اقتباسات من كتاب العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح
للويس عوض
الاقتباسات من اختيار: أمير زكي
"وابتسم حسن مفتاح بين خواطره المحمومة حين ذكر الفتى سعيدا وألاعيبه الكثيرة، ولكنه تجهم حين ذكر موسى أفندي ضابط المدرسة الشديد الوطنية الذي كان يدعو الغلمان ذوي الوحوه الجميلة إلى منزله فإن أبوا ترصد لهم وأرهقهم بالعيش الحاف. وذكر أن فؤاد منقريوس أمسك مرة بخناق موسى أفندي لأن موسى أفندي داعب خده، ولكن غطاس كابتن الكرة تدخل في الأمر وأبعده وهدّأ ثائرته. ترى أين موسى أفندي الآن؟ لقد مات فؤاد منقريوس هذا الصباح وهو بعد في الثامنة والعشرين، وبقى له جماله بعد موته رغم الشحوب الأخضر العجيب الذي انتشر في محياه، وعجب حسن مفتاح لنفسه كيف لم تنفطر أسى على فؤاد منقريوس وهو أقدم الخلان وأشدهم وفاء. أهو بارد النفس؟ أهو شاذ التركيب؟ إنه لا يزال يركل طوب الشارع بقدمه كلما وجد في الشارع طوبة. لعل صباه في مدرسة المنيا الثانوية قد تجدد فرد إليه بعض خصاله الصبيانية الأولى. إنه يفكر في حاجته إلى شيء من الجيلاتي، وفي الاجتماع السياسي الصاخب الذي قرر فيه أن يحلق شاربه أو يطلق لحيته، وفي الاجتماع السياسي الصاخب الذي ينتظره في المساء، وفي لون الهواء السنجابي الذي اكتنف التمثال السنجابي واكتنف الرسوم المنقوشة على البازلت عند قدمي سعد زغلول، وفي بعض نظريات فؤاد منقريوس. ترى أين نظريات فؤاد منقريوس الآن؟ أين سطور الجبرتي التي كان فؤاد منقريوس يحفظها عن ظهر قلب ويتلوها على أصدقائه ليسليهم بسذاجة تعبيرها. لقد كان فؤاد منقريوس يقول دائما أن الاغتيال السياسي مقياس وطنية الأمم المستعبدة، وكان حسن مفتاح يعجب له كيف اهتدى إلى هذه الفكرة فجأة وهما يمصان القصب على كورنيش النيل بعد خروجهما من الحصة السادسة في مدرسة المنيا الثانوية. ولكن فؤاد منقريوس ثبت على رأيه دائما، وكان أيام الطلب في الجامعة يقول جادا إن من دواعي حزنه أنه لم يدرك ثورة 1919، ويقول هازلا أنه سيموت مشنوقا لاغتيال رئيس الوزارة، أي رئيس وزارة، لأن رؤساء الوزارات يبيعون البلاد للإنجليز. ولكن فؤاد منقريوس لم يمت مشنوقا كما كان يتمنى بل مات منتحرا. ترى أين نظريات فؤاد منقريوس الآن؟ لقد كان فؤاد منقريوس يمجد موسى أفندي رغم ما كان بينهما، لأن موسى أفندي كان يحض الطلبة على الإضراب. وحين اتسعت مدارك فؤاد منقريوس كان لا يذكر زلات موسى أفندي إلا بالدعابة ويعلق ضاحكا: (كلنا رهبان في دير المحرق)".
***
"وحين دقت ساعة الجامعة تذكر حسن مفتاح ما كان ينبغي أن يحدث لفؤاد منقريوس وتخيل الكنيسة وأجراسها وصور القديسين والقساوسة والمباخر والصلبان والناس وقوفا ثم قعودا وألغاز اللغة المجهولة التي يتغنى بها الشمامسة العمي والعور فأحس بالراحة لأن فؤاد منقريوس سوف يعفى من كل هذه العلانية. ثم أي أمل بقى لفؤاد منقريوس، وماذا يملك القساوسة لإنقاذ روحه؟ إن فؤاد منقريوس قد فقد الإيمان منذ سنوات حين دخل الكنيسة مصادفة يوم أحد الزعف ليشبع بصره بجمال المصليات وهن يخطرن إلى باب الحريم أو يتفحصن المصلين بعيون براقة من وراء المشربيات الخشبية ذات الخروق الكثيرة. فسمع الكاهن يقول إن من صور النعيم التي سيحظى بها الأبرار في الجنة مرأى العذاب الذي يتعذبه الخطاة في الجحيم، فخرج ساخطا قبل تمام المراسم، وفي اليوم التالي أذاع بين أصدفائه أنه كفر لأسباب أخلاقية".
