الرقص مع الموت: الحياة تحت وطأة الطاعون في فلورنسا
مقال: إرين ماجلاكي*
نُشر في لندن ريفيو أوف بوكس
فبراير 2020
ترجمة: محمد العربي
*إرين ماجلاكي: مؤرخة بجامعة شيفيلد بإنجلترا
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
في ذلك الخريف البارد الذي حل عام 1629، جاء الطاعون إلى إيطاليا. لقد وصل مع المرتزقة الألمان (وحشراتهم) الذين زحفوا على أرياف بيدمونت. عاث الوباء في الشمال بسرعة، ولم يبطئ إلا عندما وصل للحاجز الطبيعي الذي تشكله جبال الأبينيني. على الجانب الآخر من الجبال، التفت فلورنسا حول ذاتها. لقد أخذ موظفو (السانيتا Sanità) مجلس الصحة بالمدينة في مراسلة مدن ميلان وفيرونا والبندقية، آملين أن تؤدي معرفة أساليب العدوى لحماية مدينتهم. جاءت التقارير من بارما قائلة إن سكان المدينة تدهورت بهم الأمور إلى حد أنهم أصبحوا يغارون من الموتى وعلمت السانيتا أن المسؤولين في بولونيا منعوا الناس من الحديث عن الطاعون، خشية من أن يستدعي التفوه باسم المرض الهلاك. ساد الاعتقاد أن الوباء ينتشر عبر الهواء الفاسد، أو من خلال أنفاس المرضـى، أو في المواد الناعمة مثل الخشب والملابس؛ لذا منعت السانيتا في يونيو 1630 تدفق التجارة إلى فلورنسا، وفرضت حاجزًا صحيًا عبر معابر جبال الأبينيني. إلا أنهم سرعان ما اكتشفوا أن تلك الحواجز ليست عصية على الاختراق، هو الأمر المقلق. فقد كان الفلاحون يختلسون غفلة الحراس الضجرين وهم يلعبون بالأوراق. حل القيظ، ومعه سقط بائع دجاج بقرية تريسبيانو صريعًا، وأوشكت فلورانس على الاقتراب من شفير الكارثة.
في أغسطس، كان الفلورنسيون يتساقطون موتى. أمر كبير المطارنة بدق أجراس الكنائس، وتدفق الرجال والنساء عليها، وخروا سجدًا يرجون العون الإلهي. في سبتمبر، دفن ستمائة شخص في حفر خارج أسوار المدينة. وفيما تصاعد الخوف، سرت الإشاعات؛ عن «المساحين الأشرار» الذين ينشرون العدوى في أجران المناولة المقدسة؛ وعن طبيب صقلي دس السم لمرضاه في دجاج متعفن. وفي أكتوبر، ناهز عدد قبور الضحايا أكثر من ألف. وفتحت السانيتا مراكز الحجر الصحي «الأزاريطة» lazaretti للمرضـى والمحتضرين، وصادرت العشرات من الأديرة والمنازل الفخمة المتناثرة على تلال فلورنسا. وفي نوفمبر، دفنت المدينة 2100 من قتلى الطاعون. لقد بدا أن الحجر العام هو الحل الوحيد الجائحة. في يناير 1631، أمرت السانيتا معظم المواطنين أن يغلقوا عليهم أبوابهم لمدة أربعين يومًا، وإلا تعرضوا لخطر الغرامات والحبس.
