أن تصبحي امرأة: آراء سيمون دو بوفوار عن التجسد
الأنثوي

مقال لفيليسيتي جوزيف

نُشِر بمجلة Philosophy Now (2008)

ترجمة: سارة شاهين

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.


سيمون دي بوفوار، عن ruudwelten

 «لا تولد الواحدة منا امرأة، ولكنها تصبح كذلك».

سيمون دو بوڤوار، افتتاحية كتاب الجنس اﻵخر

بالنسبة للوجوديين بشكلٍ عام، لا يولد المرء أي شئ: كل ما نحن عليه هو نتيجة اختياراتنا، حيث نبني ذواتنا، من مصادرنا الخاصة، ومما يتيحه لنا المجتمع. فنحن لا نخلق قيمنا فحسب، وإنما نخلق أنفسنا كذلك. رغم أن سيمون دو بوڤوار ظلت وجودية مخلصة طوال حياتها، فقد وضعت حدودًا لتلك الفكرة الوجودية المركزية – فكرة خلق الذات، وتعريف الذات، وعدَّلت بذلك الحرية المطلقة التي اقترحها جان بول سارتر في كتابه «الوجود والعدم». فعلى العكس منه، تقدم دو بوفوار صورة غامضة عن الحرية الإنسانية، تكافح النساء فيها ضد المعوقات الواضحة للجسد الأنثوي. 

في «الجنس الآخر»، كتابها الأشهر، ترسم دو بوفوار ما يشبه تاريخًا وجوديًا لحياة المرأة: كيف يتغير تعامل المرأة مع جسدها، ووظائفها الجسدية، عبر سنوات حياتها، وكيف يؤثر المجتمع على هذا التعامل. هنا، تطرح دو بوفوار السؤال الأساسي بشأن التجسيد الأنثوي: هل المعوقات المزعومة للجسد الأنثوي، هي حقًا معوقات موجودة بشكل موضوعي في كافة المجتمعات، أو أن المجتمع ببساطة، هو من حكم بكونها معوقات؟ تجيب عن هذا السؤال بالتعرض لدراسات حالة عن المراحل المختلفة لحياة المرأة. في هذه الدراسات، يُصَوَّر الجسد الأنثوي بكونه إيجابيًا وسلبيًا، وتصوَّر المرأة بكونها مقهورة وحرة. جسد المرأة هو محل ذلك الغموض، بإمكانها أن تستخدمه كوسيلة للانعتاق، أو تشعر بأنها واقعة تحت سطوته. لا توجد حقيقة جوهرية في هذا الشأن: بل تعتمد على الدرجة التي ترى فيها المرأة نفسها كائنًا حرًا، بدلًا من محط أنظار المجتمع.

لاحظ سارتر أن كل ما ندركه، بما فيه الأشخاص الآخرين، يتحول إلى «موضوع» لنظرتنا، ونحن من يعرّفه. توظف دو بوفوار هذه الفكرة فيما يتعلق بإدراك الرجل للمرأة. مفهوم «المرأة» في ذاته، كما تقترح دو بوفوار، هو مفهوم ذكوري: المرأة دائمًا هي الآخر، لأن الرجل هو «الرائي». هو الذات، وهي الموضوع. الرجل هو من يحدد معنى أن يكون المرء امرأةً. 

ترى دو بوفوار أن  الوضع البيولوجي للمرأة لا يشكل عائقًا في حد ذاته، وإنما الطريقة التي تفسر بها المرأة هذا الوضع، هي ما تجعله إيجابياً أو سلبيًا. التجارب الأنثوية الخاصة -تطور الأعضاء الجنسية الأنثوية، الدورة الشهرية، الحمل، سن اليأس- ليس لها معنى في جوهرها، لكن في مجتمع معادٍ، أو جائر، قد تكتسب تلك التجارب معنى يعرِّفها باعتبارها عبئًا أو نقصًا، حيث ينتهي الأمر بالنساء إلى قبول المعاني التي يعيِّنها لهن المجتمع اﻷبوي. 

تشير دو بوفوار أن الأولاد والبنات لا يختلفون كثيرًا عن بعضهم البعض في مرحلة قبل البلوغ: «لديهم نفس الاهتمامات، ونفس الرغبات».

