ربما ينظر البعض إلى مسيرتي ويقول: "واو، لقد ذهب إلى بنفيكا، ثم إلى ريال مدريد، ومانشستر يونايتد، وباريس سان جيرمان"، ربما يبدو ذلك بسيطًا. لكنك لن تتخيل ما الذي مررت به في هذه الرحلة.
تحت المطر، في البرد، وسط العتمة
أنخيل دي ماريا
نُشر في The player tribune، يونيو 2018
ترجمة: أحمد ليثي
كتب دي ماريا هذا المقال عام 2018، بعد أربعة أعوام من خسارة نهائي كأس العالم الذي لعبته بلاده عام 2014 أمام ألمانيا، ردًا على الصحافة الأرجنتينية التي اتهمت المنتخب الوطني حينها بالتخاذل. لكن جاء المقال ليلقي الضوء على معاناته مع الفقر صغيرًا، وعمل أبيه في تعبئة الفحم ليطعم أبناءه، وعمل أمه في متجر لبيع المنظفات لمساعدة أبيه في إعالة الأبناء، أو معاناتها في نقله من مدينة لأخرى على دراجة متواضعة على مدار سنوات ليتلقى تمرينه. ليثبت أن حياته لا تختلف عن حياة العديد من الأرجنتينيين، أو الحالمين في دول العالم الثالث.
المترجم
ما زلت أتذكر لحظة وصول الخطاب من ريال مدريد وتمزيقي له حتى قبل فضّه.
وصل الخطاب صباح يوم مباراة نهائي كأس العالم 2014، في الساعة الحادية عشرة تمامًا، حيث كنت أجلس على طاولة الإعداد البدني على وشك تلقي حقنة في قدمي. إذ أُصبت بتمزق في عضلات الفخذ، لكن مع تناول المسكنات، كان بوسعي أن أركض دون أن أشعر بشيء. فقلت للمدلكين ما يلي قولًا دقيقًا: "إذا تمزقت عضلات فخذيّ، فاتركوها تتمزق، لا أبالي. كل ما أريده أن أكون قادرًا على اللعب".
وهكذا، كنت أضع الثلج على فخذي عندما دخل طبيب الفريق، دانيال مارتينيز، إلى الغرفة، حاملاً هذا الظرف، وقال: "اسمع يا أنخيل، لقد وصلت هذه الورقة من ريال مدريد".
قلت: "ما الذي تتحدث عنه؟"
- حسنًا، يقولون في الخطاب إنك لست في حال يؤهلك للعب، لكي يجبرونا على ألا نسمح لك باللعب اليوم.
أدركت على الفور ما يحدث. سمع الجميع الشائعات التي تنتشر بأن ريال مدريد يريد التعاقد مع جيمس رودريجز بعد كأس العالم، فعلمت أنهم يريدون بيعي ليفسحوا له مساحة في الفريق. ولم يكونوا يريدون للصفقة أن تفشل. كان الأمر بهذه البساطة. وهذه هي أحوال كرة القدم التي لا يراها الكثير من الناس على الدوام.
طلبت من دانيال أن يسلمني الخطاب. لم أفضّه. بل مزقته إلى قطع صغيرة قائلًا: "القوه بعيدًا. أنا من يقرر مصيري اليوم".
لم أكن قد نمت جيدًا في الليلة السابقة. ومن ضمن أسباب ذلك أن الجماهير البرازيلية كانت تطلق الألعاب النارية طوال الليل خارج الفندق الذي كنا نقطن فيه، لكن حتى لو كانت الليلة هادئة تمامًا، لا أعتقد أني كنت سأتمكن من النوم. فمن المحال تفسير الشعور الذي ينتابك في الليلة التي تسبق نهائي كأس العالم، عندما يكون كل ما حلمت به أمامك مباشرة.
أردت من صميم قلبي أن ألعب ذلك اليوم حتى لو تسبب ذلك في إنهاء مسيرتي. لكني لم أكن أرغب في تعقيد الأمور على فريقنا. لذا استيقظت مبكرًا وذهبت لأقابل مديرنا الفني، السيد سابيلا. كنا مقربين، لذا، كنت أعرف الضغط الذي أضعه عليه إذا طلبت منه أن أبدأ المباراة. لكني طلبت منه بكل إخلاص، وأنا أضع يدي على قلبي، أن يبدأ من يشعر أن الفريق يحتاجه.
