الفيلسوف لمتنكر
جاري جوتينج
ترجمة: أمير زكي
النص هو ترجمة الفصل السادس من كتاب «فوكو – مقدمة قصيرة جدًا» لجاري جوتينج “Foucault: a Very Short Introduction – Gary Gutting – Oxford University press 2005”
جاري جوتينج: فيلسوف أمريكي، وأستاذ الفلسفة بجامعة نوتردام.
لقراءة ترجمة الفصل الثاني من الكتاب على Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
***
فوكو المتهرب من الهوية بشكل نموذجي، سمح في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى لم يسمح، بأن يقال عنه فيلسوف. عندما قبل بإجراء مقابلة في سلسلة تقدم آراء «الفلاسفة» أصر على تردده، وقَدّم نفسه على أنه «فيلسوف متنكر».
كان البيروقراطيون على ثقة من أن فوكو فيلسوف، فلديه درجات علمية متقدمة في المجال (من ضمنها أعلى درجة؛ الدكتوراه) وكان أستاذا في العديد من أقسام الفلسفة. إذن ما هو السبب في تردده، أو ترددنا؟
حتى نجد إجابة مثيرة للاهتمام على سؤال «هل س فيلسوف؟»، نحن بحاجة إلى سياق مناسب، هذا الذي يتحقق بسهولة عن طريقة الأمثلة النموذجية للنشاط الفلسفي. هل فوكو فيلسوف بحس سقراط الذي شرب من كأس الشوكران، أو بحس ديوجين الذي كان يسعى حاملًا مصباحه، أو بحس ديكارت الذي كان يتأمل في غرفته؟ في عصرنا، النموذج هو كانط، الذي أسس الفلسفة باعتبارها مجالا نظريًا مستقلًا: لم تعد حكمة حياتية إرشادية كما كانت عند القدماء، ولا خادمة للاهوت كما كانت في العصر الوسيط؛ ولا حتى جزء من النظرة العلمية الجديدة للعالم كما كانت عند ديكارت والمحدثين المبكرين. تقدم الفلسفة نفسها عند كانط –على الأقل كانط مؤلف الأعمال النقدية الثلاثة العظيمة– باعتبارها مجالًا أكاديميًا، إلى جانب المجالات الأكاديمية الأخرى مثل الفيزياء والرياضيات، مجالًا له أهدافه ومناهجه النظرية ونطاق بحث خاص به. نتيجة لذلك صارت الفلسفة موضوعًا تقنيًا تخصصيًا، ليست متاحة لغير المتخصصين حتى من ذوي التعليم العالي. على سبيل المثال اشتكى المؤرخ والسياسي البريطاني اللورد ماكولي –الذي لم يصادف مشكلة في قراءة أفلاطون وديكارت وهيوم– من أنه لم يستطع قراءة كتاب «نقد العقل الخالص» لكانط (الكتاب الذي ينبغي على كل فيلسوف أن يقرأه كما قال ريتشارد رورتي).
بالتالي علينا أن نسأل هل فوكو فيلسوف بالمعنى الكانطي الحديث؟ معيار البيروقراطيين يخبرنا أنه على الأقل تدرب ونال شهادة كفيلسوف بهذا المعنى. ولكن هل ساهم عمله بالفعل في المشروع الفلسفي (الكانطي) الحديث؟
هنا يمكننا أن نتحول إلى حديثه عن كانط والفلسفة الحديثة في مقال نَشِر في العام الذي مات فيه (1984)، بعنوان «ما التنوير؟». بشكل نموذجي إلى حد كبير، لم يكن المحك عند فوكو في ما يخص كانط هو أعماله «الكبرى»، كالكتب النقدية الثلاثة، ولكن مقال قصير، «نص ثانوي ربما»، سمَّاه كانط أيضا «ما التنوير؟». يبدأ فوكو هذا المقال باقتراح أن الفلسفة الحديثة ربما تُعَرَّف على أنها محاولة للإجابة على سؤال كانط: ما التنوير؟
ولكن ما الذي يعنيه هذا السؤال؟ التنوير هو حركة حديثة بامتياز كما هو واضح، تسعى لاستخدام العقل لتحرير البشرية من القيود التي تفرضها عليه السلطات التقليدية – الفكرية، الدينية، السياسية. في هذا المقال قال كانط إن الغرض من التنوير كان تجاوز «عدم النضج» بالتجرؤ على التفكير بأنفسنا، بدلًا من قبول سلطة الآخرين. أوجز فوكو أمثلة كانط الثلاثة: «نكون في حالة من (عدم النضج) عندما يحل كتاب محل فهمنا، وعندما يحل زعيم روحي محل وعينا، وعندما يقرر لنا الطبيب النظام الغذائي الذي علينا أن نتبعه».
