ما نستطيع فعله حقًا هو محاسبة التاريخ ووضعنا الراهن عبر دراسة سير الفنانين الراحلين والمعاصرين ليكون بوسعنا تجنُّب الأسوأ على نحو عقلاني، ومن دون الاعتماد على أسطورة الفنان القدًيس.
نعم.. الفنَّان ليس قدِّيسًا والفنّ متواطئ مع الجميع
مقال سارة عمري
منذ بضع سنوات نَظَّمت جامعة براون (Brown University) محاضرة حول صناعة الفن ألقتها واحدة من الفنانات التشكيليَّات اللواتي ظهرن خلال ثمانينيات هذا القرن في مجموعة تدعى بـ "فتيات الغوريلا" (Guerilla Girls). وهن عددٌ من النساء اعتدن على ارتداء أقنعة الغوريلا والانخراط في فنٍّ نسويٍّ ساخر يحوي مضامين اجتماعيَّة وسياسية تصاحبه فلسفة نقديَّة سُلِّطت على مؤسَّسات الفن التي تقلِّل من إسهام المرأة والأقليات العرقيَّة والقوميّة وتهمِّش دورهم في تاريخه.
هاجمت المحاضِرة التي أعلنت أن اسمها فريدا كاهلو، وهي عضوة في "فتيات الغوريلا" اللواتي اتخذن لأنفسهن أسماء فنانات راحلات؛ متحفَ معرض اللوحات القومي National Portrait Gallery الكائن بواشنطن الذي عَرَض البورتريه الرسمي للرئيس الأمريكي بيل كلينتون، هذا الأخير الذي حامت حوله شُبهات التحرُّش والاعتداء الجنسي وعُرِفت عنه علاقاته العابرة وشهرته كَزِير نساء. وما يبعث على السخرية أنَّ الفنان تشاك كلوز -صاحب الصورة- مثير للريبة مثل بيل كلينتون، فهو مُشتبهٌ به في نفس النوع من القضايا والفضائح الجنسيّة.
ونتيجةٍ لذلك عَرَضت فتيات الغوريلا نموذجًا بديلًا لنموذج المتحف الذي يَصِف فيه اللوحة ويقدِّم نبذة تعريفية بفنّانها. واِقترحن على المتحف بشكلٍ هزلي وجاد في الوقت نفسه كتابة الاتهامات بالتحرّش والاعتداء الجنسيّ الذي مسّ تلميذات وعارضات تشاك كلوز في النبذة الخاصة به وإظهارها للزوار.
وصرَّحت فريدا كاهلو بأنَّ عالم الفن يتسامح مع مثل هؤلاء، فمن يقفون وراء المتاحف والمعارض يزعمون أنَّ الفن فوق كل شيء. ولقد ذكرت باستمرار هي وزميلاتها بأنَّ تاريخ الفن هو في الحقيقة ليس تاريخًا للفن وإنَّما تاريخُ السلطة. فمجموعة فتيات الغوريلا سطَّرت مرحلة جديدة في الفن السياسيّ (Political Art)، وكيف يجدر على الفن أن يكون في جوهره وليس كما ترسمه أنظمة الحكم.
الفن والسلطة
تُتيح لنا حفريات ميشيل فوكو إدراك الارتباط الحاصل بين السلطة والمعرفة وعلاقتهما القائمة على التجاذب والتنافر. تستعمل السلطة كلّ المؤسسات التي من شأنها أن تنشر خطابها، وهكذا يكون الفن حقلًا خصبًا لمدّ نفوذها وتطبيق ممارساتها، فالسلطة حسب اعتقاد فوكو لا تُمتَلك بل تَنتشِر، والفن مثل غيره من المجالات يمكنه خدمة الإيديولوجيات أيًّا كان نوعها، فيتحالف مع القوى الإمبريالية مثلما شهدناه في أعمال الفنَّانين الذين رسموا للرجل الغربي الأبيض صورة مبالغًا فيها عن الشرق. كما يمكن أن يتحالف مع البروباجاندا فيعبِّر عن مصالح الساسة ويحقِّق بأساليبه إرادة هؤلاء لخداع شعوبهم أو توجيه الرأي العام.
