القديس جيروم، شفيع المترجمين وفقًا للكنيسة الكاثوليكية، من wikimedia |
من وجهة نظر المستخدم، من الجوهري أن يكون قادرًا على الثقة في الترجمة –لا في النص فحسب ولكن في المترجم أيضًا، وعامة في عملية الترجمة بأكملها. ولأن هذا هام بالنسبة للناس الذين يدفعون الأجر، فهو هام للمترجم أيضًا؛ الاعتبارات البراجماتية للحفاظ على العمل (لمن يعملون بداخل شركات) أو الاستمرار في تلقي المهام (في حالة المترجم الحر)، تؤدي إلى الرغبة في تلبية احتياجات صاحب العمل أو العميل.
ولكن لدى مترجم النصوص أو المترجم الفوري اعتبار أعلى من الحصول على المال أو الاستمرار في وظيفته، وهو الفخر المهني والنزاهة المهنية والتقدير الذاتي النابع من المهنة. نريد جميعًا أن نشعر أن العمل الذي نقوم به هام، وأننا نقوم به بإتقان، والناس الذين نقوم بالعمل لهم يقدرون عملنا. في الحقيقة، يفضل معظم الناس أن يحظوا بالفخر المهني في عمل يدفع مقابلًا ماديًا أقل عن أن يصيروا أثرياء وهم يؤدون عملًا لا يؤمنون به. على الرغم من القيمة العالية المُنصَبَّة على الحصول على الكثير من المال (بالتأكيد سيكون هذا أمرًا لطيفًا!)، لا توجد متعة كبيرة في الحصول على أجر مرتفع بدون أن تكون فخورًا بعملك.
المناطق التي يحظى من خلالها المترجمون، بشكل نموذجي، بالفخر المهني هي الموثوقية والاستغراق في العمل والأخلاقيات.
الموثوقية
الموثوقية في الترجمة، في الجانب الأكبر منها، هي مسألة تلبية احتياجات العميل: ترجمة النصوص التي يريد العميل ترجمتها، بالطريقة التي يريد العميل ترجمتها بها، بالجدول الزمني الذي يحدده العميل. المطالب الموضوعة على عاتق المترجم، لمحاولة أن يكون موثوقًا به، من منطلق رؤية العميل، تكون مستحيلة في العديد من الأحيان، وأحيانًا ما تكون مزعجة لحياة المترجم الشخصية، وفي بعض الأحيان تكون ممجوجة أخلاقيًا، وكثيرًا ما تكون منهكة نفسيًا وذهنيًا. ولكن إذا كانت المطالب ممكنة بأي حال، ففي العديد من المواقف، وحتى في معظمها، تتجاوز رغبة المترجم في أن يحظى بالفخر المهني، في مسألة الموثوقية، كل الاعتبارات الأخرى. سوف يظل/تظل متيقظًا طوال الليل يمارس العمل بسرعة، أو يلغي الخروج إلى أمسية محببة مع صديق، أو سوف يترجم نصًا بموثوقية حتى لو وجده/وجدته كريهًا أخلاقيًا أو سياسيًا.
الفخر المهني في مسألة الموثوقية هو السبب الرئيسي الذي يجعلنا نقضي ساعات بحثًا عن مصطلح واحد. ما المقابل المادي الذي نتلقاه بعد أن نفعل ذلك؟ لا شيء تقريبًا، ولكن يبدو في غاية الأهمية أن نقوم بالمهمة بشكل صحيح: أن نجد المصطلح الصحيح تمامًا، بالتهجئة الصحيحة، بالتعبير الصحيح، بالمقام اللغوي الصحيح. لا نفعل ذلك لأن هذا ما يتوقعه العميل، وإنما أيضًا لأنك لو لم تؤد العمل بشكل صحيح، سيتقلص فخرك المهنى ورضاك عن العمل.
