمجتمعات «تقليدية» في الرواية التاريخية الأوروبية (ص 24)، فمثلًا كانت الهند تعتبر «مصنع العالم» فيما يتعلق بصناعة الغزل والنسيج وكانت تصدر ملايين الأمتار من المنسوجات إلى أماكن شديدة البعد كغرب أوروبا وحتى الأمريكتين.
تشير حنا (ص 30-31) أيضًا إلى ظهور ما تسميه «الرأسمالية الحرفية» في القرنين السابع عشر والثامن عشر في القاهرة، ليس فقط على مستوى الحرفي الفردي، لكن أيضًا على مستوى طوائف الحرفيين، التي أثبتت حنا في تحقيقاتها التاريخية أنهم مارسوا قدرًا من التنظيم لماليتهم على أسس رأسمالية عن طريق التوسع الرأسمالي الكبير وإنشاء صناديق مالية للروابط لمجابهة التدخلات الزائدة من السلطات السياسية من جانب والتهديدات المتعلقة بالتوسع الأوروبي من جانب آخر. حدث هذا بشكل خاص في طوائف القطانين التي كانت تعتبر من ضمن الطوائف الأغنى في هذا الوقت بسبب تشكيل المنسوجات لخُمِس الصادرات المصرية في بدايات القرن الثامن عشر. تنوعت وجهات تلك الصادرات من شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء والشام والأناضول، وفي القرن الثامن عشر أصبحت فرنسا واحدة من أهم وجهات المنسوجات القاهرية (ص44-45).
يصعب جدًا هنا القول إن أساليب هذه الإدارة العقلانية والرأسمالية المبكرة للعمل قد جاءت لمصر من أوروبا، لكن كان لها منطق داخلي. تقول حنا أيضًا أن النساء لعبن دورًا هامًا في صناعة النسيج في هذه الحقبة عن طريق الغزل الذي كان من مهام النساء، قبل أن يقوم الرجال بنسجه (ص 64).
يذهب الكتاب أيضًا إلى أن التجار في هذه الفترة تجاوزوا دورهم التجاري البحت وقاموا أيضًا بدور رأسمالي عن طريق اتفاقيات بين التجار والحرفيين يدفع وفقها التجار مبالغ مقدمة لاستلام منسوجات في المستقبل. هذا النوع من الترتيب الذي قام فيه التاجر بتمويل إنتاج المنسوجات (وليس فقط شرائها بعد إنتاجها) أعطاه أسعارًا أقل للسلع التي اعتاد بيعها في الأسواق الدولية (ص 93).
يعني هذا أن «التاجر» لم يقم فقط بدوره كتاجر لكن قام أيضًا بدور الرأسمالي الصناعي والتمويلي في نفس الوقت، فتحولت علاقة التاجر بالحرفيين لما يشبه علاقة صاحب العمل بالعامل وفي نفس الوقت الدائن بالمدين، بالإضافة للعلاقة العادية التي تجمع الحرفي بالتاجر.
ازداد حجم صادرات المنسوجات المصرية بشكل كبير في القرن الثامن عشر، وتقول نيللي حنا إن وفقًا لدراسة المؤرخ أندريه رايموند للأرشيف الفرنسي في مارسيليا، زادت الصادرات المصرية من المنسوجات إلى فرنسا أربعة أضعاف خلال فترة قصيرة تتراوح ما بين عقدين أو ثلاثة عقود، ووصلت في بعض السنوات قيمة الصادرات لمليون جنيه فرنسي وهو ما يعادل نصف الصادرات المصرية إلى فرنسا في ذلك الوقت. تعادل القوة الشرائية لهذا المبلغ مئات الملايين من الجنيهات المصرية اليوم، وطبعًا ستزيد القيمة النسبية لهذا المبلغ عن ذلك كثيرًا إذا أخذنا في الاعتبار حجم الاقتصادات والسكان وقتها مقارنة باليوم، وكان الطلب أيضًا كبير في عدد من أسواق شمال أفريقيا وموانئ البحر الأحمر وشرق البحر المتوسط.
مع هذا التوسع الكبير في صناعة النسيج، زادت محاولات إحكام السيطرة السياسية على الطوائف المرتبطة بها لدرجة أن أعضاء الطبقة المملوكية حاولوا نصب أنفسهم كشيوخ لتلك الطوائف، ونجحوا في الكثير من الأحيان تحديدًا في طوائف الحياكين والخياطين والقزازين (ص 149).