ولا تنخرط السلطة فحسب في صناعة الفنون وتأطيرها، بل تمارس عليها الرقابة وتحظر كلّ فنّ لا يتجاوب معها، وتُحارِب كلّ حركة جديدة يمكن أن تهدّد وجودها؛ نذكر ضمن ذلك الاصطلاح النازي الذي عرفناه باسم "الفن المنحط" (Degenerate Art)[1].
يكتب ميشيل فوكو "يُعتبَر المنع من بين أكثر إجراءات السلطة خطرًا على المعرفة فهو يمثِّل تسلطًا شديد يمارس على إنتاجها، إنَّه يحاول إلغاؤه وليس الحدّ منه فقط.. ويعتبر من أكثر الإجراءات بداهةً وتداولًا".[2]
وقد ترعى السلطةُ منظومةً معرفيةً جديدة تتناغم مع مصالحها الآنية فتعيدُ الفنّ الممنوع إلى الوسط العام وتجعله مرغوبًا، في حالة من صراع الغرائز الذي تحدَّث عنه فريدريك نيتشه باستمرار حيث تتحارب القوى والرغبات فيما بينها لِتنتج نسختها من المعرفة.
يجسّد الفن في أوضاع محدًدة روح الأمة كما شهده العالم في ألمانيا النازية.[3] أو في الاتحاد السوفييتي الذي قادته الواقعيةُ الاشتراكيّة حيث تحوّل إلى مناضلٍ يقف في صف الفئات الكادحة والثورة.[4] وشنَّت الولايات المتحدة بواسطة المخابرات (C.I.A) حربًا ثقافية على الشيوعية عن طريق تجنيد الآداب والفنون في محاولات لتشويه صورتها وتعزيز المبادئ الأمريكيَّة.[5] وقبل القرن العشرين وفي عهد الإمبراطورية الفرنسية الأولى كان نابليون بونابرت متيَّمًا بالكلاسيكية الجديدة (Neo-classicism) وبأعمال مؤسِّسها جاك لويس ديفيد التي عبرَّت عن قيمه وطموحاته العسكرية فاستحوذت على المشهد الفني في فرنسا. أما في العصور الوسطى فقد انتهجت الكنيسة الكاثوليكية الإصلاح المُضاد واستخدمت الفنّ في التأثير على العوام ودحر البروتستانتية.
الفن صورة عامة للعالم
قد يقاوم المجتمع الفنّ الذي لا يرقى لمعاييره، فعلى سبيل المثال كان الفنان الانطباعي إدوارد مانيه محلًا للازدراء بعد أن قدَّم فنَّا ثوريًّا في لوحاته التي أثارت استياء الجمهور الفرنسي والوسط الفني. لقد اصطدم مع الذوق العام الذي رفضه في البداية، وتحدّث بمرارة عن كمية الإهانات التي وُجِّهت إليه، فما تعرَّض له تَرَك في نفسه أثرًا كبيرًا رافقه لسنوات كما تُظِهر تصريحاته.
يرى آرثر دانتو أنَّ الفنّ يعتمد على الخلفية الثقافيّة للعصر، ويضرب مثالًا بأعمال آندي وارهول فيقول أنَّ صناديق بريلو لو عُرِضت عند الإغريق أو في العصور الوسطى لما اعتبرت فنًّا ذلك لأنَّ الجمهور مختلف والاستيعاب للعمل ليس نفسه.[6] يتحدَّد الفن أحيانًا حسب السياق الزمني والعلاقات الاجتماعيّة وهو كما أكَّد جون ديوي محكوم بالحياة العمليَّة أيّ الخبرة اليومية وطريقة العيش لأنَّه يتدًخل وينخرط في تشكيل واقع الناس، فهو لا يعكس القيم فحسب بل يشارك في بنائها.
يكتب جون ديوي "فعل التعبير الذي يكون العمل الفني، هو بناء في الزمان، لا مجرد صدور آني".[7] فالإنتاج الفني إذن هو عملية طويلة ومتواصلة تشارك فيها عوامل مختلفة منها عقلية واجتماعية.