***
"... تذكر كيف المراهق فؤاد منقريوس اهتدى يومها إلى نظرية سياسية كبرى تضمن لمصر وحدة دائمة أساسها أن يدخل الأقباط جميعا في دين الإسلام فوجا واحدا فيحلوا بذلك مشكلة الأقلية وكان يقول إن المسلمين لو نزلوا عن رأيهم في صلب المسيح، نزل الأقباط عن رأيهم في رسالة محمد. وظل يروّج لهذه النظرية بين زملائه من طلبة كلية الآداب حتى فقد عطف الأكثرين من الجانبين".
***
وبلغ إيزافتش، وجلس في ركن من أركانه ذات الضياء، واستهلك شيئا من الجيلاتي ساغ له طعمه، وأحس لأول مرة بمقدمات الجوع ولكنه لم يكترث وأجال نظره في أركان المكان فرأى نفرا من الإنكليز المجندين والمجندات، ورأى من الرواد الدائمين أنور وجدي وهو محام شاب من شرباص يقرض الشعر تزوج من أرملة تملك مائة فدان عليها ديون قليلة، وتولى هو إدارتها ولكنه كان يعرض قضاياه على الشعراء ويعرض شعره على المحامين فضاعت الأفدنة المائة وبقى مغمورا في دنيا الناظمين. كذلك رأى محمود أبو سحلى وهو مهندس مبتدئ أحب عذراء من عذارى الجيرة حبا لا نظير له، ثم دعاه صديقان من أصدقائه إلى سهرة حمراء في دار أحدهما، فلما دخل الدار وجد عذراءه عارية في السرير تشرب الويسكي بلا حساب فأودت الصدمة بعقله، وجافى الناس جميعا واستغرق في ذهول مقيم. ورأى الفتى الوسيم عصمت وهو صحفي ثانوي القيمة يتفجر الذكاء من عينيه وتتفجر الحيوية من أعضائه عشقته زوجة لواء في الجيش تجاوزت الخمسين فعلمته كل موبقة يتخيلها الخيال الشرقي حتى أصابه روماتزم القلب وهو بعد في العشرين".
***
نعم، لا بد أن في الأمر شيئا. أو لعل عايدة علم قد سئمت كل هذا التستر واعتزمت أن تتحدى التقاليد. ولو قد حدث ذلك لتمت في قلب حسن مفتاح الثورة الكبرى، واندفع إلى حبها اندفاع المجنون، فما حال بينه وبين ذلك إلا شكه في صلابتها. وهو ليس في حاجة إلى شريكة في الحياة رخوة النفس تتهيب من ظلها، فهو مكافح لا يحب إلا المكافحين، وهو مشرد يواجه المشاكل في صبحه والمساء، فكيف يأنس إلى إنسان قد يثبط عزمه أو يكدس عيه أثقال الحياة. وقد كان حسن مفتاح يعلم أنه لو تورط في حب عايدة علم لخرج زمامه من يده، ولجاز أن تفتت طبيعتها الرخوة طبيعته الصلبة، وهو مقدم على نضال العمالقة، فلسوف يهرب من الميدان أو ينحط تماما إن هو تزوجها. وقد كانت عايدة علم في نظره نموذجا أليما للتوسط المرذول كما كانت في نظره نموذجا جميلا للتوسط المحبوب، فهي نموذج في الإنسانية كما هي في الواقع بكل ما فيها من قوة وضعف: هي جميلة ولكن بمقدار، سمرتها من الفلاحين وعيناها الضيقتان من الترك القدامى. ولم يكن لأسنانها نظير في الوادي، ولكن بقية ملامحها كانت مألوفة يرى حسن مفتاح نسخا تشابهها في كل مكان، وخاصة أمام مدارس البنات الكبار في ساعات الانصرار وأمام دور السينما وفي مجتمع الممرضات بالقصر العيني، وهو يؤثر الجمال الوحشي الذي لا يتكرر كثيرا.
ولكن حسن مفتاح كان راضيا بنصيبه مكتفيا به، فقد كان يعلم أن مقامه بين الرجال لا يزيد عن مقام عايدة علم بين النساء: فهو قصير أو أقرب إلى القصر، وهو نحيل ما في ذلك شك وهو خشن الملامح فأسنانه بها بروز قليل وعيناه الحادتان متعبتان بلا انقطاع رغم ما يخرج منهما من بريق نفاذ، ولا يزينه إلا شعر ناعم مرسل جميل بلون الزيتون الأسود، وصوت صاف مرسل جميل ورثهما عن جدة له كردية. وقد كان على كل حال مرغما على الاكتفاء بها بحكم قانون العرض والطلب".
