دوايت جارنر
مقال مترجم عن (النيويورك تايمز) :
http://www.nytimes.com/2009/03/06/books/06Book.html?_r=1&em
سيكون صعبا على التصديق أن نعرف أن صمويل بيكيت - أحد أكثر كتاب القرن العشرين صمتا وغموضا ، والرجل الذى قال " إن كل كلمة هى لطخة غير مجدية على صفحة الصمت والعدم " – هو أحد أكثر كتّاب الخطابات غزارة فى هذا القرن .
* خطابات صمويل بيكيت ، المجلد الأول (1929-1940)
المحررتان : مارثا دو فزنفيلد ، لويس مور أوفربيك
الكتاب مزود بالصور ، 782 صفحة ، طبعة جامعة كامبريدج ، 50 دولارا
تم اكتشاف أكثر من 15 ألف خطاب لبيكيت ضمن الأرشيفات والمجموعات الخاصة ، وخططت جامعة كامبريدج لنشر مختارات من هذه الخطابات فى أربعة مجلدات من الحجم الكبير. وقد تم إصدار المجلد الأول منهم فيما يقرب من 800 صفحة .
المجلد الأول مثقل بالملاحظات الأكاديمية التى قد تجعلنا ننغمس فى الكتاب وكأننا على مكتبنا الدراسى ، ولكن علينا أن نقرأ الكتاب بعيدا عن ذلك ، فبيكيت الذى نقابله فى هذه الخطابات المذهلة – التى كتب معظمها فى نهاية العشرينيات من عمره وبداية الثلاثينيات – هو وقح بشكل لافت وذو بديهة حادة ، إلا أنه فى معظم الأحيان – وهذا يفاجئنا – يكون عاطفيا وحميما .
كتب بيكيت خطاباته من عدة مدن ، من ضمنها باريس ، دبلن ، لندن ، ودرسدن ، كان بيكيت يرتحل للالتحاق بوظائف للتدريس وللمتعة وليوفر لذهنه مساحة للتأمل والكتابة . وكان فى معظم الأحيان وحيدا ومنعزلا ، ولكن مع ذلك كان لديه عدة أصدقاء ، منهم جيمس جويس ونانسى كونارد وبيجى جوجنهايم ، والرسام جاك باتلر ييتس شقيق الشاعر ويليام باتلر ييتس.
الخطابات جعلت بيكيت يحتك بالعالم الواسع ، وقد ذكرت المحررتان أنه كان يرد على كل الخطابات التى كان يتلقاها بطريقة مناسبة ومهذبة ، واعتاد بيكيت على أن يختم خطاباته بعبارات مثل : " صديقك المخلص " ، " تحياتى الطيبة " ، " باركك الله " ثم يوقع ببساطة : " سام " Sam .
وإعداد الخطابات للنشر لم يكن عملا سهلا ، فقد كان يكتبها بثلاث لغات : الإنجليزية والفرنسية والألمانية ، والخطابات ممتلئة بالاشتقاقات والتوريات ، وقد ذكر أحد المتخصصين فى دراسة المخطوطات أن بيكيت يملك أسوأ خط يد بين أدباء القرن العشرين .
ومن المدهش لنا أن نعرف أن بيكيت – قبل أربع سنوات من وفاته – سمح بنشر الخطابات ولكن على شرط هو : " أن تنشر فقط الخطابات التى لها صلة بأعمالى الأدبية ." ، هذا يبدو رأيا معقولا ، ولكن عمليا ما الذى يعنيه ذلك ؟ ، إن بيكيت لم يعد بيننا الآن ليقرر . المحررتان قررتا أن تتبعا سياسة ترى أن كل شيء كتبه بيكيت يلقى الضوء على أعماله الأدبية المنشورة ، ولكن هناك إشكالية تم تجاهلها وسط هذا البحث ، هى أن هذا الكتاب الرصين يحتوى على مختارات من الخطابات وليس تجميعا لها .
بيكيت قال للمحررتين أيضاً : " أرجوكما .. لا تعليقات " ، وكان ردهما : " لن نعلق ، ولكن لا بد من أن يكون هناك سياق . " وقد كان السياق غزيرا ، إلى حد أن الفقرات التى تعقب كل خطاب كانت غالبا تتجاوز حجم الخطابات نفسها .
