الحرية من.. الحرية إلى

مقال لبريت ماكاي وكيت ماكاي

عن موقع Art of Manliness*

ترجمة: سارة علاء

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.

* المقال مأخوذ من موقع «art of manliness» (فن الرجولة)، والموقع -كما يتضح من اسمه- يقدم محتواه للرجال، وقد كان ذلك جليًا في اللغة المستخدمة بالمقالة، لذا للتخفيف من ذلك تم استبدال بعض الكلمات لكلمات أكثر حيادية بما لا يغير معنى المقال.

بريت وكيت ماكاي مؤسسا الموقع والمحرران الرئيسيان فيه.

الرسوم لـ تد سلامبياك

***

هناك نوعان من الحرية: «الحرية من» (الحرية السلبية) و«الحرية إلى» (الحرية الإيجابية)، يمكن تتبع انقسام الحرية إلي تلك الثنائية النظرية حتى نتوقف عند كانط على الأقل، وفصَّل ذلك الانفصال إريك فروم في كتابه الذي صدر في عام 1941، «الهروب من الحرية»، وصارت شهيرة بفضل مقال أشعيا برلين «مفهومان للحرية»، واستكشفها تشارلز تايلور Charles Taylor بصورة أكثر معاصرةً.

استخدم الفلاسفة والمفكرون هذين التصنيفين المختلفين للحرية لمناقشة دور الحكومة ومساءلته في حياة المواطنين، لكن نحاول اليوم استكشاف طريقة للتفكير في الاختلاف بين «الحرية من» و «الحرية إلى» بما يساعدنا في فهم أكثر لتطورنا الشخصي ورحلة نضوجنا من الصبيانية للرجولة.

فهم الاختلاف بين الحرية السلبية والحرية الإيجابية

الحرية السلبية/ «الحرية مِن»

الحرية السلبية هي التحرر من التدخل الخارجي الذي يمنعك من فعل ما تريد حينما تريد ذلك. تلك القيود فرضها عليك أشخاص آخرون. وكلما زادت الحرية السلبية لديك، كلما نقصت العوائق التي تحول بينك وبين فعل ما تريد.

يُطلق تشارلز تايلور على الحرية السلبية «مفهوم الفرصة» للحرية، لأنها تتيح الوصول لطيف واسع من الفرص المرغوبة، بغض النظر عن اتخاذك لقرار استغلال تلك الفرص أم لا.

يمكن تلخيص مفهوم الحرية كالتالي: «أنا لست عبدًا لأحد».

الحرية الإيجابية/الحرية إلى

الحرية الإيجابية هي حرية تحكم وإدارة الفرد لحياته الخاصة. تسمح الحرية الإيجابية للفرد أن يتخذ اختياراته بوعي، وأن يخلق غايته، وأن يشكل حياته، فهو يملك زمام أمره بدلًا من أن يقوده أحد.

يُطلق تايلور على مفهوم الحرية الإيجابية «مفهوم الممارسة» للحرية لأنها تتضمن التفرقة بين كل الفرص المحتملة وممارسة الاختيارات الأكثر تماشيًا مع إرادتك الحقيقية، وما تريده في الحياة حقًا.

يمكن تلخيص مفهوم الحرية الإيجابية كالتالى: «أنا سيد نفسي».

إذا ظل الفرق بين الحرية الإيجابية والسلبية مبهمًا في عقلك، تطرح موسوعة ستانفورد مقارنة ممتازة لتفسر طبيعة كل من المفهومين.

تخيل رجلًا يقود سيارة، ويصل لمفترق طرق، ولا توجد إشارة مرور أو حاجز للشرطة أو سيارات أخرى، وللسائق حرية أن يقود سيارته في أي طريق يريده ثم يقرر أن يتجه يسارًا. تعد هذه حرية سلبية، لأن السائق حر من القيود التي تجبره على أن يذهب في طريق بعينه، لكن ماذا إذا قاد السائق يسارًا لأنه احتاج أن يتوقف في متجر ليشتري سجائر، وأنه توقف رغم أن هذا يعني تفويته موعدًا مهمًا. لقد كان إدمانه هو الذي يوجه السيارة. هذا يُظهر غياب الحرية الإيجابية: حيث افتقد السائق حرية فعل ما يريده حقًا وهو أن يصل للموعد في الوقت المناسب.

