موجز تاريخ غرفتي
قصة لبزرگ علوي
نُشرت لأول مرة في نوفمبر عام 1934
ترجمها عن الفارسية: محمود أحمد
يناير 2019
الترجمة خاصة بـ Boring
Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
بزرگ علوي: كاتب وسياسي إيراني (1904-1997)
***
أخيرًا ارتحتُ من هذا الحيِّ القذر. لن أعود مرغمًا على تناول حساء الباذنجان كلَّ ليلة. استرحتُ من صيحات خوش قدم باجي وفاطمة سلطان. لن يعود أحد يجرؤ على أن يكنس في الصباح محدثًا ضجة أثناء نومي، ويثير في غرفتي الأتربة المنبعثة من بين شقوق الآجر. لن يعود أحد يجرؤ على أن يمس كتبي. كما ارتحتُ من كأس الماء المثلج. سأدير جرامافوني وأستمع إلى الموسيقى متى أشاء، ولن تنقطع الموسيقى في منزلي حتى مرور عام على وفاة ابنة العمة، وبوسعي أن أعزف الموسيقى حتى في أيام «حدوث المقاتل»[1]. وعند العَشاء لن أعود مرتبطًا بـ«فلتتفضل يا سيدي». وفي أيام الجمعة لن يوقظني من النوم بكاء طفل ابنة العمة.
لقد استأجرتُ حجرتين في بيت أرمني شمالي المدينة. وقد زينتُ الحجرتين هنا على حسب هواي؛ وضعتُ كتبي بجواري كما رغبتُ، ولديَّ طاولة بعدة مقاعد، وستائر الحجرة من القماش الموشَّى، وليس تحت قدمي سجاد بديع، لكن يعجبني هذا الكليم أكثر. إنَّ كليمي منسوج حديثًا، أما سجاد بيتنا فيعود إلى مائتي عام، وقد ابتعتُ هذا الكليم حسب ذوقي، وواثق من أنه لم يمت فوقه أحد الموبوئين.
كان لديَّ حجرة للعمل وحجرة للنوم يحسدني جميع الأصدقاء عليهما. وقد جاء أحدهم اليوم إلى هنا، وراقت له حجرتاي، فقال لي: «لقد تعبتُ من أمي وعمتي العجوز، ألا توجد هنا حجرة شاغرة؟».
قلتُ: «بالتأكيد، إن الحجرة بجواري شاغرة! ولكن لا أدري هل يؤجرونها أم لا. فإنني حتى الآن لم أرَ مطلقًا بابَ هذه الحجرة مفتوحًا. واليوم عصرًا سأسأل صاحبة المنزل مدام هاكوبيان، وأخبرك في الليلة التي سنلتقي فيها...».
*
- مدام هاكوبيان، لقد أعجب منزلك أحد أصدقائي، فهل يمكن أن تؤجري له غرفة؟
- لا، لا غرف لديَّ.
- كيف؟ أليست هذه الغرفة التي بجوار غرفتي شاغرة؟
- أجل، ولكني لن أؤجر هذه الغرفة لأحد.
- عجبًا، لذا أرى نجلك آرداشس لا ينزل بهذه الحجرة عندما يعود من شاهي.[2]
- معك حق، لكن هذه الغرفة كانت لابني الأكبر آرشاوير، ومنذ أن مات، لم يطاوعني قلبي على أن أؤجر هذه الغرفة لشخص غريب، إنها غرفة جيدة، أتود أن تراها.
