ليونارد كوهين أعطاني 200 فرنك

حوار مع ليونارد كوهين

حوار: مارتن أويسترجارد

نُشر الحوار أولًا باللغة الدنماركية في مجلة يورومان، سبتمبر 2001

والنص عن ترجمة نيلز وادشولت للإنجليزية

ترجمة: أحمد تامر

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


ليونارد كوهين
ليونارد كوهين، عن zenkan

بعد خمس سنوات قضاها في معبد الزن على قمة جبل في شتاءٍ دائم، أدرك ليونارد كوهين بوضوح أنه لم يكن ناسكًا جيدًا. سأله مارتن أويسترجارد عن حياته في المعبد، بينما شَغَّل ليونارد كوهين ألبومه الجديد، وتحدثا عن النجاح العظيم الذي لم يستطع قط أن يعوض اكتئابًا أعظم. لكن في البداية أراد كوهين أن يسمع قصة المعاطف المُسْتَبدَلة.

قال ليونارد: «تشبه بداية رواية بوليسية»، ثم ضحك بهدوء حين أخبرته كيف استبدلت بالخطأ معطفي بمعطفِ رجلٍ آخر على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية، منذ ساعة ونصف الساعة في مطار «شارل دي جول» في باريس.

أراد ليونارد أن يسمع القصة كاملة قبل أن نبدأ المقابلة هنا في الغرفة رقم 204 في فندق «رافاييل». ومرة أخرى كان عليَّ أن أشرح كيف أنني لم أكتشف الخطأ إلا بعد هبوط الطائرة بساعة إلا ربع، بينما أقف في محطة القطار خارج المطار، على وشك أن أشتري تذكرة إلى «جار دو نور». في جيب المعطف الداخلي كان هناك جواز سفر رجل آخر وتذكرة عودة، وفي الجيب الخارجي ربطة عنق حمراء - لكن لا مال.

بعد خمسة عشر دقيقة ثقيلة من العرق والفزع، استطعتُ أن أصل إلى موظف بالمطار كي يتصل بالفندق الذي يقيم فيه ليونارد كوهين، ويخبر الأشخاص من شركة التسجيل أنني تأخرت وأنني لن أستطيع الذهاب إلى أي مكان دون مال. بينما أنتظر أن يصلني أحد بالفندق، نبهتْني موظفة بالمطار بابتسامة أنه إذا كان معطفي ماركة «هوجو بوس» ومعطفه ماركة «سيزاريو» فإنها لم تكن صفقة جيدة. 

ضحك ليونارد مجددًا: «هل تواصلت بأي شكل مع الرجل؟» تواصلتُ معه بالفعل. في الفندق كانت هناك رسالة ورقم موبايل في انتظاري، واكتشفت أن الرجل الذي يرتدي معطفي يجلس في اجتماع تابع لشركة «جيفنشي» لمستحضرات التجميل.

سألني ليونارد كوهين: «هل كان قادرًا على أن يرى الجانب المسلي من الموقف؟» وبالفعل، ضحك الرجل في الهاتف ودبرنا لقاءً.

سألني ليونارد كوهين: «هل هذا يعني أنك مُفلس؟» وحين أومأت برأسي مد يده داخل سترته وأخرج 200 فرنك، سلمها لي بيده عبر الطاولة وفنجاني القهوة وأصر أن آخذها.

ليونارد كوهين أعطاني 200 فرنك، يا لها من بداية!

يُعَد ليونارد أسطورة لبضعة أجيال من المثقفين الباحثين والحساسين في العالم الغربي، ومصدر إلهام لشعراء متغطرسين ولمغنيي روك وقورين. صدر أول ألبوماته في نفس الوقت مع ثورة الشباب عام 1967. أتذكر كيف كان الأمر وقتها في السبعينيات، رأيتُ أمي تنهار على أغنيته الكلاسيكية «سوزان». وكيف كان أخي ذو التسع سنوات يقدّس ألبومات ليونارد كوهين الخاصة به بنفس الجلال الذي يفعله مع ألبومات بوب ديلان. لكن صوت كوهين كان أكثر غموضًا من الثغاء الأخنف لديلان. ومع شعره الأسود الفاحم، والعينين الداكنتين، وبدلته المهندمة دائمًا، امتلك سحرًا أنيقًا وإيروتيكيًا. كان معشوق النساء، شاعريًا ولطيفًا وحساسًا.

