لا يتوقف تعريف الحنين الإنساني على "السعي نحو" بل يشمل معناه أيضًا "الهروب من". وإن استخدمنا الكلمة بالمعنى الديني، فالتعريف الثاني فقط هو ما يصفها أدق توصيف. لأن في هذه الحالة لا يعرف المرء على وجه الدقة إلام يشتاق، لكنه يدرك في أعماق أعماقه ما يرغب في الابتعاد عنه

المسيح الأخير

مقال لبيتر فيسل زابفه

ترجمة: محمود حمروش

عن ترجمة: جيسل تانجينس للإنجليزية


بيتر فيسل زابفه، عن ويكيبيديا

بيتر فيسل زابفه (18 ديسمبر 1899-12 أكتوبر 1990) هو فيلسوف وكاتب مسرحي نرويجي. يعتبر زابفه امتدادًا فلسفيًا لفيلسوف التشاؤم الألماني آرثر شوبنهاور، ناهيك عن كونه من أبرز رموز التنظير الفلسفي للاإنجابية. كتب بيتر زابفه مقالة "المسيح الأخير" ("Den sidste Messias ") سنة 1933 وتعتبر الأفكار المطروحة فيه هي حجر الزاوية التي على أساسها طورت وصيغت أفكار كتابه الأهم (والذي لم يترجم إلى الإنجليزية بعد) "عن المأساوي" ("Om det tragiske"). يناقش زابفه في هذه المقالة فكرة التناقض البيولوجي الذي تنطوي عليه حياة الإنسان وأن ربما قدره المحتوم في أن يعذب بين رحى القلق والاكتئاب ليست إلا ضريبة وعيه الزائد عن الحد، وهو ما يحاول الإنسان دائمًا الهروب منه عبر وسائل دفاعية أطلق عليها زابفه في مقالته "ميكانيزمات الكبت الاجتماعي" وهي العزلة، الترسيخ، الإلهاء، التسامي. بفضل هذه الميكانيزمات، حسب زابفه، استطاع الانسان أن يبقى على هذه الأرض رغم ما يمليه عليه وعيه الزائد عن الحد من الانسحاق تحت نير الكآبة والرعب الوجودي... ربما يحتاج الإنسان إلى المسيح الأخير الذي سيوجهه إلى سبيل الخلاص النهائي والمنطقي الوحيد لكسر حلقة الوجود المفرغة.   

المترجم


في ليلة سحيقة غابرة، استيقظ الإنسان ورأى نفسه.

حينها عرف أنه يقبع عاريًا وحيدًا في الكون، بلا مأوى حتى داخل جسده. كل الأشياء تذوب أمام فكره المتسائل، وانهال على عقله انشداه فوقه انشداه ورعب فوقه رعب.

ثم استيقظت المرأة أيضًا وقالت إنه قد آن الأوان له أن يذهب لكي يذبح فريسة. فقفل يحضر سهمه وقوسه، أي ثمرة تزاوج الروح واليد، وخرج تحت النجوم. لكن ما إن وصلت الوحوش الضواري لعيون الآبار كما توقع أن يجدهم، حتى تلاشت غضبة النمر في دمه، وشعر مكانها بشعور عارم بالأخوة في المعاناة بين كل شيء حي.

في ذاك اليوم لم يعد إلى جحره بفريسة، وعندما عثروا عليه في الليلة التالية تحت الهلال، كان راقدًا ميتًا أمام البئر.

II

ماذا حدث؟ مَزْق في وحدة الحياة نفسها، تناقض بيولوجي، أمر شنيع، عبثي، مغالاة تدميرية الطابع. لقد تجاوزت الحياة هدفها، تفجرت إربًا ممزقة في الأرجاء. لقد تم تدجيج نوع من الأنواع الحية بالسلاح بشكل مفرط- مما جعله كلي القوة، وجعله أيضًا يشكل خطرًا على نفسه. كان سلاحه كسيف بلا مقبض أو غمد، نصل ذي حدين في كل شيء؛ على من يتقلده أن يمسك بالنصل ملء يده ويوجه حده ناحية نفسه.

على الرغم من عينيه الجديدتين، يظل الإنسان كائنًا متجذرًا في المادة التي نسجت روحه وأخضعتها لقوانينها العمياء. لكنه يستطيع النظر إلى المادة كغريب، يقارن بين نفسه وبين ظواهر الكون، يخترق بنظره حجاب الجهالة ويستكنه أسرار عملياته البيولوجية. يأتي إلى الطبيعة كضيف غير مرغوب فيه، يرفع يديه بلا طائل ليستجدي رضاء خالقه: لا تنبس الطبيعة ببنت شفة، لقد حققت معجزتها بخلق الإنسان، وبعد ذلك أنكرت معرفتها به. فقد الإنسان حقه في الإقامة في هذا العالم، بعد أن أكل من شجرة المعرفة وطرد من الجنة. قوي هو في هذه الحياة الدنيا، لكنه يلعن هذه القوة التي كان ثمنها سلامه الروحي، براءته وسلامه الداخلي في كنف الحياة.

