في قبوي (مذكرات من العالم السفلي)
فيودور دوستويفسكي
ت: سامي الدروبي
مكتبة الأسرة 2009
اختيار: أمير زكي
"أنا... رجل مريض... أنا إنسان خبيث. لست أملك شيئا مما يجذب أو يفتن. أحسب أنني أعاني مرضا في الكبد، على أنني لا أفهم من مرضي شيئا على الإطلاق ولا أعرف على وجه الدقة أين وجعي وأنا لا أداوي نفسي، ولا داويت نفسي في يوم من الأيام، رغم أنني أحترم الطب والأطباء. وأني من جهة أخرى أؤمن بالخرافات إلى أقصى حد، أو قولوا إنني أؤمن بها إلى الحد الذي يكفي لاحترام الطب (إنني أملك من الثقافة ما يكفي لأن لا أكون من المؤمنين بالخرافات، ولكني أؤمن بها مع ذلك). لا، لا! لئن كنت لا أداوي نفسي، أن مرد ذلك إلى خبث وشر! لا شك أنكم لا تتنازلون إلى حيث تفهمون هذا، ولكني أنا أفهمه".
***
"لم أستطع أن أصبح أي شيء، لم أستطع أن أصبح حتى شريرا. ولا خبيثا ولا طيبا، ولا دنيئا ولا شريفا، لا بطلا، ولا حشرة، وأنا اليوم في هذا الركن الصغير، أختم حياتي، محاولا أن اواسي نفسي بعزاء لا طائل فيه، قائلا أن الرجل الذكي لا يفلح قط في أن يصبح شيئا، وأن الغبي وحده يصل إلى ذلك".
***
"ماذا أقول؟ إن جميع الناس يفعلون ذلك. إن الناس يزدهون بأمراضهم؛ وأنا أزدهي بأمراضي أكثر من أي إنسان آخر، أعترف بذلك. على أنني مقتنع اقتناعا جازما بأن زيادة الوعي ليس وحدها مرضا، بل بإن كل وعي مرض".
***
"أواه! ليتني لم أكن إلا كسولا! لشد ما كنت سأحترم نفسي عندئذ! لأنني كنت سأرى أنني قادر على أن أكون كسولا في أقل تقدير، أن تكون لي على الأقل ميزة محددة معينة أنا منها على يقين. سؤال: من أنت؟ جواب: كسول! ما كان أحلى أن أراني أُسمَّى هكذا! أنا إذن مُعرَّف تعريفا إيجابيا. أنا إذن يمكن أن أوصف بنعت، أن يقال عني شيء... (كسول) - هذا لقب، هذه وظيفة، هذه يا سادتي مهنة! لا تضحكوا! الأمر كذلك كان سيحق لي عندئذ أن أكون عضوا في أول نادي بالعالم، وكنت سأقضي وقتي كله في احترام نفسي".
***
"غاية الغايات يا سادتي أن لا يفعل المرء شيئا البتة. إن القعود عن الفعل والخلود إلى التأمل مفضلان على أي شيء آخر. عاش القبو إذن! فرغم ما قلته منذ قليل من أنني أحسد الإنسان السوي الطبيعي أشد الحسد، فإنني حين أراه على ما هو عليه، أتنازل عن أن أكون إنسانا سويا طبيعيا (مع استمراري على حسده)".
***
"تزعم أنك لا تخشى أحدا ولكنك تلتمس رضا الناس وتنشد عطفهم. تؤكد أنك تصرف بأسنانك غيظا، ولكنك في الوقت نفسه تمزح وتتندر لتضحكنا. تعلم أن أقوالك الجميلة ليست جميلة، ولكنك تبدو شديد الرضا عن كلامك، كثير الإعجاب بأدبك. جائز أن تكون قد تألمت، ولكنك لا تحترم ألمك أي احترام. في أقوالك شيء من حقيقة، ولكن يعوزها الحياء والخفر. غرورك التافه المسكين يجعلك تحمل حقيقتك إلى الميدان وتعرضها في السوق، وتلقيها أمام الناس عرضة للسخريات. في نفسك شيء تريد أن تقوله، ولكن الخشية تجعلك تبلع الكلمة الأخيرة، لأنك تملك وقاحة ولكنك لا تملك شجاعة. أنت تمدح وعيك، ولكنك غير قادر إلا على التردد، ذلك لأنك، رغم أن عقلك يعمل، متسخ القلب بالفحش ملوث النفس من الفجور، وما لم يكن القلب صافيا طاهرا فلا يمكن أن يكون الوعي بصيرا ولا كاملا! يا لك من مشعبذ مهرج! كذب كل هذا! كذب! كذب!".
