نيتشه والتقليد اليهودى – المسيحى
ترجمة لمقال ليورج سالاكواردا
االمقال هو فصل من كتاب كامبريدج عن نيتشه The Cambridge Companion to Nietzsche.
يورج سالاكواردا (1938-1999) كان أستاذ فلسفة الدين بجامعة فيينا، وعميد لكلية الآداب بنفس الجامعة.
ترجمة: أمير زكى
مارس 2010
***
نظرة عامة
يعتبر نيتشه واحدا من أهم نقاد المسيحية المؤثرين. وهو مثل فيورباخ وغيره من فلاسفة اليسار الهيجلى لم يكتف بمجرد رفض المسيحية، بل قام بتطوير نوع من (النقد الجينالوجى)، أو بمعنى آخر هو زعم أن نقده للدين أظهر الأسباب التى تجعل البشر متدينين والآلية التى نفهم بها الطبيعة الدينية.
لبعض الوقت كان نيتشه نفسه مسيحيا ناشطا، كابن لقس لوثرى، فقد كان يألف العادات والتقاليد المسيحية وكان معتادا على التعامل مع الكتاب المقدس. وفى نقده للدين، اعتمد على اعتياده ذلك وعلى معرفته التى حصّلها بنفسه أكثر من الاعتماد على كتب نقد الدين الأخرى. ولم يكن نقد نيتشه مؤثرا فقط بسبب براعة حججه ولكن أيضا بسبب حيوية لغته وثراء وروعة بلاغته التى يعارض بها ترجمة لوثر الألمانية للكتاب المقدس، وجوته بشعره ونثره. واستعان نيتشه بصور حاذقة وتشابهات مؤثرة ليقنع قراءه (1).
بعد فقدانه لعقيدته بعدة سنوات اعتمد نيتشه على التفنيد التاريخى للمسيحية الذى كان شائعا فى هذا الوقت، وكان نقده للدين أساسا بمثابة تكرار لآراء شوبنهاور إلى حد ما، فقد قبل الدين كقوة خيالية فوق تاريخية، ولكنه فى نفس الوقت افترض أن الدين فى عمومه والمسيحية على وجه الخصوص سيتلاشيان مع مرور الزمن.
أما نقده السيكولوجى أو الجينالوجى الفريد للمسيحية وهجومه اللاذع عليها، فيمكننا أن نجده بشكل أساسى فى منشوراته بالنصف الثانى من الثمانينيات * (2)، ولكن جذور ذلك ترجع إلى أبعد من هذا. إن التغير المحورى فى استخدام الحجج والنبرة يعود لاكتشاف نيتشه – على حد تعبيره – أن الدين ليس سوى نسق خرافى وشعبى من الأخلاق الضمنية. هكذا كان هجوم نيتشه المتأخر على المسيحية يُفهم على أنه كفاح يائس ضد أنجح شكل لأخلاق الحقد (3)Ressentment ، تلك الأخلاق التى اعتبرها معادية للحياة الإنسانية. وهجومه أصبح أكثر قسوة عندما رأى أن كل الأفكار المعاصرة له (مثل الليبرالية، الاشتراكية، سياسات التحرر.. إلخ) لم تكن ضد المسيحية كما يدعى أصحابها، بل هى تنويعات على المثال المسيحى.
ولكن نيتشه ظل حتى النهاية متشككا من كون تحليلاته نفسها مرتكزة على دوافع دينية، فهى قد تكون لحظية أكثر منها تحليلا موضوعيا (5). وبينما هاجم نيتشه المسيحية ولعنها (6) إلا أنه لم ينس أن يذكر بل وأكد على أهمية التقليد اليهودى- المسيحى ككل فى تطوير الثقافة الإنسانية. نقد نيتشه أظهر الإغواءات التى رزحت تحتها المسيحية دوما، ولكن نقده لم يقض على المسيحية ولا مر منطقيا كتفنيد كامل لها. وعلينا أن نقول إن العقيدة والعادات المسيحية التى لا تلائم نقد نيتشه، لا يمكن أن تستمر تحت ظروف الحداثة، ولكن ليست كل أنواع العقائد والعادات المسيحية مستحيلة وفقا لنقده.
الخلفية: التاريخ الدينى لنيتشه
نيتشه كان الابن الوحيد لقس لوثرى، إلى جانب أخته إليزابيث، جداه كانا قساوسة مثلما كان أبوه، ومن جهة أبيه فهذا الميراث الإكليركى يمتد إلى الخلف عدة أجيال. إن الشخصية البروتستانتية الألمانية أنجبت عددا مدهشا من المشاهير، فالعديد من الفنانين والأكاديميين وأيضا رجال الكلمة (الكتاب، الشعراء، الفلاسفة، اللغويين والتاريخيين) ولدوا وتربوا كأبناء لقساوسة، ولا ننسى رجال النغم من المؤلفين الموسيقيين. ونيتشه الذى كان يجمع بين معظم هذه المواهب كان مهتما وفخورا بهذا الأصل. بداية من كتاباته الذاتية الأولى (7) وحتى سيرته الذاتية الأخيرة عالية المستوى (هذا هو الإنسان). كان نيتشه يمدح الكهانة ويعتبرها مصدرا لذكاءه، واعتاد أيضا أن يختصر هذا المعنى فى شخصية أبيه: " أعتقد أنه كان امتيازا خاصا أن يكون لدىّ مثل هذا الأب." (8)
نيتشه كان يألف قبل كل شيء نوعين من العقيدة الدينية: الأولى عقيدة أمه العملية التى كان ينقصها تماما التأمل والنسق اللاهوتى. والثانية التقليد الأكثر عقلانية لعمته روزالى، التى كانت الشخصية اللاهوتية المسيطرة على عائلته بعد وفاة أبيه. ومنذ صباه المبكر، كان من المتوقع أن يتبع نيتشه تقليد العائلة ويصبح هو أيضا قسا. ومع نهاية عام 1864 عندما كان يدرس اللاهوت والكلاسيكيات بجامعة بون، كان لا يزال متمسكا بآمال عائلته (وإن لم يكن بإخلاص شديد)، حتى كان العام اللاحق الذى أسقط فيه اللاهوت وآثار بذلك أزمة عائلية.
الخلاف مستمر بين دارسى نيتشه حول الزمان والأسباب الحقيقية لتركه المسيحية، ووسط ركام الأوراق الأولى نجد شهادات على عقيدة حية حتى نهايات عام 1861، ولكن هذه الأوراق تتعارض مع نصوص أخرى يُخضع فيها نيتشه التعاليم المسيحية للتحليل الجاد والدقيق إلى جانب تعليقات مجدفة (9). وعلى أية حال فمن عام 1862 وفيما بعد كان نيتشه قد ابتعد فعليا عن المسيحية، وفى عام 1865، عندما قصر دراسته على الكلاسيكيات، كان قد ترك المسيحية تماما وبلا رجعة. واستخدم نيتشه الشاب النقد التاريخى كمبرر لكفره بالمسيحية (10)، فقد أصبح عارفا بالنقد التاريخى وأصبح يدافع عنه بنفسه فى شالبفورتا؛ المدرسة البروتستانتية الألمانية الرائدة التى حصل منها على منحة والتى قضى فيها جل طفولته وشبابه، هناك كان الطلبة يتعلمون ويتدربون على التعامل مع هذا النقد ضمن دراستهم للنصوص اليونانية واللاتينية، والنقد التاريخى كان يطبق أيضا على التقليد المسيحى. بدا أن نيتشه قد تبنى هذا المنهج، وكان نقده المباشر الأول للعقائد المسيحية متأثرا بالتناقض بين إطلاقها المزعوم من جهة، ونسبيتها التاريخية الواضحة المتعلقة بأصولها وتقاليدها من جهة أخرى (11)، وفى كتاباته فى نهاية السبعينيات استخدم نيتشه حجتين إضافيتين، فمثله مثل أوفربيك سخر من الفقر فى توجهات المسيحية المعاصرة، وحاول أيضا أن يكشف عن عدم التطابق أو الكذب فى العقيدة المسيحية نفسها وليس فقط عند أفراد المسيحيين، وفى الثمانينيات أصبح نقد نيتشه أكثر قسوة واتخذ منحى سيكولوجيا (12).
