من المشهور عن الكاتب الكبير الراحل يوسف إدريس قوله إن الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبًا واحدًا، ولكن الواقع والتاريخ يشيران إلى أن الوضع أكثر سوءًا، فالحرية في العالم العربي لم تتسع لكتاب واحد، مجرد رواية، «أولاد حارتنا»، إحدى النقاط البيضاء في تاريخ الأدب العربي، وإحدى النقاط السوداء في تاريخ السلطة والمجتمع.
منذ عدة أيام نشر الكاتب الصحفي محمد شعير كتابه الجديد «أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة»، بعد أن قضى سنوات من البحث عن كل ما يخص الرواية، استخرج معلوماته من الصحف والكتب، ومن مقابلات شخصية ومكالمات تليفونية مع معاصرين للنشر، ليُخرج لنا كمًّا هائلًا من المعلومات عن كل ما يخص ملابسات النشر وتبعاته.
منذ نشر الرواية على حلقات في الأهرام كانت «أولاد حارتنا» أشبه بساحة المعركة التي تتصارع فيها أجنحة السلطات السياسية والدينية والثقافية، ولأننا في العالم العربي نعيش في زمن دائري، بحسب تعبير شعير، ما أن يظهر أي شيء يخص الرواية تتجدد الصراعات مرة أخرى، وكأننا رغم مر كل هذه العقود ما زلنا نعيش في الزمن الذي بدأ فيه نشرها، 21 سبتمبر عام 1959.
أبناء الجبلاوي
كانت رواية «أولاد حارتنا» بمثابة مرحلة انتقالية في أدب نجيب محفوظ، بحسب شعير في الكتاب: «هي رواية مركزية في عالم محفوظ، ما قبلها كان واقعيًا صرفًا، وما بعدها كان محاولات دائمة للتجريب، والابتعاد عن الواقعية الكلاسيكية». وبحسب ما يذكر الكتاب نقلًا عن سليمان فياض: «كان محفوظ حتى (السكرية) جبلًا بلا قمة، قد وجد أخيرًا قمته عندما كتب (أولاد حارتنا)، تلك القمة الشاهقة الباردة الرائعة».
بعد عدة روايات فرعونية انتقل محفوظ إلى الواقعية، وقبل أن ينتقل إلى التجريب المستمر في الستينيات وبعدها، كتب هذه الرواية الرمزية، التي تحكي قصص الجبلاوي وأدهم وجبل ورفاعة وقاسم وعرفة. من السهل أن على القارئ أن يرى أن هذه الرموز توازي قصص الأنبياء الأبرز في الأديان الإبراهيمية (موسى وعيسى ومحمد) ثم يأتي عرفة ممثل العلم.
بعد نشر الرواية رفض محفوظ أكثر من مرة التفسير الديني للرواية، وكان من الممكن أن يتهرب ويشير إلى أن الرواية ذات مدلول سياسي، ولكن شعير يشير في كتابه أن التفسير السياسي ربما كان أخطر على الكاتب من التفسير الديني، في وقت كان من السهل أن يلقى بأي كاتب في السجن، ولكن بعد موت عبد الناصر وفي ديسمبر عام 1975 يتخلى محفوظ عن تحفظه ويتحدث عن الملمح السياسي في الرواية في حوار له بجريدة القبس: «بدأت أشعر أن الثورة التي أعطتني الراحة والهدوء بدأت نتحرف وتظهر عيوبها... وخاصة من خلال عمليات الإرهاب والتعذيب والسجن، ومن هنا بدأت كتابة روايتي الكبيرة (أولاد حارتنا) والتي تصور الصراع بين الأنبياء والفتوات. كنت أسأل رجال الثورة: هل تريدون السير في طريق الأنبياء أم الفتوات».
