موريس نادو يكتب عن صمويل بيكيت
عن جريدة "مقاومة" الفرنسية
12 إبريل 1951
ترجمة: أمير زكى
عن ترجمة فرانسواز لونجرست إلى الإنجليزية
من كتاب التراث النقدى المتعلق ببيكيت Samuel Beckett- The Critical heritage
موريس نادو (ولد 1911)، ناقد ومحرر فرنسى، معروف كمكتشف للمواهب الجديدة، كان واحدا من الأوائل الذين كتبوا عن صمويل بيكيت فى فرنسا، وعرض معظم رواياته. ألف العديد من الكتب، ومن ضمنها "هذا الأدب" (1952)، "الرواية الفرنسية منذ الحرب" (1963)، "تاريخ السوريالية" (1964).
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
***
"وفى الحقيقة فلا يهم كثيرا ما أقوله، هذا أو ذاك أو أى شىء آخر. القول ابتكار. خطأ، هذا خاطئ تماما، أنت لا تبتكر شيئا، أنت تعتقد أنك تبتكر، أنت تعتقد أنك تهرب، وكل ما تفعله هو أنك تردد الدرس الذى تعلمته، بقايا المنهج الذى حفظته عن ظهر قلب ونسيته من مدة طويلة، حياة بلا دموع، وكأنها بكت. إلى الجحيم لها فى كل الأحوال".
هذا القول الصريح والقوى هو أفضل تعريف لمقاصد وأسلوب الكاتب الذى غالبا ما سيتم السماع عنه فى الأشهر القادمة: الأيرلندى صمويل بكيت، الذى لديه سمعة مستحقه بكونه صعب وغامض، ومربك.
ولد فى دبلن عام 1906. كان صديق جيمس جويس وتلميذه المفضل. هو عُرف غالبا على أنه مترجم، وإن كانت ترجماته غير معروفة جدا (ولكن الأشهر لم يضع عليها اسمه، مثل "آنا ليفيا بلورابيل"[1]المنسوبة له). سكن فى فرنسا منذ 1938، وأعيد كتابته فى لغتنا ونشر فى 1947، عمله الأول "مورفى" مر بدون أن تتم ملاحظته، ومع ذلك ففى العام نفسه، كانت هناك قصة أعطاها لـ "فونتين"[2](الطريد) جذبت إليه الشهرة. "مولوى" كتبت مباشرة بالفرنسية. نشرت بجرأة شديدة من دار إيدسيون دى مينوى التي تولت نشر أعماله الكاملة.
على المرء أن يقترب من بيكيت من خلال "الطريد" ، فهو لم يكن أوضح أو أكثر إثارة للقلق منه فى هذا العمل. هى قصة تُسرد بضمير المتكلم، عن شخص يُطرد بشكل وحشى من منزله من قبل صاحب البيت المهتاج. هو يجد نفسه مأخوذا فى رحلة بلا هدف خلال المدينة عن طريق سائق تاكسى صنع معه صداقة، ثم أعطاه فى النهاية ملجأ فى عليته. فى الفجر هرب وبدأ يتجول مرة أخرى، ذهب للشرق "الأسرع للوصول إلى النور". هذه المغامرة التى سردت بحيوية، والممتئلة بما يمكن أن ندعوه الحس الكافكاوى فى الفكاهة، إما أن يكون لها معنى محدود وإما أن تتضمن كل المعانى، على الرغم من أنه فى هذه الحالة فرحلتنا تجاه المناطق الرمزية يعيقها هذه الملاحظة الأخيرة ذات التفاهة الظاهرة: "أنا لا أعرف لم أسرد هذه القصة. كان بإمكانى بنفس الطريقة أن أسرد أخرى. ربما فى وقت آخر سأكون قادرا على سرد أخرى. أيتها الأرواح الحية، سترون كم هى متشابهة كلها". فى الحقيقة فـ "مورفى" التى هى فى حجم الرواية هذه المرة، هى أيضا قصة بحث. قصة بحث مزدوج، أما هدف البحث فيختفى عندما يبدو أن المرء يقترب منه؛ هذا يتركنا فى شك كالشك الذى ينتاب مقاصد المؤلف. من جهة هناك شاب، مورفى، والذى لديه هدف محدد جيدا وهو قضاء حياته بدون أن يفعل شيئا، والذى، من أجل الهروب من الإغواءات، ربط نفسه فى كرسى هزاز، حيث انغمس فى أحلام يقظة مفرطة، يجد نفسه مضطرا للبحث عن مكان من أجل أن يحصل على عاهرة أصبح مغرما بها. فى الجهة الأخرى فهناك على الأقل ثلاث شخصيات، لا يتضمنوا خطيبته غريبة الأطوار، أرادوا رعايته: عذرء عاطفية وحساسة، هي نفسها تلقت التودد وتم الضغط عليها من قبل صديقى مورفى: نيرى وويلى.