بالنظر إلى حياة نيتشه ككل ومن منظور الثمانينيات سيؤكد نيتشه أنه مختلف مع المسيحية منذ البداية، وإن إلحاده ليس ناتجا عن الحجج بل عن الغريزة، ولكنه أيضا سينفى أى كراهية شخصية ضد المسيحية، على العكس فهو لم يلاحظ شيئا غير الإرادة الخيرة عند المسيحيين المخلصين (13)، بالإضافة إلى ذلك قال عن المسيحية إنها أفضل تنويعة يعرفها للحياة المثالية (14)، وإن المسيح المصلوب لا يزال أكثر الرموز نبلا(15).. إلخ.
ومن طفولته وحتى نهاية السبعينيات تقريبا كان نيتشه يفضل صراحة البروتستانتية اللوثرية التى كان ينتمى إليها، على أى حال هو لم يكن منجذبا للعقائد اللوثرية نفسها، على الأقل بعد كفره، بقدر ما كان منجذبا بالعلاقة (الحقيقية أو المزعومة) بين لوثر والعقيدة اللوثرية وبين أفكار عصر التنوير (16). وفيما بعد عندما أصبح نقد نيتشه لعدم يقين المسيحية المعاصرة أكثر جذرية، اتجه نيتشه لنقد البروتستانية باعتبارها نوعا من (الشلل النصفى) للمسيحية والعقل (17)، وهناك عدة أدلة على أنه بدأ – إلى حد ما – يفضل الكاثوليكية الرومانية. (18)
ومن خلال تأثيرات شوبنهاور وفاجنر، اتجه نيتشه الشاب نحو معاداة اليهودية بل نحو معاداة السامية، وعندما اختلف نيتشه مع فاجنر فى النصف الثانى من السبعينيات، كان قد نمّى تحيزه المبكر الناتج عن تأثيرهما، ورغم رفضه لكل التقليد اليهودى المسيحى إلا أنه أصبح يفضل العهد القديم على الجديد، لما فيه من أمثلة على دلائل العظمة الإنسانية. (19)
معرفة نيتشه بالتقليد اليهودى المسيحى
على الرغم من أن قطيعة نيتشه مع المسيحية لا يمكن أن تؤرخ بدقة، إلا أن معظم الدارسين يتفقون على عدة تواريخ، وخلال عام 1861 تقريبا الذى تأكدت فيه قطيعته، كان نيتشه لا يزال يمارس الطقوس المسيحية، فقد كان يأخذ دوره فى الصلوات بالمنزل وكان يقول بخدمات دينية رسمية وكان يقضى الأعياد المسيحية بين أسرته.. إلخ. نيتشه من طفولته المبكرة عُرف كقس مستقبلى وقد كان منغمسا فى هذا الأمل. نيتشه بالتالى كان يعرف من خلال تجربته الشخصية طبيعة العقيدة والصلوات ومراسم القداس وكيفية قراءة الكتاب المقدس والبركات، والمجتمع المسيحى.. إلخ، وماذا تعنى هذه الأشياء للمؤمنين، الحقيقيين منهم والزائفين. هذه الخلفية الدينية استخدمها نيتشه كحجج قوية فى تحليلاته السيكولوجية المتأخرة للحياة المسيحية (20). نيتشه كان يألف الكتاب المقدس بشكل استثنائى، لقد تعلم اللغة المنطوقة والمكتوبة من الكتاب المقدس، وكتاب الكتب كان واحدا من أوائل الكتب التى حاول الصبى الصغير أن يقرأها بنفسه وبدون مساعدة. والدروس التى تلقاها فى المدرسة الإعدادية بنومبيرج عام 1951 كانت تتضمن جانبا معروفا من دروس الكتاب.(21) وعلى الرغم من أنه من المعروف أن دروس الكتاب فى شولبفورتا أقل أهمية من الدروس الكلاسيكية، إلا أن نيتشه عندما ترك المدرسة كان يعرف من خلالها معظم أسفار الكتاب المقدس بشكل جيد. ولم يتوقف نيتشه عن البحث فى الجمل والاقتباسات الكتابية، ويبدو أنه قد أعاد قراءة أجزاء كبيرة من الكتاب المقدس مرة واحدة على الأقل ليعد هجومه على المسيحية فى أعماله المتأخرة. (22)
كل كتب نيتشه تتضمن عناصر وجمل واقتباسات وتلميحات كتابية عديدة، وليس فقط (هكذا تكلم زارادشت) وإن كانت تبدو فيه أكثر وضوحا، ونيتشه بشكل عام استخدم هذه المادة نقديا لا جدليا، على أى حال هو كان يحاول دوما استعادة لغة لوثر فى ترجمته الألمانية للكتاب المقدس. حصل نيتشه على معارفه ورؤاه اللاهوتية من خلال دراساته المبكرة. فى شولبفورتا عرف القراءة النقدية للكتاب المقدس والنقاشات الفلسفية حول العقائد المسيحية، خاصة البراهين الكلاسيكية على وجود الله (وأيضا حجج كانط ضد صحتها)، وفى جامعة بون استمع نيتشه لمحاضرات تشرح الاتجاهات اللاهوتية الأساسية لبروتستانتية القرن التاسع عشر والتى تتضمن: منظور الغفران التقليدى المؤسس على القراءة ما وراء الطبيعية للكتاب المقدس، والمدرسة النقدية لإف بور الذى كان متشككا إن لم يكن معاديا للكنيسة المعاصرة، بالإضافة إلى لاهوت التوسط للمؤرخ الكنسى كيه إيه هيز.
قرأ نيتشه بحرص العملين النقديين البارزين لمن عرفوا بفلاسفة اليسار الهيجلى، العملين الذين كانا واسعى الانتشار حتى خارج حدود النقاش الأكاديمى، وهما كتاب ديفيد شتراوس (حياة يسوع) وكتاب لودفيج فيورباخ (ماهية المسيحية). ولكن من خلال أحد أقرب أصدقاءه منذ عام 1870 عرف نيتشه بشكل شخصى أكثر المفكرين راديكالية (جذرية) فى التيار النقدى، هذ الصديق المقرب هو فرانز أوفربيك، الذى شاركه السكن لبعض الوقت، وزامله أيضا فى جامعة بازل. أوفربيك هو الذى اقترح على نيتشه الكتب التى أثرت فى تشكيل رؤيته للدين وللعقيدة المسيحية بشكل خاص. (23)
وإلى جانب رؤاه الثاقبة فقد كان نيتشه قارئا مدققا، تتنوع اهتماماته بين المجالات العلمية والمدرسية، وقد طور أفكاره على شكل حوار نقدى متصل بالآداب المعاصرة، وهذا يصدق أيضا على أفكاره المتعلقة بالدين وبالمسيحية. (24)
تأثير شوبنهاور
آرثر شوبنهاور أثر بشكل عميق وراسخ على فهم نيتشه للتقليد اليهودى المسيحى. قرأ نيتشه كتاب شوبنهاور الأساسى (العالم إرادة وتمثلا) عام 1864.
لاحظ شوبنهاور أن الأديان كانت قائمة فى كل العصور، وأنها كانت ولا تزال مهمة جدا للبشر، ومن هنا اشتق دافعا أنثروبولوجيا أساسيا (25) وأسماه (الاحتياج الميتافيزيقى)، الدين والفلسفة يحاولان إشباع هذا الدافع أو الاحتياج، ولكن كل منهما يفعل ذلك بطريقة مختلفة؛ فبينما تعتمد الفلسفة على العقل وتحاجج به، نرى الدين يعتمد على السلطة. وبالتالى فموقف شوبنهاور من (ميتافيزيقا الناس العاديين) (26) كما أطلق على الدين كان متأرجحا، فهو قبله بل ومدحه لأنه يحافظ على الوعى بأن خبرة الحياة اليومية والخبرة العلمية لا تعبران عن العالم الحقيقى، والغالبية العظمى من الناس فى رأى شوبنهاور ليسوا ولن يكونوا قادرين على التفلسف المنضبط، وبالتالى فلا يمكن إسقاط الدين، ولكنه بالطبع كان يفضل أن يهجر الناس التفكير الدينى ويتحولوا إلى الفلسفة، لأنك مع الدين لست فى مأمن من سوء الفهم. المؤمنون بالأديان يميلون لإثبات ثلاثة أطر مشتركة: أولا زعم الصدق التام لعقائدهم التى تكون صادقة – على الأكثر – بالنسبة للحس الرمزى. ثانيا يميلون لاعتبار عقائدهم المبجلة صادقة على الإطلاق وعلى حساب كل العقائد الأخرى، بما فيها الفلسفة. ثالثا يميلون لتبنى أفكار خاطئة عن العالم لأن الأديان تعتمد على السلطة أكثر مما تعتمد على العقل.