الفاتحة للعسكري
يبدأ شعير كتابه بالاستعانة باقتباسين من أعمال محفوظ؛ الثاني منهما كان جملة كمال عبد الجواد في الثلاثية: «إنني سائح في متحف لا أملك فيه شيئًا. مؤرخ فحسب. لا أدري أين أقف؟» وهي الجملة الدالة لأننا نعرف أن كمال هو المعادل الروائي لشخصية محفوظ نفسه في تلك الفترة، أما الاقتباس الأول فمستمد من «أولاد حارتنا»، إذ يستمع قاسم إلى الأغنية التي تقول: «الفاتحة للعسكري.. قلع الطربوش وعمل ولي».
عام 1959، مع بداية نشر الرواية، لم تكن الدولة الناصرية قد تقاربت مع الاتحاد السوفييتي بعد، بالعكس كانت تعادي النظام العراقي الذي يقوده عبد الكريم قاسم والمدعوم من السوفييت. لذلك كان هناك ضرورة لتقريب نوعية معينة من المشايخ من السلطة، حتى لو كانوا في السابق محسوبين على جماعة الإخوان المسلمين التي تعاديها هذه السلطة، ومن هؤلاء الشيوخ محمد الغزالي وسيد سابق، والأخير عُرف قبل ذلك بـ «مفتي الدم» لأنه أفتى بمشروعية قتل النقراشي باشا.
نعرف من الكتاب أن «السلطة الناصرية» نفسها لم تكن سلطة متسقة، على الأقل كان هناك بداخلها جناحان يميني ويساري، يذكر شعير دور «كمال الدين حسين»، أحد الضباط الأحرار، والذي تولى العديد من المناصب في الفترة الناصرية (كان يتولى 11 منصبًا وقت صدور الرواية)، في السعي لمنع العديد من الأعمال الأدبية، وذلك قبل تحديد إقامته عام 1965.
المؤسف أن وسط المثقفين والأدباء أيضًا لم يخل من هذا الجناح المحافظ، يشكو محفوظ في حواره مع رجاء النقاش أن من بين من قدموا عرائض لوقف نشر الرواية أدباء، ويشير شعير إلى أن الهجوم على رواية «أولاد حارتنا» بدأ من باب «أدب وفن» الذي كان يشرف عليه الشاعر صالح جودت، وذلك بنشره رسالة من شخص يدعى محمد أمين، ينتقد فيه الرواية لتطاولها على الدين. هكذا يمكن أن نتلمس الجانب المحافظ بين المثقفين المصريين، ولكن يمكن أيضًا أن نتلمس جانب الغيرة الذي يتسم به العديد منهم، فها هو محفوظ الموظف والسينارست والروائي الناجح ينشر روايته في أكبر صحفية مصرية ويتلقى ألف جنيه مصري مقابلًا عنها، وهو مبلغ هائل وقتها.
كذلك كانت الرواية فرصة لمحاولة العديد من الأطراف فرض سيطرتها، يشير شعير إلى أن محمد حسنين هيكل كان يرى أن الهجوم على الرواية مرجعه الهجوم على «الأهرام» التي كانت تتمتع باستقلالية عن الاتحاد الاشتراكي وكذلك يتمتع رئيس تحريرها بصداقة شخصية بعد الناصر.
كانت «أولاد حارتنا» أول رواية ينشرها نجيب محفوظ مسلسلة في الصحف، وبذكائه الصحفي قرر رئيس تحرير الأهرام محمد حسنين هيكل نشر فصولها يوميًا لا أسبوعيًا كما جرت العادة، حتى لا تتاح الفرصة لأحد أن يوقف نشرها.
وفقًا لسامي شرف، مدير مكتب عبد الناصر، تلقت الرئاسة فعلًا مطالبات بإيقاف نشر الروية، ولكن جمال عبد الناصر رفضها، وأضاف شرف أن هيكل «لم يكن يتصرف من دماغه»، ولولا دعم عبد الناصر لما اكتمل نشرها.
محفوظ الجبان
بعدما أنهى عمله الرئيسي «الثلاثية» توقف نجيب محفوظ عن الكتابة لمدة 5 سنوات، منذ عام 1952 وحتى 1957، أطلق على هذه الفترة «سنوات الجفاف»، وتباينت ردوده حول سبب هذا الجفاف، فحينًا يقول إنه شعر بالإشباع بعد الثلاثية، وحينًا يقول إن الثورة فترة جديدة وتحتاج إلى تصور جديد، ومرة يقول «الثورة حققت الأهداف، والمجتمع لم يعد فيه القضايا التي تستفزني».