ونهضت مدام هاكوبيان، ومشيتُ وراءها. لقد جاوزت هذه السيدة الخامسة والأربعين من عمرها تقريبًا، ومن المؤكد أنها كانت تُعد في الماضي من الحسناوات، بيد أنَّها قد ذوت كثيرًا الآن. لقد وُلدت في إيران، لكن قضت شبابها في روسيا! وهي تتحدث اللغة الروسية بطلاقة، وتتقن الروسية خيرًا مني، وتعيش في إيران منذ خمس وعشرين سنة أي منذ زواجها. وهي أيضًا تتحدث باللغة الفارسية جيدًا، لكن في النهاية لكنتها أرمنية، وتتحدث معي بالروسية. ومدام هاكوبيان من النساء العمليات الماهرات في العالم. ومنذ سبعة عشر عامًا حين مات زوجها، كانت تدير بنفسها حياة نجليها آرشاوير وآرداشس، وأدخلتهما المدرسة، وعلمتهما اللغة الروسية بنفسها. وواضح من كلامها أنها أحبت أكثر ابنها الأكبر آرشاوير الذي تُوفي مؤخرًا. ومن الواضح أنه كان، وأبيه، تفاحة انشطرت نصفين، فقد رأيتُ صورته في الغرفة. كان وجهه مدورًا منفوخًا وشهوانيًا. وكان آرشاوير شبيهًا بأبيه من حيث الشكل، والجسم، والأخلاق، ومن حيث كل شيء.
أحضرت مدام هاكوبيان المفتاح، وفتحت باب الغرفة، ودخلت أولًا، ثم أذنت لي بالدخول. كان قد وُضع على الطاولة المستقرة بجوار النافذة عدد كبير من الورق والكتب غير المجلدة، وكان ثَمَّ أدوات تجليد الكتب وتغليفها قد علاها التراب كلها. وفي ناحية كان يوجد أريكة عليها سجادة، وفي الناحية الأخرى أمام الطاولة يوجد مدفأة حديدية صغيرة. وفضلًا عن هذا الأثاث، ومع أن أرجاء الغرفة كانت ملبدة بالغبار، إلا أن الغرفة نفسها كانت تبدو نظيفة. ولا يُرى هناك شيء يجذب أنظار المرء. اقتربت مدام هاكوبيان، التي ما زالت واقفة حتى الآن، من جوار الباب، وأشارت بأصبعها إلى الجدار، وقالت:
انظر، هنا موضع كف ابني الدامي. ما زلتُ لا أطيق أن أنظف هذه البقع، ولم أنفض الغبار عن الأثاث مُذَّاك وحتى الآن، انظر إلى الغبار. وفي يوم ميلاده أضع باقة من الزهور على الطاولة بجوار صورته، وتجف، وتبقى هنا.
ثم أخرجت منديلها من صدرها، وأجهشت بالبكاء. لقد أشفقتُ عليها فعلًا، وأدركتُ أن هذا الأمر قطعًا كان سبب شيخوخة هذه السيدة.
أسندتُّها من تحت إبطها، واصطحبتُها إلى حجرتي، وقلتُ من أجل مواساتها:
- في الحقيقة يا مدام إنكِ قد تحملتِ مصيبة شديدة، وأنا لم أكن أدري. وفي المرات المعدودة التي كان فيها آرداشس هنا، لم يتحدث معي بشأن هذا الموضوع. هل أَقدَم ابنك على الانتحار؟
جلست مدام هاكوبيان على مقعدي عند المدفأة، وقالت: «لا، لم ينتحر. ومهما يكن، فأنا امرأة، وأبكي، ويرتاح قلبي قليلًا. ولكن وا لآرداشس، ما أدراك كم عانى من البلاء، أتدري أن ضميره لا يرتاح، فهو ما زال يظن أن مصرع آرشاوير كان بسببه».