أن نفكر بأنفسنا يعني أن نتعقل: «في الحقيقة يصف كانط التنوير على أنه اللحظة التي ستستخدم فيها الإنسانية عقلها، بدون أن تُخضِع نفسها لأي سلطة». يفهم كانط مشروعه الفلسفي في نقد العقل كشرط مسبق للتنوير: «في هذه اللحظة بالضبط يصير النقد ضرورة، لأن دوره هو تحديد الشروط التي يصبح استخدام العقل تحتها سليما»؛ أي الشروط التي تحدد الاستخدام المنضبط للعقل. على سبيل المثال جادل كانط في كتابه النقدي الأول أن العقل النظري لا يمكن أن يُطَبَّق بشكل منضبط على «الأسئلة الحدية» مثل أصل العالم أو خلود النفس.
ولكن ما يجده فوكو مميزًا وهامًا في حديث كانط عن التنوير ليس تفاصيل نقده للعقل ولكن حقيقة أنه يتأمل «الوضع المعاصر لمجاله». ولم يهتم بسؤال كيف توضع الفلسفة المعاصرة في المخطط العام للتاريخ (على سبيل المثال كنذير للمستقبل المشرق الجديد أو السقوط من العصر الذهبي). السؤال ببساطة هو ما الذي يجعل طريقتنا الحالية في ممارسة الفلسفة مختلفة عما كان يحدث من قبل. يصر فوكو على أن هذا تطور جديد وهام: أن تهتم بالفلسفة ليس من خلال تعاملها مع الأسئلة الخالدة، ولكن من خلال تعاملها مع سؤال ما هو مميز في موقفنا الحالي.
إذن ما هو المميز في موقفنا الحالي؟ للإجابة على هذا السؤال يعيد فوكو توجيه نقاشه من كانط الذي يتحدث عن التنوير إلى بودلير الذي يتحدث عن الحداثة. بأحد المعاني، فهذا انتقال إلى مصطلحات جديدة –التنوير الذي يصير ملمحًا مميزًا للعصر الحديث– ومثال جديد؛ إستطيقا بودلير بدلًا من منظور كانط الأخلاقي والسياسي. ولكن هذه النقلة تعكس في الحقيقة ما يراه فوكو اختلافات حاسمة بين موقفنا وموقف كانط. حداثتنا «البودليرية» هي تطور تاريخي لتنوير كانط، ولكنها حداثة قامت بتحويل التنوير بشكل جوهري. وبالتالي مثلما يتساءل كانط (في «ما التنوير؟») عن طبيعة اختلاف موقفه عن موقف أسلافه، يتساءل فوكو عن طبيعة اختلاف موقفه عن موقف كانط.
ما يمكن أن نبدأ به هو أننا لا يمكننا أن نتبع كانط في الاعتقاد بأن نقد العقل يكشف الحقائق الجوهرية والكلية (الترانسندنتالية) التي توضح حدود الفكر والتجربة الإنسانيين. انطلاقًا من قراءة فوكو، فحداثة بودلير هي موقف يجد الشيء قَيِّمًا (بشكل أبدي) في الحاضر، بينما يكافح في الوقت نفسه على تحويله «ليس عن طريق تدميره ولكن عن طريق إدراكه على ما هو عليه». «الحداثة البودليرية هي نشاط يواجه فيه الاهتمام الحاد بما هو واقعي بممارسة الحرية التي تحترم هذا الواقع وفي الوقت نفسه تنتهكه». هنا علينا أن نفكر في الدقة الرقيقة التي يحوِّل بها الرسام جوستاف كوربيه اللحظة العادية، فهو يحافظ على اللحظة وفي الوقت نفسه يحوّلها. بالإضافة إلى ذلك، فهذا المشروع الحديث للتحويل ينطبق على الذات فوق كل شيء:
«أن تكون حديثًا لا يعني أن تقبل الذات كشيء في وسط تدفق اللحظات العابرة؛ إنما أن تتخذ نفسك كموضوع للتعبير المعقد والصعب... الإنسان الحديث عند بودلير ليس الإنسان الذي يمضي ليكتشف نفسه وأسراره وحقيقته الداخلية؛ إنما هو إنسان يحاول أن يبتكر نفسه».