رأى شوبنهاور أنه إذا كان الدين أصلا هو الوعى الرمزى بالوقائع الميتافيزيقية نفسها التى تناقشها الفلسفة بحسها المنضبط، فمن الأفضل له أن يعكس - من خلال عقائده الأساسية – الفلسفة الحقيقية (فلسفة شوبنهاور). ولا نفاجأ بعد ذلك حينما نرى أن شوبنهاور يعتقد أن الدين قد يصبح أفضل لو اشترك مع فلسفته فى أربعة ملامح أساسية وهى: (1) الحفاظ على الانفصال بين العالم الإمبريقى (التجريبى) والعالم الميتافيزيقى (وفى هذا يتبع شوبنهاور التقليد الغربى السائد من أفلاطون حتى كانط). (2) معرفة الحقيقة الميتافيزيقية لمفهوم الإرادة والتأكيد على طبيعتها ألأنطولوجية؛ أى أنها ليست ذكية ولا خيّرة، وفى هذا يعارض شوبنهاور نفس الأفكار الغربية الرئيسية التى اعتقد فيها من قبل عن طريق الفصل بين العالم الإمبريقى والعالم الميتافيزيقى. بالنسبة لشوبنهاور فليس العالم الإمبريقى وحده هو الذى يتضمن المعاناة، إنما المعاناة متأصلة فى ماهية الإرادة الميتافيزيقية، ككفاح أعمى يعبر عن نفسه من خلال الكائنات المتجهة نحو وجودها والساعية للحفاظ عليه، إن المعاناة التى نختبرها مفروضة ذاتيا، ومن خلال وجهة النظر تلك فهى الجريمة والعقاب فى ذات الوقت. إذن فالدين الأفضل عليه أن يتوافق مع المبادئ الشوبنهاورية، التى تتضمن أيضا (3) أخلاق التراحم، فمن خلال التنوع الظاهرى المميز للعالم الإمبريقى، الذى نعرف منه تمثلات الوحدة الميتافيزيقية، نرى الإنسان الرحوم يتحرك ضد الأنانية، التى تجعله يبحث عن مصلحته على حساب الآخرين. وفى النهاية فالرمزية الدينية المتوافقة مع المبادئ الشوبنهاورية سوف تعتنق شكلا من (4) التشاؤم الميتافيزيقى. وطالما أن كفاح الإرادة أصلا لا يمكن إشباعه، إذن فليس هناك أمل فى حياة أفضل لا فى هذا العالم ولا فى غيره، وهذا التشاؤم الشوبنهاورى لا يمكن تجاوزه عن طريق أفعال التراحم، وإنما عن طريق التوقف التام عن الكفاح. وهذا يتضمن حالة (القداسة) التى وصفها شوبنهاور بالزهد التام.
وبغض النظر عن الضعف الأساسى فى كل الأديان، فإن شوبنهاور كان يقدر الدين كلما كان يحمل هذه الثنائية وهذا التشاؤم، وكلما اهتم بالمعاناة وفهمها على أنها جريمة وعقاب فى ذات الوقت، وكلما عزز فكرة التراحم ومال للتخلى الزهدى عن الواقع (العالم الظاهر).
ولأن الأديان الهندية – فى رأى شوبنهاور – هى أفضل تمثيل لهذه الخصائص فقد وضعها فى أعلى مكانة، وعلى النقيض وضع الديانات القومية، كديانات اليونان والرومان القديمة، الديانات التى كانت تخدم الأغراض السياسية والتى وعدت بحياة أفضل، واعتبر اليهودية والإسلام بنفس السوء، خاصة لأفكارهما عن خيرية الخلق من عدم ووعودهما بحياة أفضل. أما المسيحية فقد وضعها شوبنهاور فى مرتبة أعلى من شقيقاتها من الديانات الشرقية، وبينما رفض فيها ما اعتبره اتجاهات تفاؤلية مشابهة للأديان الشرقية، إلا أنه مدح عقائدها الأساسية الملائمة لفلسفته، والتى تتضمن عقيدة الخطيئة المتوارثة (الأصلية)، والحاجة العامة للخلاص، ومعاناة وموت الإنسان (والإله)، وأخلاق العطاء (الحب المسيحى الذى اعتبره شوبنهاور نوعا من التراحم)، والاتجاهات الزهدية فى المسيحية.(27)
هناك سبب آخر مهم لإعلاء شوبنهاور من شأن الهندوسية والبوذية وهو طابعهما الباطنى، شوبنهاور كان مقتنعا بأنه فلسفته غير مسبوقة فى التقليد الفلسفى الغربى المسيطر لأنها أعطت تفسيرا كافيا للخبرة الباطنية، هو كان يفخر بملاحظته للخبرة الباطنية من خلال التموضعات الزائفة. النقطة الحاسمة عند شوبنهاور هى أن الواحد فى العالم الباطنى مختلف عن وحدانية العالم الإمبريقى، فماهيته متماهية مع أحادية الإرادة الميتافيزيقية. وعلى نقيض موضوعات العالم الإمبريقى، فموضوع الخبرة الباطنية هو بالأحرى لا شيء. ولكن لو تحدثنا من وجهة نظر أخرى، فقد يتحول هذا اللاشيء إلى أن يكون الواقع الحقيقى بالمقارنة بذاك العالم بما فيه من شموس ومجرات والذى هو لا شيء.(28) على أية حال فمادامت لغتنا قاصرة عن تفسير العالم (العالم الظاهر) كتمثل، فنحن لن نستطيع أن نتحدث بوضوح عن اللاشيء الميتافيزيقى، فكل محاولة ستزيف أساس الخبرة الباطنية. وهذا الدليل هو الدافع الحاسم الثانى لنقد شوبنهاور الحاد للدين، إلى جانب تعاطفه مع اعتراضات التنويريين على انحيازه الدجماطيقى. ففى رأيه أنه علينا أن ندافع عن الواقع بعيد المنال للخبرة الباطنية، ضد الأنساق الدينية غير الكافية.
عندما قرأ نيتشه شوبنهاور للمرة الأولى، كان قد ترك المسيحية، ولكنه لم يكن قد بدأ بعد فى مهاجمتها، فـ (العالم إرادة وتمثلا) ساعده على صياغة موقفه تجاه الدين فى شبابه، وفى كتاباته المبكرة كان يكرر معظم فلسفة شوبنهاور عن الدين. ورغم أنه فى الفترة المتأخرة انتقد بعض الأجزاء فى فلسفته، إلا أنه – ولمدى ما – لم يتوقف عن تفسير المسيحية من خلال منظور شوبنهاور. وهذه هى خصائص فهم نيتشه للدين المبنية على افتراضات شوبنهاور المسبقة: المسيحية لأنها ديانة فهى أسطورية، وبالتالى فعقائدها لا تكون حقيقية وفقا للعقل المدقق، ومن الأفضل أن تستعين بتفسير فلسفى. بالإضافة إلى ذلك فقد ناقش نيتشه المسيحية المشابهة للأفلاطونية، والتى تشاركها الثنائية التى تؤدى للحط من هذا العالم. فالمسيحية – كما أوضح فى أفول الأصنام – هى أفلاطونية شعبية، بالإضافة إلى ذلك فقد اعتبر نيتشه المسيحية ديانة متشائمة، تتجه نحو الزهد وبالتالى نحو العدمية، وعلى الرغم من موافقته لشوبنهاور بأن العطاء (الحب المسيحى) هو شكل من أشكال التراحم، إلا أن نيتشه أعاد تفسيرها كشكل من أشكال الشفقة، التى اعتبرها مؤذية لكل من المُشفِق والمُشفَق عليه.