تقول حنا إن هذا التهديد أدى لمستويات عالية من التنظيم والتماسك من قبل الطوائف في مواجهة تلك المخاطر. فعلى سبيل المثال، في قرار للطائفة في عام 1780، قرر أعضاء الطائفة الاجتماع في مكان واحد للعمل والإنتاج وأن يتقاسم الأعضاء الأرباح بنسب محددة. تقول حنا إن هذا الترتيب كان غير معتاد في هذا الوقت بالنسبة للحرفيين، وتظن أن هذه الممارسة كانت بهدف زيادة الإنتاجية والكفاءة والتأكد من معايير ووحدة الجودة.
قد يكون هذا التنظيم الجديد للعمل رد فعل على الابتكارات التقنية الكثيرة التي شهدتها أوروبا في صناعة النسيج في القرن السابع عشر والتي أفضت إلى زيادات كبيرة في الإنتاجية وتنوع أنواع الأقمشة وانخفاض سعرها. يجادل الكتاب أن نمط الابتكار وسط الحرفيين في القاهرة لم يكن في مجال الابتكار التقني لكن في مجال تنظيم العمل بهدف الوصول لنفس النتائج (زيادة الإنتاجية والتنوع وخفض التكلفة).
دعمت طوائف الحرفيين (بالذات تلك المرتبطة بالغزل والنسيج) وصول محمد على للحكم وعاونته على إدارة صناعة الغزل والنسيج الجديدة التي كان يؤسس لها، وأيضا دعمت الثورة العرابية التي عادة ما ينظر لها على إنها أول تعبير وطني حقيقي مُسيس في مصر ضد توغل المنتجات والمصالح الأوروبية، وتعتبر هي التأسيس الحقيقي للمخيلة والدولة الوطنية في مصر. وفقًا لحنا لم يكن من الممكن حدوث ذلك بدون ابتكار أنواع التنظيم التي مارستها تلك الطوائف في القرن الثامن عشر.
اتسمت أيضًا تلك الطوائف بقدر من المرونة التنظيمية. كنتيجة لعدم القدرة على منافسة المنتجات الأوروبية في المناطق الحضرية، اتجه الإنتاج المحلي خارج القاهرة إلى حد كبير وركز أكثر على الثياب التقليدية تحديدًا في الريف والمناطق الأفقر التي لم تتأثر بشكل كبير بالمنتجات والثياب الأوروبية. بالطبع حدوث هذا كان فقط ممكنًا عن طريق خفض الجودة والسعر وهامش الربح مما أثر على ربحية وحيوية وتوسع هذه الصناعة، لكنه لم يقض عليها تمامًا إلى يومنا هذا، واستطاعت الصناعة البقاء برغم كل تحديات العولمة والاستعمار والتجارة الحرة والتطور التكنولوجي. يرجع هذا إلى المستوى العالي من التنظيم الذي بدأ قبل عصر الحداثة/الاستعمار الأوروبي/الثورة الصناعية، وفقًا لطرح حنا.
يرتبط هذا بالطبع بازدياد الفجوة التنموية بين أوروبا وبقية العالم بشكل عام ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، فبقيت في الجنوب صناعات أو أجزاء من صناعات (كصناعة الثياب الريفية التقليدية) تحتوي على هامش ربح ومكون تكنولوجي منخفض مما أعاق عملية التحديث والتنمية على مدار القرنين السابقين. فمن جانب بدأت الأسس التي بنيت عليها مصر الحديثة أبكر مما نعتقد كما تذهب حنا، لكن من جانب آخر بدأت الحداثة غير المكتملة في مصر أيضًا مبكرًا عندما استحدث الحرفيين المصريين وسائل لزيادة الإنتاجية بواسطة أنواع جديدة من تنظيم العمل بدلًا من محاولة زيادة الإنتاجية عن طريق الابتكار التقني كما حدث في أوروبا، وبدأ من حينها دائرة التطور التكنولوجي «الحميدة» هناك و«المفرغة» في مصر.
لم تتناول حنا أسباب هذا الاختيار الحيوي لكنه يظل سؤالًا غاية في الأهمية وفي حاجة إلى تحقيق تاريخي خاصة وأن أغلب التطورات التقنية في صناعة النسيج في العصور الوسطى كانت تحدث خارج أوروبا في الهند والصين والعالم الإسلامي، حتى قيام ويليام لي باختراع آلة الحياكة الميكانيكية عام 1589، وهو التاريخ الذي شكل النقطة الفاصلة التي تحولت عندها دفة التطور التقني في صناعة النسيج إلى أوروبا.
