حوار مع شيلدون سولومون أستاذ السيكولوچي بجامعة سكيدمور. أمضى سولومون العقود القليلة الماضية يدرس الطريقة التي تؤثر بها أفكارنا عن الموت على قراراتنا وأحكامنا. يحاوره يونان ليرر محرر مايند ماترز Mind Matters حول ما يمكن أن تعلمنا هذه الظاهرة إياه عن الانتخابات المقبلة، والإشارة ساعتها للانتخابات الأمريكية بين باراك أوباما وجون ماكين.

الخوف والموت والسياسة: كيف يؤثر فناؤك على الانتخابات المقبلة

حوار مجلة Scientific American مع شيلدون سولومون* 23 أكتوبر 2008

ترجمة: سحر ناصر

ترجم هذا الحوار ضمن أعمال الدورة السادسة من مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) – ربيع 2020.

الترجمة خاصة بـ Boring Books وسيلاس الإسكندرية

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها


ترامب وبايدن، عن nikkei.com

ما هي نظرية السيطرة على الخوف؟

نظرية السيطرة على الخوف مأخوذة من محاولات إرنست بيكر -عالم الأنثروبولوچيا الثقافية- لتفسير الركائز المحفزة للسلوك الإنساني. وفقًا للنظرية يُعد الوعي بالذات أحد أهم السمات المحددة للبشر؛ نحن أحياء ونعرف ذلك. ورغم ما يستثيره الوعي الذاتي من شعور جامح بالرهبة والنشوة إلا أنه قد يؤدي أيضًا إلى شعور ساحق بالفزع نتيجة إدراك حتمية الموت. فقد يحضر الموت فجأة ولأسباب لا يمكن التحكم بها، فالبشر مخلوقات من لحم ودم -قطع لحم متعفن تتنفس، ليسوا أكثر أهمية أو خلودًا من حيوانات النيص أو شجر الخوخ.

تفترض النظرية أن البشر عالجوا بذكاء ودون وعي تام منهم هذا المأزق الوجودي باستحداث قيم ثقافية تخص تصورهم عن العالم: يتشارك الأفراد ضمن جماعة معتقدات إنسانية راسخة إزاء الواقع تعينهم على «التعامل» مع الهلع الناتج عن إدراك الموت.

تقدم كل الثقافات إحساسًا بالمعنى لهؤلاء الذين يمتثلون لقواعدها بتقديمها سردية لأصل الكون، ونموذجًا للسلوك المقبول على الأرض، ووعدًا بالخلود: رمزيًا بتشييد نصب ضخمة وأعمال فنية وعلمية عظيمة، ومراكمة ثروات هائلة، وإنجاب الأطفال؛ وحرفيًا كما في الديانات المؤسسية من خلال الوعد بحيوات أخرى على اختلاف أشكالها.

لذلك تجمع كل الثقافات رغم تباينها إلى حد كبير وظيفة دفاعية واحدة وهي إضفاء المعنى والقيمة وبهذا تمنح اتزانًا نفسيًا في مواجهة الموت.

ما الذي أثار اهتمامك في البدء بنظرية السيطرة على الخوف؟

بينما كنت أتجول حول المكتبة في عامي الأول كأستاذ بجامعة سكيدمور سنة 1980 عثرت مصادفة على كتب بيكر. وجدت أفكاره مثيرة ولا تقاوم كذلك فعل زميلاي چيف جرينبرج (الآن في جامعة أريزونا) وتوم بيتشينسكي (الآن في جامعة كولورادو). نبذ معظم الأكاديميين حينها هذه الأفكار بذريعة أنها مستمدة من منظور نفسي ديناميكي وجودي ولا يمكن اختبارها، وبناء على هذا طورت مع چيف وتوم النظرية لصياغة أفكار بيكر بطريقة تسمح بإخضاعها للفحص التجريبي.

