مأزق الفنان

نص لمارك روثكو*

ترجمة: آية نبيه

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها. 

*فنان تشكيلي أمريكي، ولد عام 1903 في لاتفيا، وفي 1913 هاجر مع عائلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية هربًا من الإجبار على التجنيد في الجيش الإمبراطوري الروسي. في 1921، التحق بجامعة «يال» لكنه لم يتم دراسته بها. انتقل إلى نيويورك، وهناك عام 1925، بدأ دراسته في «كلية بارسونز للتصميم». اهتم روثكو بالسريالية الأوروبية، وفي 1947 بدأ في تطوير أسلوبه التعبيري التجريدي، وقضى ما تبقى من حياته الفنية في استكشاف الاحتمالات اللانهائية بإضافة طبقات من المستطيلات متنوعة الأحجام فوق مساحات هائلة من الألوان. توفي عام 1970.

النص هو الفصل الأول من كتابه «واقع الفنان».


مارك روثكو، عن pinterest

ما التصور الشائع عن الفنان؟ لنجمع ألف وصف، الناتج صورة لمغفل: تُلصق به صفات الصبياني وغير المسؤول والجاهل أو الأخرق في إدارة شؤون الحياة اليومية.

لا تنطوي الصورة بالضرورة على تبكيت أو قسوة، وتُعزى تلك النقائص إلى شدة استغراق الفنان في خياله الخاص، وإلى الطبيعة الحالمة للخيالي في حد ذاته. التساهل المازح مع الأستاذ الجامعي شارد الذهن يطول الفنان. ويقارن كتّاب السيرة الذاتية بين سذاجة قراراته والمكانة الرفيعة لفنه، وفي حين أن سذاجته أو هزله موضوعًا للنميمة، ينظر إليهما باعتبارهما دليل «بساطة» و«إلهام»، وهما خادمتا الفن. وإذا كان الفنان عاجزًا عن الإفصاح لفظًا عن مشاعره، ومفتقدًا لمستودعات الحقائق والمعلومات المألوفة، فيا له من محظوظ، كما يقال، فقد رسمت له الطبيعة مخططًا بارعًا لكي تصرف عنه كافة الإلهاءات المادية فيتسنى له صب تركيزه كاملًا على مهمته الاستثنائية. 

لهذه الأسطورة، مثل كل الأساطير، كثير من الجذور المعقولة. أولًا، أنها تبرهن على الاعتقاد الشائع بصحة قوانين التعويض: تزداد حساسية إحدى الحواس بعجز حاسة أخرى. كان هوميروس أعمى، وبيتهوفن أصمًا لسوء حظيهما، ولحسن حظنا، لأن ذلك أضاف إلى حيوية فنيهما، لكن الأكثر أهمية، إنها تبرهن على الاعتقاد الراسخ بالطبيعة اللاعقلانية للإلهام، والعثور بين براءة الطفولة ومس الجنون على تلك البصيرة الحقيقية التي لا تُمنح للإنسان العادي. عند التفكير في أمر الفنان، لا يزال العالم متشبثًا برؤية أفلاطون، التي عبر عنها في كتابه «أيون» متحدثًا عن الشاعر، «ما من إبداع بداخله حتى يصله الإلهام ويفقد السيطرة على نفسه ولا يعود عقله في رأسه». ورغم أن العلم، بالمعايير والمقاييس، يهدد يوميًا بحل لغز الخيال، فإن صمود هذه الأسطورة ولاء لاشعوري يدين به الإنسان إلى تبصر كيانه الداخلي، إذ أن الأخير يختلف عن تجربته العقلانية.

