اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.

ترجمات هذه السلسلة جرت ضمن أعمال الدورة الرابعة من مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) – ربيع 2019.

قائمة مكروم | الاستشراق لإدوارد سعيد (1978)

نُشر بموقع الجارديان 21 مارس 2016

ترجمة: أحمد فتحي إسماعيل وسارة إبراهيم ومحمد مصلح

الترجمة خاصة بـ Boring Books وسيلاس الإسكندرية

يحتفظ المترجمون بحقهم في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهم دون إذن منهم

***

إدوارد سعيد
عن Qantara

أمام التفجيرات الانتحارية والقصف الجوي وقطع الرقاب، قد تبدو دراسةٌ مكونة من 300 صفحة، مخصصةٌ لأطروحة راديكالية ما بعد استعمارية، مساهمةً أدبية متواضعة. مع ذلك، وفي ظل التصادم العنيف بين الغرب والإسلام، يظل كتاب إدوارد سعيد تحليلًا مهمًا لا يمكن لأي من الطرفين تجاهله.

كتاب «الاستشراق» دراسةٌ عميقة التأثير ومثيرة للجدل، تتناول الصراع الجاري منذ ألفي سنة على الأقل بين الشرق والغرب، بدءًا بالحروب الفارسية اليونانية التي نشبت بين الإمبراطورية الأخمينية والدويلات اليونانية، وصولًا إلى السيادة الغربية على الشرق عن طريق التصدير الثقافي السياسي، أو بالأحرى النسخة الاستعمارية المُقنِعة من تلك الثقافات والسياسات.

نُشِر هذا العمل المتميز عام 1978، أي قبل قيام الثورة الإيرانية بعام واحد. واليوم، حين أصبح العالم أكثر اضطرابًا، يشغل الكتاب مكانًا مرموقًا وسط الكتابات اﻷساسية المتعلقة بالأزمات الاجتماعية السياسية في القرن الحادي والعشرين.

بصفته منظِّرًا أدبيًا ومثقفًا متمرسًا، يستعين إدوارد سعيد بخبرته باعتباره عربيًا فلسطينيًا مقيمًا في الغرب ليمعن النظر في الطريقة التي هيمن بها الغرب على المجتمعات القديمة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، والتي لم تكن مجتمعات بسيطة ولا ساذجة، وذهب إلى أن حروب الخليج ومآسي العراق هي نتاجٌ مباشر لأيديولوجية دامغة وجلفة متأصلة بداخل العقل الغربي.

أي محاولة لاختزال تحليل إدوارد سعيد الدقيق لسلوك الغرب وموقفه تجاه الشرق ستعرض نفسها لاحتمال الفشل. ومع ذلك، إن حاولنا وصف الكتاب بطريقة مبسطة، يمكن القول بأن «الاستشراق» يدرس تاريخ الكيفية التي خلق بها الغرب -وبالذات إمبراطوريتي بريطانيا وفرنسا- عملية تفكير خاصة للتعامل مع «الآخر» و«المغايرة» في المجتمع الشرقي وعاداته ومعتقداته.

يقول الكاتب نفسه: «أدرس الاستشراق بصفته عملية تبادلٍ ديناميكية بين الكتَّاب اﻷفراد والهموم السياسية الكبرى التي شكلتها الإمبراطوريات الثلاث العظمى: بريطانيا وفرنسا وأمريكا، والتي أنتجت هذه النصوص داخل نطاقاتهاالفكرية والتخيلية».

تضمن المؤلفون المعنيون بالبحث كلًّا من «هوميروس» وكتاب المسرح اليونانيين، «إسخيلوس» على سبيل المثال، الذين كانوا أول من صوَّر فرس «الشرق» بتلك الصورة المثيرة والملغِزة في مسرحياتهم، تلك الصور النمطية التي بيَّن سعيد طريقة توغلها إلى أعمال كتاب آخرين مثل «فلوبير»، و«دزرائيلي» الشاب، و«كپلينج»، والذين شكلت تصوراتهم عن «الشرق» منابع افتتان الغرب به. استطرد سعيد في توضيح الشق السياسي لهذه السردية عندما بيَّن كيف يمكن رؤية هذه الأفكار كانعكاس مباشر للعنصرية والاستعمارية الأوروبية.

بعدما أشعل نشر (الاستشراق) إعصارًا ناريًا من النقد لدى جميع أطياف ثنائية الشرق-الغرب الشائكة، كتب سعيد في مقال يسترجع فيه الكتاب قائلًا: «إن المقابلة ما بين الشرق والغرب كانت مضللة وغير مرغوب فيها، وكلما لم يكن يوجد اعتبار كبير موجه إلى أي شيء ما عدا وصف التاريخ الفاتن من التأويلات والمصالح المتنافسة، كان ذلك أفضل».

وكانت هذه آمالًا كاذبة، فبعد ما يقرب من أربعين عامًا على الظهور الأول للاستشراق، استمر الشرق الأوسط والعرب والإسلام في تغذية التغييرات والصراعات والجدل بقوة، ومؤخرًا الحروب أيضًا.

