ترجمة كاملة للحوار الذي أجراه جورج إيتون مع سلافوي جيجيك

ونُشر في مجلة «نيو ستيتسمان» - 9 يناير 2019

ترجمة: أمير زكي

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية
والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

MICHAEL TUMMINGS AND ZEITGEIST FILMS/AF ARCHIVE/ALAMY

في عهد الإنتاجية الراكدة، يعتبر سلافوي جيجيك متجولًا بارزًا. منذ عام 1972، نشر الفيلسوف السلوفيني –الذي يصف نفسه بأنه «ماركسي معقد»- أكثر من 80 كتابًا ومجموعة مقالات، من ضمنها «العيش في الأزمنة الأخيرة»، و«الموت الثاني للأوبرا»، و«أعضاء بلا أجساد»، وأخيرًا، «مثل اللص في وضح النهار: السلطة في عهد ما بعد الإنسانية».

تذكرت بديهة ستالين المحرفة عن إنتاج السلاح الروسي: «الكم يعتبر كيفًا بطريقته»، ملصق للديكتاتور مصحوب بشعار «مرحبًا بالرفاهية»، معلق بشكل شبه ساخر في شقة جيجيك بلوبليانا.

حين قابلت جيجيك، الذي كان يرتدي «تي شيرت» غير مميز وبنطلون جينز باهت، في وسط لندن، فسَّر الأمر قائلًا: «هل تعلم ما الذي جعل الأمر ممكنًا؟ لا أمزح هنا: ما جعله ممكنًا هو القمع الشيوعي». في عام 1971، بعد أن قِبِل وظيفة باحث مساعد في جامعة لوبليانا، أقدم وأكبر جامعة بسلوفينيا، رُفض تعيينه في منصب أكاديمي بعدما اعتبرت السلطات اليوغوسلافية أطروحته في الماجستير «غير ماركسية».

صار جيجيك عاطلًا في الفترة بين عامي 1973 و1977 («عشت على الترجمات») قبل أن يصبح أخيرًا باحثًا في معهد الجامعة لعلم الاجتماع والفلسفة. «ما زلت هناك.. حرًا تمامًا، لا أفعل لهم شيئًا على وجه الخصوص، كل ما يريدونه مني قائمة بالمنشورات. بدون لحظة القمع الشيوعي الأخيرة، ما الذي كنت سأتحول إليه؟ مجهول، أستاذ خرائي في قسم صغير».

هو معروف بالتأكيد: «إلفيس النظرية الثقافية»، الذي يبلغ من العمر 69 عامًا، هو موضوع فيلم «جيجيك!» الذي عُرض عام 2005، ويشارك في مراجعة الدورية الأكاديمية «الجريدة الدولية لدراسات جيجيك»، ولكن رغم أنه اشتهر من قبل البعض باعتباره هادم مميز للأصنام، تمزج أعماله بين التحليل النفسي اللاكاني والمثالية الهيجلية والثقافة الجماهيرية، يزدريه البعض باعتباره مدعيًا.

محاورة جيجيك أشبه بمحاولة صيد ثعبان يتلوى باستمرار – عقله مجبر على التحرك في اتجاهات غير متوقعة (أحد المونولوجات يشتمل على الحديث عن حركة احتلوا وول ستريت، والربيع العربي و«كيف تمضي أبعد من مانديلا بدون أن تكون موجابي»، و«الوصية الأخيرة» للينين وفيلم «القناع» لجيم كاري). مثل أوسكار وايلد، الذي يحبه جيجيك حبًا جمًا، يعامل جيجيك الأشياء التافهة بجدية، ويعامل الأشياء الجادة بتفاهة. «اليسار في وضع شديد المأساوية» هكذا يقول لي بلكنته التي يتردد صداها. «حتى لو قال المثقفون الرأسماليون الأصيلون الجدد –أمثال بيل جيتس-  إن الرأسمالية لها حدودها، وسيتحتم علينا أن نجد شيئًا جديدًا... نتساءل إذا كان لدى اليسار حقًا رؤية بديلة؟ غالبًا ما يتحدثون عنه هو الرأسمالية العالمية ذات الوجه الإنساني».

