لطالما أنقذتنا النكات: عن السخرية في عصر ستالين
مقال لجوناثان واترلو
منشور على aeon، ديسمبر 2019
ترجمة: سارة شاهين
الترجمة خاصة بـ Boring Books
تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.
«الستالينية»، تستدعي الكلمة العديد من الارتباطات، لكنها لم ترتبط عادةً بما يثير الضحك. والآن، تعتبر كلمة الستالينية مرادفًا لسيطرة الدولة الضارية، والشاملة، التي لا تترك مجالًا للضحك، أو أي من أشكال المُروق. ومع ذلك، يشير عدد لا حصر له من المذكرات واليوميات، بل وحتى أرشيف الدولة، إلى أن الناس واصلوا إطلاق نكات عن الحياة المريعة التي أجبروا على عيشها في ظل الجولاج[1].
بحلول حقبة الثمانينيات، أصبحت النكات السوفيتية السياسية ذات شعبية واسعة، لدرجة أن الرئيس الأمريكي رونالد ريجان أحب أن يجمعها ويعيد سردها. لكن قبل ذلك بخمسين عامًا -وتحت حكم ستالين العصابي والقاسي- لماذا تشارك المواطنون السوفييت العاديون تلك النكات التي تسخر من زعمائهم، وخاطروا باحتمالية أن يكسر أمن الدولة أبواب شققهم، وينتزعهم من عائلاتهم، ربما إلى الأبد؟
نعرف اليوم أن الناس أطلقوا النكات التي تستهزئ بالنظام، وبستالين نفسه– ليس فقط حول مائدة المطبخ، بل في الترام حيث يحاط المرء بالغرباء، وفي باحات المصانع -إمعانًا في التحدي- حيث يوصى الجميع بإظهار الإخلاص المطلق للقضية السوفييتية.
بوريس أورمان، والذي كان يعمل في مخبز، يعتبر نموذجًا مثاليًا. في منتصف عام 1937، وفي الوقت الذي كانت حملات التطهير الستالينية تعصف بالبلاد، شارك أورمان الأنيكدوت (النكتة) التالية مع صديقه في أثناء تناول الشاي في كافيتيريا المخبز:
«كان ستالين يسبح في الخارج، عندما بدأ يغرق. قفز فلاح -كان مارًا بالصدفة- وسحبه بأمان إلى الشاطئ. سأل ستالين الفلاح عن نوع المكافأة التي يرغب فيها. صاح الفلاح - وقد أدرك هوية الشخص الذي أنقذه : (لا شئ. فقط لا تخبر أحدًا أني أنقذتك!».
نكتة من هذا النوع قد تفضي بسهولة - كما في حالة أورمان- إلى حكم بعشر سنوات في معسكر للعمل الإجباري، حيث أجبر المساجين على العمل حتى الموت. بدا أن ضراوة النظام القمعي كانت بالذات ما أذكى الحاجة إلى تداول النكات التي ساعدت على تخفيف التوتر، وعلى تحمل الواقع الصعب والمتعذر تغييره. حتى في أحلك الأوقات، يقول الزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف: «لطالما أنقذتنا النكات».
لكن -ورغم ردود فعل النظام الوحشية- فإن علاقته بالسخرية كانت أكثر تعقيدًا مما نميل لافتراضه من السرديات الأيقونية، التي لطالما استنبطناها من رواية جورج أورويل «1984»، ومذكرات ألكساندر سولجينتسن المعنونة بـ «أرخبيل الجولاج».
كان البلاشفة بالتأكيد حذرين من السخرية السياسية، والتي استخدموها كسلاح حاد في نضالهم الثوري ضد النظام القيصري قبل استيلائهم الدرامي على السلطة عام 1917. وبعد أن وطدوا مكانتهم، قررت القيادة السوفيتية أن السخرية ستستخدم فقط في شرعنة النظام الجديد. قدمت المجلات الهزلية مثل «كروكوديل» هجمات ساخرة ولاذعة على أعداء النظام داخل الوطن وخارجه. اعتُبرت السخرية مقبولة وفعالة إذا كانت لخدمة أهداف الثورة فقط؛ صاغ أحد الموفدين لمجلس الكتاب السوفييت ذلك الوضع عام 1934 بقوله: «هدف الكوميديا السوفييتية هو قتل الأعداء بالضحك، وتهذيب المخلصين للنظام بالضحك».
ومع ذلك، ورغم أن كثيرًا من السوفييت -بلا شك- قد استمتعوا بالمنشورات الهزلية المدعومة من النظام، فإن السخرية لا يمكن التحكم بها بشكل كامل من أعلى. في صحبة الأصدقاء، وربما بعض الڤودكا، كان من المستحيل تقريبًا مقاومة التمادي بعض الشيء، والسخرية من الطبقة العليا والمنتجات التي تستهدفهم، والفساد المستشري، والبون الشاسع بين الوعود البراقة التي يقدمها النظام، والواقع القاتم والمحبط الذي يعايشه الناس العاديون بشكل يومي.