قلت: "إذا وقع اختيارك عليّ، فليكن. وإذا وقع اختيارك على آخر، فليكن. كل ما أريده أن أحمل كأس العالم. وإذا دعوتني للعب، سألبّي حتى تتمزق عضلات فخذي".
ثم انفجرت في البكاء. ولم يكن بوسعي أن أتوقف. فقد غمرتني المشاعر.
في محاضرة ما قبل المباراة، أعلن سابيلا أن إنزو بيريز سيبدأ اللقاء لأنه سليم بنسبة 100%. ولقد كنت مرتاحًا لذلك القرار. حقنت نفسي مرة قبل بداية المباراة، وأخرى خلال الشوطين، حتى أكون جاهزًا للعب إذا استُدعيت من على دكة البدلاء.
لكن الاستدعاء لم يحدث قط. وخسرنا اللقب، ولم أتمالك نفسي. لقد كان أصعب يوم في حياتي. وانتشرت الترهات عني في الإعلام لتفسر عدم لعبي للمباراة. لكن ما أخبركم إياه هو الحقيقة بعينها.
ما زالت تؤرقني اللحظة التي ذهبت فيها للتحدث مع سابيلا، وانفجرت في البكاء أمامه. لأني طالما تساءلت ما إذا كان قد اعتقد أني بكيت بسبب انفلات أعصابي.
والحق أن الأمر لم يكن له علاقة بانفلات أعصابي. بل كنت مفعمًا بالمشاعر لأن اللحظة كانت تعني لي الكثير. لقد كنا على مقربة من تحقيق الحلم المستحيل.
كان من المفترض أن تكون جدران بيتنا ذات لون أبيض. لكني لم أتذكرها أبدًا باللون الأبيض. لقد كانت رمادية في البداية، ثم استحال لونها أسود من أثر غبار الفحم. كان أبي عامل فحم، لكنه لم يكن يعمل في منجم. بل كان يصنع الفحم في فناء بيتنا الخلفي. هل رأيت طريقة صنع الفحم من قبل؟ الحال أن أكياس الفحم الصغيرة التي تشتريها من المتاجر للشيّ تأتي من مكان ما، وبصراحة، لقد كان عملًا كريهًا. اعتاد أبي أن يعمل تحت سقيفة صفيح صدئة في الفناء، معبئًا كل الفحم الذي يصنعه ليبيعه في السوق. حسنًا، لم يكن أبي فقط من يجمع الفحم في أكياس. لقد كان لديه مساعدين صغيرين. قبل الذهاب إلى المدرسة، كنت أستيقظ أنا وأختى الصغرى لنمد له يد العون. كنا في التاسعة أو العاشرة من عمرنا، وهو ما يعتبر سنًا مناسبة لتعبئة الفحم، حتى أنك يمكن أن تحول ذلك العمل إلى لعبة متواضعة. وعندما تأتي عربة الفحم، كان علينا أن ننقل كافة الأكياس عبر غرفة المعيشة حتى نوصلها إلى الباب الأمامي، وهكذا استحالت جدران بيتنا سوداء بمرور الوقت.
بدأت لعب كرة القدم مبكرًا لأني كنت أدفع أمي نحو الجنون.
لكن هذا هو السبيل الوحيد لدى أبي ليطعمنا، وكان هذا هو السبيل الوحيد أيضًا حتى لا يؤخذ منا بيتنا.
واعلم أن حياة أبي كانت ميسورة لفترة قليلة من الوقت، عندما كنت طفلًا. لكن أبي حاول أن يُقدِّم معروفًا لشخص ما، فتغيرت أحوالنا منذئذ. إذ طلب منه صديق أن يوقع كضامن على قرض لبيته، فوثق به أبي. لكن الرجل تخلف عن دفع ديونه، واختفي في يوم من الأيام. وما كان من البنك إلا أن توجه إلى أبي مباشرة باعتباره الضامن. وانتهى الأمر بأبي يحاول دفع قرض لبيتين، وإطعام عائلته.