بالنسبة لجيجيك، لا تعتبر الديمقراطية الاجتماعية كافية، ولكن سنخاطر إذا وصفنا بديلًا ثابتًا. «علينا أن نرفض أي شيء متبق من ماركسية الغائية التاريخية... تنتج الثورة الاشتراكية فوضاها الخاصة، تمضي في اتجاه خاطئ. أنا متشائم تجاه العالم، ولكن ما يزودني بالأمل تحديدًا هو هذا الموقف الكارثي. لأن في أمثال تلك المواقف الكارثية علينا أن نكون مبدعين، علينا أن نرتجل. لهذا السبب لا أثق في اليساريين الذين تكون لديهم تلك الحلول البسيطة».

سألته إذا كان مفهوم «شيوعية الرفاه» يجذبه: الاقتصاد الآلي الذي يتلقى فيه البشر دخلًا أساسيًا موحدًا تنفقه الدولة. يرد جيجيك: «لا تقلل من قدر الحسد. رأت آيان راند شيئًا واحدًا بوضوح شديد: إذا أفنيت المال، سيكون من السهل للغاية أن تُستعاد علاقات السيطرة المباشرة بين الناس. رأينا ذلك من خلال الاتحاد السوفييتي – كان لديهم المال أثناء حكم ستالين، ولكنه لم يكن أمرًا هامًا؛ ما كان يعتبر أمرًا هامًا هو المكاسب التي كنت تحظى بها ككاتب، قدرتك على الوصول إلى المنازل المرفهة وغيرها».

«كيف يمكن تنظيم العلاقات فيما بيننا؟ من سيملك السلطة؟ لا تحدثني عن الخراء الغبي المتعلق بالتنظيم الذاتي للناس، أنا لا أؤمن به». (في العام الماضي ألقى جيجيك محاضرة بعنوان دفاعًا عن الاشتراكية البيروقراطية»).

مؤخرًا تعرض جيجيك لانتقادات حادة من الليبراليين لدعمه دونالد ترامب على حساب هيلاري كلينتون. ولكن حين ضغطتُ عليه مستعينًا بسلوكيات ترامب، بدا متحديًا. «فرصة التدخل عسكريًا ضد سوريا وكوريا الشمالية كانت أعلى في حالة فوز هيلاري كلينتون... هل نحن واعين أنه لن تكون هناك هذه الاشتراكية الديمقراطية في الولايات المتحدة بدون ترامب؟ أشعر ببشاعة ترامب، ولكن من خلاله يظهر شق في الهيمنة الوسطية الليبرالية».

ولكن ليس لدى جيجيك وجهة نظر تحمل هذا القدر من التفاؤل تجاه البريكزت: «لا أعتقد أنه يمكننا مواجهة الرأسمالية العالمية من خلال الدول القومية القوية. هنا أتعاطف مع (يانيس) فاروفاكيس». يضيف قائلًا: «حتى إذا ذهبت هذه النسخة من أوروبا إلى الجحيم، فالكيانات العابرة للقوميات الشبيهة بذلك هي الشيء الوحيد الذي سينجح».

ولكن ماذا عن صحة جيجيك؟ أثناء ظهوره في العام الماضي، بدا وجهه نصف مشلول، ما أثار مخاوف من إصابته بجلطة. يشرح أن هذا كان نتيجة لالتهاب في الأعصاب، وذلك قبل أن يرفع التي شيرت الذي يرتديه ليظهر لي المكان الذي انتزع منه الورم السرطاني من كبده. جيجيك الذي تحَمَّل موسمًا من الجحيم، إذا اقتبسنا تعبير آرثر رامبو، صار يشعر بالارتياح مجددًا.

نَسَب الفضل للكتابة لكونها أنقذته من الموت قبل الآوان: «أذكر أنني مررت بأزمة كبيرة منذ ثلاثين عامًا، علاقة حب لم تمض بشكل طيب (تزوج جيجيك ثلاث مرات)، كنت بالفعل على وشك الانتحار. أدت الكتابة نفس الدور الذي يؤديه التحليل النفسي. كيف يمكن أن أقتل نفسي طالما كنت مضطرًا أن أنهي هذا الكتاب أو هذا النص، أو أي كتابة أخرى؟»

يريد سلافوي جيجيك أن يحيا، ولكنه لا يريد أن يحيا سعيدًا. «أنا ضد السعادة – السعادة للجبناء»، هكذا يشير في ختام الحوار. «أريد أن أتعرض للصدمة من أجل أن أعمل».


اقرأ المزيد: سلافوي جيجيك: علينا أن نتخلى عن قضية الدولة القومية