في مذكراته عن الطاعون في فلورنسا، يصف جيوفاني بالدينوتشـي كم الحزن الذي اعتراه وهو يرى شوارع المدينة وكنائسها خاوية، لا يرتادها أحد. بينما حل الصمت على المدينة، منعت كل أشكال التواصل الحميم بين الناس. انتهزت الفتاتان المراهقتان، ماريا وكاميلا، فرصة غياب أمهما في مستشفى الحجر كي ترقصا مع أصدقائهما الذين يعيشون معهم في نفس المبنى. وعندما اكتشف أمرهما، سيق والدا الأصدقاء إلى السجن. وفي المحاكمة، ألقت الأم، مارجريتا، باللوم على الفتاتين: «أيتها الخائنتان، ما الذي فعلتماه بنا» ووجدت أختان أخريان في تعذيب أخيهما الأصغر تسلية ومهربًا من الملل. وبعد أن ألقى القبض عليهما، بعد أن رآهما رجال شرطة السانيتا عند عبورهما بالباب المفتوح، شرحت إحداهما الأمر قائلة: «حتـى يمضـي الوقت، أمرنا أخانا أن يرتدي قناعًا، وأخذنا في الرقص حوله والسخرية منه، حتـى مر الكوربورال.. ورأى ما كان يجري في البيت». لقد كان الرقص وارتداء الملابس الساخرة أفعالاً شائنة وتنتهك إجراءات السانيتا التـى تسعى للسيطرة على حركة الناس والتواصل بينهم، وتعد عليهم أنفاسهم، إلا أن الوحدة فتكت بالناس.
أدرك الناس العاديون، والأطباء والمسؤولون بالمدينة، أن المرض ينتشر من خلال «بذور العدوى»، إلا أن أهالي فلورنسا خالفوا الحجر بطرق شتى بعضها تافه وبعضها خطير. لم تجد «مونا بيتا دي أنطونيو» أن الطاعون سببًا كافيًا لمنعها من تعديل ملابس ابنها الذي كان تحت الحجر في الطابق السفلي، فقامت بتركيب بكرة سحب:
«في ذاك الصباح، طلب مني ابني أن أصلح له سرواله، فأدليت بسلة للأسفل حتـى يتمكن من وضع السروال فيه، فهو لا يستطيع الصعود للأعلى فهو محبوس وتحت الحجر في غرف المنزل السفلية. هنالك ظهر رجل من السانيتا ورأى السلة متدلية، فاقتادني إلى السجن».
وفي الأربعاء الماضـي، شهد أنطونيو دي فرانشيسكو ترابليسي، بأنه:
«فيما كان يسير تجاه بورتا ألا كروتشيه، وعندما اقتربت من بوابة منزل الأرملة مونا ماريا، التـي كانت حبيسة في منزلها بأمر السانيتا، وجدتها تنادي علي وسألتني عن أحوالي، قلت لها إني بخير، وفيما كنا نتحدث جاء رجال الشرطة، واقتادوني إلى السجن».
من وجهة نظر السانيتا، كان الفقراء عاجزين دستوريًّا عن التصرف بمقتضـى المصالح العليا للمدينة. عند تعقبه للحالات المبكرة في محاولة لفهم أسباب الوباء، ألقى فرانسيسكو روندنيللي، أحد مؤرخي الطاعون المعاصرين، باللوم على الفقراء من أهل فلورنسا، الذين لم يكفوا بأنانية عن زيارة أسرهم وأصدقائهم على الرغم من انتشار العدوى. روى روندنيللي قصة زوجة الخباز التـي ذهبت لتمريض ابنتها في تريسبيانو، لكنها عادت مريضة، ونشرت الوباء بين أفراد أسرتها، فتوفي سبعة منهم. وكذلك ذهبت زوجة أحد البنائين لتمريض أختها المريضة. وعندما توفيت الأخت، أخذت المرأة قميصها الذي كانت ترتديه أختها عند وفاتها واعطته لابنتها. «كانت تكلفة هذا الحب غالية»؛ فقد توفيت ابنتها وزوجها. في كلتا الحالتين، كانت هاتان المرأتان تقومان على رعاية أسرتيهما، وتحاولان تدوير أكبر قدر من الملابس المطلوبة؛ بالنسبة لروندنيللي، كان الإهمال والأنانية هما سبب انتشار الطاعون خلال المدينة.