غريب، لكن الفنان لم يثر ضجة قط حول حرمانه من تلك الفضائل القيمة التي لا غنى عنها بالنسبة لآخرين: رجاحة العقل والرأي والمعرفة بالعالم وحكمة التصرف، بل قد يُتهم بأنه قد عزز تلك الأسطورة. في مذكراته الشخصية، يخبرنا فولار[1] أن ديجا[2] ادعى الصمم ليفلت من خصومات وخطب وعظ بشأن أمور اعتبرها زائفة وبغيضة. إذا تغير المتحدث أو الموضوع، يتحسن سمعه على الفور. وعلينا أن ندهش لحكمته، فلا بد أنه أدرك بحدسه فقط ما ندركه يقينًا اليوم: أن التكرار المستمر للباطل أكثر إقناعًا من إثبات الحقيقة. يمكننا إذن أن نفهم كيف يمكن حقًا للفنان أن يصقل مظهر المغفل، هذا الصمم، هذا العجز عن التعبير لفظًا، في محاولة للتملص من ملايين الأمور منعدمة الصلة التي تتكدس يوميًا حول أعماله. ففي حين أن اختصاصات الطبيب أو السباك ليست محل جدال مطلقًا، يرى كل شخص نفسه حاكمًا جيدًا وحكمًا مؤهلًا لتحديد ما يحب أن يكون عليه العمل الفني والطريقة التي يجب أن يؤدى بها.

علينا ألا نخدع أنفسنا بأطياف عصر ذهبي محرر من هذا النشاز، فالطلاء بالذهب زور فني. نحن أنفسنا نتاجر بالخيال ونعرف إلى أي مدى يمكن أن تبدو الأحلام واقعية. وزمننا هذا، الذي يطالب بكل وضوح بمواجهة الحقائق، لن يدعنا نستمتع بالمواد المخدرة. ومع العلم أن بلايا الإنسان، على الأقل، ملازمة له على الدوام، يمكننا أن نقول بثقة إن فنان الماضي كان لديه سبب معقول أيضًا للتظاهر بأنه المغفل المجنون - حتى ينقذ لحظات السلام تلك التي تحل عندما يمكن تهدئة مطالب الشياطين وممارسة الفن. وإذا كانت الطبيعة، فعلًا، قد رسمت له مخططًا بارعًا لتكسبه مظهر المغفل، فإن هذا أفضل بكثير. فالتظاهر فن منهِك.

عليل من اختار أن يكون دوره السعي لإسعاد

 العالم الباطل،— عليل من اختار أن يكون هذا دوره

فكثيرًا ما يضطر أن يضع قناع الانشراح

والأسى في قلبه؛

وكثيرًا، في ساعات شعوره بالفرح

بالحزن تُشنق ملامحه،

ودائمًا، فيما تتوارى أفضل أفكاره،

يجب أن يتعالى صوته في مدح العظمة البلهاء

 وأمام ضلالات الجمع الجاهل

يرضى بلسان كاذب.

كتب هذا الرثاء ميكيلانجيلو (تجدون هذه القصيدة القصيرة في حياة ميكيلانجيلو بوناروتي 1807). حتى هذا الرجل العظيم –الذي عاش في عصر كان خلاله الوفاق بين الفنان والعالم يبدو مثاليًا، وأقيمت الولائم والمواكب احتفالًا بإتمام أعمال الفنانين المشهورين الذين تصارع لأجل خدمتهم الدوقات والكهنة والملوك -حتى هذا الرجل نال حصته من الافتراءات والرفض. تعرضت مبادئ فنه للهجوم بشكل متواصل؛ وبعد تفاديه تلك الانتقادات، طُعن في أخلاقه. هاجم أريتينو[3] الأجساد العارية في الحساب الأخير[4]  إذ رأى أنها غير متسقة مع الورع المسيحي. ولا يمكن إنكار عقلانية انتقاد أريتينو إذ يَسهل الخلط بين تصوير ميكيلانجيلو لمحكمة السماء وطقوس العربدة. الأطباء والأخلاقيون دومًا على حق! كما هو الحال مع أخلاقيينا الاجتماعيين والنقاد، معطياتهم شديدة الأناقة وحججهم بالغة الجمال: لكن، يا للتزوير الفادح في قضية الحقيقة!

أصرت معظم المجتمعات في الماضي أن يصور الفنانون معاييرها الخاصة للحقيقة والفضيلة. وهكذا، كان على الفنان المصري إنتاج نموذج جامد بالطبع؛ وكان على الفنان المسيحي الالتزام بتعاليم مجمع نيقية الثاني وإلا عوقب بالحرمان الكنسي، أو اضطر إلى العمل تحت ظروف خطرة وفي سرية، كالراهب في عصر تحطيم الأيقونات الدينية. وعلينا أن نشير إلى أن عراة ميكيلانجيلو أُجبروا، في النهاية، على ارتداء السراويل القصيرة والأثواب اللائقة. صاغت السلطة القواعد، وأذعن لها الفنان. ولن نتحدث هنا عن أولئك الذين أنعشت جرأتهم الفن بشكل دوري، وأنقذته من محاكاته النرجسية لذاته. يمكننا القول بدقة إن الفنان، خلال تلك الفترات، كان عليه الانصياع لتلك القواعد أو التظاهر بالانصياع، لأجل أن يُسمح له بممارسة فنه. 