دحض نظرية «الرجال العظماء» في العلم كما في السياسة
ناقشت في القسم السابق تحدي المؤرخة المصرية نيللي حنا لنظرية التحديث من أعلى التي عادة ما تَنسِب تأسيس مصر الحديثة لعصر وشخصية محمد علي. تذهب حنا إلى أن التحديث جذوره سابقة على هذا العهد وعلى عهد الحملة الفرنسية، فلا محمد علي ولا نابليون هم الذين أدخلوا مصر في منطق التطور الحداثي بمفردهم، وهو النهج الذي يمكن اعتباره دحضًا لنظرية «الرجال العظماء» في التاريخ. قامت حنا في نفس الوقت بتحدي نظرية التحديث من خارج، والتي تذهب أيضًا أن بدايات التحديث في مصر كانت بشكل حصري نتيجة لتبني النُهُج الأوروبية في الإدارة والإنتاج والتنظيم والتشريع.. إلخ.
كان هذا محور كتاب «حرفيون مستثمرون: بواكير تطور الرأسمالية في مصر»، لكن تستمر حنا في تحدي ثوابت نظراتنا عن التحديث في كتاب آخر وهو «مصر العثمانية والتحولات العالمية 1500-1800»، وتجادل أن الثورة العلمية لم تكن فقط نتاج عمل حفنة من «الرجال العظماء» في المجال العلمي، لكن المحرك الرئيسي لها كان الخبرات التجريبية والتطبيقية للحرفيين –الذين عادة ما ينظر لهم على أنهم المقابل الموضوعي للعالم الأكاديمي– ليس فقط في أوروبا لكن في الجنوب أيضًا.
تتحدى بذلك حنا تصوراتنا الأفقية والرأسية على حد سواء عن الكيفية التي يحدث بها التطور العلمي والتكنولوجي، فلا هو حدث بشكل رأسي من أعلى لأسفل عن طريق نخبة علمية تنير الطريق للعوام، ولا هو حدث عن طريق التصدير الأفقي للثورة العلمية من أوروبا إلى بقية العالم، أو على الأقل أن الأمور ليست بهذه البساطة والاختزالية. من هذا المنطلق تشكل هذه القراءة نقدًا للقراءة «الانتشارية» diffusionist للتاريخ التي تعتقد بوجود مركز واحد تنتشر منه المعرفة إلى بقية العالم، وكان بالطبع هذا المركز هو أوروبا، بينما كان بقية العالم بمثابة متلقي سلبي للمعرفة الأوروبية.
يستخدم الكتاب لإثبات هذه الرؤية الكثير من الأدلة عن نقل المعرفة التقنية من مراكز صناعة النسيج في الشرق إلى الغرب في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والذي حدث عن طريق إرسال الدول الأوروبية وتحديدًا فرنسا جواسيس إلى مصر وغيرها من المراكز العثمانية لصناعة النسيج لتعلم بعض أسرار الحرفة، وتحديدًا الصبغة والعمليات الكيميائية المرتبطة بالتلوين والتبييض، ففي هذه الفترة كانت أساليب الصبغ والتبييض أكثر تنوعًا وجودة في «الشرق» (الهند والدولة العثمانية) من تلك الموجودة في أوروبا، وكان العديد من الألوان (مثل اللون الأحمر) حكرًا على الأغنياء بسبب ارتفاع تكلفة تلوين الأقمشة بهذه الألوان في أوروبا، وكانت الأقمشة أحيانًا تُرسل إلى الشام لصبغها بهذا اللون الفاخر.
تشمل قصص الجاسوسية الصناعية قصة رجل فرنسي يدعى م. جرانجر أرسله ملك فرنسا إلى مصر عام 1730 لمعرفة طريقة إنتاج ملح النشادر. قبل ذلك بسنوات كانت أكاديمية العلوم الفرنسية قد اهتمت بمسألة إنتاج ملح النشادر بعدما قدم رجلًا كان قد شهد إنتاجها في مصر ورقة للأكاديمية نشرت عام 1720 عن هذه المادة.
