اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.

قائمة مكروم | رسالة في الطبيعة البشرية

نُشر بموقع الجارديان 2 أكتوبر 2017

ترجمة: نهال خليل

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.


ديفيد هيوم، عن الجارديان

تقدم مسيرة الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم، مثالًا عن حياة الكتابة، وتعبِّر ببلاغة عن تطور الأفكار الغريب والعصي على التفسير في ميدان الجدال الحر. إلى جانب ذلك، امتدت مسيرته حتى يوم وفاته تقريبًا، عام 1776، عقب اندلاع الثورة الأمريكية مباشرة.

وُلد هيوم وتعلم في إدنبره، كان ابنًا لمحامٍ ناجح، أقبل على الفلسفة بنهم في سن صغيرة. وبعد إخفاقه كطالب، ورغم إمكانياته الشخصية المحدودة، قضى ثلاث سنوات من الدراسة الخاصة في فرنسا. ليعمل بعدها لمدة أربع سنوات على كتاب «رسالة في الطبيعة البشرية»، أول أعماله الهامة بصفته فيلسوفًا، والذي كان عنوانه الفرعي صعب ومعقد وهو «محاولة لإدخال منهج التفكير التجريبي في الموضوعات الأخلاقية». انتهى هيوم من الرسالة عام 1738، وهو بعمر الثامنة والعشرين، ونشرها في العام التالي في مجلدين دون ذكر اسمه.

ما كان يطمح إليه، هو تأسيس علم إنساني قائم على أسس عملية (براجماتية)، نسق كامل من التفكير، يمكن من خلاله تقدير الأسس النفسية للطبيعة البشرية، وعلى عكس عقلانيي ذلك العصر، جادل هيوم بأن الأهواء لا العقل هي ما يكبح سلوك الإنسان: «العقل ينبغي أن يكون عبدًا للأهواء، ولا يمكن أبدًا أن يكون له مهمة أخرى سوى خدمتها وإطاعتها».

ومن هذا المنطلق، طرح هيوم فكرة أن المعرفة البشرية يجب أن تتركز بنهاية المطاف في خبرات الجنس البشري اليومية والمعتادة. حيث كتب «لا يتعارض الأمر مع العقل عند تفضيل دمار العالم بأسره على خدش إصبعي».

كان نشر رسالة هيوم كارثة، تم تجاهل وضوحها وعقلانيتها («الشعراء .. وإن كانوا كذابين بحكم الصنعة، لكنهم دائمًا ما يسعون لإضفاء روحًا من الصدق على أدبهم»). أُسيء فهم دقته الفلسفية المبهرة. لاحقًا، لاحظ هو نفسه أن الرسالة «وُلدت ميتة عند النشر». أما اليوم، تُعتبر الرسالة عمل هيوم الأهم، ومن بين أبرز الكتب المؤسِسة في الفلسفة الغربية وحسب كلام أحد النقّاد فهي «النص المؤسس لعلم الإدراك» وربما «العمل الفلسفي الأهم» باللغة الإنجليزية.

عام 1740، كان النقاد في منتهى القسوة، عندما وصفوا عمله بأنه «غامض ومجرد». وليس من الصعب معرفة سبب ذلك، لأنه حتى يومنا هذا، ما زالت الرسالة جامدة بشكل ملحوظ، وقليلًا ما تتساهل مع القارئ، أو تقدم له التنازلات.

الرسالة مقسمة إلى ثلاثة أجزاء (في الفهم، وفي الأهواء، وفي الأخلاق) وبها العديد من الأقسام الفرعية مثل «عن الأفكار، ونشأتها وبنيتها وعلاقاتها وتجريدها، إلخ»  و«عن أفكار الزمان والمكان» و«عن المعرفة والاحتمالية» و"«عن الشك والأنساق الفلسفية الأخرى، إلخ» لتكون النتيجة التي استخلصها هيوم من أطروحته هي أن «التعاطف هو المصدر الأول للفروق الأخلاقية».

وأشارت المراجعات الأولى إلى أن الرسالة ليست لمن يفتقر إلى الجرأة وهذه الفقرة دليل نموذجي على ذلك: «بعد البحث الأدق  الذي استطعت تأديته، يمكنني أن أؤكد على أن القاعدة تسري دون استثناء، وأن كل فكرة لها انطباع يحاكيها، وكل انطباع له فكرة تماثله».

