كل رجال الملك
مقال للأممية المواقفية*
ترجمه عن اﻹنجليزية: حسين الحاج وسارة علاء
راجعه عن الفرنسية: أحمد السروجي
الترجمة مهداة الى أحمد حسان ويحيي محمد
* نشر مقال «كل رجال الملك» في العدد الثامن من مجلة الأممية المواقفية (باريس، يناير 1963) وترجمه كين ناب إلى اﻹنجليزية.
الأممية المواقفية تنظيم ثوري مجالسي تشكل في أوروبا في حقبة الستينيات من فنانين وكتاب طليعيين ومنظرين من أقصى اليسار الشيوعي، شارك بقوة في ثورة مايو 1968 وتفكك في 1972. سميت الأممية بالمواقفية ﻷنها تدعو إلى تثوير الحياة اليومية من خلال خلق مواقف اعتراضية تكسر نمطية "مجتمع الاستعراض".
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجمان بحقهما في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهما دون إذن منهما.
***
تكمن معضلة اللغة في القلب من جميع الصراعات بين القوى التي تقضي على الاغتراب الحالي والتي تحافظ عليه، وهي غير منفصلة عن مجمل ساحة تلك الصراعات. ونحن نعيش داخل اللغة كما نعيش بالهواء الملوث. وعلى الرغم مما يعتقده الساخرون فإن الكلمات لا تلعب ولا تمارس الحب كما اعتقد آندريه بريتون، سوى في اﻷحلام. وتعمل الكلمات نيابةً عن التنظيم المهيمن في الحياة، إلا أنها ليست آلية العمل، ﻷن الكلمات ليست حاملة للمعلومات في ذاتها، لسوء حظ منظري المعلوماتية، بل أنها تشتمل على قوى تستطيع قلب حسابات المعادلة. تتعايش الكلمات مع السلطة في علاقة تناظر بين البروليتاريا (بالمعنيين الحديث والكلاسيكي للمصطلح) والسلطة. فهي توظفها بدوام كامل تقريبًا، وتستغلها للحصول على كل ما يمكن استخلاصه منها سواء كان ذا معنى أو بلا معنى، وتظل غريبة عنها جذريًا بصورة ما.
تقدم السلطة[1] بطاقة تحقيق شخصية للكلمات، فبطريقة ما تُرغِم الكلمات على حمل تصريح عمل يحدد موقعها في عملية الإنتاج (حيث يعمل بعضها عملًا إضافيًا بوضوح) ثم يعطيها أجرها. وبخصوص استخدام الكلمات، ترى شخصية «هامتي دامتي» من رواية «آليس في بلاد العجائب» بصورة صحيحة أن «السؤال من سيكون السيد، هذا كل ما في الأمر»[2]، ويضيف في هذا السياق أنه رب عمل مسؤول اجتماعيًا، يدفع أجرًا إضافيًا لموظفيه بسخاء. يجب أن نفهم أيضًا أن ظاهرة عصيان الكلمات، مثل فرارها أو مقاومتها المفتوحة (الجلية في كل الكتابات الحديثة من شارل بودلير للدادائيين وجيمس جويس)، عَرَض من أعراض الأزمة الثورية العامة في هذا المجتمع.
تدل اللغة الواقعة تحت سيطرة السلطة على شيء آخر بدلًا من التجربة المعيشة الأصيلة. ولهذا السبب تحديدًا، هناك إمكانية لنقض شامل. فقد بلغ تشوش تنظيم اللغة إلى درجة أن التواصل الذي تفرضه السلطة يكشف نفسه بصفته كذبة وخدعة. وتحاول سلطة سيبرانية جنينية -هباءً- أن تضع اللغة تحت سيطرة الآلات التي تتحكم بها، بطريقة تجعل من المعلومات وسيلة التواصل الوحيدة الممكنة من الآن فصاعدًا. وحتى في تلك الساحة تظهر المقاومة، فيمكن النظر للموسيقى الإلكترونية باعتبارها محاولة -محدودة ومبهمة بالفعل- لنقض علاقات الهيمنة باختطاف اﻵﻻت لصالح اللغة، لكن هناك معارضة أكبر وأكثر راديكالية تتنكر لكل «تواصل» أحادي، من الشكل القديم للفن إلى جانب النمط الجديد للمعلوماتية الحديثة، فهي تطالب بتواصل يقوض كل سلطة منفصلة. فحيثما يوجد تواصل، تختفي الدولة.
