اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.
ترجمات هذه السلسلة جرت ضمن أعمال الدورة الرابعة من مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) – ربيع 2019.
قائمة مكروم | بدم بارد لترومان كابوتي (1966)
نُشر بموقع الجارديان 27 أبريل 2015
ترجمة: أنس عبد الله ومحمد مهنا ومحمد ناصر الشعراوي ومروة أحمد
الترجمة خاصة بـ Boring Books وسيلاس الإسكندرية
يحتفظ المترجمون بحقهم في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهم دون إذن منهم
***
رواية ترومان كابوتي غير الخيالية، التي تدور حول قصة حقيقية لجريمة قتل دامية في ريف كنساس، تفتح نافذة على الباطن المظلم لأمريكا ما بعد الحرب.
العديد من الكتب العظيمة في هذه القائمة مبنية على قصص قد تكون مُستخرجة من صفحات الجرائد (رواية جاتسبي العظيم مثال جيد على ذلك)، وبدوره وصف ترومان كابوتي رواية «بدم بارد» بتفاخر على أنها «رواية غير خيالية» (Non-Fiction Novel) واختار لها عنوانها الفرعي: «قصة حقيقية عن حادثة قتل جماعي وتبعاتها». ظهرت القصة في أول الأمر كخبر عن جريمة قتل على صفحات النيويورك تايمز، ثم تحولت، على يد كابوتي، إلى حكاية عامرة بالتشويق المثير والمرعب، ومحفزة للذهن بشكل استثنائي. يرجع الفضل في ذلك إلى عبقرية كابوتي وقدرته على فهم ما في حادثة الغرب الأوسط الأمريكي تلك من طابع أسطوري، وما فضحه هذين القاتلين الاثنين الأشرار عن الباطن المُظلم لأمريكا ما بعد الحرب.
في الساعات الأولى من يوم 15 نوفمبر 1959، في مجتمع البراري الصغيرة في هولكومب كنساس، تعرض أربعة أفراد من أسرة زراعية ثرية (عائلة «الكلاتر») إلى القتل بوحشية بطلقات البنادق المسددة لوجوههم من مسافة قريبة. لم يُعرف لهذه الجريمة دوافع واضحة ولم تظهر في مسرحها أية أدلة تقريبًا، ما استفز المحقق «ألفين ديوي» من شرطة المباحث الفيدرالية المحلية، الذي لم يرَّ جريمة بلا معنى أو «وحشية للغاية» على هذا النحو من قبل، وأقسم على مطاردة القتلة وإدانتهم أمام المحكمة مهما كلف الأمر.
والأكثر قتامة أن الأحداث التي دارت وراء هذا النص الروائي تحولت إلى مأساة خاصة لكابوتي، نمت من بين ثنايا هذا التحقيق شبه الصحفي البارع، وطارد كابوتي على مدار كل سنوات عمله في الكتابة.
ما أن ذاعت أخبار هذه المذبحة المروعة عبر الصحافة الأمريكية، سارع المؤلف المميز صاحب روايات «الأصوات الأخرى» و«الغرف الأخرى» (1948) و«إفطار في تيفاني» (1958) وبعض التحقيقات الصحفية الرائدة في جريدة نيويوركر، بالذهاب إلى هولوكومب في أعقاب جنازة عائلة «الكلاتر».
لم يكن ترومان بمفرده؛ في واحدة من خدع الكتابة غير الشهيرة التي مورست على القراء، صاحبت كابوتي في هذه الرحلة صديقة طفولته «هاربر لي». وهي نفسها المؤلفة التي كانت قد أنهت لتوها روايتها «أن تقتل طائرًا بريئًا» (رقم 78 في قائمة مكروم للأعمال السردية) التي ستكسبها شهرة كبيرة لاحقًا، والتي أصبح دورها في إنجاز عمل كابوتي الأكثر مبيعًا معروفًا لنا الآن.