لم يكن عمله منذ البداية في الفحم. إذ حاول أن يحول المساحة الأمامية الفارغة لبيتنا إلى متجر. واشترى الجالونات الكبيرة من مواد التبييض، والكلورين، والصابون، وبقية المنظفات، ثم قسمها إلى زجاجات صغيرة كمنتجات ليبيعها في تلك المساحة. إذا كنت تعيش في مدينتنا، لن يكون عليك الذهاب إلى المتجر لشراء زجاجة من منظف "سي آي إف". فقد كان باهظ الثمن. كل ما كان عليك فعله أن تذهب إلى آل "دي ماريا" وسيكون على أمي أن تبيعك زجاجة منظفات بثمن أفضل كثيرًا.
كانت الأمور تسير على ما يرام حتى جاء طفلهما الصغير ليخرب عليهما حياتهما يومًا حين كاد يتسبب في قتل نفسه.
نعم. هذا صحيح، لقد كنت طفلاً شيطانيًا.
لم أكن شخصًا سيئًا حقًا، لكن كان لديّ قدر كبير من الطاقة. ومفرط النشاط. في أحد الأيام، بينما وقفت أمي تبيع في المتجر، وكنت ألعب حولها داخل مشاية الأطفال. كانت البوابة الأمامية مفتوحة حتى يتسنى للزبائن الدخول، فانصرفت أمي عني لبعض الوقت فبدأت المشي بعيدًا.. كنت أريد أن أستكشف.
توجهت فورًا وبسرعة إلى منتصف الشارع، وكان على أمي أن تنقض راكضة لتنقذني من إصابة سيارة. على ما يبدو كان الأمر خطرًا من الطريقة التي حكت بها أمي عن الحادثة. وكان هذا آخر أيام متجر آل "دي ماريا" للمنظفات. قالت أمي لأبي إن هذا خطر للغاية وعلينا أن نجد وسيلة أخرى لكسب عيشنا.
سمع أبي عن ذلك الرجل الذي يجلب شاحنات الفحم من سانتياجو دل إيستريو. لكن ما يضحك أننا لم يكن لدينا المال الكافي لشراء الفحم! فأقنع أبي الرجل حتى يقرضه بعض الشحنات الأولى. وهكذا، كنت كلما طلبت أنا أو أختى بعض الحلوى أو أي شيء آخر، كان محببًا على قلب أبي أن يقول: "أنا أتحمل مصاريف بيتين وشاحنة محملة بالفحم!"
أتذكر في أحد الأيام حين كنت أعبّئ الفحم مع أبي، بينما كان الجو باردًا والسماء ماطرةً. ولم يكن أعلى رؤوسنا سوى سقيفة من النحاس. كان هذا أمر شاق. بعد عدة ساعات، كان عليّ أن أذهب إلى المدرسة، حيث كان الجو دافئًا. وكان على أبي أن يظل يعمل في هذا المكان طوال اليوم. لأنه لو لم يبع الفحم في ذلك اليوم، ربما لن يكون لديه في جيبه ما يكفي لإطعامنا. لا أمزح. لكني كنت أتذكر ما أفكر فيه، وأؤمن به بصدق: في وقت ما، كل شيء سيتغير إلى الأفضل.
لهذا بالتحديد، أدين لكرة القدم بكل شيء.
في بعض الأحيان، قد يجدي الأمر نفعًا حين تكون لعوبًا صغيرًا! بدأت لعب كرة القدم مبكرًا لأني كنت أدفع أمي نحو الجنون. اصطحبتني إلى الطبيب عندما بلغت الرابعة من عمري، وقالت: "إنه لا يتوقف عن الحركة. ما الذي يجب عليّ فعله؟"
ولقد كان طبيبًا أرجنتينيًا صالحًا، فقال: "ما الذي يجب عليكِ فعله؟ فليلعب كرة القدم".
وهكذا، بدأت مسيرتي.
كنت شغوفًا بلعب كرة القدم، هذا كل ما فعلته. أتذكر أني كنت أمارس كرة القدم كثيرًا، بحيث كان نعل حذائي ينفصل عن جسده حرفيًا كل شهرين، وكان على أمي أن تلصقهما مرة أخرى بالغراء، لأننا لم يكن لدينا ما يكفي من المال لشراء أحذية جديدة. لا بد أني صرت ماهرًا للغاية عندما بلغت السابعة من عمري، لأني سجلت 64 هدفًا لفريق الضاحية. وفي أحد الأيام، دخلت أمي إلى غرفة نومي قائلة: "محطة الراديو تريد التحدث إليك".
