اقتباسات من كتاب «الفراديس المصطنعة.. في الحشيش والأفيون»

لشارل بودلير

عن ترجمة: ناظم بن إبراهيم

الاقتباسات من اختيار: شكري مناع


شارل بودلير، عن poetry foundation

يجب إذن على الناس وعلى الجهلة الذين لديهم فضول التعرف علي ملذات استثنائية أن يعرفوا أنهم لن يجدوا في الحشيش أي شيء خارق، أي شئ مطلقًا سوى الطبيعة في صيغتها المضاعفة والمفرطة. ولن يؤدي الدماغ والخلايا التي تنتج النشوة إلا إلى الظواهر الاعتيادية والفردية، واذا صح أنها ستكون ظواهر مكثفة في العدد وفي الطاقة الذهنية الناتجة عنها، فإنها ستبقى وفية لمصدرها. ولن يستطيع الإنسان تجاوز حدود طبيعته المادية والمعنوية، ولن يكون الحشيش حسب الانطباعات والأفكار المألوفة للإنسان سوي مرآة كبيرة، يرى فيها نفسه، ولكنها مرآة قوية وصافية أيما صفاء.


لقد استطاع الرجل الذي سلم نفسه طويلًا الي الأفيون أو الحشيش أن يجد، وهو منهك كما كان في أثناء خضوعه المعتاد، الطاقة اللازمة لتجاوز ذلك. إنه يبدو لي مثل سجين هارب. وإني أكن له من الإعجاب أكثر مما أكنه لذلك العقلاني الذي لم يفشل مرة واحدة في حياته، بحذره الدائم الذي مكنه من تجنب الإغواء.


* أما بالنسبة إلي الحب، فقد سمعت الكثير من الناس الذين يحركهم فضول مراهقين، يحاولون استفسار أولئك الذين على دراية باستخدام الحشيش. ماذا يمكن أن تكون نشوة الحب، القوية في حالتها الطبيعية مُسبقًا، عندما تكون مضمنة داخل النشوة الأخرى، مثل شمس داخل شمس؟ هذا هو السؤال الذي سيطرح داخل كثير من العقول التي سأسمي أصحابها بمتسكعي العالم المثقف.


يجب علي المرء أن يعاني كثيرًا، كي يكون له هذا الإحساس يجب أن يكون واحدًا من تلك القلوب التي فتحها البؤس، وليَّنها، عكس تلك التي أغلقها و أقساها. إن بدوي الحضارة يتعلم في صحراء المدن الكبيرة الكثير من دوافع الحنان التي يجهلها الإنسان الذي تقف حساسيته في حدود البيت والعائلة. ثمة في جحيم العواصم، كما في الصحراء، أشياء تُحصن وتصوغ قلب الانسان الذي يحضنه بطريقة أخرى، عندما لا ينحرف به ولا يُضعفه حد التحطم و حد الانتحار.


كانت المدينة الغارقة في الضباب وضوء الليل الشاحب، تمثل الأرض بآلامها ومقابرها التي رغم وجودها بعيدًا في الخلف، فإنها ليست منسية، ولا خارج متناول نظري. وكان المحيط بتنفسه الأزلي، والمحاط بهدوء هائل، يجسد عقلي والتأثير الذي يحكمه وقتها. وبدا لي أنني آخذ، لأول مرة، مسافة بعيدة عن اضطرابات الحياة، وأن الصخب والحُمي والصراع أشياء معلقة، أن فترة راحة وُهبت لآلام قلبي السرية، كانت عطلة رسمية، وخلاصًا من أي عمل إنساني. لم يعد الأمل المزهر في طرق الحياة متعارضًا مع السلام الذي يسكن القبور؛ وبدا لي ذكائي المتطور والحاد رحبًا مثل السماوات ، ومع ذلك، همدت مخاوفي كلها بهدوء إلهي، وكان الهدوء الكامل الذي بدا نتيج  لا للجمود، وإنما للصراع المهيب الذي تخوضه قوى متساوية وقوية؛ نشاطات لا نهائية وراحة لا نهائية.