ولكن فى نقاط أخرى اعترض نيتشه على رؤى شوبنهاور، ففى كتابه (تأملات فى غير أوانها) على سبيل المثال، اعتبر نيتشه أيضا الفلسفة والدين حاجات ميتافيزيقية، ومصادر لا يمكن إنكارها للدوافع، ولكنه غير رأيه لاحقا. (29) إلى جانب ذلك، وخلال هجومه على المسيحية المعادية للسامية، التى آمل متبعوها فى (مسيحية آرية)، أكد نيتشه – على عكس شوبنهاور – على العلاقة الوطيدة بين المسيحية واليهودية. وبهذه المحاولة ناقض نيتشه ضمنيا محاولة شوبنهاور لفصل المسيحية عن اليهودية تاريخيا ومنطقيا بقدر الإمكان.
ونيتشه المتأخر أيضا لم يشارك شوبنهاور تقديره العالى للباطنية، فالخبرة الباطنية عنده لم تكن بأى حال أعمق من الخبرات الأخرى، وهو أنكر بقوة أى رؤى قد تشتق منها. (30)
النقد التاريخى: حجة نيتشه الرئيسية
حجة نيتشه الأولى ضد الدين بشكل عام وضد المسيحية بشكل خاص اعتمدت على التاريخ، هو ناقش فكرة أن المنهج والنقد التاريخى للنصوص أثبت خطأ الافتراضات الأسطورية المسبقة التى لا يحيا الدين بدونها. هذه الحجة ظهرت فى أوراقه وخطاباته حين كان لا يزال طالبا بشولبفورتا، وقد دافع كفيلسوف ناضج عن هذا النقد فى كتاباته وأوراقه الأخيرة. والنقطة الأبرز فى الحجة تظهر بالفعل وبوضوح فى المقال الذى كتبه فى نضجه (القدر والتاريخ) عام 1862. (31) فى هذا المقال ناقش ذلك البحث التاريخى، بالمقارنة ببحوث فى مجالات أخرى حولت العقائد المسيحية الأساسية إلى مجرد آراء. إن التقليد الذى يميل لسلطوية الكتاب المقدس أو إلهامه أو ما شابه قد فقد سلطويته. وعندما ترك نيتشه أخيرا الدراسات اللاهوتية، أشار مرة أخرى لحجج من هذا النوع:
" كل عقيدة صحيحة هى أيضا منزهة، إنها تحقق ما يأمل الشخص المؤمن فى جنيه منها، ولكنها لا تعد نقطة مرجعية تستطيع من خلالها ضمان حقيقتها الموضوعية، وهنا تفترق طرق البشر، فإذا كنت تفضلين السعادة وسلام العقل فعليك بالإيمان، ولكن إذا كنت تريدين طلب الحقيقة فعليك بالبحث." (32)
ظل النقد التاريخى هو حجة نيتشه الأهم ضد الدين حتى بدايات الثمانينيات. وبالمقارنة بكتاباته المتأخرة كانت أنساقه المبكرة غير جدلية جدا فى لهجتها. وحصر نيتشه نفسه فى موقف الشك ولم يزعم إمكانية إثبات زيف الأفكار والعقائد التى رفضها، (33) ومع هذا فقد كان صريحا جدا فى التدليل على أن لا أحد ممن يألفون الطرق المدرسية سيستطيع بعد الآن تأسيس سعادته وبؤسه على هذا البناء الضعيف الذى يقدمه الدين. بداية من كتاب (إنسانى.. إنسانى للغاية) سعى نيتشه لفلسفة تاريخية جديدة بديلة للفلسفة الميتافيزيقية، تلك التى يعتبرها الآن مجرد تنويعة على الدين، وهكذا بدأ يعتبر شوبنهاور آخر الفلاسفة الميتافزيقيين.
من الممكن الاعتراض على ذلك من خلال منشوراته فى بداية السبعينيات، فمن الواضح أن نيتشه هنا لا يفضل النقد التاريخى، بل على العكس يرفضه على أساس أنه (مرض) عصره. وفى مقابل قوة النسبية فى التاريخ بدا أنه يؤكد على القوى فوق التاريخية، ومن ضمنها الدين، بل والمسيحية. "أحضر بعض المؤرخين المحدثين ليدرسوا أصل المسيحية أو الإصلاح اللوثرى: ستجد أن ملاحظاتهم العملية والجادة كافية إلى حد كبير لجعل كل الممارسات الروحية مستحيلة." (34)
فى هذا العقد، فى بداية السبعينيات، مال نيتشه عامة لمفهوم (الثقافة)، التى عرفها على أنها "وحدة الطابع الفنى، بكل تعبيراتها فى حياة الناس." (35) ويتابع: الثقافة تحتاج إلى " أفق لا تاريخى" وهو الموجود إلى الآن عن طريق الأديان والفلسفات والفن. فلا شيء عظيم أو قيم يمكن أن ينمو أو يبقى فى غياب مثل هذا الأفق. والنقد (التاريخى) غير المنضبط سيؤدى للبربرية، وفى النهاية إلى الفناء كما كان يعتقد فى هذا الوقت. نموذج نيتشه كان ثقافة القرن الخامس قبل الميلاد فى اليونان، الثقافة المرتكزة حول التراجيديا، فى المقابل ففكرة نيتشه عن البربرية تشكلت عن طريق التنوير السقراطى الذى – من وجهة نظره – دمر الموقف التراجيدى اليونانى تجاه الحياة. ومشروع ريتشارد فاجنر عن (العمل الفنى المتكامل (Gesamtkunstwerk سيتجاوز الحضارة الإسكندرية التى سيطرت من وقتها على التقليد الغربى وستكون أساس لثقافة جديدة. وأمثال هذه الحجة يمكن إيجاده فى كتابه المنشور الأول (ميلاد التراجيديا).
أثناء احتفالات مدينة بيروث الأولى عام 1876، كان نيتشه قد فقد أخيرا هذا الأمل. نظر للوراء وأنكر وهاجم عدم الأمانة فى آرائه المبكرة عن الدين والميتافيزيقا. (36) ووفقا لتفسير نيتشه الذاتى فهو لم يترك أبدا النقد التاريخى، ولكنه وضعه جانبا لبعض الوقت من أجل التمهيد لثقافة (ألمانية) جديدة مرتكزة على الفن الفاجنرى والميتافيزيقا الشوبنهاورية.
وطالما أن التفسير الذاتى ملائم جدا لما نجده فى كتب وأوراق نيتشه فى هذا العصر، فنحن لسنا فى حاجة للحديث عن عدم الأمانة عند نيتشه. (37) فهو لم يرفض كليا النقد التاريخى ولم يدافع عن الصحة اللا متناهية للتكوينات فوق التاريخية. حتى فى تأمله الثانى فى (تأملات فى غير أوانها) لم يحافظ على خطته الأصلية عن (المرض التاريخى) فى مقابل (الصحة غير التاريخية). منطق المشكلة أجبره على التمييز بين الظاهرة غير التاريخية والظواهر فوق التاريخية، وأن يعترف بأن كون الإنسان يتطلب الاشتمال على مقدار معين من (التاريخية). (38) من الواضح أيضا أن نيتشه لم يعد تابعا لميتافيزيقا شوبنهاور عندما أعلى من أهمية " القوى فوق التاريخية "، لأن العقائد الميتافيزيقية أيضا وقعت فريسة لتحليله التاريخى. وهذا دليل ذو حجة قوية على أية حال فهو بدأ فى تبنى ونشر صياغة إف إيه لانج F A Lang عن "منظور المثال"، كنسخة كانطية جديدة من نسق كانط عن الأفكار. هذا البناء الفلسفى أتاح له أن يستخدم الأفكار الشوبنهاورية كخرافات ولكنها مفيدة مع ذلك فى توحيد المفاهيم. مال نيتشه – على سبيل المثال – لمفاهيم (الأفراد العظام) و الدين " كميتافيزيقا للناس العاديين" أو ما شابه من أفكار. هذه المحاولة سمحت له بالدفاع عن تنامى الثقافة الجديدة المبنية على القوى فوق التاريخية بدون إنكار كل القوى النسبية للنقد التاريخى. (39)
لعدة سنوات ظل نيتشه ملتزما بهذا (المنظور للمثال)، ولكنه شيئا فشيئا بدأ يشعر بعدم ارتياح تجاهه. ومع ذلك ففى أعماله المنشورة بداية من (ميلاد التراجيديا) وما بعده، دافع عن صحة تجليات القوة فوق التاريخية، ولكن فى أوراقه ترك مساحة لشكوكه، على الأقل المتعلقة بالدين. فى ورقة كتبت فى صيف أو خريف 1873 (لا نعرف الإطار الزمنى الدقيق) ذكر التالى: " المسيحية – ككل – فى طريقها للاستسلام أمام النقد التاريخى." (40)
كان من الواضح لدى نيتشه أن الالتزام بالدين أو بالطابع الميتافزيقى للفلسفة لم يعودا خيارين أمامه، فالدين والميتافيزيقا التقليدية لن يستطيعا – من وجهة نظره – استعادة سلطتهما إلا بإحياء الأساطير؛ هذا الذى لم يتمن حدوثه ولا تخيل إمكانيته. المنهج التاريخى لا يمكن إنكاره، فحتى المسيحية نفسها تبنته، وهذا يعزز انحلالها الذاتى. ومثل العديد من الاتجاهات العظيمة فالمسيحية ستنتهى – بالتالى – عن طريق الانتحار، فـ(التفنيد التاريخى) عند نيتشه هو (التفنيد الأخير).