ذهبنا إلى محطة الراديو حتى يجروا معي حوارًا، وكنت خجولًا للغاية بحيث أني كنت بالكاد أتحدث.
تلقى أبي مكالمة هاتفية هذا العام من المدير الفني لفريق "روزاريو سنترال" ليطلب منه أن ألعب هناك. ولقد كانت تلك محطة طريفة بالنسبة لي، لأن أبي كان مشجعًا كبيرًا لفريق "نيولز أولد بويز". وأمي مشجعة كبيرة لفريق "سنترال". إذا لم تكن من روزاريو فلن تفهم مقدار المنافسة بينهما. فالأمر أشبه بالحياة والموت. عندما يُلعب الديربي، كان أبي وأمي يصرخان بكل ما أوتيا من قوة مع كل هدف، وكان بإمكان الفائز أن يسخر من الآخر عن المباراة لشهر كامل بعد ذلك.
لذا، يمكنكم أن تتخيلوا مقدار حماس أمي عندما تلقى أبي مكالمة سنترال.
قال أبي: "أنا غير مطمئن. فمقر الفريق بعيد للغاية، يبعد تسعة كيلومترات. وليس لدينا سيارة! كيف يمكننا أن ننقله إلى هناك؟"
فقالت أمي: "لا، لا، لا تقلق، أنا سأنقله، لا بأس!".
وهنا جاءت فكرة جارسيلا.
وجارسيلا دراجة صفراء صدئة اعتادت أمي استخدامها لتقلني إلى التمرين يوميًا. وكان ملحق بها سلة صغيرة في الأمام ومساحة لشخص آخر كي يجلس في الخلف، لكن واجهتنا مشكلة أخرى، إذ كان على أختي الصغيرة أن تأتي معنا أيضًا. فصنع أبي دكة خشبية وألحقها بجانب العجلة، حيث كانت تجلس أختي.
فتخيل: سيدة تقود دراجة عبر المدينة، وخلفها صبي صغير، وبجانبها فتاة، وفي السلة الأمامية حقيبة الملابس الرياضية وحذاء ووجبة خفيفة. نصعد ونهبط. ونسير عبر الأحياء الخطرة. تحت المطر. في البرد. ووسط العتمة. كانت أمي تواصل القيادة مهما حدث.
وكانت جارسيلا تقلنا إلى المكان الذي نريده.
الحق أن الفترة التي لعبت فيها في نادي سنترال لم تكن سهلة. بل كان يمكنني أن أترك كرة القدم لولا أمي. حدث ذلك مرتان. فلم أكن أنمو على نحو جيد عندما كنت في الـخامسة عشرة من عمري، وكان لديّ مدرب مجنون قليلًا. فقد كان يفضل اللاعب العدواني قوي البنية، ولم يكن ذلك أسلوبي. في أحد الأيام، لم أقفز للعب الكرة برأسي عندما كنت داخل منطقة الجزاء، فجمعنا في نهاية المران ثم استدار إليّ.
وقال: "أنت جبان. ومتخاذل. ولن تصل إلى أي شيء أبدًا. وستكون فاشلًا".
لقد حطمني. وقبل أن ينهي حديثه، شرعت في البكاء أمام زملاء فريقي، وعدوت مسرعًا خارج الملعب.
عندما عدت إلى المنزل، ذهبت مباشرة لغرفتي لأبكي وحدي. وعرفت أمي أن شيئًا ليس على ما يرام، لأني عندما أعود من التمرين كل يوم، أذهب إلى الشارع مرة أخرى لألعب أكثر. جاءت إلى غرفتي تسألني عما حدث، وكنت خائفًا بصدق من أن أخبرها ما حدث لي، لأني كنت قلقًا من أن تعود الطريق بالكامل مرة أخرى للكم المدرب. لقد كانت امرأة هادئة، لكن إذا فعلت ما يجرح أطفالها، تتحول إلى شخص آخر.
أخبرتها أني خضت عراكًا، لكنها أدركت أنها مجرد كذبة. لذا، فعلت ما تفعله كل الأمهات في مثل هذه المواقف، هاتفت أم أحد زملائي في الفريق حتى تصل إلى الحقيقة.