خذ على سبيل المثال الدعابات الفتاكة لميخائيل فيدوتوف، وهو موظف تأمين من إقليم فورونيج، الذي شارك أنيكدوت (نكتة) شائعة تسخر من التكلفة الحقيقية لحماس ستالين العنيد للتوجه نحو التصنيع:
«زار أحد الفلاحين القائد البلشفي كالينين في موسكو ليسأله عن السبب في أن وتيرة التحديث لا تهدأ. أخذه كالينين إلى النافذة وأشار إلى قطار مار قائلًا: (كما ترى، لو أن لدينا دستة قطارات الآن، سيكون لدينا المئات خلال خمس سنوات). عاد الفلاح إلى مزرعته الجماعية، وتجمع رفاقه حوله متشوقين لمعرفة ما سمع، فتلفت حوله بحثًا عن الإلهام، ثم أشار إلى المقبرة المجاورة قائلًا: (هل ترون تلك الدستة من المقابر؟ بعد خمس سنوات سيكون لدينا الآلاف)».
نكتة كهذه ستهدئ المخاوف التي يسببها القمع لبعض الوقت، وتساعد الناس على اقتسام عبء حياة تعاش -كما تصفها نكتة أخرى- بتفضّل من أمن الدولة. لكن رغم أنها ساعدت الناس في الاستمرار والمواصلة، أصبح من الخطير مشاركة أنيكدوت (نكتة) مع تزايد ارتياب النظام خلال الثلاثينيات من القرن العشرين. ومع شبح الحرب الذي يحلق فوق أوروبا، انتشر الخوف من المؤامرات والتخريب الصناعي، في الاتحاد السوفييتي.
نتيجة لذلك، أصبحت أي نكتة تنتقد النظام السياسي السوفييتي معادلة للخيانة. ومن منتصف الثلاثينيات فصاعدًا، أصبح النظام يرى السخرية السياسية فيروسًا سامًا، قادرًا على أن ينشر السم في شرايين البلاد. فوفقًا لمرسوم صدر في مارس 1935، أصبح سرد نكتة سياسية مساويًا في الخطورة لتسريب أسرار الدولة – فهو أمر خطير ومعد لدرجة أن وثائق المحاكم امتنعت عن اقتباس تلك النكات. ولم يُسمح لأحد -سوى أكثر أعضاء الحزب إخلاصًا- بمعرفة محتوى جرائم التفكير تلك، وحوكِمَ أحيانًا قائلو النكات دون أن تُدرج كلماتهم في سجل المحاكمة الرسمي أبدًا.
عانت عامة الشعب صعوبة في مواكبة بارانويا النظام. في عام 1932، عندما كان إلقاء نكتة أمرًا غير مقبول أكثر منه خطيرًا، كان بإمكان عامل قطار مثل بافيل جادالوف أن يلقي نكتة عن كيف أن الفاشية والشيوعية صنوان مثل حبتي بازلاء في قرن واحد، وذلك دون أن يواجه عواقب خطيرة؛ لكن بعد خمس سنوات عوملت النكتة على أنها تشي بعدو خفي، وحُكم على جادالوف بقضاء سبع سنوات في معسكر للعمل الإجباري.
ظاهرة العدالة بأثر رجعي تلك، أمر يمكن تمييزه في أيامنا هذه حيث تفضي الرغبة المتصلبة في جعل العالم مكانًا أفضل إلى تحويل تغريدة طائشة من عشر سنوات إلى اغتيال مهني واجتماعي.
ورغم أن ذلك أمر بعيد كل البعد عن فظاعات الجولاج، لكن المبدأ الباطن لكلا الأمرين يبدو مماثلًا بطريقة عجيبة.
ورغم ذلك -ومثل كثير منا اليوم- أساء الزعماء السوفييت فهم السخرية، وما تعنيه للناس حقيقةً. فالمزاح بشأن شيء ما لا يعني إدانته، أو القبول به. لكنه ببساطة كثيرًا ما يساعد الناس على فهم المواقف المرعبة، والتعامل معها، وعلى ألا يشعروا بالغباء وقلة الحيلة والعزلة. والحقيقة أن ما عجز النظام السوفييتي عن إدراكه أن إلقاء النكات وفَّر فسحة مؤقتة من ضغوط الحياة اليومية، ولذلك مكن المواطنين السوفييت من فعل ما يريده النظام بالضبط: أن يحتفظوا برباطة جأشهم، ويواصلوا.
عندما نلقي النكات، فنحن ببساطة نختبر أفكارًا وآراءً لم نتأكد منها بعد. تكون النكات لعوبة واستكشافية حتى ولو وقفت على حدود الخطوط الحمراء الرسمية، أو حتى تجاوزتها. بدت الغالبية الساحقة من ملقيي النكات المقبوض عليهم في الثلاثينيات في حيرة حقيقية لكونهم وُصموا بـ«أعداء الوطن» بسبب «جرائم» السخرية. وفي حالات كثيرة، شارك الناس نكاتًا تنتقد الأوضاع الضاغطة بل وغير المعقولة؛ فقط ليذكِّروا أنفسهم بأنهم قادرون على رؤية الواقع الصعب عبر حجاب البروباجاندا. وفي عالم من الامتثال الخانق وسيل الأخبار الكاذبة، قد تُمَثّلِ أبسط النكات الساخرة تأكيدًا ذاتيًا عميقًا بمعنى «أنا أسخر، إذن أنا موجود».
نضحك في أحلك الأوقات، ليس لأن الضحك قادر على تغيير الواقع، لكنه قادر على تغيير شعورنا نحو تلك الظروف. النكات لا تعني شيئًا واحدًا مطلقًا، والقصة الخفية للسخرية السياسية في عصر ستالين أكثر تعقيدًا من مجرد صراع بين القمع والمقاومة.
معسكرات الاعتقال في العهد السوفييتي.[1]