***
"... كان الصاغ ممدوح الشربيني معذبا لأن عمله يجشمه ما لا يتحمله ضميره، فقد صدر إليه الأمر في الصباح بالقبض على الممول ألبير روزنشتاين والطبيبة سميرة خلوصي والميكانيكي زعيتر في قهوة وستمنستر، ويقسم أمام النيابة حانثا بأنهم كانوا يحملون منشورا يحض الناس على قلب نظام الحكم، وهو يعلم أن هذا المنشور من فبركة القلم السياسي. لقد فعل كل ذلك لا خوفا من رئيسه الجديد ولكن معالي وزير الداخلية قد وعده برياسة البعثة المنتدبة إلى الحجاز لتنظيم قلم المخابرات السرية على غرار القلم السياسي المصري، وقد بدا في حديثه القليل المنتقي أنه يعلق الشيء بالشيء. لقد فعل ممدوح الشربيني كل ذلك وهو الرجل المسلم الصادق الإسلام، المسلم الذي قاوم إغراء إستر منشة رغم حاجتها إليها، وإن كان قد استعاض عنها بالحشيش لأن الحشيش لم يرد في كلام السماء ما يحرمه. ثم إن الحشيش لم يكن يكلفه شيئا لأنه كان يتسرب إليه وإلى زملائه مما تصادره الحكومة. وقد كان وازعه الأوحد عن منكرات الحياة وهي جميلة إيمانه بالله وبالرسول. إنه يقبل أن يتجسس على الوطنيين والأحرار فهذا جزء من عمله. إنه يقبل أن يزعج الناس بزياراته في الهزيع الثالث من الليل، فيدخل مخادع النساء وهن نصف عرايا ويمزق بالسونكي المراتب والوسائد كلما أمر بالتفتيش فهذا جزء من عمله. إنه يقبل أن يكتب التقارير المزيفة وهو يعلم أنها مزيفة فهذا جزء من عمله. إنه يقبل أن يزور في الانتخابات وأن يختطف الناخبين الموالين لأعداء الحكومة ويقصيهم في السجون أو نائي البقاع حتى يتم الانتخاب أو يحرمهم تذاكرهم الانتخابية أو يعذب المشاكسين منهم أو يوزع الرشى بين العالم، فهذا كله جزء من عمله. إنه يقبل أن يشتري ضمائر الطلبة في الجامعات وفي غير الجامعات ليتجسسوا على زملائهم ويفسد الجيل بعد الجيل. كل هذا يقبل الصاغ ممدوح الشربيني أن يفعله لقاء اثنين وثلاثين جنيها في الشهر وتاج نحاسي على منكبيه. أما أن يطلب إليه أن يحلف زورا فهذا ما يضطرب له ضميره".
***
"لقد شكا الصاغ ممدوح الشربيني إلى حسن مفتاح ضآلة مرتبه، كما شكا له عمله المرهق. ولكن غيظه الأكبر كان من اليوزباشي حسان الذي كلفه سعادة المدير بتدبير المظاهرة العدائية في طنطا يوم زيارة النحاس باشا لهذه المدينة، فقد تقاضى اليوزباشي حسان عنها من الأموال السرية ألف جنيه عدّا ونقدا، وقد كان في مقدوره هو أن يديرها بمائتين، إن الهتّافين لم يزيدوا عن العشرين وأجرهم معروف، فهو جنيهان عن كل رأس، وإن المتظاهرين لم يزيدوا عن خمسمائة، وأجرهم معروف، فهو عشرون قرشا عن كل رأس، فالمجموع الكلي إذن مائة وأربعون جنيها تضاف إليه ستون أخرى للمواصلات وللأعلام وللمنشورات وغير ذلك من المصروفات النثرية، فالعملية كلها لا تزيد بحال عن مائتي جنيه. ولكن قوائم اليوزباشي حسان كانت كالآتي: 43×5 جنيهات حاصلها 215 جنيها + 1120 متظاهرا × 50 قرشا حاصلها 560 جنيها + 83 جنيها و74 قرشا عن المواصلات (السكة الحديدية ولوريات وتاكسيهات) + 18 جنيها و40 قرشا للمطبوعات (رقاع دعوة ومنشورات) + 50 جنيها هي تعويض لأهل الشهيد عبد العزيز محمد الذي قتله المشاغبون من أنصار الوفد (لما كان الشهيد المذكور من أبناء الشعب الحقيقيين فهو بغير عنوان) + 10 جنيهات، نفقات الجناز (أما ثمن الكفن فقد دفعه اليوزباشي من ماله الخاص صدقة على روح الفقيد) فيكون المجموع الكلي بذلك 937 جنيها و14 قرشا بالتمام والكمال تقاضاها اليوزباشي حسان لقاء مظاهرة لم تكلفه أكثر من مائتي جنيها. أهكذا تبعثر أموال الشعب يا أستاذ مفتاح؟ إن لدافع الضرائب حقوقا يا أستاذ مفتاح. إن البلاد سائرة إلى الخراب يا أستاذ مفتاح".