ما هى الحقيقة؟ من الذى لا يرضى بالاستدلال الذى يفضل المؤمنون صياغته: " العلم لا يمكن أن يكون حقيقة لأنه ينكر الله؛ بالتالى فهو ليس حقيقة، لأن الله هو الحقيقة." الخطأ هنا غير متضمن فى الاستدلال ولكن فى الافتراض: "فماذا لو لم يكن الله هو الحقيقة؟، وماذا لو كان هذا هو الذى تم إثباته؟ ماذا لو كان الله هو غرور الإنسان ورغبته فى القوة، عدم صبره وإرهابه؟ ماذا لو كان أوهام الإنسان المبهجة والبشعة؟" (41)
النقد الجينالوجى
خلال فترة الثمانينيات لم يعد نيتشه راضيا جدا على فكرة (المرور بصمت) كما زعم من قبل (42)، بدلا من ذلك كتب نقدا وفيرا وحادا على المسيحية، وفى النهاية قدم نفسه على أنه (عدو المسيح) الذى يتلو اللعنة الحاسمة على المسيحية، قاصدا أن ينتزع هذه الديانة مرة واحدة وللأبد.
لماذا غير رأيه هكذا، بهذه الطريقة الدرامية والمتطرفة؟ يبدو أن السبب الرئيسى هو الجمود المسيحى، فإلى جانب كونه غير صالح تاريخيا، فإنه لا يفسح الطريق أمام أفكار جديدة. وهذه الأزمة حدثت لنيتشه مبكرا، ولكنه وضعها جانبا قرابة عقد: " من المقبول الآن أن نتخلص مما يذكرنا بالحياة الدينية لأنها متهاوية وعقيمة، وهى تقوم بإضعاف الإخلاص للأهداف الملائمة، والموت للضعف." (43)
بدأ نيتشه يتشكك فى أن الأفكار المنتشرة التى تبدو جديدة هى ليست بجديدة ولكنها محافظة، وذكر أنه (اكتشف) – كما نشر فى كتاب (فجر) – أن الأخلاق – وفقا لمنظوره – ظلت هى أساس التجليات المعاصرة للقوى (فوق التاريخية). فالأديان والفلسفات التقليدية الغربية ليست – وحتى الآن- سوى تنظيمات للموقف الأخلاقى. ورغم تغيره السطحى إلا أن هذا الموقف الأصلى ظل كما هو وعبر عن نفسه بأشكال جديدة. (44) فحكاية نيتشه الشهيرة عن (الرجل المجنون) الذى أعلن أن الله مات (العلم المرح، فقرة 125) كانت تهاجم بشكل أساسى الملتزمين بالتنويعات المحافظة للمثال الأخلاقى المسيحى القديم. والمستمعون للرجل المجنون فوجئوا بذلك وسخروا من إعلان موت الله، لأنهم مقتنعون هم أنفسهم بالنقد التاريخى، فهم لم يعودوا مسيحيين، لم يعودوا يؤمنوا بأى إله. على أى حال ففى رأى نيتشه فهم لا يزالون يستعينون بالأخلاق الضمنية التى لم تكن المسيحية سوى إحدى تعبيراتها. وهكذا فهم لا يستطيعون فهم أهمية كلام الرجل المجنون، " هذا الفعل لا يزال بعيدا عنهم، أبعد من النجوم، إلا أنهم قاموا بذلك بأنفسهم." (45)
هجوم نيتشه العنيف والمتزايد على المسيحية كان المقصود منه جعل الناس واعين بالمعنى الحقيقى لموت الله وما ينتج عنه. لقد أصر نيتشه على أن يهتم معاصروه بمهمة (إعادة تقييم كل القيم)، تلك المهمة التى أصبحت ملحة ووشيكة الحدوث. وفى مواضع أخرى من فلسفته حاول نيتشه تحقيق هدفه بطرق متباينة. بعض العناصر المهمة فى محاولته لإعادة تقييم القيم تضمنت الآتى: أولا شرح الطابع السيكولوجى لمؤسسى الأديان لتوضيح الهوة بين عقائدهم ودوافعهم الحقيقية. ثانيا كشف التطورات الاجتماعية التى ساعدت وانحازت لتنامى المسيحية. ثالثا عرض – بوضوح - الأحوال السيكولوجية والفسيولوجية التى تجعل الأفراد يميلون لقبول الأخلاق المسيحية. رابعا وأخيرا: عرض أحوال العقل المحركة للدوافع التى تحافظ على هذا النسق الأخلاقى حيا وراسخا، وإن كان متنكرا. ولكن ليس معنى هذا أن نيتشه طوّر نسقا نقديا متماسكا أو منظما، بل وربما أسلوب نيتشه فى التفلسف يجعل هذه المهمة مستحيلة. فهو لم يخرج بنفس النتيجة دوما من تحليلاته المتنوعة؛ ففى (عدو المسيح) مثلا انتقد بولس لكونه (المؤسس الحقيقى للمسيحية )، بينما انتقد آخرين – منهم المسيح – لنفس السبب فى نصوصه المبكرة. وعندما يتحدث عن أخلاق الضعفاء يصف الضعفاء بأوصاف مختلفة، كعبيد أو كائنات بشرية متوسطة أو أناس ضعفاء عموما.. إلخ.