إذا كانت الاختلافات السيكولوجية الأولية بين الأولاد والبنات الصغار بسيطة نسبيًا، إذن متى تحولت إلى اختلافات جسيمة؟ إذا كان المرء «يصبح» امرأة، كيف يحدث ذلك التحول؟ 

الجسد والأنوثة

تذهب دو بوفوار إلى أنه بينما يحدث التطور الجسدي للفتاة، فإن كل مرحلة تُختبر بوصفها صدمة، وتميزها بحدة، أكثر فأكثر، عن الجنس الآخر. وخلال مرحلة نضوج جسد الفتاة، يظهر المجتمع ردة فعل منذرة، وعنيفة بشكلٍ متزايد. تصف دو بوفوار عملية «التحول لجسد»، وهي عملية يختبر المرء نفسه من خلالها ككائن جنسي، ويصبح جسده محل لنظرة الآخر. هذه العملية ليست سيئة بالضرورة، لكن لسوء الحظ، فإن الفتيات الصغيرات يجبرن على التحول «لجسد»، رغمًا عن إرادتهن:

«تشعر الفتاة الصغيرة أن جسدها يهرب منها.. في الشارع، يلاحقها الرجال بنظراتهم، ويعلقون على تكوينها. وهي ترغب أن تصبح غير مرئية؛ يخيفها أن تصير جسدًا، وأن ُتظهر جسدها».

هناك العديد من الأحداث في حياة الفتاة، أثناء نضوجها، تعزز الاعتقاد أن من سوء الحظ كونها ولدت بجسدٍ أنثوي. الجسد الأنثوي كريه، مؤلم، محرج، مشكلة يجب حلها، قبيح، غريب، إلى آخره. حتى لو حاولت الفتاة أن تنسى امتلاكها لجسد أنثوي، فسيذكرها المجتمع. 

توفر دو بوفوار العديد من الأمثلة على ذلك: الأم التي كثيرًا ما تنتقد جسد ووضعية وقوف ابنتها، وتشعرها بأنها شديدة الوعي بجسدها. الرجل في الشارع، الذي يعلق تعليقات جنسية على جسد الفتاة الصغيرة، ويشعرها بالعار، وخجل الفتاة من مزاح أقاربها الرجال بشأن دورتها الشهرية. 

ورغم ذلك، تعطي دو بوفوار أمثلة إيجابية لامتلاك جسد أنثوي. تبين أن هناك مواقف تشعر فيها النساء الشابات بالارتياح تجاه أجسادهن– بل بالابتهاج والفخر كذلك. مثلًا الفتاة التي تستمتع بالتمشية في الحقول والغابات، شاعرةً برابطة حقيقية مع الطبيعة. تشعر بسعادة عظيمة، وحرية جسدية، لا تتوفر لها في بيئة اجتماعية. في الطبيعة لا يوجد رجال ينظرون إليها، ولا أمهات ينتقدنها. لم تعد ترى نفسها من خلال عيون الآخرين، وصارت حرة وقادرة على أن تعرِّف جسدها بنفسها. 

لكنها لا تستطيع الفرار إلى عالم الطبيعة إلى الأبد. فكونها جزء من مجتمع أبوي يشترط خضوعها لصدمة أخرى - الاتصال الجنسي. الاتصال الجنسي مؤذي جسديًا للفتيات أكثر، لأنه يتضمن الإيلاج، ولأنه يرتبط ببعض الألم. وهو صادم ثقافيًا لأن الفتيات يكن في حالة من الجهل تفوق حالة الأولاد، وغالبًا ما يتم إعدادهن بصورة سيّئة لتلك المرحلة. ثقافيًا أيضًا، هناك آليات معينة سائدة في الاتصال الجنسي، ربما لا تكون مناسبة للإمتاع والنشوة الأنثوية. تشير دو بوفوار إلى أن التثقيف الجنسي للفتيات يميل لكونه أساسًا من النوع «الرومانسي»، والذي يركز على فترة المغازلة، واللمسات الرقيقة، لكن ليس على الإيلاج. لذلك عندما تحدث العلاقة، فإنها تبدو من عالمٍ آخر مقارنة بالخيالات الرومانسية التي تصورتها الفتاة وهي تكبر. تعلق دو بوفوار بجفاء، أنه بالنسبة إلى الشابة المرتاعة، «فإن الحب يكتسب صفة العملية الجراحية».