وعندما سألتُ مدام هاكوبيان عن موضوع مصرع آرشاوير، حكت لي التفاصيل هكذا:
- كل ما حدث، وقع في غرفتك هذه. فلهذه الغرفة تاريخ. ذات يوم، منذ أربع سنوات تقريبًا، جاء رجل وزوجته، واستأجرا هاتين الحجرتين. كان ذاك الرجل ألمانيًا من أسرى الحرب حيث مكث في روسيا ثم هاجر إلى إيران. وكانت زوجته روسية. أزرتَ بهلوي[3]؟ قديمًا في المكان الذي هو طريق مشجر الآن، كان ثَمَّ فندق يملكه رجل روسي، وكانت هذه المرأة ابنته. لا أدري كيف بحثا عن بيتي. يبدو لأنهما كان يعرفان اللغة الروسية، أرادا أن يقيما عند أسرة تعرف الروسية. وذات يوم جلسنا، قبيل العصر، وألفينا مدام شولتس دخلت البيت. وكانت هذه المرأة شابة، وطويلة القامة، وعيناها سوداوين، وشقراء. لم تكن حسناء كثيرًا، إلا أنها كانت تملك شيئًا يجذب الرجال، وتعلم أنها كانت دائمًا منتعشة ونظيفة. وقالت لي إن زوجها كان مهندسًا في بهلوي، وكان يعمل هناك لفترة. وقبل مدة من الوقت كان في البناية وانزلق عمود حديدي من تحت قدمه، فسقط أرضًا، ومُذَّاك وحتى الآن ابتُلي بمرض عجيب، كَلَّت عينه لمدة، والآن كُفَّ بصره، وقد أحضرناه ليُعالج في طهران. هكذا قد تحدثت عن ذهاب بصر زوجها، لكن فيما بعد سمعتُ أشياءً مختلفة من الآخرين، وعلى أي حال لم يكن السبب الحقيقي واضحًا، وأنا لم أتكلم، وقلتُ يا حبذا، عندما تسكن المرأة وزوجها في هاتين الغرفتين، ستقل متاعبهما بالنسبة لي، غافلةً عن أن هذه المرأة وزوجها سوف يصيران بلاء روحيًا. وعندما أرادت مدام شولتس أن تغادر، كان قد حلًّ الظلام. فقلتُ مناديةً على آرشاوير الذي كان في غرفته منهمكًا في عمله: «راِفق المدام، لئلا تقع على الدرج». وعندما صعد آرشاوير ثانيةً، قال لي: «ماما، مَن هذه السيدة؟» فقلتُ: «إنها سيدة ألمانية، اسمها مدام شولتس، وقد أجَّرنا لها وزوجها هاتين الحجرتين».
وفي اليوم التالي جاء مسيو شولتس وزوجته، وأريتهما الحجرتين – أي هاتين الحجرتين– ، و لم يكونا يمتلكان متاعًا، فمنحتُهما أنا الأثاث، وأعددتُ الحجرة على أحسن ما يرام، كانت أفضل من الآن، وكان مسيو شولتس مكفوف البصر. لكنه كان مصابًا بعمى خاص. لقد عُرض على كافة الأطباء المشهورين، وقد قالوا كلهم كلامًا واحدًا: «إننا لا نرى خللًا في عينيك، وإن كان ثمة شيء، فهو مرض عصبي، وذلك يستطيع معالجته الأطباء المتخصصون في باريس وبرلين وفيينا فقط».
وعندما قالت مدام هاكوبيان إن الأطباء قد رأوا المصلحة في أن يراجع مسيو شولتس أطباء باريس وبرلين وفيينا، فكرتُ في سريرتي أن سبب ذهاب بصره بالتأكيد غير ما حكته لي مدام هاكوبيان، فأردتُّ أن أسألها عن الحكايات التي سمعتُها من الآخرين، لكن مدام هاكوبيان كانت تتكلم وبتأثر شديد:
- كانت حالة عيني الرجل تسوء يومًا بعد يوم، وفي الأيام الأخيرة لم يكن يبصر مطلقًا، وهو نفسه كان يردد قائلًا: «لو كنتُ في ألمانيا، لما ألمَّ بي هذا الداء، لكن الأطباء قالوا إنه ذات يوم من الممكن أن تبصر عيني مرة أخرى من تلقاء نفسها». وبعد مرور مدة من الوقت نفدت أموالهما، وكانت الجالية الألمانية تساعدهما قليلًا، ولكن ذلك لم يكن يكفي لتدبير شؤونهما، وكانت زوجته تتقن أشغال الإبرة، فأدخلها أحد الضباط، الذي كان على معرفة بها في بهلوي، إلى بيوت الأعيان لتعلم بناتهم التوشية والحياكة والنسيج، وبهذه الطريقة تدبر حياتهما إلى حدٍ ما. وكان زوجها مسيو شولتس وحيدًا في أغلب الأحيان، وكان يجلس بجوار هذه النافذة، وإن كان الوقت صيفًا يجلس في صحن البيت، وينغمس في التفكير. والله أعلم فيم كان يفكر؟
كان قلبي يشفق عليه حتى ذلك اليوم الذي وقعت فيه هذه الحادثة. لقد أحببتُه مثل ابني، وفي النهاية تعلم أن هذا مرض صعب، أن يكون للمرء عينان، ثم ينطمس نورهما، ويجلس هنا تعيسًا يفكر من الفجر حتى الغروب، وأحيانًا عندما كان أحد يدخل الحجرة، ويتكلم معه، يكون مركزًا انتباهه في ذاته، ولا يدري. وبعد الظهر حينما يعود ابني آرداشس من المدرسة إلى البيت، كان يدخل حجرته، ويقرأ له الكتب. كان شولتس مولعًا بكتب دستويفسكي، وكان يشتري الكتب الألمانية المترجمة إلى الروسية، ويقرأها له آرداشس أو زوجته في بعض الأحيان، لكن نادرًا بالطبع. وكان يحب زوجته حبًا جمًا، وقد كانا زوجين طيبين أصلًا. فإنني أذكر مثلًا أن مسيو شولتس كان أشقر الشعر، وأحيانًا كانت تنسدل خصلة من شعره على جبينه أثناء تناول الغداء، وهو نفسه لا يرى، فتمد زوجته يدها على نحو لطيف، وترفع خصلته بأناملها عن جبينه، وفي هذه الحالة يلثم مسيو شولتس يد زوجته. أصلًا كانت عندما تنظر إلى زوجها، فكأنها ترغب في أن تغزوه بعينيها، بحيث يمكنه أن يشعر بهما على الرغم من ذهاب بصره. كان مسيو شولتس مغرمًا بزوجته، فمثلًا إنه لم يرض أن تجلس زوجته بجانبه دون جدوى، وفي أغلب الأحيان كان يلح على زوجته ألا تبقى في البيت عبثًا، اذهبي إلى السينما، اذهبي إلى المرقص، اذهبي، لا تجلسي هنا وحيدة، على الرغم من أنه كان غيورًا على زوجته كثيرًا، ويقلق عليها، فلو رجعت ذات ليلة إلى البيت متأخرة عن الساعة الثامنة دون خبر مسبق، يضطرب، ويتوتر، وفي كل لحظة يقود نفسه، متلمسًا الجدار، إلى صحن البيت، ويقف على الدرج، ويحدق في الظلام من دون أن يبصر شيئًا، ويرتجف في مكانه، ويسأل كل شخص يقابله: «ألم ترَ زوجتي؟»، ثم يوصل نفسه ثانيةً، متلمسًا الجدار، إلى غرفته، وهكذا حتى تعود زوجته. وفي بعض الأحيان كان يمكن أن تذهب مدام شولتس إلى السينما بصحبة ابني الأكبر آرشاوير أو آرداشس، لكن مدام شولتس لم تكن تريد أن ترتاد المراقص وحدها، وتقول: «لأنك لستَ معي، فلستُ مستعدة للذهاب إلى المرقص، ولا يعجبني الذهاب مع شخص آخر».