وعلى الرغم من أن نيتشه قد تجنب الأنساق عن قصد، فلم يكن هدفه هو أن يتناقض أو يتضاد مع نفسه، فبعض الملامح الأساسية تتردد الآن ولاحقا فى أعماله المتأخرة وتؤسس – بشكل كبير – الإطار العام لنقده الجينالوجى (هجومه على أصول المسيحية). ومن بين هذه الملامح يحدد الفرد: أولا أن النقد التاريخى هو افتراض قبلى، فالمسيحية يجب أن تُحلَل جينالوجيا، لأنها – كما ناقشنا – رغم أنها أصبحت تقليد قديم بواسطة النقد التاريخى، إلا أنها مازالت حية ومزدهرة فى نوع من الأخلاق، وفى الدافع الأخلاقى المجرد. ثانيا يناقش نيتشه الحقد (46) كمفهوم أساسى فى الآخلاق المسيحية، وفى المقابل وكنوع من العلاج يحاول التحليل الجينالوجى أن يظهر المسيحية على أنها مجرد نسق لأخلاق الحقد، وإن كانت – تاريخيا – أكثر هذه الأشكال أهمية وتأثيرا. ووفقا لمفهوم الحقد يصيغ نيتشه نسقا سيكولوجيا (على الرغم من أنه – وفقا لتحليله الأخير – نسق سيكولوجى مشروط) مؤسس على الضعف والرغبة (المضللة ذاتيا) الغالبة للانتقام. فالحقد هو رد فعل فى الأساس، ورد الفعل هو صفة أى أخلاق قائمة على الحقد (خاصة المسيحية) تلك التى رفضها نيتشه (47). ثالثا ناقش نيتشه فى سنواته الناضجة أن القوى عليه أن يحتقر المسيحية، فمادامت المسيحية مؤسسة على أخلاق العبيد فيجب أن يكون تجاوزها نقطة فخر للقوى، فبالنسبة لهم فالبقاء فى المسيحية " قلة أدب ". رابعا يؤكد نيتشه أن الدين ضرورة أولية للضعفاء وقاصرة عليهم. ومن أجل مكافحة تأثير المسيحية سيستبدلها بديانة أخرى، ديانة تميل أيضا للضعفاء ولكنها خالية من الحقد، يؤكد نيتشه على أن البوذية الأوروبية ربما لا يمكن التخلص منها (48). الملمح الخامس المتكرر فى النسق العام لنقده الجينالوجى هو الإصرار على أن المنهج الجينالوجى يجب أن يطبق على المسيحية. ومن النظرة الأولى فمن غير الواضح لكل الناس أن الأخلاق والقيم المسيحية وما بعد المسيحية مؤسسة على الحقد. بالتالى طور نيتشه المنهج الجينالوجى متضمنا السيكولوجيا والبحث التاريخى كأدوات لكشف الدوافع الضمنية والدائمة. وربما كان أكثر العناصر جدلا فى نسق نيتشه عن النقد الجينالوجى هو؛ سادسا أطروحة أن البشر لديهم أساسا إرادة القوة، فى تحليله الجينالوجى لم يعد نيتشه صياغة المنهجين التاريخى والسيكولوجى اللذين كانا شائعين فى عصره، وبدلا من ذلك طور مناهجه هو المؤسسة على ابستمولوجيا وأنطولوجيا إرادة القوة. سابعا أوضح أن الفهم (أو المعرفة) هو تفسير يتم بواسطة مركز القوة (الفرد البشرى)، وبدأ يشرح أن الأفراد يوظفون المعرفة لترتيب علاقاتهم بمراكز القوى الأخرى. ويناقش نيتشه الناضج – بطريقة نسقية – إشكالية كون قيمة وأهمية الفهم لا تعتمد فقط ولا أساسا على القدرة العقلية للفرد ولا مستواه المعرفى، بل هو يعتمد أساسا على صلابة وشجاعة " إرادة القوة " المتضمنة. ثامنا وأخيرا فطالما أن نسق نيتشه الجينالوجى لم يكن فيه " شيء فى ذاته " فلا معنى للتساؤل حول كون أنطولوجيا نيتشه تعرض الأشياء على حقيقتها. المحورى فى أنطولوجيا نيتشه هو المحاولة (الواعية أو غير الواعية) لمركز القوة لتنمية قوته، وإحدى الطرق لتحقيق تنامى القوة هو بناء نسق مقنع لأصلها إلى جانب أصول الآخرين، مثل هذا النسق لو تم قبوله يمكنه أن يضعف قوة العدو عن طريق كشف أصل العدو كما فى كتاب (إنسانى إنسانى للغاية). (49)
أصول المسيحية المنطلقة من الحقد (50)
مع البقاء داخل التقليد الفلسفى السياسى الحديث، بدأ نيتشه تحليلاته فى (جينالوجيا الأخلاق) بتصور افتراضى عن انبثاق المجتمع الإنسانى. هو تصور نمطين مختلفين من البشر؛ نمط صغير العدد ولكنه منظم (مجموعة من الوحوش الشقر المفترسين، هم الغزاة والجنس المسيطر.) والنمط الآخر كبير بل وضخم العدد ولكنه يبقى بدويا وغير منظم. كلا من المجموعتين يعيشان فى وضع (نصف حيوانى) بالنسبة للوعى، وهذا يعنى أنهما يتصرفان وفقا لحاجاتهما وغرائزهما.
اهتم نيتشه بنتيجة الصراع الذى سيحدث بين هاتين المجموعتين، أو بالأحرى بتطور هذا الصراع. (51) وفى مقابل القصص الأخرى عن المحاربين البدائيين ففى رأى نيتشه فإن المجموعة غير المنظمة لم تفز ولم تمت ولكنها أخضعت. فقد أصبحوا عبيدا ولم يعودوا يتصرفون وفقا لغرائزهم بل وفقا لإرادة السادة.
هذه العبودية قامت بعملية قلب لعقول العبيد، فلكى يعيشوا كان عليهم قمع أى تجل لغرائزهم، ولكن لأن دوافعهم لا يمكن أن تتلاشى فعلى العبيد أن يتعلموا أن يغيروها أو أن يبدلوا اتجاهها. نيتشه يتحدث عن عملية (استبطان) تم حدوثها، ووفقا للسيكولوجيا فهذه العملية تتضمن (إنكار الغرائز)، أو (تأجيل الغرائز)، والأهم (استبدال الغرائز)، بهذه الوسائل تطور المناخ الداخلى لنفسية الإنسان، وبهذه الوسائل تطور البشر وهؤلاء هم أجدادنا.
وهكذا فالغرائز والحاجات الأساسية للعبيد لا تتلاشى ولكنها تغير وجهتها، فالعصبية والقسوة والرغبة فى القوة وما إلى ذلك لا يتم التعبير عنها مباشرة، ففى مواجهة عقوبة الموت هذه الدوافع تتحول: "على الأغلب فكل شيء ندعوه ثقافة راقية تم تأسيسه على روحنة وتكثيف القسوة، هذا هو رأيى، فالوحوش المفترسة لا تستريح أبدا وإنما هى تعيش وتزدهر، إنها تتأله." (52) كان الناتج عن هذا الانقلاب وهذا الاستبطان هو الوعى، الذى – وتحت هذه الظروف – أصبح يشعر بنفسه على أنه وعى سيء. من هذا التوتر الداخلى المزعج (53) فإن العبيد الذين يعانون يلقون مسئولية بؤسهم على شخص أو شيء ما، على شيطان عدوانى، هذا التوصيف للشخص المسئول يتطلب خطوة أخرى وهى تصور شخص آخر، قادر على محاربة وإخضاع الشيطان، وهو الله الجليل.
فى جينالوجيا الأخلاق نسب نيتشه جزءا واحدا من هذا المشروع الدينى للعبيد أنفسهم، الذين جعلوا من الله عزاءهم وعقيدتهم آملين فى سعادة مستقبلية فيما بعد الحياة،(54) ولكن من بين العبيد هناك أناس أقوياء، وهم نمط آخر مهم من البشر. هؤلاء فقدوا تأثيرهم على أقرانهم ولكنهم يكتشفون إمكانية استعادة القوة كقادة للعبيد. (55) هؤلاء هم " الكهنة الزهاد " الذين يقدمون للعبيد كبش فداء جديد ليلقوا عليه معاناتهم: خطاياهم، بالإضافة إلى وعد بالخلاص لمن آمنوا بالله، الله وحده، وهذا التفسير أصبح غير قابل للمقاومة. تاريخيا فهذا التفسير ظهر أولا فى اليهودية وأعيد صياغته فى التقليد المسيحى الذى قام بإعادة تقييم القيم للمرة الأولى. (56) هذا التفسير الجديد للكهنة الزهاد ينجح بإلهام العبيد بإحساس عال بالقوة، يخول لهم أخيرا بأن يتفوقوا على السادة. (57)
ربما يسأل أحدهم؛ ما المشكلة فى هذا التفسير من وجهة نظر نيتشه؟ ألا يحرر هذا العبيد فى النهاية؟ وفقا لنيتشه فالعكس تماما يحدث، هذا التفسير يجعل السادة عبيدا. وهذا الحل الذى يقدمه الكهنة الزهاد لا يعالج الضعف، فهو يظل موجودا طالما يميل الضعفاء إلى البقاء ضعفاء، وهو يساعدهم فقط ليتعاملوا مع صراعهم الداخلى. (58) نيتشه اعتبر نفسه طبيب الثقافة الذى سيخترق هذه الدائرة الفاسدة. هذه الإعادة الجديدة لتقييم كل القيم تهدف لاستبدال كل نسق أخلاقيات الحقد بأخلاق سادة جديدة متطورة؛ أخلاق التعبير الذاتى.