***
"... من قال أن (عايدة علم) من ذوات النفوس الكبار، ومن قال إنها تحبه هذا الحب العاصف المدمر؟ إنها سوف تسقط في منتصف الطريق. وهل نسى حسن مفتاح أيام المعتقل؟ لقد قضى فيه قرابة سنة منها ثلاثة أشهر متنقلا بين تخشيبة المحافظة وسجون الأقسام وسجن الأجانب دون تهمة واضحة، ثم أقصي أخيرا إلى معتقل المنيا بحجة خطره على الأمن العام في سنوات الحرب. إن عايدة علم لم تزره مرة واحدة. كذلك لم يزره شركاؤه في العمل أو أتباعه الأقربون، وهو يفهم امتناعهم بل ويحضهم عليه حضا فمن زاره إذن؟ زارته ندى، خادمته القديمة، أو على الأصح خادمة أسرته، زارته بانتظام مرة كل أسبوع ولم تتخلف أسبوعا واحدا، وحملت إليه الطعام كل يوم أو أرسلته إليه من مالها الخاص لتعفيه من طعام السجون، وأرسلت إليه السجائر من مالها الخاص كذلك. إن عايدة علم أقل شجاعة من ندى. لكم حزن حسن مفتاح لهذا التخلي. ولكن غضب. ولكنه كان يجد الراحة دائما في الموازنة بين أخلاق البرجوازية وأخلاق البروليتاريا فيكف عن ملامة عايدة علم ويزداد إيمانا بمعدن الطبقة العاملة. وحين أفرج عنه بعد اعتقاله الأخير، من دفع كفالته؟ إن عايدة علم لم تدفع كفالته، كذلك لم يدفع كفالته إبراهيم نور الدين أو صفوان أو الجيار أو قلادة أو نعيم، فأكثرهم كان مشتتا في الأرض ويكابد الحرمان. وإنما دفعت كفالته البنت ندى. باعت سوارها الوحيد الذي تجمع فيه عرق خمس سنوات من الخدمة المضنية، باعته بخمسة عشر جنيها. ولما أعيتها الحيلة باعت نفسها للسكارى الجنود البريطانيين لتتم الثلاثين وتشتري حرية حسن مفتاح. باعت نفسها مرة في ميدان الملكة فريدة تحت ساعة البريد، ومرة في شارع فؤاد أمام الأمريكين الجديد، ومرة على ناصية شارع الملك فاروق بجوار بائع اللبن العجوز. فأين عايدة علم من كل هذا؟"
***
"أما سعدية الطويل فقد كتمت هواها لبطرس قلادة وسحقت قلبها وبصقت عليه لأن بطرس قلادة مثالي لا يؤمن بالمادية الديالكتية، أو يؤمن بها نظريا ولا يطبقها عمليا: فهو لم يتحرر بعد من قيود الدين فيشهر إسلامه ويتزوج منها. أما بطرس قلادة فقد كانت له وجهة نظر أخرى: فهو لا يؤمن بالمسيحية ولكنه يؤمن بالمسيح، وهو يقول إن الرأي العام لا يخيفه ولكنه لا يملك أن ينزل عن تراث لا اختيار له فيه، فكما أن عينيه خضراوان وأذنيه كبيرتان فهو مسيحي أورثوذوكسي كذلك، وإذا كان أسلافه قد احترقوا في الزيت المغلي ودخلوا جبوب الأسود ليستمسكوا بتقاليدهم عشرين قرنا من الزمان فهو لا يتحمل تبعة التخلي عنها، وهو مسئول أمام الخلف عما تركه السلف. ولو رضيت سعدية الطويل أن تعبر إليه هذا الجسر الصوري لازدراها لأن في التنقل ذبذبة إلا إذا توفر الاقتناع، ومن تحول عن دينه من أجل الحب كمن تحول عن دينه من أجل المال، ومهما قيل إن الشكليات لا أهمية لها، فالإنسان عنده لا يموت في سبيل الماديات وحدها وإنما يموت في سبيل الشكليات كذلك كالشرف. إذن يؤمن بالمادية الديالكتية ويطبقها، وسعدية الطويل تؤمن بالمادية الميكانيكية وتطبقها وهما لا يلتقيان، والحل عند بطرس قلادة أن يحتفظ كل طرف بشكلياته وأن يتحديا معا أوضاع المجتمع وأن يتزوجا بغير عقد إلا كلمة الشرف، وأن يحرجا الدولة إحراجا بأولاد لا دين لهم حتى يؤسس الزواج المدني في البلاد. فإن أبت سعدية الطويل أن تفعل ذلك كتم بطرس قلادة هواه لها وسحق قلبه وبصق عليه، وعاش عزبا بقية حياته. وقد فعلا ذلك جميعا. وهما يعيشان الآن بغير قلب".