في نهاية القرن، قرأ كيميائي فرنسي شهير يدعى كلود لوي بيرتوليه، وهو عضو في الحملة الفرنسية جميع هذه التقارير بعناية شديدة، ووجدها متناقضة وغير مكتملة لدرجة أنه من المستحيل تنفيذ نتائجها. كان بيرتوليه قد اكتشف قبلها بسنوات في عمله المختبري في فرنسا لأول مرة أن الكلور يمكن استخدامه كمُبَيِض. في وقت لاحق، أثناء وجوده في مصر، اكتشف أنه كان العنصر الرئيسي في ملح النشادر بعدما قام بتحليله عن كثب واكتشاف المزيد من التفاصيل عن تكوينه التي لم يلاحظها المراقبون الفرنسيون السابقون.
أحد أسباب عدم دقة المعلومات الواردة في هذه التقارير هو أن البيانات جمعها أشخاص كانت لديهم معرفة قليلة أو معدومة بالحرف اليدوية أو التقنيات التي كتبوا عنها. ومع ذلك، في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، كتب جان أنطوان تشابتال: «الآن نعرف كل شيء عنها ويمكننا إنتاجها هنا اقتصاديًا»، لكن هذه العملية استغرقت حوالي قرن ليُصنع ملح النشادر بشكل صناعي ويُستخدم في صناعة النسيج.
بسبب قيام الثورة الصناعية في إنجلترا، كان من الصعب على فرنسا المنافسة السعرية مع إنتاج انجلترا الغزير، وكانت الصناعة هناك متأخرة عن انجلترا بسبب الاضطرابات السياسية الكثيرة التي شهدتها البلاد في القرن التاسع عشر. من أجل أن تزيد من تنافسيتها، ركزت الصناعة الفرنسية على المنتجات الفاخرة كما ركزت الصناعة المصرية على الثياب التقليدية لمواجهة المنسوجات الإنجليزية، كما ذهبت حنا في كتابها عن الحرفيين المصريين الذي قمت بعرضه في القسم السابق. استفادت صناعة الملابس الفاخرة من المعرفة بأساليب التلوين والصبغ التي تعلمتها من صناعة النسيج «الشرقية».
ترفض حنا في هذا الإطار الأسباب الثقافية التي ميزت النظرة الاستشراقية لتراجع العلوم العربية والتي تعزي هذا التراجع لأن الثقافة الإسلامية تعتقد بأن التفكير العلمي والفلسفي سيبعدان المسلمين عن الله، لما تحتويه هذه النظرة الاستشراقية من نظرة حتمية وجوهرانية غير مدعومة تاريخيًا لا بالنسبة لثبات تاريخ المسلمين ووحدة أنماط تفكيرهم ولا بالنسبة لغيرهم.
تنتقد حنا أيضًا بعض المحاولات التي تعتبر نفسها مناهضة للمركزية الأوروبية مثل نظرية الأنظمة العالمية والتي تنطلق في نقدها للمركزية الأوروبية من أرضية ترى أن الشمال يستغل الجنوب عن طريق حصر دوره في تقديم المواد الخام والعمالة غير الماهرة لدول الشمال، وبذلك تتجاهل النظرية –وفقًا لحنا– عمليات نقل المعرفة والعمالة الماهرة من دول الجنوب إلى دول الشمال.
في النهاية ترى حنا أن هذه الممارسات الحرفية المتجذرة اجتماعيًا ساهمت إلى حد كبير في تطور العلم والتكنولوجيا في العصر الحديث، وتستعين في حجتها بالكثير من الدراسات التي ظهرت مؤخرًا التي تحاول أن تسد الفجوة المزعومة بين الحرف «التقليدية» والاكتشافات العلمية.
من ضمن الأسئلة التي تسألها تلك الاتجاهات البحثية هو عما إذا كان التطور العلمي يحدث فقط نتيجة لعمل نخبة علمية وأكاديمية في سعيها للكشف عن قوانين الطبيعة أم أنها مزيج من العمل النظري الأكاديمي والممارسة الاجتماعية التطبيقية؟ أكدت عادة الإجابات على دور الخبرة التجريبية اليومية للحرفيين كعنصر رئيسي في تطور العلوم الحديثة. بالإضافة لدور الحرفيين الواضح في تطور فهم الكيمياء المرتبطة بالمواد والعمليات المرتبطة بالتلوين والتبييض، يشير الكتاب أيضًا إلى تطورات علمية في مجالات مختلفة من الدواء إلى صناعة العدسات التي اعتمدت على الأقل في بداياتها على الخبرة العملية اليومية لمئات الحرفيين (بما فيهم الحرفيين من دول الجنوب) التي لم تذكرهم أو تعترف بإسهاماتهم القراءات التاريخية التقليدية لتاريخ العلوم ولمجتمعات الجنوب.