ها هو يقف وحده مع رؤياه، مشدوه وخائف، بعد أن خانه العالم. عرف الحيوان الخوف أيضًا، عاشها تحت قصف العواصف الرعدية وحد مخلب الأسد. لكن الإنسان يخشى الحياة نفسها-أو قل وجوده نفسه. الحياة- وهبت للحيوان لكي يشعر بأثر القوة، فعرفها على هيئة الحرارة واللهو والكفاح والجوع، ثم يخر صريعًا في النهاية أمام القانون الثابت اللا مفر منه. معاناة الحيوان مغلقة على نفسها، أما في حالة الإنسان، فهي أم الخوف من العالم والقنوط من الحياة. حتى حين يسبح الطفل في بحيرة الحياة، لا تني زمجرات شلال الموت تعلو وتعلو فوق الوادي، وتقترب أكثر، حتى تمزق وتخترق غشاء السعادة الواهي. ينظر الإنسان إلى الأرض وهي تأخذ نفسًا عميقًا ملء صدرها؛ كلما زفرت، انسابت من مسامها الحياة وانطلقت تناطح الشمس، لكن حين تشهق، تمر أنة التمزق عبر الجموع، وتهبط الجثث على الأرض كضربات السياط على الظهر العاري. لم يعد بمقدوره النظر إلى ضوء النهار، أقحمت المقابر نفسها أمام ناظريه، وانهال عليه رثاء الدهور الغابرة  كالعويل من أجساد متحللة شنيعة، وانقلبت الأرض وكشفت عن دمامتها. انزاح ستار المستقبل ليكشف عن كابوس من التكرار اللانهائي، عن إهدار جنوني للمادة العضوية. عذابات بلايين من البشر تجد طريقها إليه بمرورها عبر بوابة التعاطف، ومن كل ما يحدث حوله تخرج ضحكة مدوية تسخر من المطالبة بالعدالة وأعمق مبادئه الحاكمة. يرى نفسه يخرج من رحم أمه، يرفع يديه للسماء ويجد فيهما خمسة أفرع؛ من أين أتى رقم خمسة الشيطاني هذا، وما علاقته بروحي؟ لم يعد الإنسان أمرًا بديهيًا أمام نفسه- يتحسس جسده برعب مطلق؛ هذا أنت وتلك حدودك ولن تصل إلى أبعد من هذا. يحمل طعامًا داخله، بالأمس كان حيوانًا يقبل ويدبر هنا وهناك، الآن أنا أزدرده وأجعله جزءًا مني، أما أنا، من أين أبدأ وإلى أين أنتهي؟ كل الأشياء متلاحمة بعضها ببعض في سلسلة من الأسباب والنتائج، وكل شيء يحاول الإمساك به يتلاشى تحت مشرط عقله المتسائل. بعد ذلك يبدأ في رؤية الآلية في كل شيء، حتى في أعز الأشياء وأقربها إلى قلبه، في ابتسامة محبوبه-هنا ابتسامات أخرى أيضًا، كحذاء مثقوب. أخيرًا، يدرك أن سمات الأشياء ليست إلا سماته هو. لا يوجد شيء من غيره، كل خط يشير إليه، ما العالم إلا صدى شبحي لصوته-يقفز صارخًا ملء عقيرته إلى الهاوية رغبةً في أن يتفتت إربًا على الأرض هو وما في أمعائه من وجبة نجسة، يشعر باقتراب الجنون المعلق فوق رأسه يأخذه كل مأخذ ويرغب في ملاقاة المنية قبل أن يفقد هذه القدرة مرة وإلى الأبد.

لكن بينما يقف أمام الموت الوشيك، يسبر  الإنسان غور طبيعته ومغزاه الكوني. يبني خياله المبدع آفاق جديدة مرعبة وراء ستار الموت، ويرى بأم عينيه أن ما من ملاذ ينتظره في الضفة الأخرى. والآن يستطيع أن يحدد شروط وجوده البيولوجي الكوني: هو أسير عاجز لهذا الكون، مبقي عليه فقط ليسقط في احتمالات بلا اسم ولا رسم.

منذ تلك اللحظة، يسقط في نوبة هلع لا هوادة فيها.

مثل هذا "الشعور بالهلع الكوني" يعد تجربة محورية لكل عقل بشري. بالتأكيد، العنصر البشري محتم عليه أن يهلك بقدر ما يتم استبعاد كل وسيلة فعالة للمحافظة على استمرار الحياة حين تتحمل وتعتمد كل خلجة من خلجات تركيز الفرد وطاقته على التوتر العارم القابع داخل نفسه.

