هذا هو اللقاء الثالث في سلسلة من الحوارات مع فلاسفة ومنظرين نقديين حول سؤال العنف. أجرى الحوار مع زيجمونت باومان الأستاذ الفخري لعلم الاجتماع بجامعة ليدز في بريطانيا، براد إيفانز.
2 مايو 2016
ترجمة نورا حلمي.
مراجعة: عبد الرحمن عادل
خاص بـ Boring Books
تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.
***
براد إيفانز: أوليت اهتمامًا خاصًا لمأزق اللاجئين البائس لمدة تتجاوز عقد من الزمن، وسلطت الضوء تحديدًا في عملك على الإهانات وعدم الأمان الذي يتعرض له اللاجئ يوميًا. وأبرزت أيضًا أن المشكلة ليست جديدة كليًا ولا بد من فهمها في سياق تاريخي أوسع. بالنظر لذلك، هل تعتقد أن أزمة اللاجئين الحالية، التي تبتلع أوروبا، تمثل فصلًا آخر في تاريخ الفرار من الاضطهاد، أم أن شيئًا مختلفًا هو الذي يحدث؟
زيجمونت باومان: يبدو أنها «فصل آخر» رغم أنها مثل كل المشاكل السياسية تمتلك تاريخًا يضيف شيئًا لمحتويات سابقاتها. فالهجرة المكثفة في العصر الحديث ليست شيئًا جديدًا ولا حدثًا فرديًا، و لكنها في الواقع تأثير ثابت ومتواصل لنمط الحياة الحديثة بانشغالها الدائم ببناء النظام والتطور الاقتصادي. تعمل هاتان الخاصتان كمصانع بإمكانها إنتاج «أشخاصًا زائدين عن الحاجة»، هؤلاء إما غير قابلين للتوظيف محليًا أو مرفوضين سياسيًا، وبالتالي مجبرون على التماس مأوى أو فرص حياة أفضل بعيدًا عن أوطانهم.
في الحقيقة، تغير اتجاه الهجرة السائد بعد انتشار أسلوب الحياة الأوروبي الحديث من موطنه الأصلي لباقي العالم. حين كانت أوروبا القارة الحديثة الوحيدة على الكوكب، فَرَغَّت سكانها الزائدين في البلاد التي لم تدخل بعد مرحلة «الحداثة»، وأعيد تدويرهم في صورة مستوطنين وجنود وأعضاء للإدارة الاستعمارية. في الواقع يُعتقد أن ما يقارب 60 مليون أوروبي غادروا أوروبا للأمريكتين وأفريقيا وأستراليا في أوج الإمبريالية الإستعمارية.
ولكن منذ منتصف القرن العشرين تحول الاتجاه، وتغير منطق الهجرة خلال ذلك الوقت لانفصاله عن غزو الأراضي. كان وما زال مهاجرو فترة ما بعد الاستعمار يتبادلون الطرق الموروثة لتدبير وجودهم، تلك الطرق التي دمرتها الحداثة المنتصرة للمستعمرين السابقين، لأجل بناء أعشاش في فراغات الاقتصاديات المحلية لهؤلاء المستعمرين.
و لكن بالإضافة لذلك هناك كتلة متزايدة من المطرودين خارج أوطانهم، خاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا نتيجة لعشرات الحروب الأهلية والصراعات العرقية والدينية، أو مجرد سرقة في المقاطعات التي خلفها المستعمرون في بلاد مصطنعة تدعي السيادة وتفتقر للاستقرار، لكن لا ينقصها ترسانة أسلحة ضخمة يمولها أسيادهم الاستعماريين السابقين.
إيفانز: استَخدَمَت حنا أرندت تعبير «بلا عالم» لتعريف الظروف التي يجد فيها المرء نفسه في عالم لا يهتم به كإنسان. يبدو هذا أكثر ملائمة لوصف أزمة اللاجئين المعاصرين. هل تكمن المشكلة في حصرنا للجدل في نطاق «الأمن» سواء للاجئين أو لوجهتهم؟
باومان: جزء من القضية هو الطريقة التي يُفهم و يُصَوَّر بها عالم السياسة. ففي عالم مقسم إلى دول ذات سيادة ترتبط فيه حقوق الإنسان بجنسية دولة، فإن اللاجئين حقًا بلا عالم. يزيد هذا الموقف تعقيدًا حقيقة أنه لم تبق دول مستعدة لقبول وإيواء لاجئين بلا دول ومنحهم فرصة لحياة كريمة وكرامة إنسانية.