كرة القدم لعبة تنافسية، خاصة في أمريكا الجنوبية. والجميع يحاول التفوق فيها حتى يحصل على حياة أفضل. لكني سأظل أتذكر هذا اليوم، لأن زملاء فريقي لاحظوا أني أعاني، فقدموا لي يد العون.
عندما عادت مرة أخرى إلى غرفتي، كنت أبكي بشدة، وأخبرتها أني أريد أن أتوقف عن لعب كرة القدم. وفي اليوم التالي، لم أتمكن من مغادرة المنزل. لم أرد الذهاب إلى المدرسة. كنت أشعر بالإهانة. حينها، جاءت أمي وجلست على سريري وقالت: "ستعود يا أنخيل، ستعود اليوم. عليك أن تثبت نفسك له".
وعدت بالفعل إلى التمرين في ذلك اليوم، وحدث ما لم يخطر على بال بشر. لم يسخر زملاء فريقي مني. بل ساعدوني في الحقيقة. وعندما ارتمت الكرة في الهواء، كان المدافعون يتواطأون حتى أضرب الكرة برأسي. كانوا حريصين على أن أكون في حالة طيبة، ولقد اعتنوا بي للغاية هذا اليوم. كرة القدم لعبة تنافسية، خاصة في أمريكا الجنوبية. والجميع يحاول التفوق فيها حتى يحصل على حياة أفضل. لكني سأظل أتذكر هذا اليوم، لأن زملاء فريقي لاحظوا أني أعاني، فقدموا لي يد العون.
كنت في عمر السادسة عشرة ولا أزال نحيفًا وصغير الحجم. ولم أكن قد انضممت إلى الفريق الأول في سنترال بعد، فانتاب أبي القلق. كنا نجلس بالمطبخ في إحدى الليالي، وأخبرني أن أمامي ثلاثة خيارات: "يمكنك أن تعمل معي. ويمكنك أن تنهي دراستك. أو يمكنك أن تواصل اللعب عامًا آخر. لكن إذا لم تصعد إلى الفريق الأول، فعليك العمل معي".
لم أقل شيئًا. كان الموقف معقدًا. وكنا في حاجة للمال.
تدخلت أمي قائلة: "عام آخر لمواصلة لعب كرة القدم".
كان نهاية ذلك العام في يناير.
في ديسمبر، في آخر شهور العام، ظهرت لأول مرة في دوري الدرجة الأولى الأرجنتيني.
ومنذئذ، بدأت حياتي الرياضية. لكن للحق، بدأت المعاناة قبل ذلك بكثير. بدأت عندما كانت أمي تلصق حذائي بالغراء، وحين كانت تركب الدراجة تحت المطر. وحتى حينما صرت لاعبًا محترفًا على مستوى الأرجنتين، كانت المعاناة مستمرة. لا أظن أن الناس خارج أمريكا الجنوبية يمكن أن تتفهم ما أعنيه. عليك أن تخوض بعض التجارب لتفهم.
لن أنسى أبدًا عندما كان علينا أن نخوض مباراة في بطولة كوبا ليبرتادوريس ضد ناسيونال، لأن الرحلات الجوية هناك لم تكن مثل رحلات الدوري الإنجليزي أو الدوري الأسباني. بل أنها لم تكن مثل نظيرتها في بوينس آيرس. في ذلك الوقت، لم يكن هناك مطار في روزاريو. بل مجرد مدرج متهالك، وعليك أن تستقل أي طائرة موجودة هناك في ذلك اليوم. لا تطرح أسئلة.
وصلنا إلى المطار للسفر إلى كولومبيا. فوجدنا إحدى طائرات الشحن الضخمة على المدرج. أتعلم الطائرات التي تمتاز بسلم متحرك في الخلف ليستخدمونه في شحن السيارات والبضائع؟ حسنًا، كانت هذه هي طائرتنا. وأتذكر أن اسمها كان "إيركوليس".
انفتح السلم فبدأ العمال بتحميل كل المراتب في الطائرة.
كان كل اللاعبين ينظرون إلى بعضهم، وكأنهم يقولون: ماذا يجب أن نفعل؟
عندما هممنا بالصعود على متن الطائرة، قال العمال: "إذا كان لا بد أن تركبوا في الخلف. فعليكم ارتداء سماعات الأذن هذه".