كيف ترتبط هذه النظرية بإدراك المرء لحتمية فنائه؟ وما هو المثال التجريبي على ذلك في ميدان العمل؟

تُظهِر مجموعة كبيرة من الأدلة أن لحظة استدعاء الموت -وهو ما يتم عادةً بحث الناس على تخيل أنفسهم يحتضرون- تُكثف جهود البشر لحماية معتقداتهم ودعمها، وإعلاء تقديرهم لذواتهم. الاستنتاج الأكثر شيوعًا أن إدراك المرء لحتمية فنائه يعزز من ردود فعله الإيجابية نحو من يشاركونه الأبعاد المقدسة لرؤيته للعالم، ويحفز ردود فعل سلبية تجاه من ينتهكون القيم الثقافية المقدسة أو المختلفين عنه فحسب.

لقد أجرينا تجربتنا الأولى بمساعدة 22 قاضيًا محكمة بلدية في (توسكون، أريز). أخبرنا القضاة أننا ندرس العلاقة بين سمات الشخصية وتوجهاتها وبين قرارات الكفالة. الكفالة مال يدفعه المدعي عليه لإطلاق سراحه مؤقتًا أثناء مدة المحاكمة. ملأ القضاة عدة استبيانات تتألف من بعض الأدوات القياسية لتقييم الشخصية من ضمنهم سؤالين صمما لإثارة حتمية الموت: «من فضلك، صف باختصار المشاعر التي تنتابك عندما تفكر بموتك» و«دوّن بإيجاز وبدقة قدر الإمكان عما تعتقد أنه سيحدث لك بينما تحتضر وبمجرد أن تصبح ميتًا بالفعل». اخترنا فقط نصف القضاة عشوائيًا لإجابة هذه الأسئلة.

أعطينا القضاة فيما بعد موجز قضية قانونية افتراضية مطابقة لحالة قد تعرض عليهم قبل محاكمتها. توضح الدعوى التهمة، وفي حالتنا هذه كانت البغاء، وعنوان المدعي عليها، وسجل العمل ومدة مزاولتها له. ومرفق كذلك نسخة من الاستدعاء الصادر بحق المتهمة لحظة القبض عليها.

في النهاية سلمنا القضاة استمارة لتحديد الكفالة. اخترنا قضاة للدراسة لأنهم تدربوا بصرامة على اتخاذ قرارات عقلانية وموحدة تعتمد فقط على أدلة ذات صلة بالقوانين السارية. وجعلناهم يصدرون حكمهم على مومس مزعومة لأن البغاء يجرح الحس الأخلاقي للأمريكي العادي. فبقدر ما تسهم وجهات النظر الثقافية عن العالم في تخفيف رعب الموت، افترضنا أن القضاة الذين فكروا في الموت سيحددون كفالة أعلى من نظرائهم في حالة السيطرة. جاءت النتائج مدهشة. أقر القضاة في حالة السيطرة متوسط كفالة 50 دولارًا والتي كانت نموذجية لهذه التهمة آنذاك في القضايا الحقيقية. بيد أن القضاة الذين فكروا في موتهم أقروا متوسط كفالة بلغ 455 دولارًا. 

منذ ذلك الحين وجدت الافتراضات المأخوذة من نظرية السيطرة على الخوف مساندة قوية من أكثر من 300 دراسة لباحثين مستقلين في 20 دولة تقريبًا. ولا يُثار إدراك المرء لحتمية فنائه فقط بالأسئلة المباشرة عن الموت بل أيضًا بمحاورة شخص أمام دار الجنازات أو التعرض لاشعوريًا لكلمتي ميت أو موت.

هل تعتقد أن لهذا التأثير دور في موسم الانتخابات؟

نعم، نعتقد ذلك. في كتابه «إنكار الموت» الصادر سنة 1998 يقترح إرنست بيكر، اعتمادًا على دراسة لماكس ڤايبر عن نمط القيادة الكاريزمية، أنه في أوقات الأزمة عندما يغلب الخوف من الموت يميل الناس أكثر للقادة الذين يوفرون أمانًا نفسيًا بجعل مواطنيهم يشعرون بأهميتهم بصفتهم مشاركين في مهمة عظيمة لاستئصال الشر.