مناقشة وتقييم نقد نيتشه للدين
حتى الستينيات من القرن العشرين كان الكتاب المسيحيون يتعاملون مع نقد نيتشه على أنه نابع من معارف سطحية عن الموضوع، وجهة النظر تلك أصبحت ضعيفة، وتم التخلى عنها (59). بالطبع فمن الممكن أن يكون فهم نيتشه للمسيحية إشكاليا إن لم يكن خاطئا أو على الأقل فى حاجة للتصحيح من بعض الجهات، فعلى سبيل المثال هناك حجج جيدة تجعلنا نتساءل إن كانت المسيحية أساسا ديانة زهدية كما أكد نيتشه ومعه شوبنهاور وأوفربيك. وأيضا فالتعريف العام للحب المسيحى (إلى جانب الرحمة والتعاطف أو الشفقة) يبقى إشكاليا. على الأقل فعلينا أن نفرق بين الحس الواهن بالشفقة الذى كان فى ذهن نيتشه فى نقاشاته، والرحمة الفعالة التى تنمو من تزايد الشرور فى العالم وتحفز المرء للعمل ضدها (60). وهناك مواضع أخرى اهتم بها نيتشه، وانتقد – من خلالها – التوجهات الأساسية فى المسيحية بدقة ووضوح. وبالتأكيد فتطور البروتستانتية فى قرننا راعى العديد من السلوكيات التى وصفها نيتشه، فجناحها الليبرالى أصبح عليه أن يقبل إلى حد كبير مفاهيم واكتشافات العلماء والأكاديميين، ولكن هذا الجناح يخاطر بفقدان الصفات الدينية المميزة للمسيحية. وفى المقابل فالملتزمين بالمسيحية التقليدية يميلون للزيف فى هروبهم نحو نوع من (مأزق الوعى المزدوج)، فهم يقبلون تكنولوجيا وأنساق العالم الحديث ولكنهم فى نفس الوقت يحافظون على أفكار متعارضة مع هذا العالم. هؤلاء مع مجموعات مقارنة الأديان وقعوا فريسة لنقد نيتشه، والدفاع الذى يمكن قبوله من التقليد اليهودى المسيحى المسائل ضد هجمات نيتشه هو مواجهة حججه والتغلب عليها.
واللاهوت المسيحى – من حيث المبدأ على الأقل – يحاول فى الوقت الحالى أن يتوحد ويتجاوز نسق نيتشه النقدى، والكنائس المسيحية دافعت عن نفسها طويلا ضد النقد التاريخى للكتاب المقدس.(61) ولكن حتى فى عصر نيتشه فاللاهوتيون والكنائس تعلموا أن يقبلوا النقد التاريخى، على الأقل بالنسبة للكنائس والطوائف المسيحية الكبرى – من ضمنها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية – فلا أحد يلتحق بالكهنوت بدون أن يعلم – على الأقل – مبادئ النقد التاريخى.
نيتشه كان مهتما بتتبع هذا الاتجاه، واعتقد أنه سيعجل بهجر المسيحية. على أية حال فاللاهوت وفلسفة الدين قدما بدلا من ذلك تمييزات وأنماط تتيح لهما الإدعاء بالحقيقة المطلقة فى العقيدة بدلا من القول بنسبية تلك التعبيرات المبجلة. الأمثلة تتضمن تفسير بولتمان للعقيدة كنوع من (الوجود فى العالم – مثل هايدجر) ووصف هير لها على أنها (طابع مميز للخبرة ولكن المرء لا يستطيع تحليلها بالمفاهيم المعرفية)، جوهر هذه النظريات هو التمييز بين العقيدة كنسق أساسى والحقائق الأخرى التى هى موضوع البحث التاريخى. فلو أصرت العقيدة على تقرير الحقائق الثابت خطأها، فمن الحق أن تنتقد عن طريق الأكاديميين التاريخيين. (62) ولكن من خلال افتراضه الأنطولوجى المسبق فنيتشه لا يستطيع أن يرفض ببساطة إدعاء العقيدة بأنها قادرة على إلقاء ضوء جديد على الحقائق المعطاة. فطالما أنه لا توجد حقائق على الإطلاق وإنما هى فقط تفسيرات مثلما زعم نيتشه (63) فما الخطأ فى أن يفسر المدرسيون المسيحيون دلالات الأحداث التاريخية وفقا لمنظور مسيحى خاص بهم. فنيتشه عليه أن يقبل ذلك – على الأقل – طالما عرّف المدرسيون الحقيقة التاريخية للأشخاص والأحداث وفقا لقواعد ومناهج التاريخ العلمانية.
نيتشه كان يعلم هذا جيدا، ولكن هذا لم يمنعه من رفض المسيحية. فمن المؤكد أنه رفض المسيحية أو على الأقل ما أخذه باعتباره المنظور المميز للتقليد اليهودى- المسيحى. فالمبادئ والأنساق التى قدمها اللاهوت الحديث تم انتقادها وفقا لزعم نيتشه بأن الوعى التاريخى الناشئ قد هدم أساس أى دين، بما فيها المسيحية. وربما انتقد نيتشه التفسيرات المسيحية فقط لأنها مسيحية، ولكن لو كان هاجمها على أنها تفسيرات، وفقا لرؤيته عن قواعد الدراسة التاريخية، فسوف يناقض رؤاه الفلسفية.
نقد نيتشه الجينالوجى للتقليد اليهودى – المسيحى يفترض أن الدين معتمد على الأخلاق، فهو تعبير عن الأخلاق النابعة من الحقد، وهذه نظرية مختزلة للدين.
النظريات المختزلة كانت شائعة فى عصر النهضة، فشليرماخر المبكر – معاصر هيجل الأكبر – هو أول فيلسوف ولاهوتى ألمانى مؤثر يناقش – فى مواجهة تفسير كانط الأخلاقى للدين – تجاهل مثل هذه النظريات لجوهر الدين. من وقتها ظهرت مقاربة فينومينولوجية تؤكد على استقلالية الدين، هذه المقاربة تميل للتأكيد على أن الدين يتخلل كل نطاقات الثقافة ومن جهة أخرى يتأثر بها. ولكنهم أضافوا أيضا أن الدين ليس مجرد أخلاق شعبية أو علم أو ما شابه ذلك، فالدين يُختبر بطرق خاصة من قبل البشر، وهؤلاء الذين يتبنون هذه المقاربة الفينومينولوجية لم يتبنوا فرضية موحدة عن طبيعة الدين أو الخبرة الدينية، ولكنهم قدموا بعض الحجج التى تؤكد على استقلالية وتفرد الدين، والتى تستحق أن تؤخذ فى الاعتبار.
جينالوجيا نيتشه حققت ما هو أكثر من الزعم بأن الدين معتمد على الأخلاق، فهى تناقش – نقديا – كون المسيحية تعبيرا دينيا عن أخلاق الحقد، ورد فعل أخلاقى وعدوانى ضد الحياة نفسها. ولتقييم هذا الاتهام فمن الأفضل أن نميز بين وصف نيتشه للحقد كموقف سيكولوجى من جهة، وافتراض أن اليهودية والمسيحية مجرد تجليين للحقد من جهة أخرى. وبينما كان لاكتشاف الحقد أهميته السيكولوجية بالنسبة للقيم، إلا أن اجتماع الحقد مع المسيحية يظل مسألة إشكالية، كما أشار الفينومينولوجى الألمانى ماكس شيلر.
تمييز آخر قد يكون مفيدا، فنيتشه بالطبع كان محقا عندما أكد على أن ردود الأفعال المتمثلة فى الحسد والكراهية والحقد تهدد وتسمم كل أشكال العلاقات الإنسانية بما فيها العلاقات الدينية، وربما نضيف من عندنا أن الدين عرضة لتأثير الحقد. ولكن هذا لا يستلزم أن يكون كل التراث اليهودى- المسيحى من بدايته مجرد نتاج وتعبير عن الحقد.
--------------------
الهوامش
(1) بالتالى فعند تفسير نيتشه علينا أن نضع بلاغته فى الاعتبار.
(2) كتب: ما وراء الخير والشر، فى جينالوجيا الأخلاق، عدو المسيح، وكتب أخرى.
(3) لفهم معنى ودور الحقد فى فلسفة نيتشه، أنظر مقال روبرت سى سولومون فى هذا الكتاب.
(4) أنظر كتاب هذا هو الإنسان (لماذا أنا قدر؟).
(5) أنظر – على سبيل المثال – كيف أننا جميعا أتقياء، العلم المرح، الكتاب الخامس 1887، فقرة 344. نيتشه استنتج هذا: " نحن المجتمعون – ورغم كوننا بلا إله وضد الميتافيزيقا – نظل نأخذ نارنا من اللهب المشتعل من عقيدة عمرها آلاف السنين، هذه العقيدة المسيحية، التى فيها الله حق، والحق إلهى."
(6) " اللعنة على المسيحية " هو العنوان الفرعى لكتاب (عدو المسيح).