وفي ليلة عيد الميلاد المجيد عام 1931، تجمعنا معًا، واحتفلنا بالعيد على الطريقة الألمانية؛ زيَّنَّا شجرة الصنوبر، ووضعناها على طاولة صغيرة هنا حيثما وضعتَ الآن مكتبك. وأهديتُ لمسيو شولتس الترجمة الروسية لكتابٍ ألماني. واشترى كل منَّا هدية للآخر، ووضعنا هدية كل واحد على طاولة منفصلة. وغنينا، واحتسينا النبيذ، وفي نهاية الليلة نمنا مرهقين. وقبيل الفجر، أي حين كان الجو ما يزال معتمًا، ألفيتُ صوتًا ينبعث من غرفة مسيو شولتس، وإلى أن قمتُ من مكاني، وجدتُّ أن الضجيج تصاعد. كان مسيو شولتس ينادي: «كاتشا، كاتشا!» كاتشا اسم زوجته. فهرعتُ وجلةً صوب الردهة، فألفيتُ ابنيَّ ومدام شولتس في الردهة أيضًا. وعندما فتحتُ باب حجرتي، وجدتُّ مدام شولتس قد دخلت غرفة زوجها. حسبتُ أن مسيو شولتس قد تعرض لهجوم. فولجتُ إلى الحجرة خلف مدام شولتس. وعندما سمع مسيو شولتس صوتي، قال: «لقد استعدتُّ بصري الآن يا مدام، ورأيتُ نجوم السماء»، ثم سأل زوجته: «أين كنتِ؟»
لم أنتظر جواب مدام شولتس. خرجتُ من الغرفة، ووجدتُّ أن آرشاوير وآرداشس قد وقفا جنبًا إلى جنب بثياب النوم، وقد شحب لونهما، وكان آرداشس يُحدِّث أخيه الأكبر قائلًا:
«وماذا كانت تفعل في غرفتكَ إذن؟»
وهنا تنهدت مدام هاكوبيان، وقالت: «كل مصيبة تحل على الناس بسبب نسوة السوء».
ورددتُّ بكلمة واحدة فقط: «عجبًا!»
- لكن في اليوم التالي عاد مسيو شولتس كفيفًا، وحملوه إلى الطبيب الألماني بالسفارة. فقال: «نعم، لقد قلنا إنه لا خلل في بنية عينيه، لقد أصيب بمرض عصبي، ومن الممكن أن يعود له بصره ثانيةً في أحد الأيام، وسيعالجونه سريعًا في ألمانيا». لكن في ظهيرة ذاك اليوم عند الغداء خَيَّمت على بيتنا حالة غريبة. كان آرداشس منزعجًا، ولم يكن يتحدث مع أحد. ولم يأتِ آرشاوير لتناول الغداء متذرعًا بأنه قد أحضروا لي بعض الكتب الجديدة، وعليَّ أن أنجز تجليدها حتى العصر، وأرجعها إلى صاحبها. وكانت حالة مسيو شولتس سيئة، ولم يرد أن يتناول الغداء. لم تعد مدام شولتس تسوي خصل زوجها المنسابة على جبينه. ذات مرة فقط ناولته محرمة تنظيف الفم ليمسح فمه وشفتيه، بينما في وقت آخر كانت مدام شولتس تفعل هذا بنفسها. كنتُ أنا فقط، المسكينة، بلا ذنب. والأسوأ من كل هذا أننا، نحن الأمهات، نحسب أننا أقرب إلى أبنائنا من أي أحد، بينما الأمر ليس هكذا، فالأم تكون غريبة عن أبنائها أكثر من أي أحد. ويخبر الأبناء أصدقاءهم بألف شيء لا يخبرون أمهاتهم بواحد منها. ولم ينبس لي آرشاوير ولا آرداشس بكلمة واحدة عما شجر بينهما، انظر بربك، أي حال ينتاب المرء في هذه الحالة. وبعد ظهر ذلك اليوم، مهما ألححتُ على آرداشس، لم يكن يرغب في أن يقرأ كتابًا لمسيو شولتس مرة أخرى، وكان يقول: «ولماذا لم يحدث أن مكثت زوجته بجانبه لليلة واحدة، وتسليه؟». كان يقول الحق، خاصةً وأن القابلة ليست أحن من الوالدة. فلمدة عام تقريبًا لم يعد لمدام شولتس شأن بأمور زوجها. صحيح أنها كانت تدبر حياة زوجها، لكنها لم تعد تقوم بأي شيء. وأحيانًا كان يمكن أن ينام زوجها في فراشه ثلاثة أيام بسبب المرض، ويخرج من الغرفة بمشقة. ولم تكن زوجته تسهر من أجله حتى آخر الليل، ولا تُمسك بيده من أجل خروجه من الغرفة، ولكنها في أغلب الأوقات كانت تمكث ساعتين أو ثلاثة في غرفة ابني آرشاوير، وتتجاذب معه أطراف الحديث، وتشاهد عمله. وفجأة مَرِض آرشاوير وانتابته الحمى، وكانت مدام شولتس عنده على الدوام، تطعمه الحساء، وتنقله من مكان إلى آخر، وتعتني بغذائه، وفجأة تشاجرت معي بسبب أنني لا أشفق على ابني. فانزعجتُ، وقلتُ لها: «من فضلك لا تكوني القابلة الأحن من الوالدة»، ومع هذا لم أكن أجرؤ على أن أظن بهذه السيدة السوء، وإلا لم أكن لأدعها تقيم في المنزل.