الاستغراق في المهنة
هذه المسألة لا تخص العملاء كثيرًا، أو لا تخصهم على الإطلاق، ولكنها ذات أهمية كبيرة للمترجمين؟ أي جمعيات أو اتحادات ينتمون إليها؟ أي مؤتمرات للترجمة يذهبون إليها؟ أي مساقات يلتحقون بها في المجال؟ كيف نُكَوِّن الشبكات المهنية مع المترجمين الآخرين في منطقتنا، ومع نظرائنا في اللغات الأخرى؟ هذا «الاستغراق» أحيانًا ما يساعد المترجمين أن يصيروا أفضل، وهذا هام بالنسبة للعملاء، وكذلك هام لتحقيق الفخر الذي نحظى به بفعل الموثوقية. ولكن الأكثر أهمية هو أنه يجعلنا نشعر شعورًا أفضل تجاه كوننا مترجمين؛ يعزز تقديرنا الذاتي للمهنة، هذا الذي كثيرًا ما يدعمنا عاطفيًا ونحن نخوض الوظائف المملة والرتيبة وذات الأجر المحدود. القراءة عن الترجمة والحديث عنها مع المترجمين الآخرين، النقاش عن المشكلات والحلول المتعلقة بالنقل اللغوي، ومطالب العملاء وعدم تلقي الأجور، وغيرها، الالتحاق بفصول دراسية عن الترجمة، حضور مؤتمرات الترجمة، متابعة التطورات التكنولوجية في المجال، شراء البرامج والمستلزمات الجديدة وتعلمها؛ كل هذا يضفي علينا حسًا قويًا بأننا لسنا موظفين منعزلين ذوي أجر محدود، وإنما مهنيين يحيطنا مهنيون آخرون يشاركوننا الاهتمامات. الاستغراق في مهنة الترجمة يمكن حتى أن يزودنا بالأدوات الثقافية والشجاعة المهنية في مواجهة المطالب غير المقبولة، أن نُعلِّم العملاء وأصحاب العمل بدلًا من الخضوع لهم كلية وأن يغلي غضبنا بداخلنا. يساعدنا الاستغراق في المهنة أن ندرك أن العملاء الطالبين للترجمة يحتاجوننا مثلما نحتاجهم، هم لديهم المال الذي نحتاجه، ونحن لدينا المهارات التي يحتاجونها. ونحن لا نبيع إليهم تلك المهارات خاضعين مذعنين قابلين شروطهم كلية، وإنما نبيعها من موقف الثقة والقوة المهنية.
أخلاقيات الترجمة
أخلاقيات الترجمة المهنية عُرِّفت تقليديًا بتعريفات شديدة الضيق: من غير الأخلاقي أن يشوِّه المترجم معنى النص الأصلي. كما رأينا، هذا المفهوم المتعلق بأخلاقيات الترجمة شديد الضيق حتى من وجهة نظر العميل: توجد العديد من الحالات التي يُطلَب فيها من المترجم صراحة أن «يشوِّه» المعنى في النص الأصلي بطرق محددة، كما في معالجة النص ليكون جاهزًا للتلفزيون أو يكون كتاب أطفال، أو حملة إعلانية.
من منطلق وجهة نظر المترجم الداخلية، تظل أخلاقيات الترجمة مسألة أكثر تعقيدًا. على سبيل المثال، ما الذي يفعله المترجم حين يُطلب منه أن يترجم نصًا يجده/تجده مهينًا؟ أو بتعبير مختلف، كيف يكمل المترجم عمله حين تتصادم الأخلاقيات المهنية (الولاء للشخص الذي يدفع مقابل الترجمة) مع الأخلاقيات الشخصية (معتقدات المترجم الشخصية والأخلاقية)؟ ما الذي تفعله المترجمة النسوية حين يُطلب منها أن تترجم نصًا يحتوي تمييزًا على أساس الجنس؟ ما الذي يفعله المترجم الليبرالي حين يُطلب منه أن يترجم نصًا ينتمي للنازية الجديدة؟ ماذا يفعل المترجم البيئي حين يُطلب منه أن يترجم حملة إعلانية تخص شركة كيميائية غير مسؤولة بيئيًا؟
طالما سيطرت وجهة النظر الخارجية (وجهة نظر غير المترجمين)على التفكير في الترجمة ، ستظل تلك الأسئلة غير مطروحة للتساؤل –أسئلة لا تُسأل، وغير قابلة للطرح: يترجم المترجم أي نص يُطلب/تطلب منه أن يترجمه، ويفعل ذلك بالطريقة التي ترضي احتياجات العميل. لا توجد لدى المترجم وجهة نظر لها أي معنى تجاه كل أفعال الترجمة.