مثل هذه الحبكة تشبه مسرحية شنيتسلر "لا روند"[3]أو فيلم "المليون" لرينيه كلير[4]، ولكن بشكل أكثر تعقيدا، كل شخصية تتبع طريقها الغامض الخاص، ولكنها تتوه بشكل حتمى في متاهة الطرق المتبوعة من قبل الآخرين. فى النهاية، نحن داخل شبكة منيعة من المواقف الغريبة والفكاهية حيث الشخصيات نفسها، ورغم كل المحاولات، غير قادرة على الخروج منها، وبالطبع كلهم منزعجون. مورفى يقتل نفسه بعد أن يجد سلام العقل فى مصحة المجانين، حيث حصل على وظيفة، ويترك وراءه بنود غريبة فى وصيته. هو طلب أن يوضع رماده فى الحمام، بمسرح شهير بدبلن خلال عرض مسرحية، وسيفون الحمام يجب أن يُسحب أو "يتم إصلاحه عند الضرورة من أجل هذا الهدف". هم عانوا من قدر أسوأ قليلا من المرغوب: الرماد الملفوف، تم رميه على وجه زبون في حانة حيث ذهبت إحدى الشخصيات وسكرت، هم كنسوه فى الصباح التالي: "مع الرمل، والبيرة، وأعقاب السجائر، والزجاج، وأعواد الكبريت، والبصقات والقىء".
هذه النهاية المدنسة تعطى فكرة عن طابع العمل، حيث الفكاهة واللماحة العقلية والتعقيد الساخر يستطيعون بالكاد أن يخفوا المأساة. الإنسان عند بيكيت ليس فقط – وهذا لا يحتاج للقول – ملقى وحيدا فى عالم بلا معنى، ولكن بالإضافة إلى ذلك، فلا توجد محاولة من محاولاته ولا فكر من أفكاره ولا شعور من مشاعره غير مبن على التوهم والخطأ. ما أن تصاغ الخطط حتى تفسد من البداية وتتحول إلى نقيضها. مخونا من الحياة، الآخرين، من جسده، من أفكاره الشخصية، من أكثر مشاعره حميمية، نحن نتجول بلا هدف فى الليل، ونحن ملعونون لنتجول هناك، بلا أى إشارة للعظمة للتخلص من هذا الموقف البائس. ذلك فى صياغة تتحدى التهذيب، وعنها لا يستطيع قلمى أن يذكر كل المصطلحات، بيكيت يكتب، هذه المرة فى "مولوى"، أننا فى الخراء، ونحن لا نفعل أى شىء سوى أن نغير الخراء، حيث نخفق كالفراشات. فى غابة الرموز الغامضة التى يأخذنا الكاتب داخلها، هنا على الأقل طريق واضح.