في حفل إطلاق كتاب «سيرة الرواية المحرمة» فسرت الناقدة القديرة سيزا قاسم هذا التوقف بأن محفوظ كان «يجس نبض» النظام الجديد، ويتلمس مساحة الحرية التي سيتيحها للأدب. ولكن سيزا قاسم استطردت وقال «إن نجيب محفوظ جبان»، قبل أن تقول إن كل المثقفين المصريين جبناء. أثارت كلمات سيزا قاسم الضحكات وكذلك أثارت الامتعاض، ولم يتوقف الضحك ولا الامتعاض حتى بعد الندوة، أستاذ الأدب العربي د. حسين حمودة الذي اعترض على هذا الاتهام في الندوة نفسها عاد وكتب على صفحته بفيسبوك أن محفوظ تعرض لمحاولة اغتيال، وتعرض وأسرته للتهديد المستمر بعدها، وهذه شجاعة يندر أن يتسم بها أي شخص.
يذكر كتاب «سيرة الرواية المحرمة» أن بعد تصريح عمر عبد الرحمن بأنه «لو قتلنا محفوظ من 30 سنة مكنش طلع سلمان رشدي»، عرض الأمن المصري على محفوظ أن يخصص له حرسًا شخصيًا، فرفض محفوظ وقال ساخرًا: «لو مشي ورائي حارس فإنه هو الذي سيقتلني، لأنني سوف أعذبه بسبب حبي للمشي».
بالطبع لم يكن محفوظ شخصًا صداميًا، كان شخصًا حريصًا وكتومًا ولا يصرح بمواقفه بسهولة، ولكن هذا مفهوم في سياق الوضع السياسي في مصر، فنحن على الدوام نعيش في ظرف سياسي طارئ، ظرف لو واجهته بانعدام كياسة من الممكن أن تتوقف عن العمل تمامًا. ماذا كان سيستفيد القارئ العربي والعالمي لو واجه محفوظ السلطة «بشجاعة» وألقي به في السجن، وافتقدنا رواياته الجميلة التي كتبها في الستينيات مثلًا؟
بالإضافة إلى ذلك، لا أظن أنه يمكن أن يُطلق على محفوظ صفة «جبان» بهذه الأريحية، لو كان جبانًا لما كتب رواية «أولاد حارتنا» من الأصل، خاصة أننا نعرف أنه ذكي بما يكفي ليستوعب أن الحياة السياسية والثقافية تنغلق، على الأقل بالمقارنة بفترة تكوينه الفكري في الثلاثينيات من القرن العشرين.
مظلوم نقديًا
في حوار تلفزيوني أجراه محمد شعير مع الصحفي محمد الباز بعد صدور الكتاب، ذكر شعير أن محفوظ «مظلوم نقديًا». للوهلة الأولى ستشعر بالدهشة عند الاستماع لهذه الجملة، كيف يكون محفوظ، أكثر أديب كُتبت عنه دراسات نقدية، مظلومًا نقديًا؟
أشار شعير في الحوار نفسه إلى توقف سلسلة الكتب الخاصة بمحفوظ والتي كانت تصدر عن الهيئة، وكذلك إلى توقف الدورية التي كانت تصدر عنه من المجلس الأعلى للثقافة. ونضيف إلى ذلك أن أي أديب عظيم في العالم تُخصص له مؤسسة ترعى الأبحاث العملية والدراسات النقدية التي لا تنتهي عنه.
لم يُقتل أدب محفوظ بحثًا، وهو ما يكشف عنه كتاب «سيرة الرواية المحرمة» في فصله الممتع عن البحث عن مخطوط الرواية. يرصد شعير القصة من خلال مترجم «أولاد حارتنا» للإنجليزية فيليب ستيوارت الذي استعان في الستينيات بحلقات الأهرام ليترجمها مع الاستعانة بمحفوظ ليراجعها معه، وأخبره محفوظ أنه لا يحتفظ بمخطوط الرواية.