يؤمن ايمانويل كانت مع ماركس بأنَّ الفن يبنى على الحرية، وهو ليس أسيرَ القواعد الجمالية بل الخيال الحرّ كما اعتقد الفيلسوف جوزيف برودون مثل رفاقه الأناركيين الذين دعوا إلى تحرُّر الفن من هيمنة القوى الغاشمة. غير أنَّ الفنّ طالما انقاد وراء المؤسَّسات التي تتحكَّم بالإنسان وطريقة رؤيته للعالم بغضّ النظر عن بساطتها، فَمنذ تواجد الجماعات البشرية لم يستطع المنتسب إليها الانفصال عن منظومتها المعرفية والأخلاقية، أو التفكير بشكل متفرّد حول نفسه والوجود. وتَعلَّق الفن حينها بالحياة النفسية للبشر التي تشكّلت بالتوازي مع عالم الأسطورة والسحر والأحلام. فبقي مُقِرًّا بالحقيقة الميتافيزيقية التي تصوغه وهو يعبِّر عنها حتى عندما نُظِر إليه كحرفة لها صانع ترعاها السلطات لتخدم حكامها ومعتقداتهم فتحافظ على النسق الاجتماعي والسياسي السائد.
صحيح أنّ الفنّ انعتق من بعض الإكراهات فاقترب على سبيل المثال من الحياة اليومية وقام بتصوير الأشخاص العاديين أو النبلاء كما نرى في المدرسة الفلمنكية، أو المتشرّدين والفقراء والمهرّجين -رامبرانت، أنطوان واطو على سبيل المثال. وتجاوَز أشكاله الرمزيّة والسحريّة إلى أخرى كالرومانسيّة والواقعية والانطباعية، أدَّت به إلى اتجاهات تتميّز بفرديّة وأصالة مثل الحركات الطليعية التي أحدثت ثورة في إنتاج الفن على مستويات مختلفة وكيفيات إدراكنا له، ناهيك عن فنون ما بعد الحداثة التي غيَّرت شكله ومحتواه بطريقة صادمة. لكنْ لجميع ما سبق نظامًا خفيًّا يتحكَّم به جزئيًا، والفنان ليس محكومًا بمصالحه ودوافعه وتكوينه الفردي فحسب وإنَّما بظروف تصنع فنَّه وتُلهمه أو ايديولوجيات ونظريات يفضِّلها على أخرى، وأحيانًا أشخاص يصدرون إليه الأوامر، فالفن غاية، وهو وسيلة أيضًا أيّ أداة تستعمل لأغراض وضرورات مختلفة. أما الآن فلقد تم مأسسة الفن حرفيًا فصار يرتبط بعالم السياسة والتجارة على نحوٍ جلي.
لقد قدَّم الفيلسوف الأمريكي جورج ديكي (George decky) النظرية المؤسساتية للفن (art institutional Theory)، فالعمل الفني هو فنّ ما دام أن هناك مؤسَّسة تعترف بوجوده وتضع له قواعد ترسمه.[8] ولقد بات الإنتاج الفني يُقدَّر عبر قيمته المالية وشهرة صاحبه بعيدًا عن الشكل والمضمون فتاريخ الفن هو تاريخ المال أيضًا، واليوم بوسعنا عندما نطلِّع على سوق الفن وكيف أصبح ساحةً لغسيل الأموال أن نعي حجم الكارثة.
الفنان الطوباوي
إذن هل كانت صورة بيل كلينتون العمل الوحيد الذي قام بإنجازه فنان تورَّط في أفعال غير أخلاقية؟ وماذا كان على المتحف فعله؟ إزالة اللوحة، إرجاعها إلى المخزن أو الجهة المانحة أو الاكتفاء بالاعتذار إلى الجمهور! هل يتطلَّب من المتاحف وفي خطوة غير معقولة التخلّي عن مثل هذه اللوحات والتوقَّف عن التسويق لفنانيها؟
تعود صدمة بورتريه بيل كلينتون إلى فكرة طوباويّة مفادها أنَّ الفنان هو الشخص المهذَّب والنبيل، والفكرة نفسها تقودنا إلى أخرى تجعل من "الفنون" طريقة لتهذيب المرء وصقل أخلاقه؛ مفهوم أفلاطوني وقروسطي ذو بعد تربويّ لا يمكن تعميمه أو اعتباره واقعًا مطلقًا، فحتى أفلاطون نفسه استبعدَ أشكالًا من الفنون في جمهوريته وأبقى على أخرى ترتبط بالنسبة إليه بالخير والحق والجمال، فأصدر أحكامًا قاسية على بعض الشعراء والكتاب من أمثال هوميروس الذي يحوي فنهم شيئًا من الفساد والانحطاط.