لا يقبل فوكو كل تفاصيل صورة بودلير عن الحداثة كما هو واضح؛ على سبيل المثال لا يقبل فهمه للتحويل الذاتي بطريقة الأناقة الداندية غير الطبيعية، أو زعمه بأن المشروع الحديث لا يمكن أن يتحقق سياسيًا أو اجتماعيًا ولكن إستيطيقيًا فحسب. ولكن فوكو يقبل السمات العامة للحداثة، التي لا تعتمد على مجموعة من المعتقدات –كما يقول- ولكن على موقف أو توجه نقدي نحو عصرنا التاريخي. وأكثر من ذلك فهذا التوجه يماثل توجه بودلير، فهو يستهدف تحويل الذات القائمة.
الآن نعود إلى علاقة فوكو بمشروع كانط الفلسفي. هو يقبل الهدف التنويري العام للنقد ولكنه يعكسه:
«يعتمد النقد في الحقيقة على تحليل الحدود وتأملها. ولكن إن كان السؤال الكانطي المتعلق بمعرفة (Savoir) ما يحد المعرفة (connaissance) ينبغي أن يتخلى عن الإفراط، فيبدو لي أن السؤال النقدي اليوم يجب أن يرجع إلى كونه سؤالًا وضعيًا: فيما يتعلق بما هو معطى لنا، كالكلي والضروري والإجباري، ما هي الأماكن يشغلها المعزول والمُصادَف ومُنتَج القيود الاعتباطية؟»
هذه الفقرة الدالة تُشَكِّل مفهوم فوكو الأخير عن مشروعه باعتباره مشروعا للنقد الفلسفي. بمصطلحات كانط هو مشروع نقدي (يبحث في الافتراضات مع الأخذ في الاعتبار مجال وحدود معرفتنا)، ولكنه ليس ترانسندنتاليًا مثل مشروع كانط. أي أنه لا يزعم اكتشاف الشروط الضرورية للمعرفة التي تحدد المجالات التي وفقًا إليها علينا أن نختبر ونفهم أنفسنا إلى جانب العالم. يبحث نقد فوكو بالأحرى في مزاعم الضرورة مع وجهة نظر تسعى لتقويضها عن طريق إظهار أنها مجرد إمكانيات تاريخية. بالعودة إلى نقاشاته المنهجية المبكرة، يقول أن مشروعه «ليس ترانستندنتاليا» بل «جينالوجي في صياغته وآركيولوجي في منهجه». منهج «أركيولوجي –وليس ترانسندنتاليًا- بمعنى أنه لا يسعى لتعريف البنى الكلية للمعرفة بأكملها (connaissance) أو كل الأفعال الأخلاقية الممكنة، ولكن يسعى إلى أن يعالج مراحل الخطاب التي تفصح عما نفكر فيه ونقوله ونفعله بالطريقة التي نتعامل بها مع الحوادث التاريخية العديدة». بشكل مشابه، فمشروع فوكو جينالوجي لأنه ليس مصاغا لاكتشاف »ما هو الممكن بالنسبة لنا لنفعله أو لنعرفه»، ولكن لأنه يكشف "إمكانية أنه لم يعد هناك وجود أو فعل أو تفكير يماثل ما نحن عليه أو ما نفعله أو ما نفكر فيه».