مأساة نوع حي في أن يصبح غير صالح للحياة بسبب تطوره المفرط في تطوره لا تقتصر فقط على بني الإنسان. على سبيل المثال، يرجح أن  أحد غزلان العصور الحفرية قد استئصلت شأفته بسبب اكتسابه قرونًا مفرطة الثقل. من هنا يجب النظر إلى الطفرة كعملية عمياء، أمر يحدث هكذا، ضرب عشواء، دون أي علاقة تربطها بمصلحة البيئة التي تنشأ فيها.

في الحالات الاكتئابية، يكون العقل مثل تلك القرون، حيث يرزح حاملها مسحوقًا في الأرض تحت نير ثقل قدراته الخارقة.

III

لماذا إذن لم تنقرض البشرية أثناء جوائح الجنون هذه؟ لماذا يهلك فقط عدد صغير جدًا من الأفراد الذين لم يعد بمقدورهم تحمل وطأة العيش- لأن المعرفة تحملهم ما لا طاقة لهم به؟

إن تاريخ الثقافة، وتأملنا في ذواتنا وفي الآخرين، يعطونا الإجابة التالية: يتعلم السواد الأعظم من الناس الحفاظ على أنفسهم عن طريق الحد الصناعي من محتوى الوعي.

إن كان في مقدور الغزال السالف ذكره كسر حواف قرونه العليا، لقُدِّر له البقاء لفترة أطول من الدهر. وهو مع ذلك يظل محمومًا في ألم دائم، بلا شك، بسبب خيانته لفكرة وجوده المركزية، للركن الركين لتميزه بين الخلائق، لأنه قد ختمت عليه يد الخلق أن يكون حاملًا لقرون الحيوانات المفترسة. ما حصل عليه بالبقاء، فقده في المغزى، في الازدهار في الحياة، بعبارة أخرى، لقد اكتسب بقاء بلا أمل، مسيرة لا تتجه صوب التأكيد الإيجابي، بل تسير إلى الأمام تجاه أطلالها المعاد إنتاجها، عنصر مدمر لذاته في مواجهة إرادة الدم المقدسة.

يتماثل الغزال الضخم مع الإنسان في هويتي الغاية والهلاك، أي في تناقض الحياة المأساوي. لقد حمل الأيل الأيرلندي وسام سلالته حتى اللحظة الأخيرة، في إخلاص لمبدأ التأكيد الإيجابي. بدوره، يحافظ الإنسان على نفسه ويواصل حياته. يقوم الإنسان، ودعونا هنا نكرر ما سلف ذكره، بكبت واعٍ لفائض وعيه السلبي. تنشط هذه العملية أكثر ما تنشط بشكل مستمر حين نكون مستيقظين وفي أثناء كدحنا في هذه الحياة، وهي تعتبر مطلب أساس للتكيف الاجتماعي ولكل الأشياء التي تمت إلى الحياة الصحية والطبيعية بصلة.

عماد الطب النفسي وأساسه هو افتراض تماثل كل ما هو "صحي" وقابل للحياة بما هو إيجابي على الصعيد الشخصي. الاكتئاب، "الخوف من الحياة"، رفض التغذية إلخ دائمًا ينظر لهم كعلامات لحالة مرضية تستدعي العلاج. لكن في أحيان كثيرة مثل هكذا ظاهرة تكون كالرسائل المرسلة من إحساس أعمق ومباشر للحياة، الثمرة المرة لعبقرية فكر أو إحساس متجذرين في الميول المعادية للبيولوجيا. لا يتعلق الأمر بمرض في الروح، بل فشل في حمايتها، أو رفض لها لأنها تعاش دائمًا داخل الفرد كخيانة لكل ما تنطوي عليه الأنا من احتمالات عليا.

كل ما يلوح أمام أعيننا من حياة البشر اليوم متشابك كليةً بوسائل كبت اجتماعية وفردية؛ يمكن إرجاعها إلى أكثر صيغ الحياة اليومية ابتذالًا. على الرغم من اتخاذها أشكالًا واسعة ومتعددة، يمكننا تحديد أربعة أنواع منها لا تني تتمظهر بشكل طبيعي في أي معادلة حياة: العزلة، الترسيخ، الإلهاء، التسامي.

بـ "العزلة" نعني التجاهل التام والاعتباطي من قبل الوعي لكل الأفكار والمشاعر المدمرة والمثيرة للقلق. (إنجستروم: "ينبغي على المرء ألا يفكر، فالأمر مربك"). مثال ممتاز وصارخ على هذا نجده في الأطباء الذين، لأغراض ترتبط بالحماية الشخصية، ينظرون فقط إلى الجانب التقني في مهنتهم. من الممكن أيضًا أن تتحلل إلى طور من أطوار الشغب، كما هو منتشر بين حثالة المجرمين وطلبة الطب، حيث يتم القضاء على أي حساسية تجاه الجانب المأساوي للحياة عبر وسائل عنيفة (كلعب كرة القدم برؤوس الأموات إلخ).