لا شك أن الفقراء في بعض الأحيان كانوا يفضلون علاقاتهم مع الأصدقاء والأطفال والأقارب والجيران على «الخير العام». إلا أن الأثرياء لم يتصرفوا بطريقة مختلفة. لقد سمح لباندولفو ساكي رسام البلاط الشهير بأن يسافر لفيلا ميديتشـي كي يتحصل على نصيبه من رسم جداريات الفريسكو في معرض المدينة. وسمحت السانيتا للثنائي فيرجينيا بالدوفينتـي ولورنزو فريسكوبالدي بأن يعقدا مراسم الزواج في كنيسة سان لورنزو. وبدلًا من إجبارهم على دفن أقاربهم في المقابر الجماعية خارج أسوار المدينة، كان من حق «الناس المتحضرين» أن يدفنوهم في مقابر العائلات في الأبرشية (طالما أنهم مدفونون على عمق كبير وتحت طبقة من الجير الحي). وعندما توفيت زوجة مستشار السانيتا بسبب الطاعون، دفنت في الكنيسة. أما الخدم، ففرض عليهم الحجر الصحي.
لم يحكم على الفقراء فقط لكونهم مستهترين، بل لأنهم أيضًا مذنبون جسديًّا؛ فأجسادهم عرضة للمرض. شهدت العقود الأولى من القرن السابع عشر في أوروبا انتشار المجاعات والارتفاع الهائل في أسعار الغلال وتدهور الأجور والتفكك السياسـي والصراعات الدينية العنيفة (كانت هذه هي الأزمة العامة للقرن السابع عشر التـي يفضل المؤرخون الرجال مناقشتها). أبلغ أحد موظفي الإدارة بفلورنسا، والذي كان يقوم بمسح الريف المحيط بالمدينة، أنه قبل حلول الوباء، كانت القرى «مكتظة بالناس، الذين كانوا يقتاتون على توت الآس والجذور وجوز البلوط، أما الذين تقع عليهم أعيننا، فكانوا يسيرون كجثث هائمة في الطرقات». لم يكن الوضع في المدينة أفضل حالًا. لاحظ أحد كتاب اليوميات في فلورنسا في العام 1630 وجود الكثير من الأطفال الفقراء الذين يأكلون سيقان الكرنب التـي يعثرون عليها في شوارع المدينة، كما لو كانت فاكهة، بسبب الجوع». وزاد من حدة المجاعة التدهور الحاد في أسعار النسيج بالمدينة؛ حيث أن المنتجين في إنجلترا وهولندا وإسبانيا خفضوا الأسعار، فقل عدد ورش الصوف إلى النصف في الفترة ما بين 1569 و1626. تركت هذه السنوات الطويلة العجاف، من البطالة والجوع، الفلورنسيين عرضة للوباء القادم.
إلى جانب الفقراء، جرى الاعتقاد أن الجماعات المهمشة الأخرى، هي أيضًا «أميل إلى العفانة». فاليهود، الذين شاع الخوف منهم بسبب «الرائحة الفظيعة التـي كانت تصدر من أجسادهم» حبسوا داخل الجيتو. كذلك استهدف السانيتا العاهرات، فقد شاع أن الحرارة الـتـي تولدها المضاجعة تفسد الجسد وتجعله أكثر عرضة للعدوى. بالنسبة لهن، كان الجنس بمثابة اتصال حميم وعمل في الوقت نفسه ومن الصعب التخلي عنه. ألقي القبض علي جيليا دي فيليبو وعاهرة أخرى من قبل السانيتا، وحكم عليها بالتجريس، بأن ركبت حمارًا بالعكس، ووضعت على رقبتها علامة تصف جرمها. كذلك، وقع العقاب على العاهرات بسبب علاقات الصداقة العادية. ألقي القبض على لوكرتزيا فرانسيسكو بيانكي لقيامها بزيارة صديقتها ماريا، زوجة خياط الحي: دافعت لوكرتزيا عن نفسها في المحكمة قائلة: «لم أشأ أن أبقى في البيت وحيدة، وذهبت لزيارة بيت زوجة الخياط، فهي صديقتي، واعتقدت أن هذا الزيارة ليست جناية، حتـى وجدت نفسـي في المحكمة». ولاحظ كاتب المحكمة أن لوكرتزيا وماريا أعدتا للزيارة بأن نادت إحداهما على الأخرى من نوافذ منزليهما.