في كتابه "الفن والمجتمع" يدَّعي هربرت ريد أنَّ الفنان إنسانٌ يبحث عن المكانة والثروة والشهرة والحب فهو مثل غيره. وما ذكره لا ينفي وجود آخرين لا يجعلون تلك الدوافع من أولوياتهم بل يحصرون هدفهم في انتاج الفنّ والاستمتاع به مع علمنا بأنَّه قد يودي بهم إلى حتفهم حين يجعلونه سلاحًا ضد السلطة، ووسيلة للنضال لا الخضوع وتحقيق رغباتهم.
عندما نتعقَّب حياة بعض الفنانين سنكتشف خرافة الفكرة القائلة بخيريتهم، فنحن نعثر على كارافاجيو متسكِّعا في شوارع روما يتعارك في قتال خطير مع أحدهم وهو نفسه الذي قتل رجلًا. ونقرأ عن آرتيميسيا جنتيلسكي ونكبتها مع الرسام أجوستينو تاسي الذي اغتصبها.
وماذا نقول عن كلود مونيه الذي لم يكن يدفع لخياطه،[9] أما بول جوجان الذي هجر أسرته فقد كان بيدوفيليًا، وتثار شكوكٌ حول معاملته القبيحة لصديقه فان جوخ وغيرته منه، لا سيما حين نعرف أنَّه كتب عنه بشكل مسيءٍ، ولم يكن الأخير بريئًا أيضًا حيث لا يقل عنه عدوانية. كما عُرِف عن إدجار ديجا طباعه النزقة وكراهيته للبشر لا سيما في سنواته الأخيرة حيث لم يكن يحب رؤية الناس فصار يطردهم من بيته بما فيهم أصدقائه، ناهيك عن معاداته للسامية، أما دييجو ريفيرا فمعروف عنه أنَّه زير نساء أساء معاملتهن باستمرار ومثله بيكاسو.
ينظر المتخصّصون في علم النفس الاجتماعي وعلم النفس المعرفي إلى القيم السياسيّة على أنَّها نفسها القيم الأخلاقيّة فالمجال السياسي يرتكز في الواقع على أرضية أخلاقيّة.[10] ولقد اتخذ بعض الكتّاب مواقف سياسية أثارت الاستهجان والاستغراب فالكاتب الإنجليزي جورج أورويل قرًر أن يصير مُخبرًا لدى السلطات عندما كتب قائمة تحوي عدة أسماء اشتبه في انتساب أصحابها إلى الشيوعية.
لقد اشتهر فاجنر بعنصريته وعدائه للسامية، وعزف فورتفانجلر في ألمانيا النازية لهتلر حيث اتهم بالخيانة ووُصف بالجبن، بل إنَّ هتلر نفسه كان في مرحلة من حياته فنًّانًا شغوفًا لكنه فشل في بناء مسيرته.
لقد كان الشاعر الفرنسي رامبو تاجر عبيد والروائية والفيلسوفة سيمون دي بوفوار متحرّشة أما الشاعر الإنجليزي دون جون فاشتهر بميسوجينيته وذلك جليّ من قصائده وسيرة حياته، إنَّ قصيدته Go And Catch A Falling Star "اذهب وامسك بنجم ساقط" كافية لتلخيص تصوُّره الجندريّ. وهو مثل الكاتب مونترلان الميسوجيني أيضًا.
لا يظن الواحد فينا أن مونترلان كان سيكتب رواياته التي فيها محاولات لنقلِ نفسية الرجل والمرأة بشكل تعسّفي لولا ميسوجينيًته؛ فهذه الخصلة هي ما جعلته مونترلان وهي ما جعلت رواياته بذلك الشكل.
إنَّ الأخلاق الفظيعة للماركيز دو ساد، الحياة المفجعة لإدفارد مونك، كوابيس أديلون ريدون وبوهيمية تولوز لوتريك، كلبية لويس سي كي، حيوانات داميان هيرست المحنطة وجنون العظمة عند سلفادور دالي، فتيشية الأقدام التي استحوذت على وليام بوجيرو والخيال الإيروتيكي والغرائبي مع رسومات الشونجا لكيتاجاوا أوتامارو. ألم ينجز هؤلاء كلّ ما أنجزوه بفضل هذه العواطف والأمراض والتصرّفات؟ ولا نعني بذلك أنَّ الفن لا ينجزه الأسوياء وإنَّما هو مرتبط بسيكولوجية الفنان.
