ورق الحائط الأصفر: قصة قصيرة من القرن التاسع عشر عن «الوهن العصبي» الذي يصيب المرأة وعلاجاته المتبعة

هيلاري مارلاند*

ترجمة: ريم سعيد

عن موقع ذا كونفرسيشن 27 فبراير 2018

* أستاذة تاريخ في جامعة ورويسك في المملكة المتحدة

المقال خاص بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.


شارلوت بيركنز جيلمان، عن slaphappylarry

«هذا القلق يسلبني وجودي، ويزج بي في متاهات الخوف». يردُ هذا الاقتباس في القصة القصيرة «ورق الحائط الأصفر» المنشورة في سنة 1892، لكاتبتها «شارلوت بيركنز جيلمان». التي حازت موطئَ قدمٍ في ميادين عدة كالصحافة والنقد الاجتماعي أكثر من الأدب، إلا أن قصتها القصيرة -السابقة الذكر- قد نالت شهرة واسعة.

«ورق الحائط الأصفر»، قصةٌ تتيح للقارئ معرفة أوضاع المرأة الصحية، والأمومة، والاضطرابات النفسية وعلاجاتها المتبعة في أمريكا أواخرِ القرن التاسع عشر، كما تلقي الضوء على الحركة النسوية والعلاقات الجنسانية السائدة في تلك الحقبة. والقصة أقرب إلى كونها سيرة شبه ذاتية، حيث أورَثًت الكاتبة بطلة قصتها معاناتها الشخصية مع الاضطراب النفسي، وشيئًا من أثر علاقتها المتوترة بطبيبها المعالج «سيلاس وير ميتشل» الذي اقترنت سمعتهُ في الأوساط الطبية آنذاك بعلاج الاضطرابات العصبية والنفسية، بناءً على خبرته المكتسبة من ممارساته الطبيةِ أثناء الحرب الأهلية الأمريكية. وقد بَدَأت رحلتها العلاجية معه عام 1886. وعلى حد تعبير «جيلمان» فقد قادتها منهجيته العلاجية إلى جحيم نفسي، لم تتخلص منه إلا برفضها للعلاج المتبع وبمعاودة الكتابة مرة أخرى.

وتبدأ «جيلمان» قصتها بحدث مبدئي مباشر، إذ يصطحب طبيب زوجته المصابة «بانهيار عصبي مؤقت مع شبهة في نزوع هستيري» للاصطياف في أحد القصور الريفية لغرض العلاج والاستشفاء. ويبدأ خطته العلاجية بتقييدٍ لمجالها الحركي والفكري، بفرض جدولٍ صارم لضبط مواعيد النوم والتريض وتناول الدواء، مع منعها من إتيان أي نشاط ذهنيّ متمثلًا في الكتابة التي كانت قد اعتادتها قبل مرضها. وحين تأخذُ بطلة القصة في تأملِ القصر يبدو لها موحشًا في بادئ الأمر، وحيدًا يمتدُ جذره في فضاء شاسع، يَبعُد عن العمران مسافةً كبيرةً. وقد وقع اختيار الزوج على غرفةٍ منه ضخمة، مشرعةً على وفرة من ضوء الشمس والهواء، تحوي سريرًا ذا هيكلٍ عملاقٍ مسمرًا إلى الأرض، ونافذةً محجوبة بقضبان. وأينما أجالت بطلة القصة بصرها في أرجاء الغرفة، تعجز عينيها عن ضم عناصرها في جوهر واحد. فورق الحائط كان ممزقًا تنشع منه غرابةٌ مقبضة، والأرضية منزوع بلاطها تنتثر فيها الشقوق والخدوش. وفي تأملها ردت آثار التخريب إلى احتمال كون الغرفة كانت حجرةً لرعاية الأطفال أو صالةً للعبِ فيما مضى.

تصل القصة إلى محور ارتكازها، برصد تطورات علاقة البطلة بورق الحائط. فأنماطه شديدة التنافر، ولونه الأصفر المتوهج، والمشرب بوسخٍ راكمته السنون ولطخٍ برتقالية وكبريتية يبعث في نفسها الانزعاج، ما حدا بها إلى اعتبار وجوده «خطيئةً فنيةً» لا تغتفر. وكونها متروكةً لقضاء جلّ نهاراتها وحيدةً في تلك الغرفة، أخذت تحتال لإخفاء اشتغالها بالكتابة في غياب زوجها -رغم ما سببته الكتابة من استنزاف لطاقتها. وفي مرحلة متقدمة من علاقتها بورق الحائط، تأخذ أنماطه بالحركه كأن شكلًا من أشكال الحياة على وشك الانبثاق منه.