اقترح ليونارد كوهين أن نستمع إلى الموسيقى بينما نتحدث. نهض وذهب إلى الغرفة المجاورة وأحضر أسطوانة، بينما يخبرني أن أبحث عن فيشة للستيريو. «عشر أغان جديدة»، أول ألبوم لكوهين بعد تسع سنوات. أصبح عمره 67 عامًا، يمكن أن يكون والدي.

نفدت سجائر ليونارد كوهين وقدمتُ له واحدة من سجائري البراون كينجز - لحسن الحظ لم تكن علبة السجائر في المعطف. دخن وأخبرني عن الشعور المريح الذي يشعر به من الألبوم.

«تستطيع أن تدير الألبوم وتمدد ظهرك. إنه لا يلوي ذراعك!»

«لماذا قررت أن تسجل ألبومًا؟»

«أنا لم أقرر في الحقيقة. كنت أعيش في المعبد لخمس أو ست سنوات، لم أكن واثقًا حتى من إصدار ألبوم آخر. لم يكن سؤالًا ملحًا بالنسبة إليَّ. الألبوم السابق صدر عام 1993 وبعدها أحييتُ 60 أو 70 حفلة. كنت اقترب من الستين، ومعلمي القديم روشي كان قريبًا من التسعين. اعتقدتُ أن هذا وقتًا مناسبًا لأُكثِّف دراساتي معه. لم أعرف كم سيظل -أو سأظلُ- على قيد الحياة، لذا ذهبت إلى مركز طائفة الزن.

إنه معسكر كشافة قديم على قمة جبل، جبل بالدي. المدرسة والمعبد جُهِّزا تأثرًا بمعابد الزن اليابانية، لكنها ما زالت غريبة على أمريكيّ. إنها صارمة وقاسية إلى حدٍ ما. لن يرغب كثير من السياح الزوار في العيش بتلك الطريقة. إنهم يرحلون بسرعة».

«إنهم لا يحبون غسل الصحون إلى هذا الحد؟» (في مقابلة كندية، قال كوهين بسخرية إنهم غادروا المعبد لأنهم ملوا من غسل الصحون).

«لا، إنهم لا يحبون غسل الصحون - على كافة المستويات».

«لماذا كنت منجذبًا إلى معلمك؟»

«قبل أي شيء أنا معجب به بشدة. بالنسبة إلينا كانت دائمًا صداقة أكثر من كونها علاقة بين معلمٍ وتابع. قابلتُه منذ أكثر من 30 سنة. لعدة سنوات كنا نشرب معًا. كنت أدرس على مستوى سطحي نوعًا ما، لكن ما إن بدأت أرى الإمكانيات العظيمة لدى هذا الرجل، أردتُ أن أقترب منه وأنضم إلى دروسه. في النهاية أصبحت راهبًا، عشتُ بالقرب منه واعتنيت به. لكن لم أكن أسعى وراء دينٍ جديد. كنت سعيدًا بما أؤمن، وما زلت سعيدًا بكوني يهوديًا. التدريبات والتعاليم في المعبد لا تجردك من معتقداتك الدينية أو طريقة عيشك لحياتك. الغرض من تلك الدروس أن تُخضع نفسك وتذيبها».

«هل كنت ناجحًا في إخضاع نفسك؟»

«لا، كنت سيئًا للغاية. لم أكن تابعًا جيدًا قط. اكتشفت باقتراب نهاية إقامتي كناسكٍ أنني بلا مهارات دينية على الاطلاق. وبعد ذلك حلت سكينة عميقة وشيئًا أشبه بالسلام. لم يكن عليَّ قط أن أفهم. في الحقيقة أنا لم أفهم قط».