في الثمانينيات، وقبل صدور طبعة أخرى من الترجمة، قارن ستيوارت بين نسخة الأهرام والنسخة التي صدرت بدار الآداب ببيروت، واكتشف ستيوارت اختلافات عديدة بين الطبعتين «كان هناك 961 اختلافًا بين النص الذي نشرته الأهرام ونص الرواية الصادر عن دار الآداب».
يبحث شعير عن مخطوط الرواية في كل الأماكن المحتملة، في أرشيف الأهرام ومكتبة هيكل وفي دار الآداب ولا يستدل على المخطوط الأصلي، ويستنتج شعير أن الترجمة الإنجليزية للرواية هي النص المكتمل الوحيد المتاح لها حتى الآن.
أما عن المخطوط العربي فينقل شعير عن ستيوارت قوله ساخرًا: «ربما ترقد المخطوطة داخل خزانة أحد البنوك في بيروت».
ستيوارت أيضًا يتحدث عن إشكالية ترجمة كلمة «فتوة» للإنجليزية، إذ ترجمها أولًا بـ Strongman، وفوجئ أن غيرت مراجعة الترجمة، د. فاطمة موسى، بتصحيح الكلمة إلى Strong Man، مما انحرف كثيرًا بالمعنى، فعاد وترجمة الكلمة بـ Chief، وقرر في النهاية أن يحتفظ بكلمة فتوة futuwwa بالإنجليزية.
أزمة متجددة
ظلت رواية «أولاد حارتنا» أو بالأحرى الفهم الخاطئ لرواية «أولاد حارتنا» كالكابوس الذي يطارد محفوظ طوال حياته وربما حتى بعد موته، يرصد شعير التواريخ البارزة في حياة محفوظ؛ 13 أكتوبر عام 1988 يوم حصوله على جائزة نوبل، رغم فخر العرب والمصريين بحصول كاتبهم على هذه الجائزة الرفيعة، ظهرت أصوات تزعم أنه حصل عليها بسبب الرواية التي تتطاول على الأديان.
في 14 أكتوبر عام 1994، يتعرض محفوظ لمحاولة اغتيال من شاب لم يقرأ الرواية ولكن أطاع أوامر شيوخه. في نص التحقيق مع محفوظ الملحق بالكتاب يتحدث الكاتب عن تشابه رمزيته في الرواية برمزية كليلة ودمنة، وكأنه يقول يائسًا إنه لم يفعل شيئًا سوى التواصل مع التراث الإنساني.
في يوم جنازته خرج لتوديعه شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي ومفتي الجمهورية علي جمعة، ورغم عدم ردهما المباشر على سؤال إذا كانت وفاة محفوظ فرصة للتصالح بين المؤسسة الدينية وأعمال محفوظ، إلا أنهما تعرضا للانتقادات لحضورهما الجنازة. واعترض شاب على الصلاة لأن محفوظ «كافر».
خلال حفل إطلاق كتاب «سيرة الرواية المحرمة» ذكر الروائي والناقد طارق إمام أنه كان يحمل الكتاب معه في المواصلات، فسأله راكب آخر إذا كانت هذه هي الرواية، فرد إمام: «لا، كتاب عنها»، فقال الراكب: «ما ينفعش برضو».
***
وثيقة تاريخية ثمينة يضيفها محمد شعير إلى المكتبة العربية، ورغم ابتعاد الكاتب عن موضوعه الرئيسي في بعض الفصول، مثل الحديث مطولًا عن ملابسات ترشيح محفوظ لنوبل، وكذلك عن سياق كتابته لرواية اللص والكلاب (تمنيت كقارئ لو توسع الكاتب في هذا الموضوع وخصص له كتابًا منفصلًا)، إلا أننا أمام أحد أفضل إصدارات العام، وأحد أفضل الكتب التي نُشرت عن محفوظ.
***
أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة
محمد شعير
دار العين