من وجهة نظر حكام المدينة، كان الفقراء ضحايا وجناة في الوقت نفسه؛ فبينما هم بلا حماية في مواجهة العدوى، إلا أنهم يسيرون ويتنفسون ويرقصون حاملين للوباء. بينما كان حبيسًا في منزله خلال الحجر، ترجم أنطونيو ريجي، الذي كان مستشارًا للسانيتا حول الوباء، هذا التناقض بشكل مجازي. كتب ريجي مقالًا شبه فيه الجسد السياسـي بجسد الفرد المريض. يمثل النبلاء الأعضاء القوية في هذا الجسد، إنهم مثل العقل والقلب الذين يمتلكان القوة الكافية لمجابهة المرض.؛ أما الفقراء، فهم الأعضاء الأقل في هذا الجسد، والتي تجذب وتحدث الأمراض. «فبمجرد أن جاء المرض إلى المدينة، استقبله هؤلاء واحتفظوا به ثم أطلقوه في جوانبها كما لو كان غددًا». في رأي ريجي، لم يدخل الطاعون من خارج أسوار فلورنسا، بل إنه استوطن وتراكم في أجساد الفقراء.
قالت سوزان سونتاج إن خطورة هذا المجاز الشائع، «القائم على فكرة المرض الاجتماعي»، تكمن في كونها تعطي السلطة الحق في التخلص من الأعضاء المريضة. إلا أن الغدد، [التـي تحدث عنها ريجي] لا يمكن بترها بسهولة، وكذلك الفقراء: ففي القرن السابع عشر، لم يكن بمقدور الحكومات أن تمحي كل السكان، حتـى لو كانوا حاملين للعدوى. لـذا كان هدف السانيتا الأساسـي، هو تخليص المدينة من الطاعون، لكن في الوقت نفسه، كان على السكان أن يمضوا في حياتهم. لذا تم الحجر على الطاعون إلا أنه استمر في التحرك بين الشوارع، فجرى احتواؤه وانتشر في الوقت نفسه، وجاور الأصحاء المرضى، وجاور الأحياء المحتضرين. لم يكن المجاز ولا الحجر كاملين.
أُوقفت الحياة العادية خلال الوباء. لم يعد بمقدور الأخويات والجمعيات التـي تجمع الناس العاديين من أجل أعمال الإحسان والتعارف، أن تعقد اجتماعاتها. منع إلقاء المواعظ العامة. وأغلقت مدارس المدينة. وكذلك الحانات والنُزُل، وصالات المقامرة ومحال الحلاقين، كما منعت ألعاب الكرة. تذكر روندنللي أنه بدون احتفالات كرنفالية، «لم تقم أية مباريات لكرة القدم، ولم يعد يسير أحد وهو يرتدي الأقنعة، ولم تقدم أية مسرحيات كوميدية ولا أية عروض، أو فاعليات مرحة.. وبالتالي خلال الصيف لم يقم سباق الباليو Palio [سباق الخيل الذي كان يقام مرتين سنويًّا] والذي كان يتطلب بالضرورة وجود حشد كبير». كذلك أقفلت ورش العمل. كسر سيموني دي بييرو شيوتي الحجر عندما عاد إلى ورشة الطباعة الخاصة به عندما توفي ثلاثة من أبنائه ووضع الرابع في «الأزاريطة» (وفقًا