***
"وأبصر من النافذة بصيصا من النور لم يحسن إخفاؤه في جملة نوافذ بالعمارة الشاهقة المقابلة المبنية بالطوب الأحمر، فطارت خواطره إلى ما يحدث بين جدرانها. منتصف الليل، البورجوازية الكبيرة، الزمالك، الهرم، المعادي. في سررها يقبّل نصفها النصف الآخر. البورجوازية المتوسطة (هليوبوليس، العباسية، الدقي) لا شك قد فرغت من التقبيل. البورجوازية الصغيرة (شبرا، السيدة، الجيزة) كانت تحب أن تسهر في الخارج ولكنها لا تملك ثمن السهر في الخارج فتعزي نفسها بمكارم الأخلاق وتبدأ التقبيل في العاشرة. مواعيد منتظمة يؤثر فيها التوقيت الشتوي والتوقيت الصيفي لأن البورجوازية بكافية درجاتها تتقيد بالساعة في كل ما تعمل. أما البروليتاريا (بولاق، باب الشعرية، المعصرة) فتتناسل في التاسعة لأنها تستيقظ في باكورة الصباح. ولم يبق إلا الأرستقراطية (جاردن سيتي) وهي لا تبدأ الحب إن بدأته إلا بعد الثانية صباحا في الشتاء والرابعة صباحا في الصيف. وهكذا بوّب حسن مفتاح المجتمع المصري تبويبا جنسيا، ولكنه لم يكن يعلم أن نافذة من النوافذ المنيرة كانت لخياطة روسية طغى عليها العمل، وأن نافذة أخرى كانت لسيد عجوز أعزب يطبع على الآلة الكاتبة حساب شركة من شركات السينما، وأن النافذة الثالثة كانت لمعلم في الليسيه فرنسية يصحح إنشاء تلاميذه. ثم عدل حسن مفتاح عن أفكاره. فقد رأى تقديره مبالغ فيه، فالبورجوازية لا تمارس الحب ولا تعرف كيف تمارسه، لأن البورجوازية تشتغل بجمع المال وتحصي في السرير خسائرها بدلا من أن تحصي القبلات، وتخصص للحب ليلة واحدة من كل أسبوع ينبغي ألا تتجاوزها هي ليلة الجمعة، ولأن البورجوازية جيلان، فالجيل القديم مهدم يجد سبيله إلى الحب ولا يقوى عليه والجيل الجديد يقوى على الحب ولا يجد سبيله إليه".
***
"والوضع السياسي كما نجده اليوم أساسه أن الملك يخصي الوزراء والوزراء يخصون أعضاء البرلمان وأعضاء البرلمان يخصون الشعب بدورهم. والذي ينبغي أن ندعو إليه عكس هذا النظام، أن يخصي الشعب أعضاء البرلمان وأن يخصي أعضاء البرلمان الوزراء وأن يخصي الوزراء الملك بدورهم. نعم، هذا ما ينبغي أن ندعو إليه، وهو أحدث تعريف للديمقراطية وأضمن طريق لتحقيقها، فيه وحده تعود إلى الأمة سلطاتها. والإخصاء لا مفر منه، فليعلم كل مواطن أنه إما خاصٍ أو مخصي. بلغة الواقع مفكرونا كانوا كلهم مجددين وكلهم كرهوا الرجعية فلما تم إخصاؤهم سكت كرامهم ومجد الرجعية لئامهم".
One Reply to “العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح – لويس عوض – اقتباسات”