لقد فهم كتاب السيرة جميعهم، بطريقة شبة كاملة، أهمية الحكايات المرتبطة بطفولة كاتب أو فنان. لكنني أجد أن هذه الاهمية لم تؤكد بما فيه الكفاية  مطلقًا. وفي كثير من الأحيان، ربما أتأمل الأعمال الفنية، لا في ماديتها القابلة للتمثل بسهولة، وفي رموزها واضحة الملامح أو المعني الواضح لمعانيها، وإنما في الروح التي تسكنها، وفي الانطباع الذي تحمله عن محيطها، وفي الأنوار أو الظلمات الروحية التي تشع بها علينا، أحس بشئ ما يغمرني، كما لو كان إحدى الرؤى القديمة من طفولة أصحابها. إن أي حزن و أي متعة يعيشها الطفل متضخمة بحساسيته الرائعة، وتتحول لاحقًا داخل الكهل، وحتي دون علمه إلى أساس عمل فني. أخيرًا، وكي أعبر بطريقة أكثر اختصارًا، لن يكون من السهل أن نثبت من خلال مقارنة فلسفية بين أعمال ناضج، وحالة روحه عندما كان طفلًا، أن العبقرية ليست سوى الطفولة وقد تحولت، موهوبة الآن، كي تعبر عن نفسها من خلال أعضاء فحلة وقوية، ومع ذلك، لا أدعي ربط هذه الفكرة بالقوة الجسدية من أجل شيء أفضل من تخمين محض. 


كان هو، وأخواته الثلاث، صغيرًا جدا عندما مات والدهم تاركًا لأمهم ثروة طائلة، ثروة تاجر إنجليزي حقيقي. إن الرفاة والرخاء وسعة الحياة وروعتها ظروف ملائمة جدًا لتطور حساسية الطفل الطبيعي. ودون أن يكون لي أصدقاء آخرون، باستثناء أخوات صغيرات بريئات، أتقاسم معهن حتي فراش النوم، ومحاطًا بحديقة جميلة وهادئة بعيدة عن مشاهد الفقر ومظاهر الظلم والقهر كلها. لم يكن باستطاعتي، يقول، تمثل الطبيعة الحقيقية لهذا العالم. كان يشكر الله أكثر من مرة علي هذا الامتياز الذي لا يقارن، لا فقط علي أنه يعيش في الريف و العزلة «إنما أيضا علي أن تكون مشاعره الأولي مرتبطة بأحلي الأخوات، ولا بإخوة رهيبين ودائمي التأهب للملاكمة»، وفعلًا، فالرجال الذين ربتهم النساء، وترعرعوا بين النساء لا يشبهون الرجال الآخرين جميعهم،  حتي وإن افترضنا تكافؤ أمزجتهم ومقدراتهم الروحية. إن هدهدة المربيات والأحضان الأمومية. ولمسات الأخوات، خاصة الكبيرات منهن بعدهن الشكل المصغر للأمهات، تحول بعبارة أخرى، وهي تعجنه العجين الذكوري. واستطاع الرجل الذي استحم طويلًا، منذ البداية، في جو المرأة الناعم، وفي رائحة يديها، وثدييها وركبتيها وشعرها وملابسها الشفافة والعائمة، في الحمام المعطر الحلو والمراهم والعطور، ان يلتقطها في خضم ذلك، نعومة في الملمس، وتميزًا في النبرة، ونوعًا من التخنث الذي دونه تبقي أكثر العبقريات جموحًا وفحولة في علاقتها بالكمال في الفن، كيانًا غير مكتمل. في النهاية أريد أن أقول إن الطعم المبكر للعالم الأنثوي، بتموجه المتلألئ والمعطر كله، هو الذي يحدد العبقريات اللاحقةـ وأنا واثق من قدرة قارئتي الذكية جدًا على تبرئة الشكل شبه الحسي لعباراتي ،عندما تتمثل وتتفهم نقاء أفكاري.


ثمة عدد لا نهائي من قصائد الحزن والفرح محفورة واحدة تلو الأخري في رق دماغك الممسوخ، ومثل أوراق الغابات البكر، مثل سحب الهيمالايا السرمدية، مثل الضوء الذي يسقط علي الضوء، تراكمت طبقاتها السميكة، وتوارت كل واحدة منها. كل حسب دورها، في النسيان. لكن في ساعة الموت أو في الحمى أو في الحالة التي يخلقها الأفيون، تتمكن هذه القصائد من استرجاع حياتها وقوتها. لم تمت، وإنما هي نائمة. نعتقد أن أساطير الرهابنة عوضت التراجيديا الإغريقية، وأن الرواية الفروسية عوضت أساطير الرهابنة، لكن ذلك لم يحدث. وكلها تقدم في الحياة، تلاشت الرواية التي سحرته في شبابه والأسطورة الرائعة التي أغوته في طفولته وانعتمت داخل نفسها. لكن تراجيديات الطفولة العميقة – أيادي الاطفال المنتزعين من أمهاتهم إلى الأبد، وشفاه الأطفال المحرومين من تقبيل أخواتهم إلي الأبد- تحيا مختبئة دائمًا تحت أساطير الرق الممسوح الأخرى. وليست للعاطفة والمرض ما يكفي من الكيمياء، كي تحرق تلك البصمات الخالدة كلها.