تتمظهر العزلة في جميع تفاعلات الحياة اليومية على هيئة شفرة عامة من الصمت المتبادل: تجاه الأطفال بالمقام الأول، حتى لا ترتعد فرائصهم رعبًا من الحياة التي بدأوها للتو ويحافظون على أوهامهم لتكون لهم المقدرة على خسارتهم فيما بعد. في المقابل، لا ينبغي على الأطفال أن يقوموا بتذكير البالغين بأفكار غير ملائمة عن الجنس، قضاء الحاجة أو الموت. أما بين البالغين، فتسود بينهم قاعدة "الكياسة"، وهي وسيلة تستخدم بشكل واضح حين تنحي الشرطة رجل يجهش بالبكاء في الشارع.

أما ميكانيزم الترسيخ، فله أيضًا فوائده للفرد منذ الطفولة المبكرة؛ يصبح الوالدين، المنزل والشارع أمورًا بديهية ومتوقعة للطفل، تمده بإحساس الأمان. يعتبر هذا المحيط الحماية الأولى، وربما الأكثر سعادة، من الكون التي نحصل عليها في حياتنا قاطبة، وهي بلا شك،  حقيقة تشرح لنا موضوع "الترابط الطفولي" التي أثارت الكثير من النقاش وسودت إثرها الكثير من الصفحات؛ لا يهمنا في هذا الباب بعدها الجنسي. حين يدرك الطفل بعد حين أن تلك النقاط الارتكازية لا تقل "اعتباطًا" أو "زوالًا" عن غيرها من الأشياء، عندئذ يقع في أزمة من الارتباك والقلق مما يحدوه للبحث عن مصدر ترسيخ آخر. "في الخريف، سأحضر المدرسة الإعدادية". إن باءت محاولة التبديل بالفشل، حينها تأخذ الأزمة منحىً أكثر خطورة، أو يطرأ ما أسميه نوبة ترسيخ: حيث يعاني المرء من الإفلاس الروحي ويتمسك بالقيم القديمة، خافيًا بقدر الإمكان عن نفسه وعن الآخرين أنها قيم ميتة لا تسدي نفعًا. وينتج عن ذلك إحساس دائم بعدم الأمان، "إحساس بالدونية"، الإفراط في التعويض النفسي والأرق. وبقدر ما تؤطر هذه الحالة في قوالب محددة، فإنها تخضع لمقاربة تحليلية نفسية، التي تهدف بدورها إلى إكمال الانتقال إلى ترسيخ جديد.

من الممكن النظر إلى الترسيخ على أنه نقطة ارتكاز داخلية لمادة الوعي السائلة أو تشييد للسدود حولها، . وإن كانت في أغلب الأحيان لا واعية، إلا أنه يمكن تبنيها بشكل واع أيضًا (أن يكرس المرء "هدفًا" لنفسه على سبيل المثال). وتقابل الترسيخات المفيدة للجماعة بالحفاوة والتقدير، فمن يضحي بنفسه كليةً في سبيل مصدر ترسيخه (كالشركة، القضية) تتم أيقنته. يشيد الفرد حصنًا منيعًا يحميه من تحلل الحياة، وبالتبعية يستفيد الآخرون منه. وفي صورها الأكثر وحشية نجدها بين زيور النساء "المنحلين" على هيئة فعل عمدي ("على المرء أن يتزوج في الوقت المناسب، ثم ستأتي القيود من نفسها"). هكذا يؤسس المرء لحياته حاجة ضرورية، مما يعرضه إلى شر لا مراء فيه من وجهة النظر الشخصية، خلا إجراء مرهمة لأعصابه ودفن، داخل صهريج عالي الحيطان، حساسية تجاه الحياة قد أصبحت خامة بشكل متزايد. وقد قدم لنا إبسن في شخصيتي يالمر إكدال ومولفيك[1] مثالان صارخان على ما نقول ("الأكاذيب الحية")؛ فلا ثمة فرق بين ترسيخاتهم وتلك التي تقوم عليها أعمدة المجتمع سوى عدم الجدوى العملية-الاقتصادية للأولى.

