لحد دلوقتي معظم بلاد الجنوب العالمي لسه مش متسامحة مع تراثها الأسود اللي ليه علاقة بالاستعمار أو الديكتاتورية في فترة ما بعد الاستعمار.
تحت السجادة
مقال: محمد فريد
أجندة التراث هي سلسلة مقالات بالعامية المصرية هدفها التعريف بمفاهيم التراث الثقافى وفلسفات التعامل معاه
هل كل التراث يدعو للفخر؟ تاريخ الهزايم العسكرية أو العصور الدكتاتورية أو غيرها؟ طب إزاي ممكن نتعامل معاه ومع بقاياه المادية من مباني وآثار دلوقتي؟ نتسامح معاه ونسيبه ولا نتجاهله ونحيده ولا نمسحه ونحاول نخبيه "تحت السجادة" زى ما بيقولوا؟
إشكالية التعامل مع التراث "الأسود" مش جديدة لكن للأسف لحد دلوقتى مفيش اهتمام بيها فى مصر. يعنى بنشوف مثلًا كتير من معسكرات الإبادة النازية (خصوصًا فى بولندا وألمانيا والنمسا) اتحولت بعد الحرب العالمية التانية لمتاحف ومزارات مفتوحة ببلاش للكل وبدعم مباشر من حكومات الدول دي، اللى شايفين ان دي أنسب طريقة يوَّصَلوا بيها مدى ضرر الحروب، وخصوصًا فى عالم مليان صراعات زى دلوقتي. هنا هما اتعاملوا مع التراث الأسود بتاعهم بأقل تدخل منهم وحاولوا يسجلوا ويحفظوا كل حاجة زي ما هي من غير أي تغيير أو تلاعب من أي نوع. التعامل ده مع إنه يبان محايد لكن برضو مش بيقدر يمنع كل المشاكل وخصوصًا لما يكون حد من الزوار من مجموعات النازية الجديدة أو معاداة السامية. إيه حدود الحرية اللي هتبقى مسموحة ليهم عشان يعبروا عن رأيهم حتى لو عنيف أو غير متناسب؟ هل هيكون للحرية سقف؟ دي كلها أسئلة بتظهر مع الوقت، ولكنها حقيقي مهمة وبتساعدنا نفهم اكتر ونربط التاريخ بالحاضر والمستقبل.
مش بالضرورة يكون التراث "الأسود" ليه علاقة بصراعات إقليمية أو تاريخية. خلونا نتكلم على مثال تاني أخف شوية هو ترميم قصر البارون إمبان في القاهرة، المشروع اللي أخد سنين طويلة لحد ما طلع للنور في 2021. القصر المهم تاريخيًا وعمرانيًا واللي كان متدهور من عقود لدرجة اننا كنا بنسمع أساطير (ويمكن قصص حقيقية) محيطة بالمكان، عن انتحار بنت البارون، أو محاولات ناس في سنين مختلفة لاقتحام القصر، أو مجموعات من الشباب بتدخله عشان تلعب مزيكا مخلة للآداب على حد قول الجرايد في الوقت ده. طبعًا بعد عملية الترميم، كل القصص دي اتردم عليها واتشالت "تحت السجادة"، وهنا اتحولت قصص المكان "المشرقة" في أوقات و"السودا" في أوقات تانية، وبدل ما تبقى مصدر لتفسير التراث والتسويق ليه (لأن زوار المتاحف الأيام دي في العالم كله ما عادش اهتمامهم الأساسي يعرفوا معلومات عادية ممكن يعرفوها من على النت بكل سهولة زي "ولد هذا الرجل في 1922 وعمل في ... وبلابلا بلا"، لكنهم يهمهم تكوين رأي والتفكير أكتر في التجربة نفسها)، اتحول لمتحف تقليدى للغاية بيحكي قصة البارون من وجهة نظر رسمية. ده غير المبنى نفسه اللي اتدهن و رجع كأنه جديد، بس دي مشكلة تانية (هنتكلم عنها بعدين).
لحد دلوقتي معظم بلاد الجنوب العالمي لسه مش متسامحة مع تراثها الأسود اللي ليه علاقة بالاستعمار أو الديكتاتورية في فترة ما بعد الاستعمار. مثال ناجح ونادر للتعامل مع التراث الأسود في أفريقيا هي جزيرة روبن القريبة من كيب تاون (العاصمة الثقافية لجنوب أفريقيا). الجزيرة دي اللي شهدت حبس نيلسون مانديلا وزمايله لمدة أكبر من 20 سنة، وقت نظام الفصل العنصري، ودلوقتي هي مفتوحة للزيارة، وبيزورها سنويًا أكتر من 200,000 زاير من كل بلاد العالم.
الحقيقة التعامل مع التراث "الأسود" مرتبط بشكل أساسي مع مفهوم "تفسير التراث" زي ما بيوصفه الأمريكي فريمان تيلدن في كتابه المؤسس "Interpreting Our Heritage". تيلدن في الكتاب ده اقترح 6 مبادئ أساسية للتعامل مع التراث بشكل عام واللي برضو ممكن تفرق في تعاملنا مع التراث الأسود. أولهم كان وصفه بأن التفسير مش بس بيعرض أو يوصف معلومة بس ولكن لازم يكون مرتبط بشكل شخصي مع كل زائر للمكان التراثي ده، وده بينقلنا للمبدأ التاني اللي بيفرق بين المعلومات والتفسير وبيوصف التفسير بفعل استكشافي معتمد على المعلومات الخام، وبالتالي التفسير الناجح هو اللي هيقدر يقول لنا حكاية استكشافية مش معلومات مجردة. تيلدن في مبدأه التالت بيأكد على إن التفسير فن ممكن كل الناس تقدر تتعلمه بدرجات متفاوتة، وده بيحتاج شوية وقت ولكنه ضروري لو فعلًا عايزين نفهم تراثنا. وده اللي بيخلي الهدف النهائي من عملية التفسير انها بدل ما تبقى أوامر ومجرد شرح زي الكتب المدرسية، إنها تبقى أداة تخلي الناس تفكر بشكل جديد. وهنا بقى ننتقل للمبدأ الخامس اللي هو أكتر مبدأ مِلَمِّس بموضوع التراث الأسود واللي بيقول فيه: إن التفسير لازم يعرض الحالة بالكامل من غير أي تقطيع أو تجزئة والعرض ده مش بيكتفي بالوصف ولكن بالربط بين علاقات الأشياء ببعضها، إن كنت بتتكلم عن قطعة أثرية او حتى مبنى قديم. وأخيرًا تيلدن بيقول لنا إن طريقة التعامل دي مع التراث لازم تكون ديناميكية عشان تقدر تناسب كل الأعمار واحتياجاتهم، وبكده توصل لأكبر عدد ممكن من الزوار أو المتفاعلين.
وفي النهاية، ضروري نقول إن تفسير التراث بشكل معقول وحتى لو كان أسود ممكن يكون أول خطوة حقيقية في طريق طويل يقدر يغير في فلسفات التعامل معاه. من الآخر بيدينا عين تانية نشوف بيها اللي حوالينا.
المصادر
Tilden, F. 1957. Interpreting Our Heritage. 3rd edition. Chapel Hill: The University of North Carolina Press.
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه