أودري لورد*: تحويل الصمت إلى لغة وعمل

من كتاب «الأخت الدخيلة»**

ترجمة: رحاب شعبان

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.

* أودري لورد (1934-1992) كاتبة وشاعرة أمريكية نَسَويّة وناشطة في مجال الحقوق المدنية. وصفت نفسها بأنها «سوداء، مثليّة، أم، محاربة، شاعرة» وكرَّست حياتها وموهبتها الإبداعية لمواجهة الظلم الناتج عن العنصرية والتمييز الجنسي والطبقية وكراهية المثليين. واتسمت تلك المواجهة بالاهتمام بالتعبير العاطفي كوسيلة من وسائل محاربة الاضطهاد.

** قُدمت المقالة أثناء حلقة نقاش «المثليات والأدب» بجمعية اللغة الحديثة. في شيكاجو، إلينوي في ديسمبر 28 عام 1977.


أودري لورد
أودري لورد، عن poetry foundation

لقد آمنت مرة تلو الأخرى أن الأشياء الأهم بالنسبة لي لا بد أن تُقال، أن تَجِد لفظًا، أن تُشارَك، حتى مع خطر سحقها أو سوء فهمها، وأن التحدث يفيدني، بقدر يتعدى أي عواقب. فأنا أقف هنا كشاعرة سوداء مثليًّة، بكل ما يمثله كوني ما زلت على قيد الحياة، وقد كان من الممكن ألا أكون كذلك. منذ أقل من شهرين قال لي طبيبان، رجل وامرأة، أنِّي بحاجة لإجراء جراحة الثدي، وأن هناك فرصة تتراوح بين 60 و80 في المائة أن الورم خبيث. في الفترة ما بين التشخيص وإجراء الجراحة، قضيت ثلاثة أسابيع أعاني في محاولة قسرية لإعادة ترتيب حياتي بأكملها، ثم أجريت الجراحة، وكان الورم حميدًا.

لكنني في تلك الأسابيع الثلاثة أُجبرت على تأمل نفسي وحياتي بوضوح مؤلم وملح، هزَّني ولكن تركني أقوى مما كنت. تواجه العديد من النساء مثل هذا الموقف، وقد واجهته بعض الحاضرات اليوم. إنما ساعدني ما مررت به في تلك الفترة على تفسير الكثير من مشاعري المتعلقة بتحويل الصمت إلى لغة وعمل. 

في مواجهتي القسرية والجوهرية لحقيقة فنائي، وما تمنيته وأردته من حياتي، مهما كانت قصيرة، رأيت إنجازاتي وأخطائي بوضوح قاسٍ. وكان ندمي الأكبر على لحظات الصمت. مِمَ كنت أخاف؟ قد يجلب لي الاعتراض أو إبداء الرأي الألم أو الموت، لكن كلنا نتألم بطرق مختلفة، طوال الوقت، والألم إما سيتغير أو ينتهي، بينما الموت هو الصمت الأخير، وقد يأتي سريعًا، سواء قلت ما كان يجب قوله أو ضللت الطريق إلى نفسي ببضع لحظات الصمت الصغيرة، بينما كنت أخطط للتحدث يوما ما، أو انتظرت كلمات شخص آخر. وبدأت أدرك وجود مصدر للقوة في داخلي ينبع من معرفة أنه إذا كانت الحياة أفضل بدون خوف، فإن وضع هذا الخوف في الحسبان يمنحني قوة عظيمة.

سوف أموت، عاجلًا أم آجلًا، سواء تحدثت عن حقيقتي أم لم أتحدث. لم يحمِني صمتي من الأذى، ولن يحميك صمتك، لكن في مقابل كل كلمة حقيقية قلتها، وكل محاولة قمت بها لقول تلك الحقائق التي ما زلت أسعى إليها، وصلت إلى نساء أخريات وصرنا نبحث معًا عن الكلمات التي تناسب عالمًا نؤمن به جميعًا على اختلاف آرائنا. أعطاني التقدير والاهتمام الذي أبدته لي هؤلاء النساء القوة، ومكنني من أن أتأمل في ضروريات حياتي.

كانت النساء اللاتي ساندنّي خلال تلك الفترة بيضاوات وسوداوات، صغيرات وكبيرات، مثليات ومزدوجات ومغايرات الميول الجنسية، تشاركنا جميعًا في خوض حرب ضد طغيان الصمت، ولولا القوة والعناية التي منحتني إياها هؤلاء النساء لما نجوت سالمة. في تلك الأسابيع المليئة بالرهبة أدركت حقيقة ما: أنه في الحرب التي نخوضها جميعًا ضد قوى الموت، بشكل مباشر أو غير مباشر، واع أو لاواع، لستُ مجرد ضحية؛ بل أيضًا مقاتلة.

ما هي الكلمات التي لا تمتلكها بعد؟ ما الذي تحتاج إلى قوله؟ ما هو الطغيان الذي تتحمله يومًا بعد يوم ليصير جزءًا منك فيسممك ويقتلك، وأنت ما زلت صامتًا؟ ربما أمثل لبعضكم الآن وجهًا من وجوه خوفكم. لأنني امرأة، لأنني سوداء، لأنني مثليّة، لأنني أُظهر نفسي: امرأة سوداء شاعرة مقاتلة، وأؤدي عملي. وأتيت لكم الآن لأسأل: هل تؤدون عملكم؟

بالتأكيد أنا خائفة، لأن تحويل الصمت إلى لغة وعمل أمر يقتضي كشف الستار عن الذات، وهو فعل محفوف بالمخاطر، لكن عندما أخبرت ابنتي عن موضوع اليوم وصعوبة التعامل معه، قالت لي: «احكي لهم عن استحالة كونك شخصًا مكتملًا إن بقيت صامتة، لأن هناك دومًا ذلك الجزء الصغير بداخلك الذي يريد أن ينطق. وإن استمررت في تجاهله، فإنه يزداد غضبا وحِدَّة، وإن لم تُنطقيه سينفجر في وجهك يومًا ما».

في سبيل الصمت، ترسم كل منا ملامح خوفها الشخصي - الخوف من الازدراء أو الاستهجان أو شيء من الحكم أو الاعتراف أو التحدي أو الهلاك، لكن أكثر من أي شيء آخر نحن نخاف وجودنا المرئي، الذي بدونه لا نحيا حقًا، ففي هذا البلد، حيث سبَّب الفارق العرقي خللًا دائمًا -وإن كان غير معلن- في الرؤية، لطالما كانت النساء السوداوات مرئيات من جهة، ومن جهة أخرى غير مرئيات، وذلك نتيجة سلب الشخصية الذي تتضمنه العنصرية.

حتى من قلب الحركة النسوية، اضطُررنا للقتال، وما زلنا نقاتل، من أجل هذا الوجود المرئي الذي يجعلنا أكثر عرضة للخطر، أي لوننا الأسود. فكي ننجو في فم ذلك التنين الذي نسميه أمريكا، كان من اللازم أن نتعلم الدرس الأول والأكثر أهمية: أنه لم يكن مقدر لنا النجاة محتفظين بإنسانيتنا، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع الحاضرين الآن، بغض النظر عن لونكم. فكما تعرضنا الرؤية للخطر فهي مصدر قوتنا الأعظم. ستحاول الآلة أن تسحق عظامنا على أي حال، سواء تحدثنا أم لا. باستطاعتنا الجلوس في ركنٍ صامتين للأبد بينما نحن وأخواتنا نفنى، بينما يتم تشويه أطفالنا وتدميرهم، وبينما تتسمم أرضنا. يمكننا المكوث في ركنِ آمن صامتين كالحجر، ولن يتبدد خوفنا ولو بمقدار ضئيل.