مورفى كان يحاول أن يهرب من العالم، بجسده، وعقله، هل قتل نفسه لأنه أراد فعل ذلك، أم على العكس، لأنه فشل؟ لا أحد يعرف. يظل المرء لا يفهم أى شىء فى العمل التالى "مولوى" حيث على المرء أن يتجاهل الجغرافيا التى حددها مورفى فى عقله، والتى أراد داخلها أن ينسحب من البداية. المساحة الأولى هى المتعلقة بـ "النور" حيث "التجريد المشع لحياة كلب" يتشكل؛ المساحة الثانية هى "نصف الضوء"، مساحة "اللذة الجمالية" حيث يتم خلق "نظام ليس فيه أى حس آخر يمكن من خلاله الانفصال، وبالتالى لا يحتاج أن يكون له وضعا صحيحا"؛ المساحة الثالثة التى تستهدف "الظلام" هى"تدفق للأشكال، هو اجتماع دائم وسقوط يكسر الأشكال، لا شىء سوى الأشكال التى تصير وتتفتت إلى أجزاء لصيرورة جديدة، بدون حب أو كراهية أو أى مبدأ واضح للتغيير. هنا هو ليس حرا، ولكنه ذرة فى ظلام الحرية المطلقة، كالقذيفة بلا نقطة انطلاق ولا هدف، تُلتقط فى اضطراب الحركة اللا-نيوتونية". فى "مولوى" توجد مساحة الظلام، حيث البطل وخالقه يستكشفان.
العمل الغامض بالتالى، بالقراءة الثانية أو الثالثة تلك التى تجعل المعنى الذى يريد المرء أن يراه هو افتراض ويمكن أن نقول إنه غير ممكن، هو منتج لعقل مجنون أو ملهم (لا يجرؤ المرء على أن لا يقول ذلك)، إنه أثر يتم تدميره كما بنى تحت أعيننا ويختفى أخيرا فى الغبار أو الدخان. التحدى هنا ديناميكى ويتضمن كل شىء. هذا يمتد حتى إلى اللغة نفسها، التى إن أردنا أن نستخدم لفظ رائج، تذوب فى اللا شىء (تعدم نفسها) فى الوقت الذى تتأسس فيه، تمحو فى لحظتها آثارها الأكثر وهنا. بينما يكتب الكتاب الآخرون ببساطة "إنها تمطر"؛ يكتب بيكيت: "إنها تمطر. لا، إنها لا تمطر". كل واحد من تأكيداته تجده مقترنا بنقيض، ليس أقل قوة ولا أقل تأكيدا، لذلك ففى النهاية فالواحد لم يعد حتى فى مملكة الحمق، حيث يوجد للحظة الطريد أو "مورفى"، ولكن تجدهم فى الفراغ المميز بعلامة مضاعفة. بيكيت يضعنا فى عالم من اللا شىء حيث بعض اللا أشياء التى يدور حولها البشر تؤدى إلى لا شىء. عبثية العالم واللا معنى فى وضعنا يتم نقلهما بطريقة عبثية وبطابع تافه مقصود: أبدا لم يجرؤ أحد أن يهين بهذا الانفتاح كل شىء يعتنقه الإنسان كيقينى، حتى أنه يُضمّن فى ذلك اللغة التى يستطيع على الأقل أن يعتمد عليها ليصرخ بشكوكه ويأسه. بالنسبة للكاتب، كثير جدا حتى أن تتكلم وتحاول، مستخدما حركة الكلمات التى تُنكَر فى اللحظة التى توضح فيها شيئا. لا يوجد صوت إنسانى بإمكانه التعبير عن "هذه التبددات حيث الضوء الحقيقى لم يكن، أو أى شىء قائم، أو أى أساس حقيقى، وكلها فقط أشياء مائلة، تسقط وتتفتت دائما، تحت سماء بلا ذكرى النهار، أو أمل الليل".