ومنذ تلك الليلة لم يعد آرداشس يذهب إلى غرفة مسيو شولتس، لكن من ناحية أخرى لم يجر كلام يعكر الصفو بيننا وبين المرأة وزوجها. لكن تعلم أن جو بيتنا كان سيئًا ومحملًا بالأعاصير حسب قول الألمان أنفسهم، تفهم ماذا أريد أن أقول، ما من خطب كان في بيتنا، الجميع يتحدث بعضه مع بعض، وما من أحد كان يغضب من الآخر، لو أتى غريب إلى بيتنا، لما شعر بأي شيء مطلقًا. في النهار كنتُ أذهب بنفسي، وأنظف غرفة مسيو شولتس وأرتبها، وهو يجلس هنا غالبًا، لأن الجو كان باردًا، والمدفأة هنا (وأشارت المدام بيدها) لم يحدث أي تحول حسبما يبدو، لكن الجو كان محملًا بالأعاصير. وكنتُ أشعر بأنه سيحدث شيء، ويجب أن يهب الإعصار.
مضى أسبوع على ما حدث في تلك الليلة، حتى حلت ليلة رأس السنة. وتذكر أن ليلة رأس سنة 1932 كانت شديدة البرودة، وانتقلنا من الغرفة التي نتناول فيها الطعام معك نهارًا إلى هذه الغرفة، لأن هنا أصغر مساحةً وأكثر هدوءًا. وأقمتُ حفلًا كبيرًا على حسابي لكي أنقذ هذين الأخين وهذين الزوجين من الحالة التي ألمت بهم، وكان يصل ضررها إليَّ أنا بشكل أكثر. وطهوتُ أوزة للعشاء. أتعلم كيف يطهو الألمان الأوز؛ يضعون الأوزة في قدر معدني مع الزعتر وبدون زيت حتى تتحمر بدهنها هي. ومع أنهم يأكلون هذا الأوز في يوم عيد الميلاد المجيد، ولكن ما الفرق بالنسبة لنا. كان قصدي أن يوضع طعام طيب على الطاولة، وأعددتُّ نبيذًا جيدًا، واشتريتُ جعة ألمانية، وراعيتُ العادات الألمانية قدر الإمكان، فمثلًا كان متوفرًا البرتقال والنارنج والجوز والبندق والمشمش المجفف. وكان الولدان يرتديان ثيابًا سوداء، ومسيو شولتس هكذا أيضًا، وارتدت زوجته ثوبًا رائعًا أبيض اللون. في الحقيقة صارت تلك الليلة رائعة، واستعرتُ من ابن أختي أسطوانات جيدة للجرامافون، وأعددتُّ في البيت كافة وسائل المتعة واللهو، كل شيء، لكن تعلم ذلك الشيء الخاص بمجالس الأنس؛ القلب الصافي، القلب الخالي من الضغائن، لم يكن بوسعي أن ُأعدَّه. مهما فعلتُ لم يبتهج جمعنا. احتسينا النبيذ، وأنشدت مدام شولتس أغنية روسية رومانسية، وغنينا بشكل جماعي، وأدرنا الجرامافون. حتى مسيو شولتس ثمل قليلًا، وكنا نضحك كلنا. لكني أكرر كان طقس بيتنا محملًا بالأعاصير. كنتُ أشعر بهذا ذلك اليوم وتلك الليلة، لكن من دون علم، لو كنتُ أعلم لمنعته بطريقة ما. صارت الساعة التاسعة تقريبًا، وأنتَ كنتَ في أوروبا وتعلم أن الساعة التاسعة هي بداية الليل بالنسبة إلى أول ليلة في العام. لكن الجميع كان متعبًا.