 كل ثقافة هي منظومة ترسيخ هائلة، ترتكز دعائمها على قواعد مؤسسة، أي الأفكار الثقافية الأساسية. يدبر الشخص العادي حياته على تلك القواعد الجماعية، تبنى عليها شخصيته، وعادة ما ينتهي من عملية البناء تلك الفرد ذو الشخصية القوية باعتماده، بطريقة أو بأخرى، على القواعد الأساسية الجماعية المتوارثة (الله، الكنيسة، الدولة، الأخلاق، القدر، قانون الحياة، الشعب، المستقبل). وكلما اقترب عنصر حامل من تلك القواعد الأساسية، أصبح خطيرًا المساس به. بالتبعية تتم حمايته بشكل مباشر عن طريق سيف القانون الجنائي وقانون العقوبات وتهديد الملاحقة القضائية المرفوع دائمًا فوق الرؤوس (محاكم التفتيش، الرقابة والمصادرة، المقاربة المحافظة للحياة).

وتعتمد قدرة تحمل تلك العناصر على: إما عدم افتضاح أمر طبيعتهم الخيالية للعيان بعد، أو أن ينظر لهم كأشياء ضرورية أي كان. لذلك يتم الإبقاء على التعليم الديني في المدارس، حتى من قبل الملحدين لجهلهم بأي وسيلة أخرى يمكن من خلالها تشكيل الحاسة الاجتماعية للأطفال.

ما أن يكتشف الناس زيف ولا جدوى تلك العناصر، يهرولون لاستبدالهم بعناصر جديدة ("محدودية بقاء الحقائق")- وحين يلوح في الأفق الكفاح الروحي والثقافي والمنافسة الاقتصادية، يشكل كل هذا محتوى الحياة المتغير.

لا يرتبط اشتهاء السلع المادية (السلطة) إلى لذة الثروة المباشرة، فالمرء لا يمكنه أن يجلس على أكثر من كرسي واحد أو أن يأكل أكثر مما تحتمله تخمته. بل تستمد ثروة الحياة قيمتها بما توفره لحاملها من فرص لا تعد ولا تحصى من الترسيخ والإلهاء.

ما إن يطرأ كسر في إحدى عناصر الترسيخ الجماعي أو الفردي، تولد بالتبعية أزمة كلما كان العنصر قريبًا من القواعد الأساسية. في داخل الدوائر الداخلية، محوطة بالأسوار الخارجية، تتمظهر دائمًا مثل هذه لأزمات في صورة أحداث خالية من الألم ("خيبة الأمل")؛ هنا تأتي مظاهر اللهو بقيم الترسيخ (الحذاقة، الرطانة، الكحول). لكن أثناء هذا اللهو يمكن للمرء من دون قصد أن يحدث مزقًا في القاع، مما يغير المشهد توًا من مشهد بهيج إلى مشهد جنائزي. تحدق رهبة الوجود إلى أعيننا، وفي تدفق مميت ندرك كيف تتدلى العقول وتتداعى من فرط دورانها حول نفسها، وأن جحيمًا يترصدنا من الأسفل.

من النادر أن تتغير القواعد الأساسية من دون هزات اجتماعية هائلة وخطر وقوع بنيتها في تداعٍ تام (الإصلاح، الثورة). في تلك الفترات يكون مصدر الترسيخات هو ذوات الأفراد، وهو ما يزيد عدد المحاولات الفاشلة. مما يؤدي إلى الاكتئاب، الشطط والانتحار (الضباط الألمان بعد الحرب، الطلبة الصينيون بعد الثورة).

عيب آخر من عيوب النظام يكمن في أن جبهات خطر عديدة تتطلب عادة قواعد رسوخ مختلفة جدًا. حين يتم بناء بنية فوقية منطقية، طبقة فوق طبقة، يتبع ذلك صدام أنماط من المشاعر والأفكار غير قابلة للقياس. هنا ينسل اليأس بين الشقوق. في مثل هذه الحالات، قد يكون المرء مهووسًا بالسعادة المدمرة، فيزيح البناء الصناعي الممسك بزمام حياته بالكامل ليبدأ بانتشاء مرعب تدميرها عن بكرة أبيها. ينبع الرعب من خسارة كل قيمة حامية، من نشوة التماهي القاسي والتناغم مع أعمق أسرار طبيعتنا، من اللاسلامة البيولوجية ونزعة الهلاك المستمرة.

نحن نحب الترسيخات لأنها تنقذنا، لكن أيضًا نكرهها  لحدها من إحساسنا بالحرية. كلما شعرنا بالقوة الكافية، نجد لذة في الذهاب معًا لدفن قيمة عفى عليها الزمن. هنا تكتسب الأشياء المادية أهمية رمزية (المقاربة الجذرية للحياة).

حين يقوم المرء بالقضاء على ما هو ظاهر له من ترسيخاته، تبقى فقط تلك الترسيخات القابعة في لاوعيه، عندئذ يعتبر نفسه شخصية متحررة.