أعطونا سماعات الأذن العسكرية الضخمة حتى تحجب عنا الضجيج. صعدنا على متن الطائرة، وكان هناك القليل من المقاعد والمراتب التي نستلقي عليها لثمان ساعات حتى نخوض مباراة بطولة كوبا ليبرتادوريس. أُغلقت الطائرة، فعم الظلام. كنا نستلقي على المراتب مرتدين السماعات، بالكاد نسمع بعضنا. واستعدت الطائرة للإقلاع، فانزلقنا إلى الأسفل قليلًا في الجزء الخلفي من الطائرة، وصاح أحد الزملاء: "لا يلمس أحدكم الزر الأحمر الكبير! فإذا انفتح الباب، سنموت جميعًا".
كان الأمر مدهشًا، إذا لم تمر به، لن يكون بإمكانك أن تتخيله. لكن بوسعك أن تسأل زملائي. لقد حدث بالفعل. كان هذا ما نعرفه عن الطائرات الخاصة. إيركوليس!
ما زلت أتطلع إلى هذه الذكرى بالكثير من السعادة. عندما تحاول النجاح في الأرجنتين، لا تنظر إلى الصعاب. ولا تهتم بالطائرة التي كان عليك أن تستقلها في يوم مثل هذا، عليك أن تذهب إلى المطار، ولا تطرح الأسئلة.
وفي النهاية، عندما تلوح الفرصة في الأفق، عليك أن تحجز تذكرة ذات اتجاه واحد. وبالنسبة لي، كانت الفرصة في البرتغال مع نادي بنفيكا. ربما ينظر البعض إلى مسيرتي ويقول: "واو، لقد ذهب إلى بنفيكا، ثم إلى ريال مدريد، ومانشستر يونايتد، وباريس سان جيرمان"، ربما يبدو ذلك بسيطًا. لكنك لن تتخيل ما الذي مررت به في هذه الرحلة. كنت في التاسعة عشرة عندما ذهبت إلى بنفيكا، ولعبت موسمين فقط. وتوقف أبي عن عمله حتى يذهب معي إلى البرتغال، وكان عليه أن يقطع المحيط ويبتعد عن أمي. ومرت ليالٍ أسمعه فيها يتحدث إلى أمي في الهاتف، وهو يبكي لها لأنه يفتقدها للغاية.
في بعض الأوقات، بدا الأمر وكأنه خطأ كبير. لم يكن من المفترض أن ألعب كرة القدم، وأردت أن أعتزل وأعود إلى المنزل.
ثم جاءت أولمبياد 2008 لتغير حياتي بالكامل. فقد دعتني بلادي لألعب للفريق الأولمبي على الرغم من أني لم أبدأ مسيرتي مع بنفيكا بعد. ولن أنسى ذلك أبدًا. إذ أتاحت لي هذه الدورة فرصة أن ألعب بجانب ليونيل ميسي، الكائن الفضائي، العبقري. ولقد كانت تلك الفترة أكثر الفترات التي استمتعت فيها بممارسة كرة القدم. كل ما كان عليّ فعله هو أن أركض في المساحة الفارغة. وما إن أبدأ الركض، حتى أجد الكرة بين قدميّ. كالسحر.
لم تكن عينا ميسي تعمل مثلما تعمل عيناك أو عيناي. ينظر من جانب إلى آخر كالبشر. لكن بوسعه أن يرى العالم من الأعلى كالطائر. ولم أكن أفهم كيف يمكنه فعل ذلك.
خضنا طريق البطولة حتى وصلنا إلى النهائي ضد نيجيريا، وربما كان ذلك اليوم أعظم أيام عمري. فقد سجلت الهدف الذي أهدى الأرجنتين الميدالية الذهبية.. لا يمكنك تخيل هذا الشعور.
عليك أن تعي هذا، لقد كنت في العشرين من عمري، ولم ألعب مباراة واحدة لبنفيكا. وعائلتي منفصلة عن بعضها. كنت أمر بلحظة من انعدام الأمل قبل أن تدعوني بلادي لهذه البطولة. وفي خلال عامين فقط، حصلت على الميدالية الذهبية، وبدأت اللعب لبنفيكا، ثم انتقلت إلى ريال مدريد.
لم تكن لحظة فخر خاصة بي فقط، بل لعائلتي كلها ولكل أصدقائي وزملائي الذين دعموني على مر السنين. كانوا يقولون إن أبي كان لاعب كرة أفضل مني، لكن ركبتيه انكسرتا عندما كان صغيرًا فمات حلمه. وكانوا يقولون إن جدي أفضل منه، لكنه فقد قدميه في حادثة قطار، فتلاشى حلمه.