لشهادة قس الأبرشية الذين دفن الأبناء الثلاثة أمام محكمة السانيتا، فقد اتضح أن الأبناء المتوفين لم يقضوا بسبب الطاعون، لكن «رائحتهم فاحت» في إشارة إلى البلايا العادية التـي حلت على أهالي فلورنسا. قبل أن يأتي الطاعون) ليس من الصعب تخيل أن شيوتي عاد إلى عمله كي يهرب من الأسـى الذي يسكن بيته. كذلك أقفلت الكنائس وحظرت القداسات بها. وقف القساوسة في الشوارع كي يسمعوا اعترافات رعايا الكنيسة من خلال الأبواب والنوافذ، وهم يغطون أفواههم بأقمشة مغموسة في الشمع لمنع «بذور المرض» من الانتقال. لقد نصبت مذابح متنقلة في أركان الشوارع كي يسمع القداس مرة واحدة. في صباح كل أحد، كان القسيس يقرع الجرس ويهيب بالناس الملازمين لبيوتهم بأن القداس على وشك البدء. شهد روندنيللي:
«من سمع مدينة بأكملها وهي تصلي في الوقت نفسه معًا.. كان من غير الممكن للمرء أن يحبس دموعه وهو يرى تلك الرأفة والرقة.. وكان أجمل شيء هو الفقراء وهم يرون الأنوار من كل نافذة؛ فيما تتردد أصوات الثناء على أم الإله في كل مكان؛ كان هذا مصداقًا للمثل القائل إن الفقراء يحافظون على شيئين أفضل من الأغنياء: وهما العدل والإيمان».
وجد روندنيللي المشهد مغايرًا لما ألفه من حرية في الشارع. لكن كيف كان الشعور به من وراء الأبواب المغلقة؟ كان الوباء يعنـي أن الحياة أصبحت منقطعة بسبب الحواجز: حوائط البيوت، الأقمشة المشمعة بين الشخص العادي والقس، ومناقير أقنعة أطباء الطاعون ذات الطابع الأخروي، الذين كانوا يحقنون المرضـى بالدواء.
نظمت السانيتا وصول الطعام، والنبيذ، وخشب التدفئة لمنازل الخاضعين للحجر الصحي (وعددهم 390452). حصل كل محجور عليه على مخصصات يومية شملت رغيفين من الخبز وحوالي نصف لتر من النبيذ. وفي كل يومي أحد واثنين وخميس، كان يحصل على اللحم. وفي يوم الثلاثاء، كان يصرف لهم السجق المٌبَهَر بالفلفل والشمر والروزماري. وفي أيام الأربعاء والجمعة والسبت، كان يتم توصيل الأرز والجبن لهم؛ وفي الجمعة، كانت تقدم سلاطة من الأعشاب الحلوة والمرة. أنفقت السانيتا مبالغ هائلة على الطعام، إذ اعتقدوا أن النظام الغذائي للفقراء كان سببًا رئيسًا في جعلهم عرضة للعدوى، بيد أن هذا لم يكن موضع اتفاق الجميع. سجل روندنيللي أن بعض أعضاء النخبة الفلورنسية كانوا قلقين من أن الحجر «سيمنح الفقراء الفرصة كي يكونوا كسالى وفاقدين للرغبة في العمل، مع حصولهم على كل احتياجاتهم بكثرة».