سأل مسيو شولتس زوجته بغتة: «أتعبتِ يا كاتشا؟»
- لا، لم أتعب، لكن حسنًا ماذا أفعل؟
- قومي يا كاتشا، واذهبي للرقص، اذهبي إلى «إستوريا» أو «برلينيرهوف».
- ماذا تقول، أقوم وحدي وأذهب وماذا أفعل هناك؟
قال مسيو شولتس، وهو جالس على المقعد، من دون أن يبدو على وجهه أي أثر: «ومن قال إنك ستذهبين وحدك. إنني سألتمس من السيد آرشاوير أن يرافقك، يا سيد آرشاوير، إنك لن ترفض طلبي بالطبع».
فنهض آرداشس من مكانه مرة واحدة، وغادر الغرفة. لكن آرشاوير قال قبل أن تنبس «كاتشا» بكلمة: «بالطبع أنا مستعد إن كانت السيدة ترغب، بالطبع سأرافقها».
ومن دون أن ينتظر جواب مسيو شولتس أو زوجته، تجرع ثمالة كأسه، ونهض من مكانه، وقال: «سأذهب لأرتدي ملابسي».
وقامت كاتشا أيضًا كيفما اتفق، وطبعت قبلة على وجه زوجها، وارتدت معطفها الأسود، وغطت شعرها بشال، وانصرفت.
وبقيتُ أنا ومسيو شولتس وحدنا في الغرفة، فقلتُ: «مسيو شولتس، أتريد أن أقرأ لك قليلًا؟»
- على الرحب والسعة، لقد اشتريتُ هذا الكتاب لآرثر شنتسلر[4] مؤخرًا، وبه قصة بعنوان «زوجة عالِم»، فاقرأيها لي، لو سمحتِ.
وطفقتُ أقرأ، وفي منتصف القصة دخل آرداشس الحجرة، وجلس على المقعد. كانت الساعة العاشرة تقريبًا آنذاك. أومأتُ له بعيني ليقرأ له قليلًا، لكنه لم يكن يرغب في أن يقرأ. ولستُ أروي لك الآن ماذا كان موضوع هذه القصة من دون داعٍ، لأنها في رأيي ضرورية من أجل فهم الموضوع. فمسيو شولتس لم يشترِ هذا الكتاب مصادفةً، وأراد أن تُقرأ عليه هذه القصة في ذلك الوقت بالذات: أحد الأشخاص يرى عشيقته بعد سبع سنوات. وكانت هذه المرأة زوجة أستاذ في الجامعة، كان عالمًا، وقد سكن هذا الرجل في منزل ذلك الأستاذ، وكان تلميذه. وذات يوم قبل سبع سنوات أثناء ما كان هذا الرجل يطارح عشيقته الغرام، وبينما تمددت عشيقته، أي زوجة الأستاذ، أمام ساقيه، ودفنت رأسها بين فخذيه، فتح الأستاذ باب الحجرة، ولما رآهما على هذا الحال، أعاد غلق الباب بلطف، وعاد. ومن فرط خجل الرجل من أن معلمه وأستاذه قد رآه في هذا الوضع، حزم أمتعته على الفور، وغادر البيت. واليوم، بعد سبع سنوات، يريد أن يعرف ماذا حدث بعد تلك الواقعة. لكن لم يحدث شيء. لأن عشيقته لم تنتبه قط في تلك الحالة إلى أن الأستاذ رآها، ولم يطرح الأستاذ هذا الموضوع قط على زوجته خلال هذه السنوات السبع. لقد قرأتُ القصة حتى وصلت إلى هذه السطور: «إذن لم يتحدث مع زوجته في هذا الموضوع، ولا تدري هذه المرأة، ولم تكن تدري قط، أن زوجها قد رآها وهي متمددة أمام قدميَّ، لقد عاد يومها من عند الباب بلطف بحيث لا ينتبه أحد، و... فيما بعد، بعد ساعات، رجع إلى البيت ولم يتحدث معها قط». وحين وصلتُ إلى هنا، فجأة استشاط مسيو شولتس غضبًا، وقال:
- لا، هذا غير ممكن، كفى، لا تقرأي ثانيةً.