***
"كنت أتساءل في بعض الأحيان: لماذا أنا الشخص الوحيد الذي يتخيل أن الناس ينظرون إليه نظرة فيها نفور وكراهية؟ كان أحد الموظفين قبيح الوجه والبشرة، وكأنه لص من قطاع الطرق، فلو كان وجهي دميما دمامة وجهه إذن لما تجرأت حتى على أن أظهر للناس، وكانت بزة موظف ثان من الموظفين تبلغ من الاتساخ أن المرء يشعر برائحتها الكريهة متى كان على مقربة منه. ومع ذلك لم يكن يبدو على أحد من هؤلاء السادة أنه يشعر بخجل لا من وجهه ولا من بزته ولا من طبعه. كانوا لا يتخيلون أن من الممكن أن ينظر إليهم أحد نظرة فيها اشمئزاز، وهبهم تخيلوا ذلك، فإنهم لا يأبهون له ولا يكترثون به".
***
"ليس الآخرون خيرا مني، ولكنهم يمتازون عني بأنهم لا يفقدون ثقتهم ورباطة جأشهم، الشيطان وحده يعلم لماذا! أما أنا فسأظل طوال حياتي أتلقى ضربات من أتفه هذه الحشرات التي تملأ الأرض".
***
"... إن الحب إنما يعني في نظري الاستبداد والتسلط الروحي. إنني لم أستطع في يوم من الأيام أن أتخيل الحب في صورة غير هذه الصورة، وقد بلغت من ذلك أنني ما زلت حتى الآن أرى في بعض الأحيان أن قوام الحب هو أن يهب المحبوب للمحب حق الاستبداد به. إنني في أحلام قبوي لم أستطع في يوم من الأيام أن أتخيل الحب إلا في صورة صراع: صراع يبدأ بكره وينتهي بعبودية روحية".
***
"إن كتابة رواية من الروايات لا بد لها من بطل، أما أنا فقد جمعت، كأنما على عمد، جميع الصفات التي يتصف بها (نقيض البطل). ثم إن هذا كله سيحدث في النفس أثرا كريها، لأننا جميعا قد فقدنا عادة الحياة، لأننا جميعا نعرج كثيرا أو قليلا، حتى لقد بلغنا من فقدان تعود الحياة أننا نشعر تجاه الحياة الواقعية، تجاه (الحياة الحية) بما يشبه أن يكون اشمئزازا، وذلكم هو السبب في أننا لا نحب أن يذكرنا بها أحد؛ وقد وصلنا في هذا الطريق إلى حيث صرنا نعد الحياة الواقعية، (الحياة الحية) محنة أليمة أو جهدا شاقا. ونحن جميعا متفقون على أن الأفضل لنا أن نقرأ هذه الحياة في كتاب. علام هذه الاضطرابات التي نتخبط فيها، علام هذه الاندفاعات الجنونية التي نستسلم لها؟ ما الذي نطلبه؟ إننا نحن أنفسنا نجهل ذلك. ولو قد استجيبت دعواتنا الحمقاء لكنا أول من يتألم من ذلك".
***
"... إننا اليوم لا نعرف حتى أين هي الحياة، وما هي، وما صفتها. فيكفي أن نُترَك وشأننا، يكفي أن تُسحَب الكتب من بين أيدينا، حتى نرتبك فورا، وحتى تختلط علينا جميع الأمور، فإننا حتى لا ندري أين نسير، وكيف نتجه، وماذا يجب أن نحب وأن نكره. وماذا يجب أن نحترم أو نحتقر. حتى أنه ليشق علينا أن نكون بشرا، بشرا يملكون أجسادا هي لهم حقا، أجسادا تجري فيها دماء. إننا نخجل أن نكون كذلك، ونعد هذا عارا، ونحلم في أن نصبح نوعا من كائنات مجردة، عامة. نحن مخلوقات (ولدت ميتة)، ثم أننا قد أصبحنا منذ زمن طويل لا نولد من آباء أحياء، وهذا يرضينا ويعجبنا كثيرا. إنه يلقى في نفوسنا هوى. وقريبا سنجد السبيل إلى أن نولد رأسا من فكرة".