بالتالى فليس من المهم جدا رصد تسلسل للقصة، أو بالأحرى القصتين اللتين بلا اتصال بينهما، حيث كل الأحداث جدلية، الشخصيات ليست متأكدة من كونها حية أو تنكر كلماتها. بالإضافة إلى ذلك فهذه القصص الغريبة المتوازية لا تؤدى إلى شىء.
فى القصة الأولى يتحدث مولوى. هو فقد ذاكرته، وواحدة من قدميه شلت قبل أن تشل الإثنتين؛ هو يريد أن يذهب ليرى أمه، على الرغم من أننا نراه بجانب سريرها، وهو نفسه لا يعرف إن كانت حية أم ميتة. ومن أجل أن يعبر مسافة مئات الياردات التى تفصله عنه، يركب دراجة، ويرحل ولا يصل أبدا. نحن نراه فى قسم البوليس حيث قاده ازدراءه لقواعد المرور، وعند أرملة هرب كلبها وأدخلته عندها. فى أعماق الريف بعيدا عن المدينة. فى غابة حيث يكون جائعا وفاقدا لدراجته، ولم يعد قادرا على المشى، يحرك نفسه فى دوائر على بطنه ومرفقيه. وعن طريق الصدفة البحتة يصل لحافة الغابة، ولكنه يترك نفسه يسقط فى خندق. ولن نسمع عنه بعد ذلك.
القصة الثانية تُسرَد من قبل جاك موران، الذى بُعث من قبل رسول غامض ليجد مولوى؟ كيف ولِم؟ موران لا يعرف. هو يرحل مع ابنه الصغير فى اتجاه نفس المدينة، ويجد نفسه أيضا مصاب بشلل فى إحدى قدميه. هو يبعث ابنه ليحضر له دراجة، ويقتل شخصا ما صادف وقابله، يرحل مرة أخرى على ظهر دراجته، التى تختفى ذات صباح مع ابنه. الرسول يطلب منه بعد ذلك أن يعود لبيته، حيث يعود أخيرا وبعد شهور، بعد معاناة كبيرة. إن كان قد فشل فى مهمته فهو على الأقل عاد إلى مينائه. ولكنه يجد بيته مهجورا، وبعد أن يجد نفسه وقد انحدر إلى المستويات التى تقود إلى اللا إنسانية. وفى طريقه كان قد نسى لغة البشر، ولم يعد، وهو الكاثوليكى المخلص سابقا، يؤمن بأى شىء. يقول بغموض: "لقد كنت رجلا لفترة كافية، أنا لن أتحمل ذلك فيما بعد، أنا لن أحاول فيما بعد". هل هذا يعنى أنه وجد فى موضع آخر نوع من الحكمة أو الحقيقة؟ هذا ليس مؤكدا. هو يظل يعبر عن نفسه مثل مولوى ومثل بيكيت: "إنه منتصف الليل. الأمطار تطرق على النوافذ. إنه ليس منتصف الليل. إنها لا تمطر".
بعد ذلك هل على المرء أن يحاول الوصول لنتيجة؟، هل لدينا الجرأة بما يكفى لنعتقد أن ملخصاتنا تسمح لنا بذلك، أصغر جملة لبيكيت، ومقاربته المتميزة، وآلامه وبحثه الذى لا يهدأ يجب أن يمنعونا بالتأكيد من أن نمارس ذلك. بأى طريقة يبحث بها المرء عن تعريف للحدود التى يقدمها فى أدب اليوم، فسوف يخونه، وهذا سيكون أكثر خطورة بالتفسير منه بالتحليل. هذا العبقرى الساخر، والساحر الحاذق، وإلى جانب ذلك الفكاهى الذى يقف أمامه أكثر الفكاهيين سودواية عاجزين، بطل اللا شىء المتسامى فى أعالى الكل، ومن جهة أخرى، الفاتح العظيم للواقع المتهرب، الذى يأخذنا معه إلى غابته. نحن أيضا سنخرج من ذلك على مرفقينا وركبتينا، ولكن هذا سيستغرق سنوات.