«كيف كانت ردة فعل معلمك حين غادرت؟»

«طلبت منه الإذن كي أرحل. وأعطاني ذلك الإذن على مضض، لأننا كنا صديقين وكنا نمضي جزءًا كبيرًا من اليوم معًا. كانت (مغادرة) لها الطابع الحزين للانفصال، لكننا ما زلنا نحاول تمضية الوقت معًا حين يأتي إلى لوس أنجلس، وهو ما يحدث غالبًا. منذ أسبوعين تقريبًا لم يكن يشعر بأنه بخير فأعددت له شوربة الفراخ التي يحبَها جدًا. ما زلت قريبًا من وَسَط المعبد، وكان العيش وسط مجموعة من الأشخاص ما جذبني. قبل هذا حياتي كانت فوضوية، وكانت واحدة من أهم الأسباب التي جعلتني أخطو إلى نظام روشيل، فقط كي أجعل لحياتي شكلًا وبنية».

«هل جعلت حياتك أقل فوضوية؟»

«أنا وكل الرهبان الكبار كنا نستيقظ في الثانية والنصف صباحًا. أول شيء كنت أفعله أن أعد وعاء كبيرًا من القهوة، لأنني كنت بحاجة إلى نصف ساعة جيدة مع القهوة قبل أن أكون مستعدًا لأن أستقبل اليوم مع الثالثة فجرًا، عندما يُسْتَدعى الآخرين. بعدها هناك ساعة من الترنيم ثم بضع ساعات من التأمل. بعد ذلك لديك الأعمال اليومية التي تنتهي بساعتين أو ثلاثة من التأمل في المساء. مرة واحدة في الشهر تجلس اليوم كله، لمدة تتراوح من 12 إلى 18 ساعة في غرفة التأمل».

«ما الأعمال اليومية؟»

«هناك النجارة، السباكة والدهان. المكان يكون بحاجة إلى الكنس والتنظيف. بعضنا يطبخ لبقية الرهبان، البعض يُزيح الثلج؛ هناك الكثير من الثلج يجب إزالته من الطريق والممرات لأنه يقع فوق الخط المحدد له. بالأعلى، على الجبل، شتاءٌ طوال العام، بينما تسفعهم الشمس في لوس أنجلس بالأسفل».

«ما الذي قد يجعل اليوم مميزًا في المعبد؟»

«لا يوجد يوم مميز. الفكرة أنه لا شيء وكل شيء مميز في نفس الوقت. هناك فقط الروتين الذي يجب أن تخضع له. إن لم تستطع، تصبح تعيسًا جدًا. كل شيء مُعَد للحدوث مع قرع الجرس أو التصفيق. إن شعرت بالإكراه كل مرة تسمع تلك الإشارات، التي تعني أن هناك شيئًا محددًا عليك فعله، فإنك ستصبح تعيسًا جدًا بعد فترة. هذا يحدث لبعض الأشخاص، ولذا يرحلون».

«لكنك خضعت؟»

«يجب أن تخضع كي تبقى هناك. أنت تتبع الروتين أيًا كان ما تشعر به، وميزة هذا أنك تتوقف عن الاعتماد على ما تشعر به. كما تقول واحدة من أغاني (الألبوم): (أنا لا أثق بمشاعري الداخلية/ المشاعر الداخلية تأتي وتذهب)».

«هذا مقطع جيد».

«نعم، أعتقد أن هذا مقطعي المفضل. المقطع الآخر المفضل لي هو: (واستُدعيت الآن لتتعامل/ مع هزيمتك الساحقة/ تعيش حياتك كما لو كانت حقيقية/ عمق ألف قبلة)».