استٌدرج سعيد، كونه مدافعًا متحفزًا عن دولة فلسطينية مستقلة، إلى نزاعات اندفاعية بطريقة ساعدت في تسييس كتابه، والذي كان هدفه العلمي الأول، وفقًا لتعبيره، أن يكون بمثابة «نقد إنساني النزعة يقدم تسلسلًا أطول للتفكير والتحليل يهدف إلى تجاوز انفجارات الغضب الضحلة المعطلة للفكر التي تسجننا دائمًا».

لطالما تاق سعيد إلى الرقي في الحوار. يكتب قائلًا: «أطلقت على ما أحاول القيام به بـ (الإنسانية)»، وهي كلمة قد تفاجئ الكثيرين كونه مُناظرًا قاسيًا وشديد البأس. لكنه لم يتراجع: «أولًا، أعني بالإنسانية محاولةَ كسر أصفاد العقل الزائفة[1]، أي أن يكون المرء قادرًا على التفكير التاريخي والمنطقي، ليصل إلى الفهم الصحيح. ومن خلال حس الجماعة الذي ينشأ مع مترجمي الثقافات الآخرين وكذلك مع المجتمعات والفترات الأخرى، تدوم هذه الإنسانية. بصفة مُطْلقة: لا وجود للشخص الإنساني المنعزل».

لربما كانت مأساة سعيد الخاصة أنه اضطُر لممارسة مهنته كمنظِّر أدبي عظيم في زمنٍ لا يطيق حساسيات اللغة ولا دقائق التفاصيل في الأفكار المعقدة. أثناء حياته المهنية، قد قُلصَت دراسته من كل الأوجه تقريبًا لتصير مجرد شعارات وتظاهراتٍ مراهِقة فارغة.

في الواقع، قبل وفاة إدوارد سعيد عام 2003، لاحظ بقلق بالغ استمرارية تأثير أيدلوجية «الاستشراق» على الغرب عندما كتب: «المكتبات الأمريكية ممتلئة بخُطب رديئة تحمل عناوين صارخة عن الإرهاب والإسلام، الإسلام المحفوف بالمخاطر، تهديد العرب وخطر المسلمين، كلها كتبها سياسيون تظاهروا بالمعرفة التي نقلها خُبراء، يفترض أنهم اخترقوا قلب هؤلاء الشرقيين الغرباء…».

مع استمرارية اشتباك الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية مع أزمة الإسلام في سوريا، والعراق، ومصر، وليبيا، في الوقت الذي تحاول فيه يائسة استرضاء أمراء الدول العربية الغنية من أجل النفط، سيظل الاستشراق النص الذي ستعود إليه وزارة الخارجية الأمريكية لإعادة تجديد بحثها عن الفهم المشترك لحل الصراع بين الشرق والغرب.

كان سعيد دائمًا عدوًا صاخبًا لنظرية (صدام الحضارات). جادل بذكاء ووضوح كبيرين لصالح التقدم الثقافي. حين كان الصراع حول «الاستشراق» محتدمًا حوله كتب قائلًا: «أحد أهم مظاهر التقدم هو إدراك أن الثقافات عديدة ومتنوعة، وأن الثقافات والحضارات مترابطة ومتشابكة، لدرجة يصعب معها إمكانية تحديد وصف بسيط لتفردها». كيف؟ واصل حديثه قائلًا: «هل يمكن لأحد أن يصف الحضارة الغربية بأنها ليست سوى خيال أيدولوجي، الخيال الذي منح الدول الغربية هوياتها المختلطة الحالية؟ هذا ينطبق بشدة على الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا يمكن وصفها اليوم إلا بأنها مُسودة ضخمة تضم مختلف الأعراق والثقافات التي تتشارك إشكالية تاريخية في الاستيلاءات والإبادات وبالطبع في الإنجازات الثقافية والسياسية الكبيرة».

وبكلمات قد تنفع في استخدامها كجملة افتتاحية لهذه السلسلة، قال إيتالو كالفينو في إحدى المرات إن الكتاب الكلاسيكي هو الذي "لا ينهي ما يود قوله"، و"الاستشراق" كتاب من هذا النوع.

اقتباس

«لن يقبل (مستشرق) سابق فكرة أن كونه مستشرقًا تجعله على الأرجح، بل من الممكن جدًا، أن يدرس (الاستشراقات الجديدة)، أو الاستغرابات التي صنعها بنفسه. إذ اكان لمعرفة الاستشراق أي معنى، فهو كونه تذكيرًا بالتدهور المُغرِي للمعرفة، أي معرفة، في أي مكان، في أي وقت».

ثلاثة مصادر للمقارنة

ألبرت حوراني: تاريخ الشعوب العربية، 1991

أمييل آلكالاي: بعد العرب واليهود: إعادة تشكيل ثقافة بلاد الشام، 1993

إدوارد سعيد: خارج المكان – مذكرات، 1999


 [1]   (أصفاد العقل الزائفة) أو (الأصفاد التي زيفها العقل) هو تعبير استعمله الشاعر ويليام بليك في قصيدة (لندن) وانتقد به المادية المتزمتة للمجتمع العلمي آنذاك. -المترجمون