إذن وبالمصطلحات الكانطية التي تُعَرِّف الفكرة الحديثة للفلسفة ففوكو فيلسوف بالقدر الذي يشترك فيه بالتوجه النقدي العام للمشروع الفلسفي. ولكنه لا يشارك كانط اهتمامه –وبالتالي لا يشارك معظم الفلاسفة الحديثين الآخرين– في السعي لإيجاد مملكة الحقيقة الفلسفية المميزة التي تضع حدود الشروط الضرورية للفكر والخبرة والفعل. على سبيل المثال هو غير مهتم بالحدوس الفينومينولوجية للماهية، أو بالشروط الكافية والضرورية التي يسعى إليها التحليل اللغوي. اهتمامه بالأحرى هو كشف أن الإمكانات التي يدعيها الحدس والتحليل غير موجودة. لا يوجد سبب يحتاجه فوكو لإنكار أن التحليل الفينومينولوجي أو اللغوي سيكشف الحقائق الضرورية والكلية الأصيلة. ولكن هذا المشروع الفلسفي ليس متوجها نحو هذه الحقائق ولكن تجاه المصادفات التي تتنكر في هيئة الضرورات. بالإضافة إلى ذلك، فالمنهجين الذين يستخدمهما –الآركيولوجيا والجينالوجيا– هما منهجين للبحث التاريخي، وليس للتحليل الفلسفي القبلي. بحس كانط، هو فيلسوف فحسب بالتزامه النوعي بالنقد، وليس بفهمه الخاص ولا بمنهجه لتحقيق مشروعه النقدي.
بالتالي يمكننا أن نميل إلى استنتاج أن فوكو ليس فيلسوفًا بأي معني جوهري –باستثناء حقيقة أن الفلسفة نفسها بعد كانط تضمنت نقدًا مستمرًا لمشروعها. في معظم الحالات –من المثالية الإلمانية وخلال الفلسفة التحليلية– ظل المشروع كانطيًا بشكل كبير. ولكن فوكو مثله مثل نيتشه دفع نقده إلى الحد المتطرف، لأنه رفض مثال الفلسفة باعتبارها مجموعة من الحقائق المستقلة. ولكن إن استمر هذا الاتجاه النقدي وانتصر في النهاية، سيتلقى فوكو الثناء باعتباره مؤسسا لنسق جديد للفلسفة. وبالتأكيد لن ينزعج فوكو من أن يعتقد أن الإجابة على سؤال "هل س فيلسوف؟" ستعتمد على التاريخ المستقبلي للفلسفة.
بغض النظر عن الكيفية التي يمكننا بها تصنيفه، ففوكو ظهر بلا شك من وسط سياق فلسفي وتمس كتاباته المشكلات الفلسفية. صاغ هذا السياق الفلسفي بشكل موجز هنا: «أنا أنتمي إلى جيل رأى في تلمذته وأحاطه أفق يتشكل من الماركسية والفينومينولوجيا والوجودية». نحن نعرف تحرر فوكو المبكر من الوهم الماركسي، أما الفينومينولوجيا فامتدت روابطها معه أكثر، وتعقدت أكثر. درس فوكو مع ميرلوبونتي، الذي كان رمزًا رائدًا مع سارتر، لاستخدام الوجوديين الفرنسيين لفينومينولوجيا هوسرل. ومع جان هيبوليت، كاتب التفسير الوجودي الرئيسي لهيجل. كان كتاب «الوجود والزمان» لهايدجر هامًا جدًا لفوكو الشاب، الذي كان مهتمًا بشكل خاص بالطب النفسي الوجودي الهايدجري (Daseinanalysis) الخاص بلودفيج بينسوانجر.