«لم أفهم هذا المقطع جيدًا، هل يمكنك أن تشرح؟»

«يدرك الجميع في وقت معين أنهم لا يقودون حياتهم على النحو الذي يريدونه. تبدو الحياة وقتها هزيمةً. إن كنتَ محظوظًا، فإنك ستدرك متأخرًا أن لا أحد يتحكم في شكل الحياة التي يريدها. تدرك أنك لا تستطيع التحكم في حياتك، لأنك إن كنت تستطيع، كنت ستعيش حياة مختلفة. هذا الإدراك بأنك لا تتحكم بأي شيء أول تذكير بالهزيمة. بعد ذلك، يتوجب عليك الفهم أنه يجب أن تعيش حياتك كما لو كانت حقيقية، كما لو أنك المخرج، كما لو أن اختياراتك لها تبعات من الممكن التنبؤ بها. الحياة تعني أن تختار، ولذا يجب علينا الاستمرار بالقيام بتلك الاختيارات كما لو أنها حقيقية ويمكن التحكم بها. لكنك تعرف بداخلك أنك لا تدير العرض، لكنك تعيش حياتك (عمق ألف قبلة)، وبهذه العبارة أعني، أنك تتقبل ذلك الغموض وتخضع له».

«وكيف يكون هذا الاستسلام؟»

«حتى هذا لا يمكنك التحكم به. يمكن أن تدعو أن يحصل هذا وتحاول تدبيره، كأنه شيء يمكن تحقيقه عبر هذا الطريق. يمكن أيضًا أن تتخيل أنك مدرك لماهية كل هذا الأمر. لكن قبل أن تختبر كيف يكون الخضوع، فإنك لا تعرف حتى شكله.

شيءٌ ما يطمئن داخلك. الجميع يريد هذه الطمأنينة، لكن هذه الطمأنينة نشاطٌ آخر لا يمكنك التحكم به. بالنسبة إليَّ كان الأمر يتعلق بالتقدم بالعمر. قرأتُ في مكانٍ ما أنك عندما تتقدم بالعمر فإن خلايا المخ المسؤولة عن الشعور بالخوف تبدأ بالموت. أعرف الكثير من المتقدمين بالعمر يشعرون بالقلق الشديد والمرارة، لكن لحسن الحظ لم يحدث هذا في حالتي. في مرحلة ما بدأت أتحرر من القلق. أعتقد بأنه إدراك لفكرة عدم التحكم، إدراك لما كان يحاول معلمي أن يخبرني به. لم أستطع أن أستوعبها. لم أفهمها حقًا. وربما لم يكن مقصودًا بها أن تُفْهَم. ربما كان عليها أن تغرق عميقًا في قلبي وتجعل الحياة مُطَمْئِنة أكثر. لكنني لست واثقًا ولا مدركًا لهذه العملية، ولهذا لا أستطيع أن أصفها لك بشكل جيد. لكن هناك شيئًا هدأ داخلي».

«يبدو هذا جيدًا!»

«حسنًا، كان هذا جيدًا إلى حد كبير».

«لقد قرأت كتابًا صغيرًا عن أستاذ فلسفة ألماني ذهب إلى اليابان لدراسة…». 

«الزن وفن الرماية بالقوس»، قاطعني ليونارد كوهين بود. «قرأته منذ سنوات بعيدة. إنه كتاب جميل».

«ما زلت أذكر كيف واجه البروفيسور الألماني وقتًا عصيبًا في تعلم كيفية إطلاق السهم في الوقت المناسب بصورة تلقائية، وكيف تظاهر بهذا، الأمر الذي جعل معلمه يأخذ منه قوسه ويتخلى عن تعليمه لفترة من الوقت».

«حسنًا، هكذا الأمر مع هؤلاء الأشخاص. الشيء الوحيد الذي كنت متأكدًا منه خلال مشواري لكي أصبح راهبًا أنه كان يتفهم الصعوبات والتعاسة لحالتي الداخلية وأنه تصرف بطريقة عفوية بما يتناسب معها. إنه كان يتغاضى أو يتقبل كل مشاكلك الصغيرة، وبدلًا من ذلك كان يتحدث كي يطور وينضج وينير جزءًا من طبيعتك. لهذا فإن الأشياء التي كان يقولها كانت تبدو أحيانًا مبهمة حتى يتعمق فهمك وتدرك أنه كان يخاطب الجزء الأعمق والأكثر حميمية من قلبك. من البداية يخاطب هذا الجزء الذي يجب عليك أن تجده، وببطء فإنك تصبح قادرًا على أن تراه بنفسك بطريقة مبهمة، ومغبشة، وضبابية».