الإنهاكُ العصبي

تسلط القصة الضوء على معاناة النساء في القرن التاسع عشر، وإشكالية رد المعارف الطبية -آنذاك- كافة أشكال الأمراض النفس-جسدية إلى التكوين البيولوجي ودورة المرأة التناسلية. والنساء اللواتي أظهرن ميلًا ثقافيًا أو إبداعيًا صُنفن ضمن أكثر الفئات عرضة للخطر.

يُرجَح أن بطلة القصة قد عانت من «الجنون النِفَاسيّ Puerperal Insanity»، وهو التشخيص الذي اعتمده أطباء القرن التاسع عشر لتوصيف الاضطرابات النفس-جسدية التي تلحق بالمرأة عقب الولادة والمتسببة بدورها في فقدها لملكاتها العقلية والجسدية. وقد حاز هذا التشخيص اهتمام الأطباء النفسيين وأطباء الولادة على السواء. وتركز العلاج على تهدئة الجهاز العصبي وذلك بالابتعاد عن كل أشكال المحفزات قدر الإمكان، حتى تسترد المريضة عافيتها. وفي مذكراتها المنشورة عام 1935، تقول جيلمان، «أثقلني التعب.. عجزٌ مطلق وشقاءٌ أبدي»، توصيفًا لسوءِ أحوالها النفسية التي أعقَبَت ولادتها لابنتها، مما دفعها لاستشارة دكتور «ميتشل».

وتَحتملُ القصة إحالةً لمرضٍ آخر وهو «الإنهاك العصبي Neurasthenia»، الذي عَرّفَهُ للمرة الأولى «سيلاس وير ميتشل» في كتابه «العطب النفسي أو إلماحات عن الإرهاق Wear and Tear/ or Hints for the Overworked»، الصادر سنة 1871. وعُدّ مرضًا شائعًا بين أواسط الأمريكيين في أعقاب القرن التاسع عشر على إثر ولوج أمريكا مرحلة الحداثة التي حَولت الأفراد إلى تروسٍ في ماكينة الاقتصاد الهادرة، ممّا شكل تهديدًا صريحًا لصحتهم النفسية. وعدّ المرض تهديدًا مضاعفًا للمرأة المتحررة من أسر الأولويات الاجتماعية واشتراطاتها. إذ اعتُبِرَ سعي المرأة للتحصيل العلمي أو اشتغالها بالشؤون السياسية مدعاةً للوهن النفسي، فهي بزعمهم تُحمل نفسها ما لا تطيق، بسبب تنافر مطلبها مع طبيعتها الهشة. وخَلُصُ دكتور «ميتشل» إلى اعتبار المُعتَنقَات لقيم الحداثة لا يصلحن لدور الأمومة وبَدَاهاتهِ الفطرية اللاتي خالفنها بدورهن.

وتحدد العلاج المتبع في حالة «جيلمان» وبطلة قصتها في الوصول إلى ديمومة الراحة والاسترخاء القصري إن لزم الأمر، حيث النكوصُ إلى موقف الرضيع العاجز، كما حدث مع بطلة القصة التي كانت تُزَود رغمًا عنها بالطعام والدواء على مدار اليوم مع التشديد على بقائها مستلقية. وكان من توصيات الدكتور «ميتشل» لجيلمان في فترة العلاج؛ حصرُ طاقتها قدر الإمكان على الشؤون المنزلية و«الانقطاع عن ممارسة الكتابة ولو بمجرد الإمساك بقلم أو فرشاة ما دامت على قيد الحياة».