بغض النظر عن الطبيعة الدقيقة لالتزام فوكو المبكر بالفينومينولوجيا الوجودية، لا يوجد شك من أنه قرر مبكرًا عدم كفاية وجهة النظر الذاتية في الوصف الفينومينولوجي. ولكن طريقه إلى خارج الفينومينولوجيا الوجودية لم يكن واضح المعالم. في المجمل، انهارت الفينومينولوجيا في الستينيات من القرن العشرين بعد الصعود الملحوظ لما يطلق عليه «البنيوية»، وهي مجموعة من الركائز النظرية المتنامية، جميعها كانت تشرح الظواهر الإنسانية بمصطلحات بنى اللاوعي الكامن أكثر من الخبرة المعيشة التي تصفها الفينومينولوجيا. على سبيل المثال كانت هناك لغويات سوسير، والتحليل النفسي للاكان، والنقد الأدبي لرولان بارت، والآنثروبولوجيا لكلود ليفي شتراوس، والدراسات المقارنة لبنى الأديان القديمة لجورج دوميزيل. أنكر فوكو باستمرار أنه بنيوي، وسخر من نَسْبه للحركة من قبل إعلام الطبقة الوسطى. (وصف مقاربته على أنها «بنيوية» في العديد من المواضع في «ميلاد العيادة» ولكنه حذف الكلمة تماما في الطبعات اللاحقة). ولأن البنيوية كانت مقاربة لا تاريخية بشكل صريح (تزامنية أكثر منها تعاقبية)، إذن فهناك وجاهة في اعتراض فوكو. ولكن هناك تقارب واضح بين النظريات البنيوية وآركيولوجيا فوكو (هو يؤكد باستمرار على أهمية أعمال دوميزيل بالنسبة له)؛ واستشهد بعدم كفاية سرديات الفينومينولوجيا للغة واللا وعي، بالمقارنة بالسرديات البنيوية، واعتبر ذلك سببًا هامًا لانهيار الفينومينولوجيا.
ولكن هناك أيضا جوانب أخرى أبعدت فكر فوكو عن الفينومينولوجيا. على سبيل المثال أكد على أهمية عدم مركزية الكاتب والذات السيكولوجية في الأدب الطليعي، وقال إن قراءته لنيتشه (في حوالي عام 1953، التي ألهمه بها بلانشو وباتاي، قبل أن يتحول نيتشه إلى موضة في فرنسا) لعبت دورًا هامًا في قطيعته مع الفلسفة المتمركزة حول الذات. ولكن العامل الأهم كان ارتباط فوكو بالتاريخ الفرنسي وفلسفة العلم، كما مارسهما جورج كونجيليم بشكل خاص، الذي كان المشرف الرسمي على أطروحة فوكو عن تاريخ الجنون.
وفقا لفوكو نفسه، قدم كونجيليم (إلى جانب سلفه في السوربون جاستون باشلار) بديلًا واضحًا للفينيومينولوجيا، بديلًا أكد على منطق المفاهيم أكثر من الخبرة المعيشة كقوة دافعة في الفكر الإنساني. طلاب كونجيليم –الذين ضم فوكو نفسه إليهم– رفضوا «فلسفة الخبرة» الفينومينولوجية من أجل «فلسفة المفهوم» الخاص بكونجيليم. كانت تواريخ المفاهيم لدى كونجيليم نماذج هامة لآركيولوجيات فوكو في الستينيات من القرن العشرين. وبعد عدة سنوات، وفي مقال عن كونجيليم («الحياة: الخبرة والعلم») خطط فوكو لمفهوم بيولوجي للخبرة وصاغه ليحل محل «الخبرة المعيشة» (vecu) الفينومينولوجية المتمركزة حول الذات.
ولكن بالنسبة لفوكو على الأقل كان تقليد باشلار وكونجيليم بديلًا منهجيًا للفينومينولوجيا أكثر من كونه نقدًا فلسفيًا لها. بسبب هذا النقد علينا أن ننتقل إلى دراسة فوكو للفكر الحديث في «الكلمات والأشياء». الغاية الأساسية لهذا الكتاب كانت فهم الإطار الآركيولوجي (الإبستيم) المتضمن في العلوم الاجتماعية الحديثة، ولكن لأن فوكو كان يعتقد أن المفهوم الفلسفي للـ «الإنسان» يسيطر على هذا الإطار، المرتبط بكانط تحديدا، فنقاشه احتوى على تاريخ نقدي للفلسفة الحديثة.
بداية من ديكارت، كانت الفلسفة الحديثة منشغلة بسؤال إن كانت تمثلاتنا (خبراتنا، أفكارنا) تمثل العالم خارج عقولنا بدقة. ديكارت على سبيل المثال تساءل عن الكيفية التي نعرف بها أن أفكارنا تماثل الأشياء التي توجد خارجنا في الزمان والمكان. وتساءل هيوم عن الكيفية التي نعرف بها أن خبراتنا عن روابط الأفكار المتواترة (الشمس التي تشرق في كل نهار جديد على سبيل المثال) تماثل الروابط الضرورية في الواقع. لم تُطرح إجابات ملموسة على هذه الأسئلة حتى كانط (على الرغم من وجود بعض الافتراضات المُقنِعة التي ترى أنها ليست بحاجة إلى إجابة، كما يذكر هيوم على سبيل المثال).