«أحيانًا تكتب كلمة (حقيقة) في أغانيك. عن أي نوع من الحقيقة تتحدث؟»

«لدى كل شخص منا ذلك الحس بالحقيقة. قد تكون تلك الحقيقة المحادثة الأكثر حميمية مع قلب الشخص عن رغباته ومتعه. وعندما تبدأ تلك المحادثات بالظهور، تبدو أقرب للحقيقة والشعور بالأصالة.

لكني لا أتخيل أن أمتلك نظامًا ميتافيزيقيًا بلا تناقضات، ولا أعتقد أن هذا واجب الشاعر أو كاتب الأغاني. في واحدة من أغاني الألبوم أبدأ بـ (أبتسم عندما أغضب/ أخون وأكذب/ أفعل ما يتوجب عليَّ كي أستمر/ لكني أعلم ما الخطأ/ وأعلم ما الصواب/ وأنني قد أموت في سبيل الحقيقة/ في حياتي السرية). أن تُفهَم بطريقة قد تخدع الجميع عدا نفسك. هذه الحقيقة موضحة في شكلها الأبسط والأكثر براجماتية وعادية، لكنها ليست الحقيقة العظمى لوجودنا. لا أستطيع أن أتحكم في ذلك»، يقول ليونارد كوهين بابتسامة وضحكة لطيفة في صوته.

عندما يضحك ليونارد كوهين، يفعل ذلك بصمت تقريبًا كأنه شخص مصاب بالتهاب رئوي مزمن وليس لديه قدرة على السعال. لكن من الصعب إدراك أن شخصًا بروحٍ حية مثله قد أصبح أكثر تقدمًا في العمر وأكثر قابلية للكسر. يصبح لديك هذا الإلحاح أن تعطي دفئه ودماثته وطبيعته اللطيفة وعينيه البنيتين الكبيرتين حضنًا كبيرًا. ويصبح من السهل إدراك سبب انجذاب النساء والرجال له لعدة عقود؛ روحه الرهيفة والحادة في الوقت نفسه.

«كيف حالك هذا الأيام؟»

«أنا ممتن جدًا؛ إنها فترة سعيدة من حياتي وممتلئة بالنعم».

«هل بامكانك إعطائي مثالًا؟»

«الأشخاص من حولي بصحة جيدة ويعملون. أبنائي بخير وكذلك أصدقائي. أنا نفسي قادر على العمل على ما يبدو. بشكل عام يوجد سلام، وأشعر بأن هذه نعمة».

«يبدو هذا جيدًا».

«نعم، هذا جيد في الوقت الحالي، لكن ليس هناك ضمانات، والأشياء تتغير. حاليًا، أنا شاكر جدًا لأنني انتهيت من ألبوم جيد. فقط أن أكون قادرًا على العمل وأن يكون لدي علاقات قريبة من الأشخاص الذين أعمل معهم. إن لم يخرج عملنا على نحو جيد، ما زالت التجربة تستحق. لقد كانت تجربة مكثفة وأخذت مني عامين من العمل اليومي».

«كيف كان يمر يوم عملك؟»

«لين وشارون، مهندسة الصوت والمنتجة، كانتا تأتيان خلال الظهيرة وأنا أكون أعددت الغداء بالفعل، وبعدها نعمل لخمس أو ست ساعات. ربما أُعِدُ لهم عشاءً خفيفًا ثم نكمل بعدها العمل في المساء. لقد استمر ذلك يومًا بعد يوم لفترة طويلة».

