طغيان الذات المتذكرة

مقال لجلين راندال*
ترجمة: آية أشرف المرسي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها

*جلين راندال قاص وكاتب حر ومصور فوتوغرافي متخصص في تصوير المناظر الطبيعية منذ 1979


صورة لجلين راندال
صورة فوتوغرافية لجلين راندال

توقف للحظة، وحاول خوض هذه التجربة الفكرية. تخيل أنك في إجازة مثالية في أي مكان بالعالم، تفعل أي شيء يخطر على بالك لمدة أسبوع. لكن تحت شرط واحد؛ لن يُسمح لك بالتقاط أي صور أو الكتابة في دفتر يومياتك أثناء إجازتك، وبنهاية الأسبوع ستتناول جرعة شراب تمحو كل ذكرياتك حول هذه التجربة الجميلة التي استمتعت بها. كم ستدفع مقابل هذه الإجازة، بالمقارنة بما ستدفعه من أجل إجازة يمكنك تذكر أحداثها؟

إن كنت مثلي أنا وزوجتي وابنتيّ، لن تدفع شيئًا. بالنسبة لنا، ولأغلب الناس، أجمل التجارب التي نخوضها تصبح بلا قيمة إن لم نستطع تذكرها. يشير عالم النفس دانيال كانيمان في كتابه الرائع «التفكير: السريع والبطيء» إلى أنه يبدو أننا نمتلك ذاتين؛ ذاتًا مُجرِبة، وأخرى متذكرة، تختلفان من حيث ما تحتاجانه وما تريدانه.

يقول كانيمان بأن الذات المجربة تجيب على سؤال «هل تشعر بالألم الآن؟»، بينما النفس المتذكرة تجيب على سؤال «كيف كان الأمر في العموم؟» الذكريات هي كل ما نخرج به من تجربتنا الحياتية، والمنظور الوحيد الذي يمكننا تبنيه عندما نفكر في حياتنا، والذي يأتي من ذاتنا المتذكرة. يستطرد كانيمان كلامه بأن الذات المجربة لا تملك صوتًا. فقد تخطئ الذات المتذكرة في بعض الأحيان، لكنها التي تحفظ وتتذكر، وتحكم كل ما تعلمناه من حياتنا، وعليه تتخذ القرارات. فما تعلمناه من الماضي هو أن نعظّم من شأن ذكرياتنا المستقبلية، وليس بالضرورة تجربتنا المستقبلية. وهذا هو طغيان الذات المتذكرة.

تميل ذاتنا المتذكرة للشعور بقيمة مرحلة ما من حياتنا لا عن طريق مدة الأوقات السعيدة والمؤلمة فيها، بل من خلال ذروة كثافة شعورنا بشعور جيد أو سيء، والمشاعر التي نختبرها في نهاية هذه المرحلة. ما يطلق عليه كانيمان «مدة الإهمال» و«قاعدة نهاية الذروة». فنحن نتذكر لحظات الذروة من إجازاتنا ونهايتها فضلًا عن متوسط شعور كل اللحظات التي قضيناها. فمتوسط تجربتنا، حتى بالنسبة لإجازة نتذكر كونها رائعة، قد تكون في الحقيقة مملة.

هل يساعدنا هذا في فهم الانبهار العالمي -تقريبًا- بالتصوير الفوتوغرافي؟ يقول كانيمان في كتابه إن التقاط العديد من السائحين للصور بشكل جنوني يدل على أن تخزين الذكريات هدف مهم، يؤثر على التخطيط للإجازة وتجربتها. فالمصور لا يرى المشهد كلحظة للاستمتاع والتذوق، لكن كذكرى مستقبلية في طريقها للتصميم. قد تكون الصور الفوتوغرافية ذات فائدة للذات المتذكرة، رغم أننا نادرًا ما ننظر إليها لمدد طويلة، أو على فترات متقاربة كما اعتقدنا، أو لا ننظر إليها على الإطلاق، لكن يظل التقاط الصور لا يعبر بالضرورة عن أفضل طريقة للذات المجربة لدى السائحين للاستمتاع بالمنظر.

كذلك يساعد منظور كانيمان في شرح لماذا على مصوري المناظر الطبيعية، والذين يأملون في أن يثيروا المشاعر بداخل المشاهدين، العمل بجد شديد لالتقاط لحظات غير عادية وعابرة أغلب الأحيان. التقاط ما يراه السائح بالفعل خلال إجازته يعد بلا قيمة، طالما أنه لا يستطيع تذكره. فقليلٌ فقط من السائحين يشهدون الشروق عند بحيرة ما على بعد عدة أميال من أطراف المدينة. ففي أفضل الأحوال، يلمح السياح بعض السحب الملونة من نافذة فندقهم. لكن صورة شروق الشمس عند البحيرة هي التي ستبث ذكريات ممتعة عن عطلتهم، ليس الصورة التي التقطوها في الساعة الثانية عشر ظهرًا، عند وصول معظمهم بالفعل إلى وجهتهم. فكأنما السحب الملونة التي لمحوها من فندقهم عند الفجر أصبحت مدمجة في ذاكرتهم مع البحيرة الجميلة التي رأوها في الظهيرة.

كثيرًا ما لاحظت أن تصوير شروق جميل يقلل من تقديري لهذه اللحظة بينما أشهده، لأنني أكون في كامل تركيزي على التحدي التقني والجمالي للخروج بصورة مثيرة للإعجاب والاهتمام. مع ذلك، تحسن هذه الصورة من قدرتي على تذكر التجربة لاحقًا والاستمتاع بها. فعلى الأغلب أستمتع بالتصوير بعد انتهائه، عند رؤيتي للصور، أكثر من لحظة التقاط الصور نفسها.

هل يعد الأمر مقايضة سيئة؟ هل كان كانيمان محقًا عندما كتب أنه «رغم ما يبدو عليه الأمر من غرابة، فأن الذات المتذكرة، أم الذات المجربة، التي أعيش من خلالها، فتبدو كأنها غريبة بالنسبة لي؟» إن كان الأمر كذلك، فإن التصوير، بقدرته على التقاط لحظة وإبقائها حية إلى الأبد، قادر على إثراء حياتنا.  لكن لا يزال يراودني شعور بالقلق، فإن يقضي المرء حياته لا يفعل شيئًا سوى مراكمة ذكريات ليستمتع بها في مستقبل قد لا يأتي مطلقًا، تعني أننا نتجاهل شيئًا مهمًا. فدومًا ينصحنا المختصون في علم النفس الرائج أن نعيش اللحظة، كما لو كان ذلك سر السعادة. ربما سأصبح يومًا ما بليغًا في لغة الضوء والتكوين حيث لا يتكبد فعل التصوير عناء، كرامي سهام ينتمي إلى تقليد الزن، يرسم ويطلق العنان لريشته في تلاق تام مع هدفه. حتى ذلك الوقت، سيستمر التنازع داخلي حول الخيار الصعب بين عيش اللحظة أم خلق ذكرى صورية عنها.