تزعم بروفيسورة الفلسفة ماري بيث ويلارد صاحبة كتاب "لماذا لا يعد الاستمتاع بأعمال الفنانين غير الأخلاقيين مشكلة؟" (why It's ok to enjoy the work of immoral artist) أنَّ مقاطعة أعمال الفنانين الراحلين لا جدوى منها عمليًا بسبب عجزنا عن محاسبتهم بعد وفاتهم، أما الذي لا يزال على قيد الحياة فنحن في حاجة إلى مؤسّسات تتمتَّع بالنفوذ والسلطة لإيقافه، ما يجعل الهدف صعب التحقّق.
وهي تقول رغم ذلك أنَّه لا توجد مشكلة في التمتُّع بأعمال الفنان الذي سلك مسلكًا غير أخلاقي وتحذّر من التسرّع في اتخاذ موقف متطرِّف من الاتهامات التي تطاله. وتفرِّق ماري ويلارد بين الاستمتاع بالعمل الفني والإعجاب بصاحبه، فهي تذكر في إحدى مقابلاتها أنَّ التأثَّر بتقنية الفنّان وأساليبه في العمل ليس مثل الإعجاب بسلوكه اللا-أخلاقي والمصادقة على فعله.[11] كما تميل إلى الاعتقاد بأنَّ ثقافة الإلغاء تنغمس في نشر ما يسمى بالاستعلاء الأخلاقي[12] وهو سلوك هدّام يضر أكثر مما يفيد.
وتشير ماري بيث ويلارد إلى مسألة انشغال الفرد في التساؤل عن إذا ما كان يعدّ مستهلكًا/متلقيًا أخلاقيًّا للإنتاج الفنّي غير أن هذا يعتمد أكثر على القضايا التي تخصّ الفنانين الذين يتأثَّر بهم وتربطه علاقة حميمية معهم وهم المعاصرين من ممثلين ومخرجين ومغنيين لا أشخاص قدماء مثل كارافاجيو أو جوجان.[13] إنَّ مثل هذه القضايا الشائكة بالرغم من كل شيء ليس لها أجوبة جازمة يمكن أن تفصل وتنهي جدلها، بل ستبقى متداولة في كل الأوقات نظرًا لحساسيتها الأخلاقية.
في الختام، يستحيل على المتلَّقي مطالبة الفنان بالتحلّي بصفة القداسة والانسلاخ عن حالاته النفسية التي تشكِّل شخصه وأسلوب حياته فتجعل منه سكيرًا، شارب حشيش، سارقًا أو متحرشًا. فما دام محكومًا بأهوائه فلا شكّ أنَّها وبالتعبير الميتافيزيقي تمتاز بالشر والخير معًا. وهكذا لا يمكن أن تجد انسانًا يفصل طبيعته وخبراته النفسية عن أفعاله ونشاطاته أو عن فنه دائمًا. إنَّ الفن فكرة ولا نقصد بذلك شعار الفن المفاهيمي، لكن جميع الفنون ترتبط بعالم الأفكار التي تصدر من الفنّان وقيم مجتمعه ناهيك عن عواطفهم.
ولا نقصد بكلامنا أنَّ الفنان هو عبدٌ للمنظومة السياسية بالضرورة فقد افتتح المقال حديثه عن فنانات عارضن التيار السائد حتى لو كن مفتونات بأيديولوجيتهن الخاصة، فحتى النظرية الماركسية التي تجعل من الوضع الاقتصادي أي البنية التحتية هو المحرّك للمجال الاجتماعي والفكري والفني تعترف بوجود فنانين استطاعوا الخروج من عباءة عصرهم وطبقتهم وتقديم فن متفرّد.
ما نستطيع فعله حقًا هو محاسبة التاريخ ووضعنا الراهن عبر دراسة سير الفنانين الراحلين والمعاصرين ليكون بوسعنا تجنُّب الأسوأ على نحو عقلاني، ومن دون الاعتماد على أسطورة الفنان القدًيس.