«ما المختلف الآن عن ثلاثين عامًا سابقة؟»

«بالنسبة إليَّ كان الأمر عملًا شاقًا دومًا لأنني كنت أُغيِّر باستمرار الأغنيات مرة بعد أخرى بلا نهاية. ولا أكون راضيًا أبدًا. لكن على النقيض مما سبق، أنا لم أعد قلقًا طوال الوقت. بالإضافة إلى أن التحدث إلى الصحفيين لم يَعُد صعبًا».

«ما الذي كان صعبًا في ذلك؟»

«هناك شيء غير سار في التحدث عن نفسك باستمرار يومًا بعد يوم. وتصبح مدركًا أنك لا تقول الحقيقة حتى إن أردت ذلك. أنا لا أود أن أقول الحقيقة، ولا أعرف أيضًا إن كان من المناسب أن تكشف عن نفسك لأي شخص على الإطلاق».

«ما نوع النصيحة التي قد تسديها إلى نفسك قبل ثلاثين سنة؟»

«جزء كبير من حياتي كان عبارة عن محاولة تخطي الاكتئاب. لكن، كما أستطيع أن أرى، لم يكن هناك شيئًا يدعو للاكتئاب، وهذا بحد ذاته يدعو...».

«للاكتئاب؟»

«نعم!» يقول ليونارد كوهين، ثم يضحك.

«عارف، إنه مرض، ومن الممتع أن تمزح بشأنه، لكنه ليس مَرِحًا عندما تكون غارقًا في الاكتئاب. أنا لست فريدًا. العديد من الاشخاص يتكبدون العيش تحت ظروف مشابهة. لكنه كان من الصعب عليَّ أن أختبر الاكتئاب في العمق لأني كنت ناجحًا، كنت بارزًا، كانت لديَّ هبة وموهبة لا بأس بها، كان بإمكاني أن أرى خلال الأشياء وكانت لديَّ علاقات وثيقة بالأشخاص وصداقات رائعة. شعرت أنني وغدٌ حقًا لأنني لم أكن سعيدًا، لكني كنت غير قادر على السعادة. كان لديَّ شعورٌ عميق بالمعاناة، مما أثر على معظم حياتي. كانت معظم نشاطاتي هي الشرب وتعاطي المخدرات، مراودة النساء أو التغزل بالدراسات الدينية. مع كل ذلك، حاولت مقاومة الاكتئاب الذي لم أستطع اختراقه».

«ربما ليس هناك أي نوع من النصائح قد تسديها إلى نفسك وأنت شاب؟»

«من الخطابات التي أتلقاها، أدرك أن العديد من الأشخاص كانوا أو ما زالوا في نفس الحالة، شعروا نوعًا ما بالانعتاق أو التعافي بينما يستمعوا إلى أغانيّ. وهذا شيء أشعر بالامتنان الشديد عليه.

إن كان لدى شخص ما الوقت الكافي –أو الملل الكافي- كي يتفحص أعمالي الكاملة من الكتب والأغاني، فسيكون هناك، إلى حد ما، وصف دقيق للعملية، وبعض الأفكار حول المسألة على طول الطريق. لكني لا أتخيل أنني مُعَالِج، ولا أمتلك الحكمة عن كل شيء. لقد وصفت الأمر كما هو بقدر استطاعتي».

«ربما جزء من التعافي أن تشارك الأمر أشخاصًا آخرين؟»

«أعتقد أن هذا صحيح. أن تشارك الأمر بتفاصيله وبصراحة قدر الإمكان».

جلسنا فقط لفترة بينما ذهب ليونارد ليجلب القهوة ويصب لنا كوبين. لا أستطيع أن آتِ بأية أسئلة وأسأل بشكل عشوائي.

«ماذا عن النساء؟»

«لا أعيش مع أحد. لديَّ العديد من العلاقات الوثيقة. لقد سُجِل الألبوم بالتعاون الوثيق مع امرأتين، كان الأمر فيه الكثير من العطاء والحميمة، مع ذلك لم تكن علاقة عمل رومانسية. وهذا شيء جديد بالنسبة إليَّ، لقد كان لدي دومًا علاقات وثيقة بالنساء، لكن لم أكن قادرًا قط أن أراهن على حقيقتهن».