تعيش السلطة على البضائع المسروقة، فهي لا تخلق أي شيء بل تسترجعه فقط، وإن حددت معاني الكلمات فلن يكون هناك شعر، بل «معلومات» مفيدة فقط، ولن يكون لنا قدرة على المعارضة داخل اللغة، وسيكون أي رفض خارجي، بل حرفي خالص. وما الشعر إن لم يكن لحظة ثورية في اللغة غير منفصلة بهذا المعنى عن اللحظات الثورية في التاريخ وفي تاريخ الحياة الخاصة؟
وقبض السلطة على اللغة يشبه قبضها على الكلية. فقط اللغة المجردة من كل إحالة فورية للكلية يمكن استعمالها بصفتها أساسًا للمعلومات. المعلومات هي شعر السلطة، (والشعر المضاد الخاص بالنظام القائم)، والزيف المذاع لما هو موجود. وعلى النقيض، يجب فهم الشعر بصفته تواصلًا مباشرًا داخل الواقع، وتعديلًا حقيقيًا له. فهو لغة محررة تستعيد ثراءها وتحطم علاماتها، وفي الوقت نفسه تحتضن الكلمات والألحان، والصرخات والإيماءات، والرسوم والحسابات، والحقائق والأفعال. ومن ثم إذا اعتمد الشعر على أكثر الاحتمالات ثراء في مرحلة معطاة من بنية اقتصادية اجتماعية، يمكن للحياة أن تعاش وتتغير. ولا داعي للقول إن العلاقة بين الشعر وأساسه المادي في المجتمع ليست خضوعًا من أحدهما للآخر، بل هي علاقة تفاعل.
قد تمتزج إعادة اكتشاف الشعر مع إعادة ابتكار الثورة، مثلما أثبتت مراحل معينة من الثورات المكسيكية والكوبية والكونغولية. بين الفترات الثورية التي يصبح فيها الجماهير شعراء بالفعل، يمكن اعتبار الدوائر الصغيرة من المغامرة الشعرية المساحات القليلة التي يمكن أن تعيش فيها كلية الثورة باعتبارها إمكانية افتراضية غير محققة، لكن قريبة كظل شخصية غائبة. ما نطلق عليه مغامرة شعرية صعب وخطير وغير مضمون (لأنه في الواقع هو مجموع السلوكيات التى تكون شبه مستحيلة في حقبة ما). الشيء الوحيد الذي يمكننا التأكد منه هو أن الشعر الزائف المعترف به لم يعد المغامرة الشعرية لعصره، ومن ثم، بينما يمكن للسوريالية في ذروة انتهاكها للنظام القمعي للثقافة والحياة اليومية أن تعرِّف على نحو دقيق أسلحتها باعتبارها «شعرًا بدون قصائد إذا دعت الضرورة لذلك»، تصبح المسألة بالنسبة للأممية المواقفية اﻵن هي شعر بدون قصائد بالضرورة. ما نقوله عن الشعر ليس له علاقة بالتخلف الرجعي لبعض الزجالين الجدد، حتى القائم منه على الأشكال الحداثية الأقل قدمًا. إن برنامج الشعر المتحقق لا يعني سوى خلق الأحداث ولغتها بطريقة غير منفصلة.
كل اللغات المغلقة -تلك الخاصة بشلل غير رسمية من الشباب، والتيارات الطليعية المعاصرة المضطربة في تعريف نفسها التي يطورونها من أجل استعمالها الداخلي، وتلك التى نُقلت إلينا في عصور ماضية عن طريق إنتاج شعر موضوعي للخارج، مثل كل من التروبار كلوس ودلوس ستل نوفو[3]- هي جهود ناجحة تقريبًا لتحقيق اتصال فعلي ومباشر وتقدير متبادل وانسجام مشترك. لكن مثل هذه الجهود اقتصرت على مجموعات صغيرة منعزلة بطريقة أو بأخرى. وتحتم على الأحداث والاحتفالات التي أقاموها أن تبقى في أضيق الحدود. إحدى مهام الثورة تتمثل في توحيد تلك «السوفييتات» الشعرية أو مجالس الاتصال وذلك لبدء اتصال مباشر في كل مكان، لن يلجأ مجددًا إلى شبكة تواصل العدو (أي لغة السلطة)، وبالتالي سيكون بمقدرتها تحويل العالم وفقاً لرغبتها.