لم يتذمر هيوم أو يستسلم، وجعل معظم مدخراته وقفًا في سبيل المدة الطويلة التي احتاجها لاختمار الفكرة في ذهنه واكتمال العمل، وأعلن، مع أخذه في الاعتبار لوضعه المادي، أنه سيكرس نفسه للأدب، وكتب: «سأقتصد بشدة لأعوض نقص أموالي، حتى أتمكن من الحفاظ على استقلالي». وأعلن متحليًا بالصبر وواثقًا بنفسه أن  «لا قيمة لشيء سوى تعزيز موهبتي في الأدب»، لذا ورغم الانتقاد الذي تعرض له، وخيبة طموحه الشاب، انتهى إلى أنه «كنت بمزاج فَرِح  بفطرتي، فتعافيت سريعًا من الصدمة، واستأنفت عملى في الريف بحماس».

برزانة مذهلة، حدد أن مشكلة الرسالة تكمن في الأسلوب وليس المحتوى، فأعاد هيوم صياغة مادته في مقالين أيسر، وكان عنوانهما «بحث في الفهم البشري»  (1748)، و«بحث في مبادئ الأخلاق» (1751)، كتب هيوم عن هذين المقالين بحماس  متوقع، وقال «من بين كل كتاباتي التاريخية، والفلسفية، والأدبية، كانا هما الأفضل بلا منازع». وعام 1752 نشر محاضراته السياسية، والتي تُرجمت للفرنسية، وكانت سببًا في ذيوع صيته بكل أنحاء أوروبا. وتوالت نجاحاته، بعدما نشر عام 1754 المجلد الأول من كتابه الرائع تاريخ بريطانيا العظمى، وهو سردية تاريخية معنية إلى حد كبير بملوك أسرة ستيوارت الأوائل، وتلاه مجلدات أخرى صدرت في 1757، و1759، و1762.

دائمًا ما كان هيوم بارعَ الأسلوب، واعتُبر واحدًا من المفكرين العظماء في زمانه، كان أيقونة ثقافية، وأصبح معروفًا في لندن بالقدر ذاته كما في أسكتلندا. كان دائم البحث عن طرق جديدة للتعبير الذاتي، وعند شعوره بدنو أجله، نشر هيوم سيرته الذاتية في مقال قصير بعنوان «حياتي»، لخص فيه حياته كلها في «أقل من خمس صفحات»، وبشكل من الكتابة  يحاكي الدعابة الشخصية، كان المقال قصيرًا بشكل ملحوظ بالنسبة للحكاية الشخصية والسيرة الذاتية المتعارف عليها. وبجديته المعهودة كتب عن اقتراب موته دون تأثر وقال: «أظن الآن إثر الموت الوشيك أني عانيت ألمًا صغيرًا من علتي، والغريب أنه رغم تداعي جسدي، لم تخب روحي المعنوية للحظة واحدة».

اعترف هيوم بأن «حب الشهرة» خدمه في الحياة مثلما خدمه «شغفه المتمكن منه»، وبثقته المعتادة بنفسه، أوضح أن هذا الطموح «لم يعكر مزاجي قط، رغم  خيبات أملي المتكررة» واعترف أن الطريقة التي استُقبلت بها الرسالة كانت من بين هذه الخيبات، لكن نجاح مقالاته اللاحقة حافظ على ارتفاع روحه المعنوية، وقال «هذه الأعمال لاقت استحسانًا استطاع أن يُنسيني إخفاقي السابق».

في مسار ربما يستفيد منه الكثير من الكُتّاب المعاصرين عند اتخاذه، لاحظ هيوم أن الفشل الفوري لعرضه الفلسفي الأول «كان ناتجًا عن الأسلوب وليس الموضوع». وفسّر هيوم قصده بالتالي: «كان خطأي هو الخفة المعتادة، بالاتجاه للنشر مبكرًا جدًا».

اقتباس مهم

«في كل نظام أخلاقي صادفته حتى الآن، لاحظت أن المؤلف دائمًا ما يمر لبعض الوقت على طريقة التفكير المعتادة، ويبرهن على وجود إله، أو يبدي ملاحظات على شئون البشر، لكن اكتشفت فجأة أنه بدلًا من تلاقي الآراء المعتاد، مع ما هو قائم وغير قائم بالفعل، لم أقابل رأيًا مرتبطًا بما ينبغي وما لا ينبغي أن يكون. هذا التغير تدريجي وتصعب ملاحظته، لكنه النتيجة الأخيرة»"

ثلاثة نصوص للمقارنة

توماس هوبز: اللفياثان (1651)

جون لوك: مقال في الفهم الإنساني (1689)

ديفيد هيوم: تاريخ بريطانيا العظمى (1754)