«رؤيتهن؟»

«لم أرَهن لأني كنت أريدهن. وعندما تريد شيئًا، تريده بطريقتك. تكمن سمة الرغبة في أنها رغبتك أنت، لكنها لها سطوتها، وعندما يهدأ شيء ما بداخلك –وأود أن أضيف أني أبعد ما أكون عن التحرر من الرغبة- فإنك تبدأ برؤية الشخص الآخر بشكل حقيقي».

ينصت ليونارد كوهين لوهلة ويمسك بالكلمات في الأغنية التي نستمع إليها.

«ها هنا تتابع آخر جيد: (رشفة من النبيذ/ وسيجارة/ ثم يحين وقت الرحيل./ رتبت المطبخ/ دوزنت البَنـﭽو القديم./ أنا مطلوب في الزحام؛/ إنهم يحتفظون لي بمقعد/ أنا ما أكونه، وما أكونه هو/ العودة لشارع العفاريت)». (1)

«ماذا تعني بالعودة إلى شارع العفاريت؟» (2)

«أعتقد أنه يعني تقبُل القواعد العادية لحياة المرء حيث هناك الرغبة، العمل، الأخطاء... النِعَم!»

«إنك تعدل من أغانيك مرة بعد مرة؟»

«نعم، للأسف هذه طريقتي في العمل. كنت أتمنى لو أني هذا الشخص الذي يشعر بالرضا من أول مرة. لأنه حتى لو أمضيت وقتًا كثيرًا في عمل تغييرات، فليس هذا ضمانة للجودة - أحيانًا كثيرة يكون العكس».

«إذن لماذا تستمر في ذلك؟»

«أنا فقط لا أشعر أنني فعلتها بالشكل الصحيح. أنه أمر مزعج للغاية، ويجعلك ملتصقًا بالدفتر أو الكمبيوتر ساعة بعد أخرى. لقد لعنت الألبوم الأخير قليلًا، لكني أيضًا كنت سعيدًا لكوني منشغلًا بالكامل. مضى وقت طويل منذ أن اشتكيت آخر مرة من العمل، لأن هذه طريقتي في العمل، كلمة في المرة.

بمرور السنوات اكتشفت أن الأغنية تخضع في النهاية، إنها بحاجة فقط للوقت. لكن كمية الوقت أبعد ما يكون عن الوقت المعقول الذي يجب أن تنفقه. قد تظن أنها قد تأخذ بقية اليوم، أو الأسبوع، أو الشهر. لكن في حالتي سنوات.

«واحدة من أعظم الأغنيات في التاريخ هي Blueberry Hill تل التوت.

توقف القمر على تل التوت . كنت سأشعر بالسعادة إن كنتُ مَن كتب هذا السطر. لا أعلم كم من الوقت استغرق صاحبه في كتابته، لكن في الأغلب ليس سنوات».

»مع هذا فإنك كتبت هذا السطر:

أنا لا أثق بمشاعري الداخلية، المشاعر تأتي وتذهب

I don't trust my inner feelings - Inner feelings come and go.

«نعم، وهذا جمال القافية. لم أكن سآتي بهذا السطر إن لم أكن مُضْطَرًا أن أجد ما يتماشى مع كلمة (أعرف) 'know' في السطر السابق: «أعلم أنني مغفورٌ لي، لكن لا أدري كيف علمت»I know that I'm forgiven, / but I don't know how I know، أعرف أنني كنت قادرًا على كتابة هذا، لأنها كانت تصف الحالة التي كنت فيها. لكن السطر التالي جاء بهذه الطريقة لأنني كنت مُرْغَمًا على إيجاد ما يتماشى مع القافية».

أطلَّت السيدة من شركة الانتاج برأسها من الباب، منذ خمس دقائق مضت،
إشارةً إلى أن المقابلة ستنتهي قريبًا. 