من أنماط الحماية الذائعة الصيت هو الإلهاء. يحدد المرء انتباهه للأمور الحساسة عن طريق إبهاره بالانطباعات. هذا أمر نمطي حتى في الطفولة؛ فبدون الإلهاء لن يطيق الطفل أي شيء حتى نفسه "ما يتوجب علي فعله يا أمي؟". دخلت طفلة إنجليزية تزور عمتها النرويجية المريضة إلى غرفتها وقالت متسائلة "ماذا سيحدث الآن؟" فترد عليها الممرضات ببراعة: "انظري، هاك كلب! انظري، أنهم يقومون بطلاء القصر! الظاهرة معروفة ولا تتطلب أي توضيح أكثر من هذا". يعتبر الإلهاء، على سبيل المثال، طريقة المجتمع "الراقي" في الحياة. من الممكن تشبيهه بآلة طائرة- مصنوعة من مواد ثقيلة، لكنها تجسد مبدأ يجعلها تطير ما أن يتم تطبيقه. يجب عليها أن تكون في حركة دائمة، لأن قدرة الهواء على حملها فترة طويلة أهون من بيت العنكبوت. من الممكن أن يشعر قبطانها بالنعاس أو الراحة من باب التعود، لكن الأزمة تكون حادة ما أن يطرأ عطب في الآلة.

أحيانًا يكون هذا التكتيك واعيًا بشكل كامل. من الممكن أن ينسل اليأس من الأسفل ويدخل مدرارًا بشكل مفاجئ. حين تنفذ كل الوسائل الإلهائية وتذروها الرياح، تعلن الكآبة عن نفسها، تتراوح صورها من اللااكتراث الخفيف إلى الاكتئاب المميت. تلجأ النساء إلى الإلهاء، لعدم ميلهن إلى الإدراك العقلي بشكل عام مما يجعل حياتهن أكثر أمنًا من حياة الرجال.

من شرور السجن الضخمة هو منعها الفرد أي خيارات إلهائية. ولأن فرصة النجاة عن طريق وسائل أخرى شحيحة أيضًا، يميل المسجون في أن يكون لقمة سائغة إلى اليأس. ما يقوم به بعد ذلك من أفعال لتشتيت مراحل اليأس الأخيرة لها ضمانة في مبدأ الحيوية نفسه. في مثل هذه الحظة يختبر السجين روحه داخل الكون، ولا يكون له أي دافع إلا اللااحتمالية الكاملة لهذه الحالة.

أمثلة هلع-الحياة الخالصة نادرة الحدوث، لأن الوسائل الحمائية دائمًا ما تكون مصقولة ومتواصلة إلى حد ما. لكن حتى الأرض المجاورة تربض عليها علامة الموت، الحياة هنا بالكاد تحتمل ولا تعاش إلا بمجهود هائل. دائمًا ما يتسربل الموت بلباس الهروب، وبسبب جهل المرء باحتمالية الحياة الآخرة ولأن الموت دائمًا ما يجرب على الأقل جزئيًا بناء على المشاعر والمنظور الذاتيين، لذلك من الممكن اعتباره حلًا مقبولًا. إن نجح مرء في حالة موت من الإتيان بموقف معين (قصيدة،  إيماءة، أو "الموت وقوفًا")، بعبارة أخرى الإتيان بترسيخ نهائي أو إلهاء نهائي "موت آزي"[2]، إذن مثل هذه النهاية ليست الأسوأ على الإطلاق. ولا تني الصحافة، خدمةً لميكانيزمات الإخفاء، أن تجد أسباب لدق ناقوس الخطر-" يعتقد أن الهبوط الأخير في سعر القمح.....".

عندما يقتل الإنسان نفسه وهو في حالة اكتئاب، يعتبر هذا موتًا طبيعيًا بأسباب روحية. البربرية الحديثة التي نجدها في "إنقاذ" المنتحر مبنية على سوء فهم منقطع النظير لطبيعة الوجود.

قلة محدودة فقط من البشرية يمكنها التعايش مع مجرد "التغيير"، سواء أكان في العمل، الحياة الاجتماعية أو الترفيه. يحتاج الإنسان المثقف إلى المواصلة والاستمرار، إلى التقدم في التغيير. لا تكفيه الأشياء الفانية بشكل كامل، لذلك يستمر المرء في العمل، في جمع المعرفة، في صنع حياة مهنية لنفسه. تعرف هذه الظاهرة بالـ "حنين" أو "النزعة المتجاوزة". كلما تم تحقيق هدف ما زاد الحنين حدةً؛ ومن ثم موضوعها دائمًا ليس الهدف في حد ذاته، بل تحقيقه- انحدار المنحنى وليس ارتفاعه المطلق هو ما يمثل حياة الإنسان. فترقية جندي إلى عريف قد تمنح صاحبها تجربة أكثر قيمة من ترقية الكولونيل إلى الجنرال. أي أساس لـ "التفاؤل المتدرج" تتم إزاحته عن طريق هذا القانون النفسي العام.