سوف يشار إلى أن نصيب الفنان لا يزال على حاله اليوم، وأن السوق، بحرمانه الفنان من وسائل الدعم أو بتوفيرها، يمارس عليه الضغط ذاته. مع ذلك، ثمة اختلاف حيوي: الحضارات المذكورة أعلاه كانت لديها السلطة الدنيوية والدينية لفرض مطالبها دون سابق إنذار. نار جهنم، المنفى، وفي الخلفية، المخلعة والخازوق، كانت هي أدوات الإصلاح إذا فشلت محاولات الإقناع. اليوم يتمثل الضغط في «الجوع»، وقد أظهرت تجربة الأربعمائة عام الماضية أن الجوع غير قاهر بقدر دنو «جهنم» و«الموت». ومنذ زوال الراعي الديني والدنيوي، أصبح تاريخ الفن هو تاريخ البشر الذين قد آثروا، في معظم الوقت، الجوع على الخضوع، والذين قد اعتبروا أن اختيارًا كهذا يستحق العناء. ويا له من اختيار، فالتباين بين الخيارين تراجيدي.

حرية التضور جوعًا! أمر مثير للسخرية حقًا. لكن، فلتحبسوا ضحكاتكم. لا تستهينوا بهذا الامتياز، فقلما يُكتسب، ونيله مكلف. وإنكار هذا الحق لا يقل إثارة للسخرية: فكروا في المجرم المُدان الذي لا يرغب في تناول الطعام ويُجبر على ذلك، إذا دعت الحاجة، حتى يحل يوم إعدامه. فيما يخص الجوع، مثل الفن، لطالما كان المجتمع دوجمائيًا. للمرء أن يتضور جوعًا بشكل شرعي –بسبب مجاعة أو آفة، بسبب بطالة أو استغلال– وإلا فلا. أصبحت فرص المرء في أن يخطط بنجاح للتضور جوعًا تساوي فرصه في أن يخطط بنجاح لإنهاء حياته؛ وحين يقول الفنان للمجتمع أنه يؤثر التضور جوعًا على المتاجرة بأدواته أو ذائقته، يعتبر قوله هرطقة ويجري التصرف معه على الفور. في ظل دوجمائيات دول اليوم الخاضعة للحكم الشمولي، ويمكنكم أن تثقوا في ذلك، يجب أن يتضور الفنان جوعًا بالطريقة الصحيحة، تمامًا كما يجب أن يرسم وفقًا لما تمليه عليه الدولة.

لكننا هنا واليوم، لا يزال لدينا حق الاختيار. على وجه الدقة، لدينا إمكانية ممارسة الاختيار حيث يختلف نصيبنا عن نصيب فناني الماضي. فالاختيار يستتبع مسؤولية المرء تجاه ضميره، وفي ضمير الفنان، يقع «صدق الفن» في الصدارة. ربما يوجد ولاء لأمور أخرى، لكن بالنسبة للفنان، ما لم يكن مُعطّلًا أو مشتت الذهن، ستعتبر ثانوية ومستبعدة من إبداعه الفني. هذا الضمير الفني، الذي يتألف من الإدراك والذاكرة الحاضرين، هذه الفضيلة المتأصلة في المنطق العام للفن ذاته، لا مفر منها. خالف تلقيناتها، وستجد أنها تفتش في أعمق خبايا الفكر والحدس. لا السفسطة ولا العقلانية يمكنهما قمع مطالبها.