لاختبار هذه الفرضية، جعلنا المشاركين -وهم في حالة السيطرة وبعد إدراكهم لحتمية الموت- يقرأون تصريحات حملة انتخابية منسوبة إلى ثلاثة مرشحين لمنصب حاكم الولاية لكل منهم نمط قيادة مختلف: الكاريزمي، والموجه نحو المهام، والموجه نحو العلاقات. 

كمثال، صرح القائد الكاريزمي: «أنت لست مجرد مواطن عادي، أنت تنتمي إلى دولة عريقة وأمة عظيمة». وأعلن القائد الموجه نحو المهام: «أستطيع إنجاز كل الأهداف التي عزمت عليها. أنا حريص بشدة على وضع برنامج مفصل لئلا يوجد أدنى التباس بشأن ما نحتاج إتمامه». ودعا القائد الذي يركز على العلاقات: «أحث كل المواطنين على ممارسة دور فعال من أجل الارتقاء بدولتهم. أعلم أن كل فرد يصنع الفرق». ثم اختار المشاركون المرشح الذي سيصوتون له.

في وضع السيطرة، صوت 4 فقط من أصل 95 مشارك للمرشح الكاريزمي، بينما انقسمت بقية الأصوات بالتساوي بين المرشحين الآخرين. لكن بعد إدراكهم لحتمية الموت زادت نسبة التصويت 800% لصالح القائد الكاريزمي، فيما لم تتأثر أصوات القائد الموجه نحو المهام، بينما تراجعت أصوات القائد الذي يركز على العلاقات بشكل ملحوظ.

دفعتنا هذه النتيجة للتساؤل عما إذا كانت الشعبية الهائلة التي حظي بها الرئيس چورچ بوش عقب هجمات 11 سبتمبر 2001 على البنتاجون ومركز التجارة العالمي هي نتاج التذكير الدرامي والمستمر للموت والهشاشة بفعل الأحداث. قبل 11 سبتمبر اعتُبِرت رئاسة بوش عاجزة ومملة حتى من قبل العديد من مؤيديه الجمهوريين. ومع ذلك، ارتفعت نسب التأييد للرئيس بوش بشكل غير مسبوق تاريخيًا خلال أسابيع قليلة من إعلان الدولة حالة الحرب وتحذيره الدول الأخرى إما الانضمام للحملة الصليبية لتطهير العالم من الأشرار أو مواجهة الغضب العارم للولايات المتحدة. 

إذن في التجربة التالية -سواء بعد إمعان التفكير في فنائهم أو التحكم في سلوكهم بتعريضهم لمثير أرغموا عليه لكن غير مميت- قرأ المشاركون وأعربوا عن تأييدهم لبيان يتضمن عبارات مثل: «شخصيًا، أزكي القرارات الجريئة التي اتخذها الرئيس بوش وأعضاء إدارته في العراق. وأقدر حكمة رئيسنا فيما يخص ضرورة خلع صدام حسين من السلطة كما أن سياسته المتعلقة بالأمن الوطني مصدر راحة عظيم لي».

باستحضار الموت ازداد التأييد للرئيس بوش وسياساته في العراق على نحو كبير حتى حين تُعرَض رسائل التذكير بالحادي عشر من سبتمبر أو برج التجارة العالمي بشكل خفي أو خارج الإدراك الواعي. وعلاوة على ذلك في دراسة المتابعة لربيع عام 2004 وجدنا أنه بعد التفكير في أحداث مؤلمة لكن لا علاقة لها بالموت فضّل المشاركون السيناتور چون كيري على الرئيس بوش، إلا أنه بعد التفكير في الموت كانت تقييمات بوش أكثر إيجابية من كيري. في دراسة أخرى أجريت في سبتمبر عام 2004 فضّلت الأصوات المسجلة چون كيري على چورچ بوش بنسبة أربعة إلى واحد في حالة السيطرة لكن بعد التفكير في الموت فضلوا بوش على كيري بنسبة اثنين إلى واحد.