في النهاية، هل الإيلاج البيولوجي في ذاته هو ما يسبب تلك الأزمة، أم أن جهل الفتاة الشابة، المهندَس ثقافيًا؟ تعتقد دو بوفوار أن الحقائق البيولوجية لا يفترض أن تكون مؤذية وصادمة: فالأزمة سببها نقص في سماحة السلوك الجنسي للرجل، بالإضافة لخوف المرأة من أن تكون موضوعًا لنظرة جنسية عنيفة. وتقترح أن السبيل لتجربة جنسية أكثر إيجابية للجنسين هو تصرف كل شريك «بسماحة إغرائية» تجاه الآخر، بدلًا من «الأنانية الحسية».

تجربة الحمل أكثر إيجابية، لكنها تظل تجربة مبهمة للمرأة: قد تكون استعمارًا ظالمًا لجسدها، وفي نفس الوقت إثراء ًرائعًا. بينما يتطور حمل المرأة، يميل المجتمع للنظر إليها باعتبارها أقل جاذبية، وبأنها لم تعد متاحة جنسيًا. وهو ما يعني هروبًا مؤقتًا من النظرة الذكورية. وترى دو بوفوار أن هذا تطور إيجابي، لأنها «لم تعد تؤدي دورًا كموضوع جنسي، بل صارت ممثلة لنوعها، صارت تجسيدًا لوعد الحياة، وللخلود».

ماذا يحدث عندما تتقدم المرأة في السن؟ تصف دو بوفوار المرأة المسنة بأنها «عازمة على الكفاح ضد المصيبة التي تعمل بشكل غامض على تشويهها». هذا تصور سلبي جدًا للتقدم في العمر. يشبه في نبرته إعلان لشركة تجميل، تضغط على النساء لاقتناء منتجاتها التي تحمي من علامات الزمن. ورغم ذلك، فإن وصف دو بوفوار وصفٌ أمين. نعرف من سيرتها الذاتية أنها عانت بالفعل من محاولة التوافق مع جسدها المتقدم في السن: أحبت الملابس وكانت تعتبر جذابة، وشعرت بالانزعاج عندما أحست أنها تفقد جمالها. لكن من موقعها كفيلسوفة، تمكنت من أن تأخذ خطوة للوراء، وتدرك أن هذا الموقف هو نتيجة للقيمة الهائلة التي يعطيها المجتمع لتلك الممتلكات الزائلة سريعًا. لقد قبلت تعريف المجتمع لقيمتها، واعتبرته تعريفها الخاص. 

تعترف دو بوفوار أن من الممكن للمرأة -وهي تحث خطاها في رحلة العمر- أن تجد نفسها وقد وصلت لمرحلة إيجابية في حياتها: «ربما ستجرؤ على السماح لنفسها بعصيان الموضة السائدة، وعدم الاكتراث لآراء الناس، وتتحرر من الفروض الاجتماعية، والحميات الغذائية، والاعتناء بجمالها».

فربما يكون للتقدم في العمر العديد من الجوانب السلبية، لكنه قد يمنح مهربًا من ضغوط المجتمع. تنحسر الرغبة في الامتثال، وتتزايد الحرية. النقطة التي تشير إليها دو بوفوار هو أن الحرية بحاجة إلى مجال كي تتحرك. في حالة التجسيد الأنثوي، نادرًا ما يوجد مجال يمكن فيه للنساء أن ينظرن إلى أجسادهن نظرتهن الخاصة، حيث تتخلل النظرة الذكورية كلَّ مكان. 

مجال حر

يمكن تفسير اضطهاد النساء بواسطة فكرة تضافر العقل والجسد. لا تختار النساء أن يفكرن بشأن أجسادهن، ووظائفه، بصورة سلبية؛ لكنهن يجبرن على ذلك لأنهن محاصرات في مجتمع أبوي معادٍ. وطبقًا لوجهة النظر هذه، فالجسد ليس شيئًا بإمكاننا لكزه وهمزه، لكنه يتشكل من وفرة من الإدراكات: إذا شعرنا بالسوء حياله، فإنه يصبح «شيئًا سيئًا»، وإذا شعرنا شعورًا طيبًا حياله، فإنه يصير «شيئًا طيبًا». لكن الطريقة التي نفكر بها بشأن أجسادنا لن تكون مسألة اختيار حر، حتى نعيش في مجتمع يعطينا مجالًا لتلك الحرية. إن ما يسعى إليه الفلاسفة النسويون، مثل دو بوفوار، هو خلق مجال تزدهر فيه تلك الحرية.