ولكن من وجهة النظر الداخلية، لا بد أن تُطرح تلك الأسئلة. المترجمون بشر، لديهم آراء ومواقف ومعتقدات ومشاعر. المترجمون الذين يُطلب منهم بشكل منتظم أن يترجموا نصوصًا يجدونها كريهة، ربما يكونون قادرين على كبت مقتهم لعدة أسابيع، أو شهور، أو حتى سنوات؛ ولكنهم لن يكونوا قادرين على كبت تلك المشاعر السلبية إلى الأبد. المترجمون، مثلهم مثل كل المهنيين، يريدون أن يشعروا بالفخر بما يؤدونه. إذا حدث صدام حقيقي بين أخلاقياتهم الشخصية والأخلاقيات المحددة من الخارج، سيكون من الصعب أو من المستحيل أن يشعروا بذلك الفخر، في النهاية سيكونون مجبرين على اتخاذ قرارات مؤثرة حيال الظروف والأحوال التي يريدون أن يعملوا فيها وبها.
وبشكل متزايد بدأ المترجمون استكشاف سبل جديدة يمكن بها التوفيق بين أخلاقياتهم كبشر وأعمالهم كمترجمين. على سبيل المثال تخبرنا المترجمة النسوية الكيبيكية سوزان لوتبينيير هاروود (1991) أنها لم تعد تترجم أعمالًا لرجال: هناك ضغط كبير جدًا في تبني صوت ذكوري، وترفض أن يتم تدجينها. في ترجماتها الأدبية لأعمال نسائية عملت جاهدة لمساعدتهن لخلق لغة تركز على المرأة في الثقافة المستهدفة أيضًا. في كتاب «الكاتب المخرب لسوزان جيل ليفين (1992) تخبرنا أنه في ترجماتها للكتاب الذكور الأمريكيين اللاتينيين شديدي التمييز ضد المرأة، كثيرًا ما عملت، بعد قبول الكُتَّاب أنفسهم والتعاون معهم، على التخلص من التمييز الجنسي.
التعريف «الداخلي» الأوسع لأخلاقيات المترجم مثير للجدل إلى حد كبير. بالنسبة للعديد من المترجمين، لا يطرح المترجم على نفسه فكرة أن يفعل أي شيء يمكن أن يؤذي مصالح الشخص أو الجماعة التي تدفع مقابل الترجمة («المُكلِّف» بالترجمة أو «المُبادِر» بها). بالنسبة للمترجمين الآخرين، فكرة أن تصبح بلا حول ولا قوة تمامًا، وألا تتخذ قرارات أخلاقية مبنية على الالتزامات الشخصية أو البنى الإيمانية أمر كريه بنفس القدر؛ يبدو الأمر أشبه بـ «أخلاقيات» الشوتزشتافل[1] الذين مثلوا أمام محاكم نورنبرج، بالزعم الذي ادعوه: «نحن فقط نطيع الأوامر». حين تتصادم أخلاقيات المترجم الشخصية في جوهرها مع مصالح المُكَلِّف، إلى أي مدى يمكن للمترجم أن يتحمل الاحتفاظ بأخلاقياته وأن يستمر في كسب عيشه؟ ومن جهة أخرى إلى أي مدى يمكن للمترجم أن يتحمل التنازل عن تلك الأخلاقيات ويظل مع ذلك يحظى بالفخر المهني في عمله أو عملها؟
[1] وحدة شبه عسكرية نازية في ألمانيا في عهد هتلر، أخذت على عاتقها العمل الأمني والمخابراتي بألمانيا والمناطق التي احتلتها، وعُرفت بمذابحها العديدة.