[1] حاول النازيون وعلى رأسهم هتلر السيطرة على الشعب الألماني عبر جميع الوسائل المتاحة وإطالة عمر أيديولوجيتهم فاتجهوا إلى الفنون التي قاموا بصياغة فلسفتها ونظرياتها وأهدافها وإنتاجها من جديد، فحاربوا الفن الحديث الذي عاصروه وأطلقوا عليه اصطلاح "الفن المنحط" ولاحقوا أصحابه ودمروا أعمالهم بل ووضعوا معرضًا عُرِف بـ "بمعرض الفن المنحط". يقول هتلر في إحدى خطبه ضد فناني الحداثة "باسم الشعب الألماني، أريد أن أحظر هؤلاء البائسين المثيرين للشفقة الذين يعانون بشكل واضح للغاية من مرض بالعيون".
[2] جيجيكة إبراهيمي، حفريات الإكراه في فلسفة ميشال فوكو، منشورات الاختلاف، دار الأمان، الطبعة الأولى 2011، صـ 145.
[3] لِتفاصيل أكثر انظر: كريستوفر باتلر، الحداثة مقدمة قصيرة جدا، ترجمة شيماء طه الريدي، مؤسسة هنداوي 2016، ص87-91.
[4] لتفاصيل أكثر انظر إلى: د. كلينجدر، الماركسية والفن الحديث: مدخل إلى الواقعية الاشتراكية، ترجمة: إبراهيم فتحي (عيون، الطبعة الثانية 1989).
[5] لتفاصيل أكثر انظر إلى: ف. س. سوندرز، الحرب الباردة الثقافية، ترجمة طلعت الشايب، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2017.
[6] سنثيا فريلاند، نظرية الفن مقدمة وجيزة، ترجمة سعيد توفيق، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2019، صـ 97.
[7] جون ديوي، الفن خبرة، ترجمة زكريا ابراهيم، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2011، صـ 113.
[8] مارك جيمينز، الجمالية المعاصرة الاتجاهات والرهانات، ترجمة: د. كمال بومنير، منشورات الاختلاف منشورات ضفاف، الطبعة الأولى 2012، ص 132
[9] في كتابه "رينوار أبي" يذكر المخرج السينمائي جان رينوار ابن الفنان الانطباعي بيار أوجست رينوار عن كلود مونيه: "استمر بارتداء القمصان المزينة بالدانتيلا والتعامل مع أفضل خياط في باريس. ولم يكن يدفع أبدا للرجل المسكين، وكان عندما يذهب إليه بقائمة الدفع، كان مونيه يعامله بتعاطف دوان جوان المتعجرف حين يستقبل ديمانش (مسيو، إذا واصلت إصرارك على هذا الشكل، سأضطر إلى سحب تعاملي معك)...".
[10] Ted Nannicelli, Artistic Creation and Ethical Criticism, Oxford University Press, 2020, p.06.
[11] يمكن متابعة المقابلتين:
- Mary Beth Willard: Why It’s OK to Enjoy the Work of Immoral Artists
https://vu.fr/sBbW
- Why It's OK to Enjoy the Work of Immoral Artists | A Discussion with Mary-Beth Willard
https://vu.fr/YSou
[12] يشير المصطلح الفلسفي الصياح الأخلاقي Moral Grandstanding إلى اساءة استخدام الخطاب الأخلاقي، بحيث يقدِّم أحدهم رأيًا أو موقفًا أخلاقيًا بأسلوب متطرّف يغيب فيه احترام وجهة نظر الآخرين ويكون فيه نوع من الإلزام، أو التقليل في كلّ مرة من أخلاقياتهم وذلك بعرض نفسه على أنَّه أكثر فضيلة منهم عن طريق نشر محاضراته. ويدعى المرء الذي يسلك هذا المنحى بـ Moral Grandstander حيث يمارس خطابه في محاولة منه للترويج لنفسه وكسب احترام الناس ولفت الانتباه فيتحدّث طوال الوقت عن مواضيع جدليّة ويفتعل المشاكل مع الغير وينشر وجهات نظره في كل مكان حتى على مواقع التواصل. يعتقد بعض المتخصِّصين أنَّ مثل هؤلاء الأشخاص في الحقيقة هم أقل سعيًا نحو السلوك الأخلاقي الإيجابي من غيرهم فهم يجيدون الكلام فحسب أكثر من أيّ شيء آخر.
[13] بث صوتي يتناول حوارًا مع ماري بيث ويلارد:
https://vu.fr/euAn
* المقال خاص بـ Boring Books
*تحتفظ الكاتبة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقالها دون إذن منها
One Reply to “نعم.. الفنَّان ليس قدِّيسًا والفنّ متواطئ مع الجميع”
رائعة كعادتك سارة❤❤