كيف كان يتصرف فنانو الماضي في ضمائرهم؟ يشفع لقانون السلطة هذا أن الالتفاف عليه ممكن. يمكن للمرء أن يتظاهر باحترامه، ومحافظًا على رصانته، يخل بروحه. ينحني إجلالًا للضرورة، ثم يدبِّر لهزيمتها. يقال إنه كانت هناك أوقات ينسجم فيها «صدق القانون» مع «صدق الفن». حقًا! لكن عندما أصبح التباعد جليًا، يا للإبداع الذي أظهره الفنان في تنكر أحدهما في صورة الآخر. يا للمكر والدهاء اللذان يتمتع بهما هذا الذي يبدو مغفلًا. وليس علينا إلا استحضار أبوللو العظيم. كيف دُسَّ هذا الإله الهلينستي بسهولة، بكل أثوابه وزخارفه، وسط مقتنيات القديسين المسيحيين. ما كان عليه سوى تغيير اسمه، وأن يبدو أتعس بكثير مما كان يشعر حقًا.

ما حرض الفنان على لعبته الصغيرة كان الوحدة الدوجمائية لحضارته. فكل المجتمعات الدوجمائية لديها قاسم مشترك: أنها تعي ما تريد. أيًا كانت المزاعم وراء الكواليس، يُسمح للمجتمع بـ «حقيقة رسمية» واحدة فقط. لذا، فإن المطالب التي فرضت على الفنان كانت نابعة من مصدر واحد، وكانت مواصفات الفن محددة وواضحة. كان ذلك، على الأقل، شيء ما: سواء كان الخضوع أو الخداع هو المقصود، فإن قائد واحد خير من عشرة، ومن الأفضل أن تعرف حجم اليد التي تمسك بالسوط وشكلها. ويفضل أن يتصف القائد بالوضوح والثبات لا بتقلب الهوى. 

اليوم، بدلًا من صوت واحد، عشرات الأصوات تصدر المطالب. لم تعد هناك حقيقة واحدة، ولا سلطة واحدة –وإنما هناك حصيلة من مدعي القيادة الذين يغتصبون أماكنهم. جميعهم يفيضون بالتواريخ والإحصائيات والحجج والبراهين والحقائق والاقتباسات. أولًا، يترافعون ويعظون، وأخيرًا يلتجأون إلى الترويع بالتهديدات واللعن المعنوي. كل منهم يجر الفنان إلى طريق، ويخبره بما عليه فعله إذا كان يرغب في أن يملأ بطنه وينجو بنفسه.

بالنسبة للفنان، في الوقت الحالي، لا يمكن أن يكون هناك إذعان ولا تحايل. بلاء الضمير الحر أنه يعجز عن تجاهل الوسيلة سعيًا نحو الغاية. ومن المثير للسخرية أن الإذعان لن يفيد، فحتى إذا قرر الفنان أن يفسد هذا الضمير، أين يمكنه أن يجد السلام في برج بابل هذا؟ إرضاء أحدهم يعني إغضاب الآخر. وأي أمان في أي من هؤلاء الخصوم المتنازعين؟

امتدت حقائق الهند ومصر واليونان على مدار قرون. وفيما يتعلق بالفن، أحل مجتمعنا الذائقة محل الحقيقة، إذ وجد في ذلك مزيدًا من التسلية وقليلًا من المسؤولية، وأصبح يغير ذائقته كأنه يغير قبعاته وأحذيته. وهنا للفنان، موضوعًا بين الاختيار والتنوع، أن يرفع من صوت نواحه. لم يحدث سابقًا أن كانت مسببات معاناته على هذا العدد من الصور، أو بلغت أصواتها هذه الدرجة من الثرثرة، ولم تفرز قط هذا القدر من الإسهاب.


[1] أمبرواز فولار (1866-1939) أحد أهم تجار الأعمال الفنية في مشهد الفن الفرنسي المعاصر في بدايات القرن العشرين.

 إدجار ديجا (1834-1917) فنان فرنسي اشتهر بلوحاته الزيتية التي تصور راقصات الباليه[2]

 [3]  بيترو أريتينو (1429-1556) كاتب مسرحيات وشاعر إيطالي، أحد أبرز أدباء عصر النهضة.

 [4]  لوحة جصية لمايكيلانجيلو تغطي جدار هيكل كنيسة سيستينا في مدينة الفاتيكان، وتصور اللوحة المجيء الثاني للمسيح وحساب الله الأخير للبشرية.