لا يتوقف تعريف الحنين الإنساني على "السعي نحو" بل يشمل معناه أيضًا "الهروب من". وإن استخدمنا الكلمة بالمعنى الديني، فالتعريف الثاني فقط هو ما يصفها أدق توصيف. لأن في هذه الحالة لا يعرف المرء على وجه الدقة إلام يشتاق، لكنه يدرك في أعماق أعماقه ما يرغب في الابتعاد عنه، أي وادي الدموع الأرضي ووضع المرء الذي لا يحتمل. وإن كان معرفة هذا المأزق يعتبر أعمق طبقات الروح، كما بينا سلفًا، إذن يصبح مفهومًا لماذا نشعر ونختبر الحنين بالمعنى الديني كأمر أساسي. في المقابل، الأمل في كونه معيارًا إلهيًا، وهو أمر يحمل داخله وعدًا بالوفاء به، يوضع في منظور كئيب حسب تلك الاعتبارات.

الحل الرابع للهلع الوجودي هو التسامي، وهو مسألة تحول أكثر منها مسألة كبت. عن طريقة الموهبة الأسلوبية والفنية يمكن تحويل ألم الحياة نفسه إلى تجربة قيمة. الدوافع الإيجابية تجذب الشر وتستخدمه من أجل تحقيق مآربها الخاصة، رابطة إياه بجوانبها التصويرية، الدرامية، البطولية، أو حتى الكوميدية.

على الجانب الآخر، مثل هذا الاستخدام  لن يفي غرضه إلا إذا تم إخماد ألم المعاناة بطرق أخرى أو منعها من التحكم في العقل. (مثال تصويري: لا يستمتع متسلق الجبال بمنظر الهاوية بينما هو يختنق من الدوار؛ فقط بالتخلص من هذا الإحساس يمكنه الاستمتاع به- أي يصبح راسخًا). من أجل كتابة تراجيديا، على المرء أولًا أن يحرر نفسه إلى حد ما-أو قل يخون- إحساسه نفسه بالتراجيدي وينظر له من الخارج، مثال: من وجهة نظر جمالية؛ هنا توجد بالمناسبة فرصة لتحويل رقصة حلقية عنيفة عبر أعلى درجات السخرية، إلى حلقة مفرغة شديدة الإحراج. هنا يمكن للمرء مطاردة أناه عبر بيئات عدة، مستمتعًا بقدرة طبقات الوعي المتعددة في تبديد بعضها بعضًا.

المقالة الحالية هي محاولة نمطية للتسامي. لا يعاني المؤلف بل يسود صفحات سوف تنشر في دورية علمية.

و"استشهاد"  السيدات الوحيدات أيضًا يمكن اعتباره نوعًا من التسامي- بفضله يكتسبن أهمية.

مع ذلك، فالتسامي، بين الوسائل الحمائية السالف ذكرها، هو أكثرها ندرة في الاستخدام.

IV

هل  باستطاعة الـ"طبائع البدائية" أن تتخلص من تلك التشنجات والرجات وتعيش في تناغم مع أنفسها والنعيم الهادئ للعمل والحب؟ بالقدر الذي يمكن اعتبارهم بشرًا على الإطلاق، أعتقد أن الإجابة هي بالنفي. أقوى ادعاء يمكن أن يقال بخصوص من يسمون بأناس الطبيعة هو أنهم أقرب إلى حد كبير إلى المثال البيولوجي أكثر مننا نحن الأناس اللاطبيعيين. فحتى حين ننجح في إنقاذ أكبر عدد ممكن من الناس أثناء العواصف، فذلك مرده الجانب الأقل تطورًا من طبيعتنا. هذا الأساس الإيجابي (لأن الحماية وحدها لا تخلق الحياة، بل تعرقل تعثرها فقط) يجب البحث عنه في التكيف الطبيعي لنشر الطاقة في الجسد وفي أجزاء الروح[3] ذات الأهمية البيولوجية، الخاضعة للمشقة تحديدًا بسبب القيود الحسية، الهشاشة الجسدية والحاجة إلى العمل من أجل الحياة والحب. 

وفي داخل حدود أرض النعيم الفانية تلك يكون التأثير المهين للحضارة المتقدمة، التكنولوجيا والتنميط أشد وقعًا. فحين يتوارى جزء كبير من القدرة المعرفية عن مواجهة البيئة، تصبح البطالة الروحية في أعلى درجاتها صعودًا. يجب أن تقاس قيمة التقدم التقني على مجمل الحياة بما تضيفه من فرص للإنسان في الانغماس في أعمال الروح. على الرغم من ضبابية الحدود، ربما يمكن اعتبار الأدوات القاطعة الأولى كمثال على الاختراع الإيجابي.