كانت هاربر لي الوحيدة القادرة على المساعدة لاختراق حِصن الصمت المحيط بمجتمع كنساس النائي، الساعي لحماية خصوصيته، وهو المجتمع الذي لم يكن قد تعافى بعد من وقع جريمة قتل عائلة الكلاتر، ما مَكَّن كابوتي من إجراء تحقيق لا يُنسى سعى من خلاله لتتبع عمليات مطاردة القتلة (ديك هيكوك وبيري سميث) والقبض عليهما وتقديمهما للمحاكمة، وهي عملية التتبع الغريبة التي لم تنتهِ إلا بعد منتصف ليل الرابع عشر من أبريل عام 1965، عندما التف حبل المشنقة حول رقابة القاتلين في سجن ولاية كانساس.
قال كابوتي ذات مرة: «لن يدرك أحد أبدًا ما الذي فعلته بي رواية (بدم بارد)، لقد شوهتني تمامًا وكادت أن تقضي عليّ. أظن أنها على نحوٍ ما قضت عليَّ بالفعل».
ملحوظة حول النص
تحدَّث ترومان كابوتي واصفًا بنية رواية «بدم بارد» عن «حفظ الغلبة للأسلوب الجمالي والوجداني في مادة الكتابة»، مؤكدًا أن «أقصى مستويات الفن كثافة في جميع أشكاله وأحجامه لا تخرج إلا من عقلٍ متأنٍ وقوي وهادئ». وأصر على إمكانية العثور على الشكل المناسب للقصة عندما «نعرف ببساطة كيفية رواية القصص بطريقة أكثر تلقائية». وباعتباره مروجًا رائعًا لأعماله الأدبية، فقد زعم أيضًا بوجود أصالة خاصة في رواية «بدم بارد». فضّل العديد من النقاد، دون أن يتأثروا بهذه الضجة، تصنيف «روايته الواقعية» بشكل تقليدي على غرار تصنيف رواية العاصفة (The Storm) للكاتب دانيال ديفو (1704)، والتي استخدم مؤلفها أقوال أناس حقيقيين لرواية قصته (رقم 2 في هذه القائمة). وفي حقيقة الأمر أن هذه الطريقة سوف يستخدمها العديد من الكتاب اللاحقين لديفو والسابقين لكابوتي بمن فيهم ديكنز (Dickens) وتوين (Twain) وشتاينبك (Steinbeck) (أرقام 15، 23 ، 65 في هذه القائمة).
تمسك كابوتي أيضًا –على الأقل في البداية- بأنه لم يكن يكتب قصة جريمة. والتزم المؤلف بهذا التصريح في اللقاءات العامة التي حدثت في الأيام الأولى للمشروع. إذ صرح عام 1962 لنيوزويك قائلًا «كتابي ليس عبارة عن قصة جريمة، إنها قصة مدينة». حسنًا، ربما كان الأمر كذلك. لكنه كلما أدرك مركزية دور هيكوك وسميث في القصة التي يود حكيها، ازداد ابتعاده عن نيته الأولى (إن كانت كذلك بالفعل). لقد أعطى التركيز على القاتلين والضحايا لقصته حبكة وشكلًا واضحين، وبعض الإيقاع الاستثنائي. ما زالت تجربة قراءة الكتاب تصيب البعض بالدوار. في الواقع، كتب كابوتي رواية «بدم بارد» على هيئة فصول مختصرة منفصلة، ثم ربط بينها مثل أحجية الصور المقطوعة مستغلًا تقنيات روايات الجريمة الكلاسيكية في تأليفه للرواية بغرض زيادة عنصر الترقب. ولقد لاحظ العديد من النقاد الأسلوب شبه السينمائي لأول فصلين من الرواية («آخر مرة شوهدوا أحياءً» و«أشخاص مجهولون»)، وتبادل اللقطات السريع بين آل كلاتر وقاتليهم.
حينما عملت في دار نشر «فيبر أند فيبر» في ثمانينيات القرن العشرين، كنت محظوظًا بما يكفي لأصبح صديقًا للمحرر الأسطوري جو فوكس، الذي عمل محررا مع كابوتي في دار نشر «راندوم هاوس». كان عادة ما يتحدث عن عمله مع «ترومان» على هذا النص، وبعض مما يلي ذكره سرد لمقتطفات من حديثي مع جو.