نحتفل في منزلي هذا العام بعيد الكوانزا، عيد الحصاد الأمريكي الأفريقي، والذي يبدأ بعد يوم عيد الميلاد ويستمر لمدة سبعة أيام. ولعيد الكوانزا سبعة مبادئ، واحدًا لكل يوم. المبدأ الأول هو «أوموجا»، ويعني الوحدة؛ العزم على المكافحة من أجل تحقيق واستمرار الوحدة مع النفس ومع المجتمع. وكان مبدأ الأمس، اليوم الثاني، هو «كوجيتشاجوليا»، تقرير المصير، أي قرار تعريف الذات، تسمية الذات، والتحدث عن الذات، بدلًا من تعريفها وتحدثها بلسان الغير. اليوم هو ثالث أيام عيد الكوانزا، ومبدأ اليوم هو «أوجيما» -العمل والمسؤولية المشتركة- اتخاذ القرار ببناء واستمرار أنفسنا ومجتمعاتنا معًا، والتعرف على المشكلات وحلها معًا. 

نحن هنا الآن لأننا -بشكل أو بآخر- نتشارك المسؤولية تجاه اللغة وقوتها، وعلينا السعي لاسترداد اللغة التي استُخدِمت ضدنا. عند تحويل الصمت إلى لغة وعمل، يصبح من الضروري أن ترسخ  أو تدرس كل منا دورها في هذا التحول وتدرك أهميته. 

دور الكاتبات منا هو إمعان النظر، ليس فقط في حقيقة ما نقول، بل في حقيقة تلك اللغة التي نستخدمها لقوله، أما الآخرون قد يتمثل دورهم في نشر وإذاعة هذه الكلمات الهامة، لكن قبل كل شيء، من الضروري أن نرشد غيرنا إلى تلك الحقائق التي نؤمن بها إيمانًا مطلقًا عن طريق تجسيدها والحديث عنها. هذا هو الطريق الوحيد للنجاة، أن نساهم جميعًا في دورة الحياة الإبداعية المستمرة؛ وهكذا نزدهر.

لكننا لن نسلم من الخوف؛ الخوف من أن نُرى، من ذلك الضوء الحاد الفاحص الذي يصدر علينا الأحكام، ومن الألم، ومن الموت، لكننا قد عايشنا ذلك كله من قبل في صمت، كله باستثناء الموت. وإنني أذكر نفسي دومًا أنى لو كنت ولدت خرساء، أو لو كنت قد أقسمت على الصمت طوال حياتي لأحافظ على سلامتي، فإنني كنت سأعاني على أية حال، وكنت سأموت، هكذا نضع الأمور في منظورها الصحيح.

وحيثما تجاهد أصوات النساء لكي تُسمع، يصبح على كلٍ منَّا أن تدرك مسؤوليتها للبحث عن تلك الأصوات، لقراءتها ومشاركتها وتحليل أهميتها في حياتنا. لا بد وأن نتخطى تلك الخلافات الزائفة التي فرضت علينا طويلا حتى صرنا أحيانًا نقبلها بإرادتنا؛ مثل قول إحداهن: «لا يمكنني أبدا أن أُدرِّس كتابات النساء ذوات البشرة السوداء- فتجاربهن تختلف تماما عن تجاربي». ومع ذلك، كم من السنوات قضيتن في تدريس أفلاطون وشكسبير وبروست؟ أو قول أخرى: «إنها امرأة بيضاء، فما الذي يمكنها قوله لي؟» أو «إنها مثلية، فماذا يقول زوجي؟ أو رئيسي؟»،أو «تكتب هذه المرأة عن أبنائها ، أما أنا فليس لدي أطفال»، وعدد لانهائي من الطرق الأخرى التي نستخدمها لحرمان أنفسنا من أنفسنا ومن بعضنا البعض.

في وسعنا أن نعتاد العمل والحديث في ظل الخوف، كعادتنا العمل والحديث بالرغم من التعب. لقد تأقلمنا على احترام قيود الخوف أكثر من احتياجنا إلى اللغة وإلى الهوية. وبينما نحن ننتظر في صمت أملًا في أن تأتينا الشجاعة -تلك الرفاهية الأخيرة- سَنُسحق تحت ثِقَل الصمت ونختنق.

إن وجودي بينكم الآن، وكلماتي التي أوجهها إليكم، هي محاولة مني لكسر جدار الصمت القائم بيننا، وتقريب بعضًا من اختلافاتنا. فإن الاختلاف ليس ما يعوقنا، بل الصمت، وما زال هناك الكثير من الصمت لكسره.


اقرأ المزيد: بل هوكس: عن الهامش بوصفه ساحة للمقاومة