غايتنا ألا نضع الشعر في خدمة الثورة، بل أن نضع الثورة في خدمة الشعر. هذه هي الطريقة الوحيدة كي لا تخون الثورة مشروعها الخاص. وإننا لا ننوي أن نكرر خطأ السورياليين الذين وضعوا أنفسهم في خدمة الثورة في الوقت الذي شارفت فيه على الخمود. نتيجة لتعلقهم بذكرى ثورة غير مكتملة وسريعة التحطم، تحولت السريالية سريعًا إلى نزعة إصلاحية للاستعراض، وإلى نقد لشكل محدد من الاستعراض المهيمن نفذته المنظمة المسيطرة داخلها. يبدو أن السورياليين تجاهلوا حقيقة أن السلطة تفرض على كل تعديل أو تحديث داخلي للاستعراض قراءتها الخاصة المشفرة التي تحمل مفتاحها وحدها.
كل الثورات التي تمخضت من الشعر، اشتعلت في البداية بقوة الشعر، ظل منظرو الثورات يغفلون تلك الظاهرة -في الواقع لا يمكن أن تُفهم إذا أصر المرء على التعلق بالتعريفات القديمة للثورة أو الشعر- لكن بصفة عامة استشعر أعداء الثورة ذلك، لأن الشعر يخيفهم، فمتى يظهر لهم يبذلون ما في وسعهم للتخلص منه بكل طرق طرد الأرواح منذ «رسوم الإيمان -auto-da-fé»[4] وحتى البحوث الأسلوبية الخالصة، لحظة الشعر الحقيقي التي تملك «براحًا ووقتًا كافيين»[5] تسعى لإعادة توجيه العالم كله والمستقبل كله وفق غايتها. طالما سيدوم هذا فإن مطالبها لن تعرف المساومة، وبالتالي فإنها تطالب بديون التاريخ غير المستحقة. فورييه وبانشو فيّا ولوتريامون ومفجرو الديناميت في أستورياس[6] (الذين يبتكر خلفاؤهم أشكالًا جديدة للإضراب)، وبحارة كرونشتات وكيل، كل هؤلاء حول العالم -سواء بوجودنا أو بعدمه- يستعدون للنضال من أجل الثورة الطويلة، وهم أيضا رُسل الشعر الجديد.
يتجلى الشعر أكثر وأكثر ليصبح الفراغ أو المادة المضادة[7] للمجتمع الاستهلاكي، لأنه ليس مادة قابلة للاستهلاك (وفقًا للمعايير الحديثة للشيء القابل للاستهلاك: فهو الشيء المكافئ لجمهور المستهلكين السلبيين المنعزلين)، يصبح الشعر عدمًا حين تقتبسه، بل يتطلب تحريفه وأن يُراهَن عليه، وألا تكون دراسة شعر الماضي محض تمرين أكاديمي، يحمل كل وظائف الفكر الجامعي. فليس تاريخ الشعر إلا مجرد هروب من شعر التاريخ، إذا قصدنا من تلك العبارة تاريخ الحياة اليومية وتوسيعها المحتمل، أي تاريخ كل حياة فردية وتحققها وليس التاريخ الاستعراضي للحكام.
لا ينبغي أن نترك لبسًا لمحافظي الشعر القديم الذين يعملون على نشره بينما تقوم الدولة بمحو الأمية لعدد مختلف من الأسباب، ﻷن هؤلاء يمثلون المحافظين في كل الفنون المتحفية. يُحفظ قدر معين من الشعر بشكل طبيعي حول العالم، لكن لا توجد في أي منطقة أماكن أو لحظات أو بشر لنحياه من جديد والتواصل من خلاله واستخدامه، ونسلم بأن هذا لا يمكن أن يحدث بدون تحريفه، لأن فهم الشعر القديم قد تغير من خلال فقده واكتساب المعارف، ولأنه في كل لحظة يمكن أن يُعاد اكتشاف الشعر القديم، فهو وضعه في سياق أو حدث محدد يعطيه معنى جديدًا بدرجة كبيرة. على أية حال، في أي موقف يصبح الشعر فيه ممكنًا لا يجب استعادة أي من إخفاقات الماضي الشاعرية (إخفاقات كهذه تصبح البقايا المقتبسة من تاريخ الشعر وتحوّل إلى نجاحات وآثار شعرية). حالة كهذه تسعى طبيعيًا للتواصل وفرص سيادة شعرها الخاص.