ووفقًا لموسوعة ستانفورد تقدم لنا القصة طريقتين متناقضتين للتفكير في الحرية، من ناحية قد يفكر المرء في الحرية كغياب العوائق الخارجية؛ أنت حر طالما لا يوجد مَن يمنعك من فعل ما تريد، لتكون حرًا يجب أن تكون سيد قرارك: بمعنى أنه يجب عليك أن تتحكم في قَدَرك بما يخدم مصالحك. أما أن تكون مقيدًا يعني: أنك لست متحكمًا في قدرك، لأنك تفشل في التحكم في انفعالاتك الذي تود لو تتحرر منها والتي تمنعك من إدراك ما تتماهى معه من اهتمامات حقيقية. قد يرى أحدهم للوهلة الأولى أن الحرية ببساطة تتعلق بعدد الأبواب المفتوحة، بينما بإمعان النظر نجد أن الأمر يتعلق أكثر بالمضي قُدُمًا خلال الأبواب الصحيحة للأسباب الصحيحة.

تطبيق مفهومي الحرية السلبية والإيجابية على حياة الفرد

المرحلة الأولى: الطفولة. حرية سلبية منخفضة، حرية إيجابية منخفضة

المرحلة الأولى

في الطفولة، تعتبر قاصرًا في كل من الحرية الإيجابية والسلبية. يفرض والداك جدولك والقواعد التي يجب أن تسير عليها. واختياراتك المحتملة مقيدة، وغالبًا ما تنشأ اعتقاداتك وأهدافك من والديك، كذلك تفتقد لضبط النفس: حيث تكون ضعيفًا في التحكم في الدافعية وتخاف من أشياء عديدة جيدة.

المرحلة الثانية: الشباب. حرية سلبية مرتفعة، حرية إيجابية منخفضة

المرحلة الثانية

ثم تصبح في الثامنة عشرة، تتخرج من المدرسة الثانوية وربما تغادر المنزل وتلتحق بالجامعة. وللمرة الأولى في حياتك، لا يوجد من يراقبك ويُملى عليك أفعالك، خصوصًا في «مرحلة الفوضى» حيث لم يعد هناك عُرف، ويمكنك فعل ما تريد (الطريق المختصرة لانتهاك القانون): إقامة حفلة كل يوم، الخلود إلى النوم حتى الظهيرة، تفويت صف دراسي لمجرد نزوة، إحضار أي شخص تريده لسكنك.

أنت منغمس في الحرية السلبية بينما لديك أطنان من الفرص، وعدد لا بأس به من الأبواب لفتحها، هذا شعور مُسكِر للغاية وفي البداية تنعم به وتتذوقه باندفاع نحو الحدود القديمة لتثبت لنفسك أنهم لم يعودوا موجودين. ولا يكون تقوية ضبط الذات والتحكم بالذات أولوية.

ملحوظة: بالطبع، الحرية لفعل أي شيء لا تعني أنك حر من تبعات تلك الاختيارات، ما زال من الممكن أن تفلس، وأن تُفصل من الدراسة، يمكنك اختيار أفعالك لكن لا يمكنك اختيار عواقبها.

المرحلة الثالثة: بداية النضج. حرية سلبية مرتفعة، حرية إيجابية متزايدة

المرحلة الثالثة

في لحظة ما، تبدأ إدراك أنه رغم وجود عدد لامتناهي من الفرص، ليست كل الفرص متساوية في الأهمية، يتغير تفكيرك من «يمكنني فعل ما أريده» إلى «ما الذي أريد فعله في حياتي حقًا؟»، وتبدأ في السعي لمعنى أكبر لاكتشاف غاية لحياتك، فتجد مستوى أعلى من الرغبات لحياتك.