استنادًا إلى هذه التجارب وأبحاث أخرى تبرهن على العلاقة الطردية بين إنذارات الإرهاب الصادرة عن الحكومة واستطلاعات رأي الأمريكيين في الرئيس بوش من 2001 إلى 2004، أعتقد أن نتيجة الانتخابات الرئاسية في 2004 تأثرت برسائل التذكير المتكرر للموت التي بثتها حملته الانتخابية والتي صُنِعَت بمهارة لتبرز الحرب على الإرهاب والأمن الداخلي (مثال، «قال القادة الجمهوريون أمس أنهم سيذكرون الأمة مرارًا وتكرارًا بهجمات 11 سبتمبر وبذلك افتتحوا مؤتمرهم في مدينة نيويورك اليوم»، عن جريدة نيويورك تايمز في 30 أغسطس 2004). كُلِلَت الجهود بنشر ڤيديو لأسامة بن لادن قبل الانتخابات بأسبوع. لا يعني هذا الاستنتاج أن كل الدعم الذي تلقاه الرئيس بوش بالضرورة رد فعل دفاعي لقلق الموت، أو أن الاستغلال الممنهج للخوف لتمرير أچندات سياسية -ما يمتاز به تاريخ طويل للسياسة الأمريكية- يقتصر على الحزب الجمهوري.

كما أننا لسنا واثقين ما التأثير -إن وجد- الذي قد يحدثه قلق الموت على الانتخابات القادمة. كان سيناتور كيري في عام 2004 أبعد ما يكون عن الكاريزما ونجح خصمه في إظهاره ضعيفًا وثرثارًا. في الانتخابات الحالية يعتبر كلا من السيناتور باراك أوباما والحاكمة سارة بالين شخصيتين كاريزميتين تحركان حماس أنصارهما. في دراسة حديثة، وجدنا أن بعد التذكير بالموت يدعم الأمريكيون الليبراليون بوجه خاص قائد ليبرالي كاريزمي لكنهم ليسوا متحمسين أبدًا لقائد محافظ كاريزمي، بينما كان الأمريكيون المحافظون داعمين للغاية لقائد محافظ كاريزمي وليسوا متحمسين على الإطلاق إزاء قائد ليبرالي كاريزمي. وبتعميم هذه النتيجة، فإن التذكير بالموت قد يزيد الدعم للسيناتور باراك أوباما بين مؤيديه، ويُكسب السيناتور ماكين مزيدًا من التأييد باستغلال التحمس للحاكمة بالين بين أتباعهم. هذه النتيجة قد تكون مثيرة للاهتمام لكن عمليًا لن يؤثر التغير الطفيف الذي يسببه إدراك حتمية الموت بتغذية التعصب لتفضيلات سياسية مسبقة على نتيجة الانتخابات.

هل يمكننا مقاومة أثر الانحياز الناتج عن إدراكنا لحتمية فنائنا؟ بعبارة أخرى، كيف نستطيع حماية أنفسنا أمام هذا الانحياز الانعكاسي؟

ربما أفضل علاج لهذه المشكلة أن نراقب أنفسنا وألا ندخر جهدنا في مقاومة محاولات الساسة أو غيرهم للمتاجرة بخوفنا. مثلما صاغها ببلاغة ديڤيد مايرز عالم نفس الاجتماع بجامعة هوب في افتتاحية صحيفة لوس أنجلس تايمز لسنة 2004: «من الطبيعي تمامًا أن نخاف العنف الذي يستهدف إلحاق الأذى بنا من قبل هؤلاء الذين يكرهوننا. سنتراجع جميعًا إلى الوراء مذعورين فيما يشن الإرهابيون هجومًا آخر. لكن المفكرين النبهاء سيرغبون أيضًا بمراجعة مخاوفهم الحدسية أمام الحقائق والاحتجاج ضد من يزرعون ثقافة الخوف من أجل الوصول إلى غاياتهم».

كثقافة ينبغي علينا أن نعلم أطفالنا وندفع مواطنينا للتصويت بالمنطق لا العاطفة. وربما سيكون من المفيد أيضًا أن نرفع الوعي بتأثير قلق الموت على السلوك الإنساني. أتمنى أن تشجع تلك الإجراءات الناس على القيام باختيارات عقلانية تعتمد بالأساس على الكفاءات السياسية ومناصب المرشحين وليس مجرد حيل دفاعية للحفاظ على اتزان نفسي كاستجابة للتذكير بالموت.