(7) خاصة (أوراق نيتشه الأولى): " السلام والسكينة على الكهنوت، التى طبعت آثارا لن تمحى من عقلى، ويبدو أن الانطباعات الأولى التى نستقبلها هى الانطباعات الأبقى."
(8) هذا هو الإنسان (لماذا أنا ذكى جدا)، نفس هذا التكثيف والإعلاء من شأن الأب يمكن إيجاده فى أوراق نيتشه الأولى، بالطبع هى متعلقة بـ(صورة الأب عنده) أكثر من الأب نفسه.
(9) جيه شميت يرى أن نيتشه فقد عقيدته بالفعل فى طفولته كنتيجة لمعاناة أبيه المحبوب وموته المبكر، شميت يرى أيضا أن القراءة الدقيقة للأشعار والأوراق التى كتبها نيتشه من عمر العاشرة إلى الرابعة عشر تجعلنا نعرف أن نيتشه كان مهتما بالأسئلة والمشكلات الدينية، ولكن الأوراق لا تدعم كثيرا هذا الرأى.
(10) خاصة تأملاته عن القدر والتاريخ، تأملات نيتشه الأولى.
(11) هذا هو الإنسان، لماذا أنا ذكى جدا، فقرة 2.
(12) السابق، فقرة 3.
(13) السابق، فقرة 1،7.
(14) رسالة إلى أوفربيك، 23 يونيو 1881.
(15) أوراق نيتشه المنشورة بعد وفاته، خريف 1886، خريف 1887.
(16) أنظر خطاب نيتشه لروده، 28 فبراير 1875، الذى اشتكى فيه من نية صديقهما المشترك روموند فى التحول للكاثوليكية الرومانية.
(17) عدو المسيح.
(18) أنظر لكتاب (آراء مختلطة) فيه بدأ نيتشه يقارن بين (الكرم) الكاثوليكى والعناد اللوثرى، ولكنه انتهى برفض التقليدين لتعلقهما بالأوهام.
(19) فجر، ما وراء الخير والشر.
(20) هذا دليل على اهتمامه بجذور المسيحية فى نقده لها، أو كشف التنويعات العلمانية على الأخلاق المسيحية، أو وصفه المتعاطف مع المشاعر المتعلقة بالصلوات.. إلخ.
(21) السيرة الذاتية الأولى لنيتشه (أوراق نيتشه الأولى)
(22) أنظر دليل نيتشه الموسوعى عن أثر لغة الكتاب المقدس فى أعمال نيتشه.
(23) أنظر دراسة عن بولس للمتخصص فى العهد الجديد ه لويدمان، أنظر أيضا تاريخ الإصلاح لمؤرخ الكنيسة الكاثوليكية الرومانية جيل جانسن.
(24) عدو المسيح – على سبيل المثال – لا يُظهر فقط تأثير رينان وجاكوليو؛ اللذان اقتبس منهما نيتشه صراحة، ولكن يظهر أيضا تأثير تولستوى ودوستيفسكى وفلهاوزن وآخرون.
(25) خاصة فى (العالم إرادة وتمثلا) الجزء الثانى، الفصل 17.
(26) جملة نيتشه (أفلاطونية للناس) تعتبر تنويعة أخرى لهذه الجملة.
(27) شوبنهاور أكد على التشابهات الروحية بين الهندوسية والبوذية من جهة والمسيحية من جهة أخرى، هو تمنى أيضا أن يجد الباحثون يوما ما دليلا تاريخيا يربط بين هذه الأديان.
(28) العالم إرادة وتمثلا، نهاية الكتاب الرابع.
(29) اشتقاق (الحاجة الميتافيزيقية) من الدين أصبح شائعا. الفلسفة (الميتافزيقية) يعتبرها نيتشه الآن عملية تعويض ازدهرت فى الفترة القصيرة نسبيا بين نهاية الاعتقاد الدينى ونهاية الآمال المرتكزة على هذا الاعتقاد.
(30) إنسانى إنسانى للغاية، 8
(31) أوراق نيتشه الأولى.
(32) خطاب إلى إليزابيث نيتشه، 11 يونيو 1865
(33) إنسانى إنسانى للغاية، 9
(34) فى استخدام وسوء استخدام التاريخ، 7
(35) ديفيد شتراوس المعترف والكاتب، 1
(36) أوراق نيتشه المنشورة بعد وفاته، خريف 1883
(37) على الأقل فهى ليست عدم أمانة واعية، ولكنها قد تكون ما يسميه سارتر (عقيدة سيئة)
(38) الظاهرة التى أسماها هايدجر التاريخية Geschichtlichkeit
(39) فى (استخدام وسوء استخدام التاريخ) 9، اعترف نيتشه أنه اعتبر نسبية الأشياء والآراء حقيقة ولكنه اعتبرها أيضا مميتة، هذه العبارة تظهر بوضوح صراعه الداخلى.
(40) ميلاد التراجيديا، 11
(41) فجر، 93
(42) هكذا تكلم زارادشت، عن المرور بصمت. وفى الأوراق المنشورة بعد وفاته صيف وخريف 1973 كتب نيتشه: " ما نتطلبه هو أن يدعو الشيء للتفكير وأن يكون متعففا بحق، لذلك أنا أقدر الدين رغم أنه يحتضر."
(43) أوراق نشرت ما بعد الوفاة، 1871
(44) على سبيل المثال، فمسيحية القرن الـ19 التى احتقرها نيتشه لا تختلف عن أعمال تولستوى وكيركجور والليبرالية والبروتستانتية وفكرة الدولة.. إلخ.
(45) العلم المرح، 125، 108
(46) طوّر نيتشه هذا المفهوم فى المقال الأول من (فى جينالوجيا الأخلاق)
(47) فى فصل (تشريعات ضد المسيحية) الذى كان أصلا نهاية كتاب (عدو المسيح) أعلن نيتشه: " الصراع حتى الموت ضد الفساد، المسيحية هى الفساد."
(48) (أعمال نيتشه المنشورة بعد وفاته)، مايو-يوليو 1885
(49) أنظر الأنماط الثلاثة للتاريخ حتى الآن "كمساعد للحياة الإنسانية" التى وصفها نيتشه فى (تأملات فى غير أوانها). الجينالوجيا فى كتاباته المتأخرة تضمنت ما سماه بالتاريخ النقدى، هو تبنى التاريخ النقدى على الرغم من أنه " ليس من العدل أن يكون الحكم هنا، حتى لو العدالة نفسه هى التى أحضرته."، (فى استخدام وسوء استخدام التاريخ)،3.
(50) جينالوجيا الأخلاق، المقالة الثانية، الفصول من 16-25
(51) هناك تواز ملفت بين هذا وبين جدل السيد والعبد الشهير عند هيجل وماركس.
(52) (ما وراء الخير والشر)، 229
(53) هذا قريب مما أسماه (فرويد) بعد ذلك: (عدم الارتياح الثقافى).
(54) هذا يذكرنا بمقولة ماركس عن الدين بأنه (أفيون الشعوب).
(55) كمثال تاريخى حاسم، يدلل نيتشه بالقادة الدينيين لليهود المنفيين فى القرن الخامس قبل الميلاد.
(56) ما وراء الخير والشر، 46
(57) على سبيل المثال (كهف التصورات) الذى ضعفت من خلاله النبالة التيوتونية، (أفول الأصنام، محسّنو البشرية)
(58) مرة أخرى يستخدم مصطلحا سيكولوجيا: فالملتزمين بدين الحقد هم عصابيون اعتادوا عصابهم، ويرفضون العلاج، أنظر تفسير فرويد للدين كعصاب جمعى فى (مستقبل وهم).
(59) هناك أمثلة عديدة لتفسيرات مسيحية أصبحت تتعامل مع نقد نيتشه بجدية.
(60) شوبنهاور نفسه أشار إلى هذا الاختلاف.
(61) الإسلام يحافظ على هذا الدفاع حتى الآن، وبعض الاتجاهات المحافظة فى اليهودية والمسيحية كذلك.
(62) فى (عدو المسيح)، 51، نيتشه يشير بسخرية إلى أنه " طالما العقيدة غير قادرة عل تحريك الجبال، فهى قادرة جيدا على صنع جبال من دون أن تكون موجودة."
(63) (أوراق نيتشه المنشورة بعد وفاته)، 1886 وربيع 1887