بينما تتغير طريقة تفكيرك، تبدأ في الفصل بين كل الخيارات المفتوحة أمامك، وتقرر أن بعضها أكثر جدية من البقية وهي التي تقود لتحقيق رغباتك الأعلى. بينما تتفحص الأبواب المختلفة أمامك، تلاحظ أن تلك التى تقابل رغباتك الأقل مفتوحة على مصراعيها، وتقود لغرفة واحدة، بينما الأبواب التي تقود لرغباتك الأعلى مفتوحة على سلم يقودك لأعلى، لمدخل به مجموعة أخرى من الأبواب. وتدرك أن بعض الأبواب التي تقود للرغبات الأعلى مغلقة. تمثل هذه الأقفال الحواجز الداخلية التي تحول بين ما تريده من الحياة حقًا. فعلى سبيل المثال:

  •   تريد الزواج لكن خجلك يمنعك من التحدث إلى امرأة.
  •  تريد أن تتخرج لكن إهمالك يمنعك من المذاكرة والحصول على درجات النجاح.
  •  تريد أن تكمل سباقًا للركض، لكنك سمين و مفتقد للياقة.
  •  تريد أن تستقل ماديًا، لكن لا يمكنك التحكم في إنفاقك.
  •  تريد أن تعيش وفقًا لمبادئ إيمانك الجديد لكن تظل ترتد لعاداتك القديمة.
  •  تريد أن تحصل على وظيفة، لكن لا يمكنك التوقف عن الشرب و تظهر دائمًا مترنحًا من السُكر.
  •  تريد أن تكون عضوًا بالكونجرس، لكن تخاف مخاطبة الجماهير.
  •  تريد أن تصبح رجلًا، لكن لا تعرف ما الذي يعنيه هذا.

تدرك أن لديك متسع من الحرية السلبية - أنت حر من القيود الخارجية، لكن ليس لديك الكثير من الحرية الإيجابية ولا القدرة على تجاوز الخوف والجهل والعادات والسمات السيئة لتصبح الرجل الذي تريد أن تكونه.

المرحلة الرابعة: النضج. حرية سلبية عالية، حرية إيجابية عالية

المرحلة الرابعة

بينما لم يعد هناك من يفرض عليك قيودًا خارجية، تقرر أنه لتصبح الإنسان الذى تريده، يجب عليك أن تصنع قواعدك الخاصة وتضع حدودك. فتعمل طوعًا على تطوير تحكمك بذاتك، وانتظامك وقوة إرادتك. وبفعل هذا تكتسب القدرة على التحكم في رغباتك الأقل من أجل تحقيق رغباتك الأعلى، على سبيل المثال: في القصة السابقة يقرر السائق الامتناع عن التدخين، بالتالى لم يعد الإدمان متحكمًا في قراراته.

قد يقول فلاسفة مثل كانط إن تلك القواعد المفروضة عليك ذاتيًا لا تقلل من حريتك السلبية بصورة شاملة، لأنك وضعتها بنفسك وبمحض إرادتك الحرة واختيارك، ولا يمكن لأحد أن يستعبد ذاته. يمكن للآخرين فقط الذين يجبرونك على فعل أشياء ضد رغبتك أن يقيدوا حريتك السلبية، تصبح أكثر استقلالية،عن طريق تعلم التحكم في رغباتك ولجمها، أنت لست مجرد متحرر من قيودك الخارجية، لكنك لم تعد عبدًا لانفعالاتك. أنت ليس لديك فقط حرية الوقوف بردهة بها أبواب لامتناهية العدد، لكن لديك أيضًا الحرية لتخطو داخل أي باب. إن ضبط النفس هو المفتاح الرئيسي الذي يفتح كل الأبواب.

السعي وراء الحرية الإيجابية والطريق إلى النضوج

لسوء الحظ، يظل الكثير من الشباب عالقين في المرحلة الثانية. يكبرون في ثقافة تعزز من اعتبار الحرية السلبية منتهى الحياة: فالسعادة تساوي القدرة على فعل ما تريده، لذلك لا ينتقلون أبدًا من التفكير في «الحرية من» إلى التفكير في «الحرية إلى»، لكن هذا الانتقال يمثل جزءًا كبيرًا من المُضيِّ من الطفولة للنضج.