في هذا العالم، لا يعتبر الفارون من ظروف قاسية «حاملين لحقوق» حتى الأساسية منها. أصبح بقاء هؤلاء رهنًا بمن يلجأون إليهم، مما زج بهم خارج نطاق الإنسانية تحديدًا فيما يتعلق بالحقوق التي لا يحصلون عليها. وهناك ملايين الملايين من هؤلاء يشاركوننا الكوكب.
وكما أوضحت محقًا ينتهي الأمر بتحول اللاجئين غالبًا إلى صورة من صور التهديد لحقوق السكان الأصليين، بدلًا من تعريفهم ومعاملتهم باعتبارهم جزءًا هشًّا من الإنسانية في سعيهم للبحث عن تلك الحقوق نفسها التي سُلبت منهم.
هناك حاليًا ميل واضح بين المواطنين والسياسيين الذين انتُخبوا لمقاعد السلطة لتحويل قضية اللاجئين من النطاق العالمي لحقوق الإنسان إلى الأمن الداخلي. إذ تمثل القسوة على الأجانب باسم الحماية من إرهابيين محتملين عملة سياسية أكثر رواجًا من الكرم والتعاطف نحو من يمرون بمحنة. لذلك فإن إسناد المشكلة لرعاية أجهزة الأمن يلائم أكثر الحكومات المثقلة بمهام الرعاية الاجتماعية التي يبدو أنها عاجزة أو غير راغبة في أدائها بما يرضي الناخبين.
إيفانز: من المحاور الأساسية في تحليلك وجود الكثير من نقاط الضعف التي يواجهها الناس حاليا يجب فهمها بمصطلحات عالمية. حيث أن الدول القومية أصبحت أكثر عجزًا عن الاستجابة للتهديدات المتعددة التي تميز عصرنا المتداخل. هل تكشف صورة اللاجئ بشكل أكثر وضوحًا عولمة السلطة والعنف اليوم؟
باومان: رؤية المشكلة باستخدام «اصطلاحات أكثر عالمية» ضرورية للفهم الكامل ليس فقط لظاهرة الهجرة الكثيفة، ولكن أيضا لفهم «رهاب الهجرة» الحقيقي والمنتشر الذي أثارته تلك الظاهرة في أوروبا. فتدفق عدد كبير من اللاجئين وظهورهم المفاجئ يجذب على السطح المخاوف التي نحاول جاهدين خنقها وإخفائها. تلك المخاوف محملة بهواجس هشاشتنا الخاصة والشك المستمر في أن مصيرنا في يد قوى خارج فهمنا أو تحكمنا.
يجلب اللاجئون، بشكل جزئي، أهوال القوى العالمية الغامضة المستترة -والتي نأمل أن تكون بعيدة- إلى جوارنا المرئي والملموس. قبل أسابيع قليلة كان هؤلاء الوافدون يشعرون مثلنا بالأمان في مساكنهم، ولكن الآن ينظرون لنا محرومين من بيوتهم، وممتلكاتهم، وأمنهم، وحقوقهم الإنسانية «الأساسية» واستحقاقهم للاحترام والقبول الذي يضمن الكبرياء.
واتباعًا للعادة القديمة يُلام الرسل على محتوى رسائلهم. فليس عجيبًا احتقار الموجات المتتالية من المهاجرين بوصفهم- كما قال بريشت « نُذر الأخبار السيئة». فهم تجسيد لانهيار التسلسل، ذلك الوضع الذي تستقر فيه العلاقة بين المقدمات والنتائج بشكل قابل للإدراك والتنبؤ، بطريقة تسمح لمن داخله معرفة كيفية التصرف. بالتالي يسهل شيطنة اللاجئين لأنهم يكشفون لنا نقاط الضعف تلك، إذ أن قرار إيقافهم على الجانب الأخر من حدودنا المحصنة جيدًا، يعني ضمنيًا قدرتنا على إيقاف القوى العالمية التي جلبتهم لأبوابنا.