«أعتقد أننا انتهينا الآن».

«حقًا؟ كان هذا خاليًا من الألم. شكرًا!» 

«لا أؤمن كثيرًا بالألم».

«ها ها، لكن هل يؤمن بك الألم؟ هذا هو السؤال!»

«أعتقد أنه يؤمن».

«بالأمس قرأت اقتباسًا من فيلسوف فرنسي: (فن العيش يعتمد على قدرة المرء. استغل معاناتك!)»

«من ثم يجب عليَّ أن أسألك، ما الذي كان من المؤلم التحدث بشأنه؟»

«خلال السنوات العديدة التي عشتها، كان كل شيئًا مؤلمًا. ولذا فإنني أشرب». 

«هل ما زلت تشرب؟»

«نعم، لكن بحدود. سابقًا كنت أشرب بلا حدود. لكنك ما أن تتقدم بالعمر، لا تتحمل معدتك الإفراط بنفس الحماسة كالسابق. وهذا ما أعنيه بأن تفعل ما تؤمر. تظهر القيود، وإن كنت محظوظًا، فإنك لا تتجادل معها. لكن فقط لأنك لا تكتب بنفس جودة شكسبير تعني أن تتوقف عن الكتابة».


(1) Boogie Street في الأصل، وربما يكون الاسم مستوحى من البووجي-ووجي Boogie-Woogie وهو نوع من أنواع الموسيقى الرائجة في العشرينيات، وهي تعتبر نوع موسيقي مشتق من البلوز، يستخدم ألحان البلوز بطريقة إيقاعية راقصة، لكن بينما يعبر البلوز عن مشاعر متعددة، فإن البووجي ووجي يرتبط أساسًا بالرقص، وأداته الرئيسية هي البيانو، وفي الأغنية يصبح الشارع استعارة لجميع الأماكن التي تحكم فيها الصراعات اليومية.[المترجم]، المصدر هنا وهنا.

(2) في الحقيقة يوجد بالفعل شارع اسمه شارع بووجي، في سنغافورة، وقد زاره كوهين بعد جولة موسيقية له في أستراليا منذ سنوات عديدة، وكما يصفه كوهين بكلماته في مقابلة له مع مجلة مكلينز: «خلال النهار، يغدو الشارع مشهدًا لنشاطات تجارية مكثفة، هناك العديد من الأكشاك التي تبيع الألبومات بطريقة غير شرعية، خلال هذه الفترة كان من الصعب أن تعثر على تسجيلاتي في الغرب، ولم تكن تُعرض. لكنني سألت رجلًا إن كان لديه أي من ألبومات ليونارد كوهين، فدخل إلى خيمته حيث يخزن بضاعته، وأحضر لي صندوقًا يحوي ألبوماتي الكاملة وشريط الكاسيت الواحد بدولار فقط»....«وخلال الليل، كان  مشهدًا من التبادل الجنسي المكثف والمقلق. دعارة... وبدا كل شيء متاحًا، أنا لا أعرف إن كانت هناك دعارة فعلًا، لكنها بدت كامكانية متبادلة. شارع بوجي بالنسبة لي كان شارع العمل والرغبة، الحياة العادية والمكان الذي نعيش فيه معظم حياتنا والذي تشعر في بالارتياح حول أطفالك، وقبلة من حبيبتك، أو ذروة التجربة التي تذوب فيها نفسك، ولم يختبرها شخص لذا تشعر بالانتعاش عندما تعود من تلك اللحظات. وكما قال معلمي القديم: (الجنة مكان طيب للزيارة، لكنك لا تستطيع أن تعيش هناك لأنه لا توجد حمامات أو مطاعم" لذا فإننا نتمنى تلك اللحظات السماوية التي ندخل فيها في تلك العناقات والمفاهيم المفاجئة للجمال والشعور بالرغبة، لكننا نعود من فورنا إلى شارع بووجي)». [المترجم] المصدر هنا.