ولقد كان حلمي قريبًا من الموت أكثر من مرة.
لكن أبي واصل العمل تحت السقيفة الصدئة، وأمي واصلت قيادة الدراجة، وأنا واصلت الركض في المساحة الفارغة.
لا أعلم إن كنتم تؤمنون بالقدر، لكن هل تعلمون الفريق الذي كنا نلاعبه عندما سجلت هدفي الأول لريال مدريد؟
نادي إيركوليس
لقد قطعنا شوطًا طويلًا.
لذا يمكنك أن تتفهم الآن لماذا انفجرت في البكاء أمام سابيلا قبل مباراة نهائي كأس العالم. لم تكن أعصابي قد انفلتت. ولم أكن قلقًا حول مسيرتي. ولم أكن مهتمًا بأن أبدأ المباراة.
أقسم لكم، لم أكن أريد إلا تحقيق حلمنا. كنت أريد أن يتذكرنا الناس كأساطير في بلادنا. ولقد كنا قريبين من ذلك.
ولهذا كان من المحزن أن أرى رد فعل الإعلام الأرجنتيني عن فريقنا. في بعض الأحيان، يصعب التحكم في النقد وإطلاق التعليقات السلبية. وهذا ليس صحيًا. فكلنا بشر، ونحن نمر بأمور في حياتنا لا يراها الناس.
أظن أن الناس تنظر هذه الأيام إلى إنستجرام ويوتيوب، ويتطلعون إلى نتائج المباريات، لكنهم لا ينظرون إلى كلفة ذلك.
قبل مباريات التصفيات النهائية، بدأت التردد على طبيب نفسي. لأني كنت أمر بفترة صعبة، وعادة ما كنت أعتمد على عائلتي لينتشلوني من هذه الفترات. لكن هذه المرة، كان الضغط الواقع علينا مع الفريق الوطني كثيفًا، فذهبت لطبيب نفسي، وكان ذلك مفيدًا للغاية. مع الوصول إلى المباراتين الأخيرتين، كنت أكثر ارتخاء وهدوءًا.
ذكّرت نفسي أني جزء من أحد أفضل الفرق على مستوى العالم، وأني ألعب لوطني، وللحلم الذي عشته صغيرًا. في بعض الأحيان، عندما نكون لاعبين محترفين، يمكننا أن ننسى هذه البديهيات.
والمباراة صارت مجرد مباراة مجددًا.
أظن أن الناس تنظر هذه الأيام إلى إنستجرام ويوتيوب، ويتطلعون إلى نتائج المباريات، لكنهم لا ينظرون إلى كلفة ذلك. لا يعرفون شيئًا عن الرحلة. يروني أحمل ابنتي وأضحك ونحن متوجهان إلى درع البطولة، فيظنون أن كل شيء على ما يرام. لكنهم لا يعلمون أن السنة التي سبقت التقاط هذه الصورة، وُلدت ابنتي مبكرًا وقضت شهران في المستشفى، وجسدها موصل بالأنابيب والأسلاك.
وربما يرون صورة لي وأنا أبكي مع درع البطولة، فيظنون أنني أبكي بسبب كرة القدم. لكن الحق أني أبكي بسبب ابنتي التي بين ذراعيّ والتجربة التي عشتها معها.
يشاهدون مباراة نهائي كأس العالم، وكل ما يرونه هو النتيجة.
1-0
لكنهم لا يرون كيف قاتل الكثير منا بعزم حتى نصل إلى اللحظة الحالية.
ولا يعرفون أن جدران غرفة معيشتي استحال لونها من الأبيض إلى الأسود.
ولا يعرفون أن أبي كان يعمل تحت سقيفة صدئة صغيرة.
ولا يعرفون أن أمي كانت تركب جارسيلا تحت المطر، وفي البرد، من أجل أطفالها.
ولا يعرفون شيئًا بشأن إيركوليس.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه
2 Replies to “أنخيل دي ماريا: تحت المطر، في البرد، وسط العتمة”
مؤثر وجميل جدا، ترجمة عذبة أ. أحمد
تحية لكما جميعا ايها الكادحون في كل جنبات العالم