الهروب من ورق الحائط

أخذت أنماط ورق الحائط تستحوذ على عقل الساردة، لتزج بها في حلم يقظة مقبض، ومع تعاقب الأيام، انكشفت لها الأنماط الغامضة عن هيئات مألوفة، وأحيانًا ما تتراءى لها الظلال في هيئة حشد من النساء، وأحيانًا أخرى في هيئة امرأة واحدة، تنحني وتزحف ذهابًا وإيابًا خلف النمط الفرعي. وعند نهاية القصة تنتهز البطلة فرصة غياب زوجها، فأوصدت الباب وشرعت في تمزيق ورق الحائط وخُيّلَ لها حشد الظلال نساءً أخذن في الزحف بين أجمات الحديقة وأشجارها. وفي دهشةٍ سألت نفسها وهي تطالعهن، «هل خَرجن جميعهن من وراء ورق الحائط كما فعلت؟». وحين عاد زوجها، وحاول فتح الباب، هَالهُ منظرها وسقط مغشيًا عليه. وبينما تزحف البطلة فوق جسد زوجها الملقى على الأرض تقول في ختام القصة: «لقد تحررت أخيرًا، وخرجت من ورق الجدار، ولن تتمكن من إعادتي خلفه!.. لماذا سقط هذا الأحمق مغشيًا عليه؟ وكأنه تعمد السقوط بمنتصف طريقي، ليجعلني أخطو فوق جسده الملقى في كل مرة أحبو فيها حول الغرفة».

ولا ندري إن كان هذا «الخروج» انعتاقًا من الأسر أم سقوطًا في بئر الجنون؟ ولكل قارئ هنا حق الاحتكام إلى تأويله الخاص.

والقصة كما ألمحنا سابقًا تحيل إلى ثقل التحديات المحدقة بالنساء ذوات الطموح في أعقاب القرن التاسع عشر، واللاتي لقين استنكارًا ورفضًا صريحين. ومثال ذلك نجده في المعارضة التي لقيتها حركة المطالبة «بحق المرأة في الاقتراع suffragette» والتي عكست طموح المرأة السياسي، كما نجد ذات المعارضة في كل مرة تخترق فيها امرأة المجال العام الذي يسيطر عليه الرجال. فتبديل المرأة لزيها القديم بزيٍ آخر يتلاءم وروح «المرأة العصرية New Woman»، واشتغالها بالعلم وحب المطالعة، خروقاتٍ، اعتبرت تهديدًا صريحًا لصحة المرأة العقلية وسلامها النفسي.

وفي وقت متقدم نجد «سيلاس وير ميتشل» وقد لاحقته سمعة سيئة في الأوساط الطبية بسبب تشخيصاته الخاطئة، وكان لـ «جيلمان» الدور الأكبر في كشف العواقب الوخيمة لمناهجه العلاجية، إذ وضعته نصوصها -التي وثقت فيها رحلتها العلاجية معه- في موقف محرج لا يحسد عليه.

تضعنا القراءة المحايدة لبعض الوقائع التاريخية أواخر القرن التاسع عشر -فيما يخص أحوال المرأة النفسية- موضعًا مغايرًا، واقترحت إحدى القراءات: أن بعض النسوة الميسورات الحال والمتعلمات، قد شكلن تصوراتهن الخاصة عما اعتراهن من حالات مرضية، أو تحججن بها لتجنب الأعمال المنزلية، التي وجدنها شاقة أو من جملة الأعباء الإضافية. ولم يتبن كل أطباء تلك الحقبة ذلك الخطاب الذي ينكر على المرأة طموحاتها الثقافية، مع إيمانهم بإمكانية تحقيق التوازن بين اشتغال المرأة بالثقافة وبين طاقاتها الجسدية، دون تعارض مع أدوارها المنزلية. حتى أننا نجد «سيلاس وير ميتشل» يتبع مسلكًا مختلفًا مع مريضتين أخريين عرف عنهما انشغالهما الثقافي والسياسي، وهما الناقدة والمؤرخة «إميليا ماسون» والكاتبة «سارة باتل»، إذ لم يشترط عليهما الانقطاع عن مساعيهما الفكرية، وأقرّ بدورها في تحسين حالتهما النفسية.

وباستهجانٍ تداول عدد من الصحف الأمريكية حدث طلاق «جيلمان» من زوجها واعتبر ذلك فضيحة وسلوكًا مخزيًا، وقد وقعت أوراق طلاقها في نفس السنة التي نشرت فيها قصتها. وعند هذه النقطة أخذ نشاطها في الحركة النَسوية بالتصاعد. وكتبت «جيلمان» في مذكراتها لاحقًا، أنها اعتبرت إنجازها لتلك القصة حبل النجاة الوحيد الذي امتد لها ليخرجها من أغوار جحيمها النفسي، وكانت قد أرسلت نسخة من القصة إلى طبيبها السابق «سيلاس وير ميتشل»، إلا أنها لم تلق منه جوابًا.