تثري الاختراعات التقنية الأخرى حياة مخترعها فقط؛ فهي تمثل سرقة جسيمة ووحشية من مخزون التجارب المشتركة للبشرية، ويجب أن تستدعي أقصى عقوبة إذا تم نشرها علنًا بالرقابة والمصادرة. إحدى هذه الجرائم من بين العديد من الجرائم الأخرى هي استخدام الآلات الطائرة لاستكشاف الأراضي المجهولة. وهكذا، في عالم تخريبي واحد، يدمر المرء فرصًا وافرة للتجربة التي يمكن أن تفيد الكثيرين إذا حصل كل منهم، بجهده، على نصيبه العادل[4].

اللحظة الراهنة من الحمى المزمنة للحياة تتسم على وجه الأساس بهذا الظرف. يظهر غياب الأنشطة الروحية المبنية على أساس طبيعي (بيولوجي)، على سبيل المثال، في اللجوء على نطاق واسع للإلهاء ( الترفيه، الرياضة، المذياع-"إيقاع الزمن"). شروط الترسيخ ليست ملائمة- كل النظم المتوارثة والجمعية للترسيخ مثقوبة بالنقد، مما يتيح للقلق، القرف، التوتر واليأس من الدخول عبر الثقوب ("الجثث في الشحنة"). الشيوعية والتحليل النفسي، مهما كانا غير قابلين للمقارنة في السياقات الأخرى، كلاهما يحاولان (بما أن الشيوعية لها أيضًا انعكاس روحي) بوسائل جديدة إعادة إحياء وسائل الهروب وتجديدها؛ بتطبيق العنف والمكر، على التوالي، لجعل البشر لائقين بيولوجيًا عن طريق الاستيلاء على الفائض الحرج من الإدراك لديهم. تعتبر الفكرة، في كلتا الحالتين، منطقية بشكل غريب. ولكن مرة أخرى، لا يمكن أن يؤدي ذلك إلى حل نهائي. على الرغم من أن الانحطاط المتعمد إلى الحضيض الأكثر قابلية للحياة قد ينقذ بالتأكيد النوع الإنساني على المدى القصير، إلا أن الإنسان بطبيعته لن يكون قادرًا على إيجاد السلام في مثل هذا الرضوخ، بل العثور على أي سلام على الإطلاق.

V

إذا واصلنا هذه التأملات حتى النهاية المرة، لن يساورنا شك بشأن النتيجة الموصول إليها. إذا استمرت البشرية في المضي قدمًا في غي وهمها بالحتمية البيولوجية لانتصارها، فلن يتغير شيء. ينبغي على وسائل الحماية اتخاذ طبع قاسٍ كلما تصاعد عددها مع زيادة  كثافة الجو الروحي. 

وسيستمر البشر في حلم الخلاص وقدوم المسيح. ومع ذلك، عندما يتم صلب الجم الغفير من المخلصين على الشجر أو رجمهم بالحجارة في ساحات المدينة، حينها سيظهر المسيح الأخير.

حينها سيأتي الرجل الأول من نوعه الذي يجرؤ على ترك روحه عارية وإخضاعها لفكرة الفناء القصوى. رجل قد سبر غور الحياة وأساسها الكوني ويشارك بألمه الخاص ألم الأرض الجمعي. بأي صراخ مرعب ستصدح عقيرة جماهير الأمم مطالبة بموته ألف مرة، عندما يطوِّق صوته العالم كقماشة، مرددًا أصداء رسالته الغريبة في الأرجاء للمرة الأولى والأخيرة:

"- حياة العالم هي نهر هادر، أما حياة الأرض فهي بركة ومياه راكدة.

- علامة الهلاك مكتوبة على حاجبيك-إلى متى ستقاوم وخز الإبر؟

- لكن هناك فوز واحد وتاج واحد، خلاص واحد وحل واحد. 

- اعرفوا أنفسكم –كونوا عقيمين واتركوا الأرض صامتة من بعدكم.

وبعد أن ينتهي من الكلام، سينقضون عليه تكالب الأُسد على الفرائس، في مقدمتهم صناع المسكنات والقابلات، وسيدفنونه تحت أظافرهم.

هو المسيح الأخير. فالابن مثل أبيه، ينحدر من رامي السهام عند بئر الماء. 

بيتر فيسل زابفه، 1933


[1] من مسرحية البطة البرية للمسرحي النرويجي هنريك إبسن (المترجم) 

[2] مقطوعة موسيقية من تأليف إدوارد جريج

[3] تمييز من أجل التوضيح

[4] أؤكد أن هذه ليست محاولة لاقتراح تصورات رائعة للإصلاح، بل منظور نفسي للمبدأ