الرجال الذين ينتقلون من التفكير فقط في الحرية السلبية للتفكير في الحرية الإيجابية يكتشفون أيضًا أن القيود التى يفرضونها على أنفسهم لا تحد من حريتهم السلبية: فبينما يغلق الانضباط الذاتي بعض الإمكانيات، إلا انه يفتح أبوابًا جديدة متاحة فقط لأصحاب الحرية الإيجابية ليقتنصوها. يستطيع تقريبًا أي رجل الحصول على وظيفة: لكن فقط اﻹنسان صاحب الحرية الإيجابية يمكنه الحصول على وظيفة أحلامه. يمكن تقريبًا لأي إنسان أن يصبح شريك\ة حياة ورب\ة أسرة: لكن فقط الإنسان صاحب الحرية الإيجابية يمكنه أن يصبح شريك\ة حياة ورب\ة أسرة جيدًا\ةً.

على الجانب الآخر، يرى الرجال الذين لا ينضجون من خلال التركيز على «الحرية من»، كل العوائق سواء المفروضة من الآخرين أو من أنفسهم، قيودًا لحريتهم السلبية. عندما يكتشفون أن شيئًا يريدونه وراء باب مغلق لا يهتمون ويقررون أنهم لم يريدوه حقًا على أية حال، بدلًا من العمل على تخطي الحواجز الداخلية. لهذا السبب، الرجال الذين يعلقون عند المرحلة الثانية ينجزون أقل في حياتهم ولا يصلون أبدًا لأعلى مستوى من «تحقيق الذات».

ينتهي أصحاب «الحرية من» أيضًا إلى الضجر وعدم الرضا عن حياتهم. يخلق شعور التحكم في حياتك السعادة والرضا وينتُج الشعور بالتحكم من اكتساب الحرية الإيجابية من ضبط النفس. يصنع الإنسان صاحب الحرية الإيجابية رابطًا قويًا بين هدفه وبين ما يجب عليه أن يتخلى عنه لتحقيقه، وحقيقة أنه يقوم بهذا طواعية. يفهم قانون التضحية، ويأخذ على عاتقه مسؤولية قراراته.

أخيرًا، تكمن فائدة رعاية منبع غني من الحرية الإيجابية في أنه رغم إمكانية سلب الآخرين لحرية الإنسان السلبية، يكون مخزونه من الحرية الإيجابية مصدر طاقة غير ممسوس، يمكن أن يبقيه قائمًا مهما تغيرت أحواله الخارجية أو انتابته الظروف الاضطرارية.

هذا بدقة ما لاحظه فيكتور إيميل فرانكل Viktor Emil Frankl عندما عاش مع زملائه السجناء، وهم بشر جُردوا من كل ما تبقى من حريتهم السلبية في معسكر الاعتقال النازي تريزنشتات، كما يروي فرانكل في كتابه الشهير «إنسان يبحث عن معنى»:

كان ممكنًا للحياة الروحية أن تتعمق، رغم كل الظروف البدائية الجسدية والعقلية المفروضة على الحياة في معسكرات الاعتقال. ربما عانى البشر الحساسون الذين اعتادوا حياة فكرية غنية ألمًا كبيرًا(حيث كانوا أصحاب تكوين مرهف)، لكن الأذى اللاحق بذواتهم الداخلية كان أقل. كانوا قادرين على التراجع من المحيط السيئ إلى حياة داخلية غنية وحرية روحية. بهذه الطريقة فقط يمكننا أن نفسر المفارقة الظاهرة في أن بعض السجناء ذوي الطبيعة الأقل شجاعة بدوا أحيانًا أكثر قدرة على الصمود في حياة المعسكر أكثر من أصحاب الطبيعة القوية.

تجربة حياة المخيم تظهر أن الفرد لديه خيار بالفعل. كانت توجد أمثلة كافية، غالبًا عن الطبيعة البطولية، التى أثبتت أن اللامبالاة يمكن تجاوزها وقمعها، يمكن للفرد أن يحتفظ ببقايا من الحرية روحية واستقلالية للعقل، حتى في الحالات البشعة من التوتر النفسي والجسدي.

نحن الذين عشنا في معسكرات الاعتقال، يمكننا تذكر الذين تجولوا بين الأكواخ ليريحوا الآخرين، يعطون آخر كسرة خبز لديهم. ربما كانوا قليلي العدد، لكنهم يعطون إثبات كافٍ أن الفرد قد يُسلب كل شيء إلا شيء واحد: الحرية الإنسانية النهائية - أن يختار الإنسان سلوكه في أي ظروف، أن يختار الإنسان طريقه.