مع كانط حدثت نقلة حاسمة لأنه فكر أيضًا في إمكانية التمثل ذاتها، لم يتساءل فحسب إن كانت تمثلاتنا صادقة بالنسبة للعالم، ولكن كيف يكون بالإمكان تمثل أي شيء على الإطلاق (سواء بدقة أو لا). هذا كان حاسمًا لأنه أصر على أن الإجابة على السؤال الجديد أفسحت الطريق للإجابة على السؤال القديم. طرح كانط بشكل خاص أن إمكانية تمثل موضوع تتطلب، على سبيل المثال، أن يتم تمثل الموضوع كموجود في الزمان والمكان وكجزء من شبكة القوانين السببية. وفقًا لهذا النوع من الحجة (التي أطلق عليها كانط «استنتاجا ترانسندنتاليا»)، توجد موضوعات خبرتنا في المكان والزمان وهي محكومة بالقوانين السببية الضرورية، لأنه بخلاف ذلك لن تكون موضوعات لخبرتنا. من جهة، تقتصر معرفة العالم لدينا بما نختبره (العالم الظاهر «الفينومينالي»)، وليس العالم كما هو في ذاته (العالم النومينالي). من جهة أخرى، فهذا الحد يتيح لنا إمكانية امتلاك معرفة موضوعية بالعالم.
نظرة كانط للمعرفة تتطلب وضعًا ثنائيًا خاصًا للبشر. من جهة، نحن مصدر الشروط الضرورية لإمكانية وجود أي معرفة في العالم: ننتمي إلى النطاق «الترانسندنتالي» الذي هو مصدر كل المعرفة في النطاق «الإمبريقي». ولكن من جهة أخرى نحن أنفسنا قابلين للمعرفة (ليس فقط عن طريق الخبرة ولكن أيضا عن طريق العلوم الاجتماعية) وكذلك الموضوعات الموجودة في النطاق الإمبريقي. يستخدم فوكو مصطلح «الإنسان» ليشير إلى البشر باعتبارهم يملكون هذا الوضع الثنائي الخاص (يطلق عليه «ثنائية إمبريقية-ترانسندنتالية»). ذكر أنه لم يتحقق مفهوم الإنسان بهذا المعنى قبل نهاية القرن الثامن عشر. بالتالي كان إعلانه الميلودرامي بأنه «لم يوجد الإنسان» حتى نهاية القرن التاسع عشر.
وفقا لتأريخ فوكو للفلسفة الحديثة، فالإنسان مشكلة مركزية. تمثلت الصعوبة في فهم كيف للموجود الفردي الموحد أن يكون مصدرا ترانسندنتاليا لإمكانية المعرفة وموضوعا آخر للمعرفة في الوقت نفسه. ينتقل في الفصل التاسع من «الكلمات والأشياء» إلى التطورات الفلسفية الرئيسية بالقرن العشرين –وبشكل خاص فينومينولوجيات هوسرل وسارتر وميرلوبونتي– مجادلَا بأنه لا أحد منهم كان قادرَا على تطوير مفهوم متسق للإنسان، في كل الأحوال هناك استنباط غير منضبط: سواء من الإمبريقي إلى الترانسدنتالي (هوسرل) او من الترانسدنتالي إلى الإمبريقي (ميرلوبونتي).