جاهد بيكيت ما بين عامى (1929-1940) ليرى أعماله الأولى منشورة ، ومن أعمال هذه المرحلة كانت مجموعته القصصية (وخزات أكثر منها ركلات) 1934، ورواية (مورفى) 1938 ، وقد كان قلقا حول مدى انتشارهما وشعبيتهما . كان بيكيت يلتهم كتب الفن والموسيقى ، والخطابات ممتلئة بآرائه النقدية ، وقد كانت لاذعة ، يقول فى عام 1934 : " دبلن تختبر عدم صبر المرء ، أما لندن فتختبر صبره . " وفى عام 1937 : " إليوت ليس سوى مرحاض يصرّف فضلاته إلى الخارج . "
ومن أبرز ما عرفناه عن بيكيت هنا هو طريقته الحادة فى الكتابة ، وقد قال عن كتاب دارون (أصل الأنواع) : "إنه كُتب بصورة سيئة" . وقال عن بعض أعمال بروست إنها : " صوت وهمى ناتج عن معدة مصابة بالمغص . " ، أما لورنس فهو : " وهج بشع للكآبة ."
وكثيرا ما كان يتقمص دور المضطهَد ، وقد كتب فى أحد خطاباته : " الآنسة كوستللو قالت لى مرة أنه ليس لدىّ أى شيء جيد لأقوله عن أحد سوى إحصاء الإخفاقات ، وأعتقد أن هذا هو أفضل شيء قيل عنى من فترة طويلة . "
وقد كانت آراؤه الاستطيقية (الجمالية) مميزة ، وقد كتب فى عام 1934 : " الباليه يضايقنى بسبب الدور الثانوى للموسيقى فيه ، ففى رأيي أن الموسيقى الجادة لا تُستخَدم أبدا . "
ولأن الكتاب متعلق فقط بالخطابات المتصلة بأعمال بيكيت الأدبية ، فإن القارئ سيجد أن بعض الأحداث قد تم إهمالها أو تجاهلها بشكل ما ، وسيكون على القارئ أن يستنتج كيف توترت العلاقة بينه وبين جويس بعدما رفض بيكيت أن يطلب يد لوشيا ابنته ، أما علاقة بيكيت ببيجى جوجنهايم فقد ذُكرت بشكل عابر . وفى نهاية الكتاب كان هناك حديث حول زوجة بيكيت المستقبلية سوزان ديكوفو دوميسنيل ، التى أصبحت مقربة منه بعدما زارته فى المستشفى عندما تعرض للطعن من شحاذ فى شوارع باريس .
بالإضافة إلى ذلك سوف يعرف القارئ الكثير عن مشاكل بيكيت الصحية ، فقد كان يعانى من عدم انتظام فى دقات القلب ، وخراريج على الرقبة ، وألم فى الشرج ، هذا غير المزاج السوداوى، فقد كتب مرة : " أنا مكتئب من الآمال المعلقة على الإنسان اللا مبالى . "
وهناك خطابات تشير إلى خطط لمجالات عمل مجهولة لم يستمر بيكيت فيها ؛ فى أحد الخطابات كتب أنه يريد أن يكون مستشارا دعائيا ، وفى خطاب آخر أرسل إلى المخرج الروسى سيرجى آيزنستاين يطلب منه أن يتم قبوله فى مدرسة موسكو القومية للسينما .
وبيكيت شارك فى إعداد رواية جيمس جويس (يقظة فينيجان) ، وجويس يظهر أكثر من مرة فى الخطابات ، كتب بيكيت فى عام 1937 : " أعطانى جويس 250 فرانك عن 15 ساعة عمل على مسوداته ، بالإضافة إلى ذلك زودنى بمعطف قديم وخمس رابطات عنق ، لم أرفض ، فمن الأسهل أن يجرحك أحدهم من أن تجرح أنت الآخرين . "
وفى بعض الخطابات كان يبدو على بيكيت أنه بحاجة ملحة لأصدقائه ، وفى خطابات أخر كان بحاجة لأن يبقى وحده ، كتب ذات مرة : " كل هؤلاء الناس المضجرين وهذه الأماكن القديمة تجعلنى أشعر وكأنى حيوان مائى أجبر على العيش على أرض جافة ، على أرض شديدة الجفاف." ، قد يبدو لنا هذا النص كقطعة من الشعر كتبها رجل عجوز ، رغم أن بيكيت آنذاك كان فى الثانية والثلاثين من عمره .
فى عديد من المواضع فى هذه الخطابات ، يبدو بيكيت وكأنه لن يستمر فى الكتابة ، ولكننا – ونحن ننتظر الأجزاء الثلاثة الأخرى من هذه الخطابات الحاشدة – نرى أنه – لحسن حظنا – سيتمكن من الاستمرار .