إيفانز: يشعل الهاربون من ظروف الحرب جدالات صاخبة فيما يتعلق بتسميتهم الصحيحة: «مهاجر» أم «لاجئ»؟ المصطلحان مختزلان. هل نحتاج لمفردات جديدة هنا للتأكيد على الفاعلية الإنسانية لهؤلاء الذين يحاولون الهرب من تلك الظروف؟ ففي النهاية، كما لاحظت الشاعرة وارسان شاير، «لا أحد يلقي بأطفاله في الماء إلا إذا كان أكثر أمنًا من اليابس».
باومان: في أغلب الحالات ينحصر اختيار اللاجئ بين مكان وجوده فيه غير محتمل وآخر وصوله إليه غير مرغوب أو مسموح. كذلك الاختيار المتاح للمهاجرين بسبب الظروف الاقتصادية؛ هو بين مجاعة ووجود بلا إمكانات مستقبلية أو فرصة ولو ضئيلة لظروف محتملة له ولأسرته. لا يعد هذا حلًا أفضل مما يواجهه اللاجئ الهارب من عنف مادي. وسيفزع أي منا من حتمية الاختيار بين تلك الاحتمالات. نحتاج للغة ومرادفات فاصلة لظرف عالمي يجبر ملايين من المعايشين له على هذا الفعل.
يجب إدانة استخدام تعبير «مهاجر لظروف اقتصادية» بقدر استخدامه لوصم هؤلاء الضحايا، حيث أن تلك الاستطرادات البهلوانية تترك أسباب الأزمات بلا فحص والمسؤولون عنها لا يمسهم ذنب. ففي ظل ثقافة تعظم السعي للسعادة وتحسين الذات وترفعها لمقام هدف و معنى للحياة، فإن احتقار من يتبعون هذا المسعى و تعوزهم السبل أو الأوراق المناسبة لهو نفاق حقيقي.
إيفانز: في تعاملك مع السياسات العرقية والثقافية للاجئ استخدمت تعبير «إطلاق العنان للخوف» للتأكيد على تحول اللاجئ لدال على مخاوفنا وقلقنا المعاصر الذي نسقطه عليه. مع الأخذ في الاعتبار ما أشرت إليه سابقًا فيما يتعلق بسياسات عدم الأمان، أليس هناك خطر من تحول اللاجئ لكبش فداء عبر التركيز الشديد عليه وتصوير مشكلته باعتبارها تعريفًا لعصرنا (وبالتالي استقطاب الجدل و دفعه للتطرف)؟
باومان: حدثنا هيجل منذ قرنين من الزمان، أن بومة منيرفا، إلهة الحكمة، تبسط أجنحتها عند الغروب؛ أعني بهذا أننا نتعلم ماهية «زماننا» بأثر رجعي بعد انتهائه. ونادرًا ما نتعلم هذا حتى بالإدراك المتأخر. إريك هوبزباوم، والذي يُعد أعظم مؤرخ في العصر الحديث، استجمع شجاعته وأطلق اسم «عصر التطرف» على القرن العشرين فقط في عام 1994، وحتى عندئذ شعر بالحاجة للاعتذار عن هذا الوصف قائلًا:
«ليس بوسع امرئ أن يكتب تاريخ القرن العشرين كما يكتب تاريخ أي عصر أخر؛ لأن أحدًا لا يستطيع الكتابة عن حياته/حياتها كما يشاء (بل كما ينبغي) عن فترة تتوفر المعرفة عنها من الخارج فحسب، ومن مصادر ثانوية أو ثالثة عن تلك الفترة، ومن أعمال المؤرخين المتأخرين… هذه أحد الأسباب التي دفعتني بصفتي المهنية كمؤرخ، إلى تحاشي الخوض في الحقبة التي تلت عام 1914".
فلننتبه لنصيحة هذا المؤرخ العظيم ونقاوم الميل للتركيز على ما أطلق عليه توماس هيلاند إريكسن «طغيان اللحظة» منوهًا بقوة الإعلام. ربما يستحق اللاجئون مكانة «كبش فداء عصرنا» أكثر من أي فئة أخرى ولكن إلى متى؟ ذكرت في كتابي الأخير أن نقاط ضعفنا تطفو على السطح لأن كل المراسي التي نلقي بها ليست بالصلابة الكافية لتبقيها في مكانها بأي درجة من الاستمرارية.