في نفس الوقت الذي تستعيد فيه الأركيولوجيا الشعرية اختيارات شعر الماضي الذي ألقاه خبراء في أسطوانات فينيل من أجل جمهور محو الأمية الجدد الذي خلقه الاستعراض الحداثي، يكافح المعلوماتيون للتخلص من «حشو» الحرية من أجل إذاعة الأوامر ببساطة. يهدف منظرو الأتمتة بجلاء إلى إنتاج فكر نظري آلي من خلال تضييق المتغيرات في الحياة وإزالتها واللغة على حد سواء، لكن العظم ما زال يظهر في الكرش، فآلات الترجمة، على سبيل المثال، التي تعد بداية لضمان التوحيد الكوكبي لمعايير المعلومات، مع مراجعة المعلوماتيين للثقافات السابقة في الوقت نفسه، ليست سوى ضحية لبرمجتها المجهزة سلفًا، والتى تُغفل حتمًا أي معنى جديد مأخوذ حرفيًا بالإضافة إلى تناقضها الجدلي الماضي، وهكذا تطرد حياة اللغة، المتصلة بكل تقدم للفهم النظري من الحقل الميكانيكي للمعلومات الرسمية (الأفكار تُحسن ومعاني الكلمات تشارك بالتحسين). لكن هذا يعنى أيضًا أن الفكر الحر قد ينظم نفسه بسرية بعيدًا عن أيدي تقنيات الشرطة المعلوماتية. وهناك نقطة مشابهة في البحث عن علامات غير قابلة للنقاش وعن ثنائية تصنيفات فورية تتصل بوضوح في اتجاه السلطة القائمة، التي تعفيها من نفس النقد. إن منظري المعلومات ليسوا سوى أسلاف أغبياء للمستقبل الذي اختاروه، حتى في أكثر تركيباتهم هذيانية، وهم من يصيغون القوى السائدة في المجتمع الراهن: التعزيز من قوة الدولة السيبرانية. إنهم ليسوا سوى خدم أمراء الإقطاعيات التقنية التي تشكل نفسها حاليًا، ولا يوجد براءة في تهريجهم، ﻷنهم مهرجو الملك.
لم يعد للاختيار بين المعلوماتية والشعر أي علاقة بشعر الماضي، لمجرد أنه لم يعد هناك اختلاف لما يمكن للحركة الكلاسيكية الثورية أن تكونه من حيث أنه لا يمكن اعتبارها بعد اﻵن كجزء من بديل حقيقي للمنظمة السائدة في الحياة. يقودنا الحكم نفسه إلى إفشاء الاختفاء الكلي للشعر في أشكاله القديمة التي أنتجت واستهلكت وأعلنت عودتها في أشكال مؤثرة وغير متوقعة، إن عصرنا ليس مضطرَا لكتابة توجيهات شعرية بل أن ينفذها.
[1] قد تعنى الكلمة الفرنسية pouvoir السلطة بالمعنى العام لها، لكن كذلك قد يقصد بها السلطات الحاكمة أو الطبقة الحاكمة أو النظام الحاكم أو نظام حكم محدد. (المترجم اﻹنجليزي).
[2] آليس في المرآة (الفصل السادس) (المترجم اﻹنجليزي).
[3] التروبار كلوس (اﻷسلوب الهرمسي التروبادوري)، ودلوس ستل نوفو (مدرسة شعرية إيطالية من القرن الثالث عشر بلغت ذروتها في شعر دانتي). (المترجم اﻹنجليزي).
[4] تعني رسوم الإيمان: تكفير علني للخطيئة كان يخضع له المدانون بالهرطقة أو الردة إبان سطوة محاكم التفتيش الإسبانية والبرتغالية، وكان يتبعه تنفيذ السلطة المدنية للحكم الذي حُكم به على المدان، والذي قد يصل في كتير من الأحيان إلى الإعدام حرقًا. اشتهرت مواكب «الأوتو دا في» في إسبانيا منذ القرن الخامس عشر. (المترجمان العربيان)
[5] السطور الاولى من قصيدة «إلى عشيقته الخجولة»، كتبها الشاعر الإنجليزي أندرو مارفل في القرن السابع عشر. (المترجمان العربيان)
[6] أستورياس: منطقة جبال تقع في شمال غرب أسبانيا، وفيها قام العمال (بصفة أساسية العاملين بالمناجم) بانتفاضة شديدة الراديكالية والعنف وذلك في أكتوبر 1934. وعرفوا بمفجري الديناميت لأنهم استخدموا أصابع الديناميت بسبب نقص الأسلحة. وفي السنوات اﻷولى من الستينات شن جيل لاحق منهم سلسلة من الإضرابات ضد حكم فرانكو. (المترجم اﻹنجليزي)
[7] في فيزياء المجسمات، تُعرف المادة المضادة بأنها صنعت بنفس الطريقة التى صنعت بها المادة لكن من خلال جزيئات مضادة. (المترجمان العربيان)