كان أيضًا توفير الدواء مكلفًا للغاية. في كل صباح، كان القابعون في الأزاريطة يحصلون على وصفات علاجية مخلطة، ومشروبات كحولية ممزوجة بلآلئ مطحونة وعقارب مسحوقة ومشروبات منبهة من الليمون المر. أوكلت السانيتا بعض المهام للجمعيات الأخوية بالمدينة. قامت أخوية «سان ميكلي كبير الملائكة» بمسح سكاني للتعرف على المصادر الممكنة للعدوى. وعملت أخوية «ميزيركورديا الكبرى» بنقل المرضى في توابيت معطرة من خشب الصفصاف من منازلهم إلى الأزاريطة. لكن في أغلب الأحيان، تحملت حكومة المدينة التكاليف. يفسر المؤرخون هذا الإنفاق الهائل على الصحة العامة كدليل على خيرية الدولة: إذا كانت مقالات مثل تلك التي كتبها ريجي تطفح بالتحيز ضد الفقراء، فإن الدفاتر المحاسبية للسانيتا تخبرنا برواية معتادة عن حسن نوايا الدولة.
إلا أن السانيتا، التـي كانت تستغل قوة الشرطة والمحاكم والسجون، كانت تعاقب أيضًا من يخرقون الحجر. فقد استمعت محكمة السانيتا إلى 566 حالة بين سبتمبر 1630 ويوليو 1631، حيث تعرض معظم الجناة، أي 60٪ منهم، للاعتقال والسجن ثم أطلق سراحهم بدون غرامات. وتعرض أكثر من 11٪ للسجن والغرامة. ومن ناحية، نجا معظم الجناة من العقوبات الأشد قسوة والتي تمثلت في العقاب الجسدي أو النفي. من ناحية أخرى، كان السجن في وسط وباء الطاعون خطرًا ممكنًا وقاتلًا؛ كما أن الغرامات التـي فرضت على المخالفين للحجر قد ساهمت في الموازنة المخصصة للإنفاق على النظام الصحي العام. يشير إنفاق السانيتا السخي إلى الشفقة في مواجهة الفقر والمعاناة. لكن هل يعد هذا نوعًا من الرأفة، إذا كان الإنفاق على الوجبات يتم جزئيًا من خلال الناس المقصودة مساعدتهم؟ ربما كانت نوايا السانيتا حسنة، إلا أنها تشكلت من خلال تصور لا يتزعزع عن الفقراء باعتبارهم كسالى وعاجزين عن التفكير وانتهازيين يستغلون حالة الطوارئ.
اعتاد المؤرخون المحدثون المبكرون على الاهتمام بفكرة أن العالم «قد انقلب رأسًا على عقب»: في لحظات الانقلاب تلك يتحول فيها الكرنفال إلى حفل تتويج ملك من الفقراء، تلك اللحظات التـي تتحرر فيها ضغوط المجتمع الذي يعاني من عدم المساواة بعمق. إلا أن ما يبدو من تشابك القصص التـي يرويها كتاب جون هندرسون هو ذلك الشعور الذي أحس به الكثيرون بأن العالم قد توقف عن الدوران خلال فترة الوباء. انحسر المرض في بداية صيف 1631، وفي يونيو، أخذ الفلورنسيون يظهرون في الشوارع ويشاركون في موكب جسد المسيح، كي يشكروا الله على رفع البلاء عنهم. وعندما انقضـى الوباء نهائيًّا، كان 12٪ من أهل فلورنسا قد قضوا نحبهم. كان هذا معدل وفاة منخفض بشكل كبير مقارنة ببقية المدن الإيطالية: حيث وصلت نسبة الوفيات في البندقية إلى 33٪ من البنادقة، وفي ميلان 46٪، وفي فيرونا 61٪. هل كان المرض أقل شراسة في فلورنسا عن غيرها، أم أن إجراءات السانيتا قد أفلحت في الحد منه؟ تخبرنا النسب عن الأحياء والأموات، إلا أنها لا تقول الكثير عن البقاء. كان الفلورنسيون على وعي بهذه المخاطر، لكنهم قامروا بحياتهم على أية حال: بدافع من الملل أو الرغبة أو العادة أو الأسـى. كي نعلم عن معنـى البقاء، ربما علينا أن نتأمل ما قامت به كاميلا وماريا، الأختان المراهقتان اللتان أخذتا في الرقص خلال عام الطاعون.