و هكذا الأمر مع اللاجئين الذين يمثلون بأوضح طريقة سيولة الخوف في اللحظة المعاصرة. خلقت السيولة -على الأقل الآن- نوعا من التشابه بين الغرباء على بابنا والقوى العالمية الغامضة والقاهرة التي دفعتهم إلى هنا. حيث يبقى كلاهما خارج مدى إدراكنا وتحكمنا متجاهلين كل أمنياتنا العميقة و«حلولنا» المبتكرة.
إيفانز: يجادل البعض أن المثالية الإنسانية التي تؤمن بإمكانية تحول العالم للأفضل كانت إحدى الخسائر الفكرية للحرب على الإرهاب. هل نحتاج لمذهب إنساني جديد للقرن الواحد والعشرين؟
باومان: في كتابه «الرؤية العالمية» صَوَّر أولريش بيك المأزق بذكاء: «أُلقى بنا (دون سؤالنا) في ظرف عالمي- كوزموبوليتاني يتسم بالاعتماد المتبادل. ولكن ينقصنا إعداد واكتساب وعي عالمي مواكب لذلك ولم نبدأ بعد بجدية في هذا الأمر». مما يخلق ما يسميه ويليام فيلدينج أوبرن نوعًا من التفاوت الثقافي، والدليل عليه هو معاملة اللاجئين. سيبقون هم الضحايا المباشرون لنقص الفهم إلى أن يأتي وقت نحاول فيه جادين أن نتولى قواعد ذلك التفاوت المؤسسي والمرتبط بالدولة.
كما أورد بنيامين باربر بشكل واضح في كتابه «إن حَكَم المحافظين العالم»، فإننا «نشهد اليوم بعد تاريخ طويل من النجاح الإقليمي، فشل الدولة القومية على الصعيد العالمي. كانت هي الوصفة السياسية المناسبة لحرية واستقلال الناس والأمم المتمتعة بالحكم الذاتي. ولكنها غير مناسبة على الإطلاق لنظام الاعتماد المتبادل». ويرى أن الدولة القومية بمفردها غير مؤهلة لمواجهة التحديات التي سببها الاعتماد المتبادل والذي بلغ مداه الكوكب بأسره. لأن الدول «تميل بشدة للمنافسة والإقصاء المتبادل بطبيعتها. وتبدو غير ميالة بشكل جوهري للتعاون وعاجزة على إنتاج بضائع مشتركة عالميًا».
أُرجع جزءًا كبيرًا من المشكلة للفصل المتنامي بين السلطة والسياسات، وهو صدع يؤدي لسلطة متحررة من القيود السياسية، وسياسات تعوزها السلطة بشكل مستمر ومتزايد. أصبحت السلطات الآن -وبخاصة تلك التي تؤثر على الحالة الإنسانية والإمكانات المستقبلية للبشرية- تتغلغل عالميًا بحرية ( بحسب رأي مانويل كاسل عالم الاجتماع الإسباني) في «فضاء التدفقات» متجاهلة عن عمد كل الحدود والقوانين والمصالح الداخلية للكيانات السياسية، بينما أدوات العمل السياسي تبقى كما كانت منذ قرن أو قرنين، ثابتة ومحدودة «بمساحة الأماكن» أي الدول. قد نحتاج بشدة «لعناصر تاريخية» بديلة، وأتوقع أنه لحين العثور عليها ووضعها في موضعها، فإن مناقشة نماذج المجتمع «الجيد» أو «الأفضل» تبدو وسيلة للتسلية، ولا تثير الكثير من المشاعر إلا عند الهوامش المتطرفة من الطيف السياسي.
وبالمثل لا أؤمن أن هناك حلًا مختصرًا لأزمة اللاجئين الحالية. فالانسانية في أزمة ولا يوجد مخرج سوى تضامن البشر. والعائق الأول في طريق الخروج من الاغتراب المتبادل هو رفض الحوار المتمثل في هذا الصمت المصاحب لتغريب النفس، والتحفظ، وعدم الانتباه أو الاهتمام، واللامبالاة. إذ يجب التفكير في العملية الجدلية لرسم الحدود ضمن ثلاثية الحب والكراهية واللامبالاة (أو الإهمال) الذي يواجهه اللاجئ تحديدًا بدلًا من ثنائية الحب والكراهية.