تعجبتُ، وقلتُ: «وما هو غير الممكن في رأيك؟»
- كيف يمكن أن يشاهد رجل ما عُهر زوجته سبع سنوات، ولا يواجهها بالأمر. لا تقرأي ثانيةً، ودعيني أرتاح.
وقد استغللتُ الفرصة، وقمتُ من مكاني. إذ أنه بدا لي أثناء القراءة أنني سمعتُ وقع أقدام أحد ما في البيت، فقلتُ لآرداشس: «ابقَ هنا، واقرأ بقية القصة أو قصة أخرى لمسيو شولتس إن شاء، حتى أُحضِّر بعضًا من مشروب الجروك».
ولا أدري بالضبط ماذا جرى ما بين آرداشس ومسيو شولتس، وفيم تحدثا، ولكني عرفتُ بقية الأحداث فيما بعد، ومن الواضح أنه عندما خرجت مدام شولتس وآرشاوير، تعقبهما آرداشس، ثم رأى أنهما لم يذهبا إلى المرقص أصلًا، وإنما سلكا طريق البيت مجددًا. فدخل إلى البيت أسرع منهما، وكان يراقبهما عبر باب صحن البيت المطل على الزقاق، ولما رأى أنهما عادا إلى البيت ثانيةً، اطمأن قلبه، وعندئذٍ أتى إلى الحجرة، وانتظر أن تأتي مدام شولتس وآرشاوير، لكنهما توجها إلى حجرة آرشاوير.
ثم وكأن آرداشس أخبر مسيو شولتس بأنهما في الغرفة. كنتُ في المطبخ أعد «الجروك»، والألمان يحبون هذا المشروب خاصةً في ليلة رأس السنة. يمزجون النبيذ الأحمر وقليلًا من الروم والسكر والقرفة والقرنفل، ويغلونه، ويشربونه. وكنتُ منهمكة حين وجدتُّ صوت مسيو شولتس قد ارتفع فجأة، واصطفقت الأبواب، وهرع إلى الخارج. دخل غرفته أولًا، لكن غير متلمسًا الجدار، لا، كان يركض. لم أكن أعلم بأي شيء. وفجأة تناهى إلى سمعي صوت مدوٍ. لقد أطلق شولتس ثلاث رصاصات متوالية في غرفة آرشاوير. وعندما دخلتُ إلى الغرفة، رأيتُ أن ابني ومدام شولتس قد انطرحا على الأرض.
كانت عينا مسيو شولتس مفتوحتين، ويبصر بهما، لكن فور ما وقعت عينه عليَّ، حتى وضع يديه على عينيه لئلا يرى هذا الوضع.
*
وفي المساء عندما أردتُّ أن أخرج إلى أصدقائي، ألقيتُ نظرة على الحجرة، كانت هناك باقتا الزهور اليابستان إياهما. وجاء صديقي وسأل هل تمَّ أمر الغرفة، وهل تحدثتُ مع صاحبة المنزل بشأنها أم لا؟ قلتُ: «ما من غرفة شاغرة في بيتنا، ثمة غرفة شاغرة، لكن صاحبة البيت لا تؤجرها».
[1] هي الأيام التي تحل فيها ذكرى مقتل أئمة آل البيت.
[2] مدينة تقع في محافظة مازندران شمالي إيران، وتطل على بحر قزوين.
[3] اسمها حاليًا "بندر أنزلي"، وتقع في محافظة گيلان، وهي ميناء إيران الرئيسي على بحر قزوين.
[4] روائي وكاتب مسرحي نمساوي (1862 – 1931).