اعتاد فوكس القول إن صديقه المؤلف ظل لفترة طويلة يشعر بالضياع في كنساس، متسائلًا عما ورط نفسه فيه، وكيف سيصوغ القصة. لم تحقق الشرطة أي تقدم في التحقيقات لعدة أسابيع في البداية وفقًا لكابوتي نفسه الذي قال لاحقًا: «لم يحدث شيء. بقيت هناك وواصلت البحث وكنت ودودًا مع السلطات ومع محققي القضية. لكنني لم أعرف قط ما إذا كانت القصة ستصبح ممتعة أم لا».
اعترف كابوتي لفوكس بأنه لم يكن قادرًا على الوصول لأي شيء؛ ماذا لو لم ينجحوا أبدًا في الإمساك بالقتلة؟ هل كان هذا المشروع مجرد مطاردة وراء سراب؟ ولكن عند تلك اللحظة، وبالصدفة، تم إلقاء القبض على سميث وهيكوك لارتكابهما جريمة مختلفة مع استجوابهما وتوجيه التهم إليهما. وما أن بدأت القصة تجمع خيوطها، ظهر لكابوتي مجموعة جديدة من مسببات القلق؛ ماذا لو لم يرغب القاتلين في التعاون؟ أو التحدث إليه؟ ومن أجل بعث الحياة في القسمين الأوسط والأخير من الكتاب («إجابة» و «الزاوية»)، كان بحاجة إلى إجراء محادثة مع هيكوك وسميث. ولأنه كابوتي، تحول الأمر إلى فعل حميمي وهوسي، وكما ورد على لسانه: «لقد اقتربت للغاية من هذين الولدين وواصلت رؤيتهما بكثرة على مدار الأربع سنوات التالية إلى أن تم إعدامهما».
تلك العلاقة، وتحديدًا مع بيري سميث، كانت دافعًا منطقيًا وراء الاتهام اللاحق الذي تعرض له كابوتي، وهو أنه انتظر (بدم بارد) حدوث الإعدام باعتباره ذروة انتقال مناسبة للقصة. ظهر ذلك الاتهام أول الأمر في «ذا أوبزرفر» في نزاع متبادل بين كابوتي والناقد كين تينان بعد مراجعة الأخير للرواية، التي تضمنت إشارة لرغبة كابوتي في حدوث الإعدام، وهو الأمر الذي طالما فنده كابوت، سواء في منتصف العمل على الكتاب أو بعد العمل عليه لمدة عام ونصف: «لم أعرف أبدًا ما إذا كنت سأستخدم تلك النهاية أم لا، وما إذا كان العمل سيتطور في النهاية إلى شيء يستحق كل ذلك الجهد».
استدعى أسلوب كابوت في الكتابة كذلك نيل سهام النقد من توم وولف في مقالاته الدورية عام 1967 في مجلة «إسكوير»، تحت عنوان «العنف الإباحي» (Pronoviolence)، معتبرًا أن الرواية تتلاعب بالقارئ واعدة إياه بالكشف عن تفاصيل بشعة حول جريمة حقيقية، ولكن ينتهي الأمر بالهبوط بمستوى العمل لمُجرد الإثارة السادية، وهو ما يصفه وولف بالعنف الإباحي[1].
نجح المحرر «جو فوكس» (والذي سافر مع كابوتي لحضور إعدام القاتلين) في إقناعه أخيرًا بأن الكتاب انتهى. ونشرت دار «راندوم هاوس» الرواية في وقت مبكر من العام 1966، بعد نشرها مسلسلة على أربع أجزاء في جريدة «النيويوركر» في سبتمبر 1965، وهي الجريدة التي كان محررها «وليام شاون» أول من مَنَح الفرصة لكابوتي بالنشر. حققت الرواية نجاحات كبيرة في الولايات المتحدة، ولاحقًا حول العالم، لكن نجاحها عاد بالسلب على قدرة كابوتي الإبداعية، وتضاءلت أعماله وانعدم تأثيرها نهائيًا في فترة السبعينيات. وتوفى كابوتي في العام 1984، وعمره 59، قبل أيام قليلة من عيد ميلاده الستين.
[1] العنف الإباحي: مجموعة من المقالات التي كتبها المؤلف منتقدًا أسلوب الروايات والأفلام ووسائل الإعلام في استخدام العنف لإرضاء الجمهور بشكل مشابه لاستخدام أفلام البورنو للجنس - المترجمون