أكثر مرة اقترب فيها فوكو الناضج من الخطاب الفلسفي الاعتيادي ذي النمط الكانطي كانت في هذا الفصل. يمكن أن نقرأه بشكل مقبول على أنه اجتهاد لإظهار أن كل التفسيرات الحديثة للإنسان (كثنائية إمبريقية-ترانسندنتالية) تعاني من عدم الاتساق. ولكن مثل هذا القراءة –وعلى الرغم من أنها تبدو متوافقة مع مقاصد فوكو– تتعارض مع مشروعه النقدي الآركيولوجي في «الكلمات والأشياء»، لأنها تجعل نقاشه على مستوى تاريخ الأفكار وسلسلة المفكرين الفرديين الذين يحاولون حل مشكلة، ولا تجعله بحثا آركيولوجيا للبنى اللا واعية المحيطة بهذا التاريخ. وأكثر من ذلك فهو مثْل تاريخ الأفكار، يمكنه أن يخبرنا فحسب أن هؤلاء المفكرين المحددين فشلوا في حل مشكلاتهم، ولا تخبرنا بالأسباب المبدئية لهذا الفشل (على المستوى الآركيولوجي كما هو مفترض). ولكن إن أعدنا تفسير معالجة فوكو على أنها سرد آركيولوجي أصيل، فعدم الاتساق الواضح لمفهوم الإنسان لا يُظهِر شيئا أكثر من الإبستيم الحديث الذي لم يعد يحكم فكرنا، ونتيجة ذلك أننا نصير أشبه بقراء «الموسوعة الصينية» عند بورخيس، تواجهنا «الاستحالة التامة للتفكير في هذا». لم يقدم فوكو حجة كافية تقف إلى جانب أو ضد الموقف الفلسفي الاعتيادي. وهذا لا يفاجئنا، فوفقا لروايته، سيتطلب تبني الحجة أن يعمل بداخل الإبستيم الحديث نفسه (إطار الفلسفة بالمعنى الكانطي)، وبالتالي التخلي عن المسافة التاريخية التي يتطلبها المنهج الآركيولوجي. أستنتج من ذلك أنه حتى في أبرز لحظاته الفلسفية، لا يشارك في جدالات الفلسفة ما بعد الكانطية الحديثة.
ولكن تظل هناك إمكانية جديدة، إمكانية جذبت بعض القراء لـ «الكلمات والأشياء». وهي أن فوكو –متبعًا هايدجر– يحاول أن يفسح الطريق لنمط جديد من التفكير الفلسفي سيأخذنا إلى ما وراء الإبستيم الحديث. هناك بالتأكيد عناصر هايدجرية في «الكلمات والأشياء». أبرزها نقد التمثل وفلسفة الخبرة، التي تستدعي بوضوح الموضوع الرئيسي لكتاب هايدجر «الوجود والزمان»؛ وإن أشار فوكو إلى أن هايدجر نفسه لم يهرب من الصورة التمثلية، فهذه الحركة متوقعة في نقده لأستاذه. هناك أيضا تأملات عن علاقة اللغة بالوجود، وهي تستدعي كتابات هايدجر المتأخرة: «ما هي العلاقة بين اللغة والوجود، وهل الوجود بالفعل هو ما تخاطبه اللغة على الدوام؟» والهجمات الافتتاحية والختامية على فكرة «الإنسان»، مع التصاقها بفكرة أننا ننتقل إلى عصر جديد ستختفي فيه «الإنسانية»، تبدو هجمات محسوبة تضع فوكو إلى جانب هايدجر في هجومه الشهير على سارتر في «رسالة عن الإنسانية».
ولكن هذه الملامح الهايدجرية هي ما تفصل «الكلمات والأشياء» عن بقية أعمال فوكو. الموضوعات الفلسفية ليست بارزة في مكان آخر، وروابط النقاش الصغيرة مع المسائل الأخلاقية والسياسية المميزة لـ «تاريخ الحاضر» ليست موجودة في مكان آخر. وعلى الرغم من أنه مكتوب على أنه آركيولوجيا للعلوم الاجتماعية، فمن الصعب جدا أن تربطه بتحليله لنسق الهيمنة التي تتضمن بداخلها تلك المبادئ التي أظهرها فوكو في أعماله اللاحقة. فكرة «الإنسان» من الممكن أن تكون قيدًا اعتباطيًا على فكرنا، ولكن ليس لدينا ما يضمن أن المُضيّ إلى ما وراءه سيعني شيء أكثر من ممارسة الحرية العقلية. من الجدير بالذكر أيضا أن أجزاء كبيرة من «الكلمات والأشياء» ليست هايدجرية إلى حد كبير، على وجه الخصوص الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة للأنماط العملية للتفكير. ولكن بقدر ما يبدو هذا الكتاب هايدجريًا، بقدر ما يُظهِر أن كتبه الأخرى ليست كذلك.