على نحو مفارق، لم يكن هيجل مثاليًّا كفاية؛ لأن ما لم يره كان تحديدًا المضمون التأمليّ للمُضَارَبة الاقتصاديّة الرأسماليّة، والكيفيّة التي يعمل رأس المال وفقًا لها، كفكرة افتراضيّة محضة تُسيّر «أناسًا واقعيين».
تَخطِّي هيجل بهيجل
سلافوي جيجيك
ترجمة: فادي حنّا
منشور في مجلة Criticism للنقد الأدبيّ، المجلد ٥٣، العدد الثاني، ربيع ٢٠١١.
الترجمة نشرت في العدد رقم 85 من مجلة أوراق فلسفيّة.
إنّ الطبيعةَ المقاليّةَ التي يتميّز بها كتاب فريدريك جيمسون القصير الجديد عن فينومينولوجيا الروح لـ ج. ف. ف. هيجل لا ينبغي أن تثنينا عن حقيقة أنّ الكتاب يطرح تأويلًا نَسَقيًّا للبُنية الداخليّة لتحفة هيجل الأولى. وعلى الرّغم من أن كتاب تنويعات هيجل يأتي من مُؤلِّفٍ يبدو أن قراءة هيجل بالنسبة إليه نَشاطًا يوميًّا، إلا أنّ الكتاب يُمكن قراءته بوصفه مَدْخلًا إلى هيجل، بينما يقدِّمُ في الآن نفسه تلميحاتٍ تأويليّةً دقيقةً جديرةً بأعظمِ المُختّصينَ بهيجل. في هذه المُراجعة، أوّد التقيّد بأربع تنويعات وأربع مُداخلات حول موضوعات الكتاب الرئيسة؛ هيجل ونقد الرأسماليّة، وحلقة الافتراضات المُسبقة، والفَهم والعقل، وحدود هيجل النهائيّة. ترجعُ الطبيعةُ النقديّةُ لبعض ملاحظاتي، بالطّبع، إلى إعجابٍ شديدٍ بعمل جيمسون، وتآزرٍ مُشتركٍ في نِضالنا من أجل التراث الهيجليّ في الماركسيّة؛ على المَرء، في هذا الصدد، أن يتذكّر المثلَ الذي يقول: لا يَضربُ البرقُ سوى أعالي القمم.
-أ-
إن جيمسون مُحق في إشارته إلى حقيقة أنه «على الرغم من اطلاع هيجل على آدم سميث، والمذهب الاقتصادي الناشئ، إلا أن مفهومه عن العمل، الذي قد وصفته بالتحديد باعتباره أيديولوجيا حرفيةً، لم يكن ليتنبّأ بأصول عمليّة الإنتاج الصناعيّ، أو نظام المصنع». باختصار، فإن تحليلات هيجل للعمل والإنتاج لا يُمكن أن «تنطبق على الموقف الصناعيّ الجديد» (٦٨). ثمّة سلسلة من الأسباب المُترابطة لذلك القيد، تستند كلّها إلى حدود تجربة هيجل التاريخيّة. أوّلًا، إن فكرة هيجل عن الثورة الصناعيّة كانت من نوع التَّصنيع الذي عهده آدم سميث؛ حيث كانت سَيْرورةُ العملِ ما زالت تتألّفُ من أفرادٍ، يستعملون أدواتٍ، وليس المصنع، حيث الآلة تُحدِّد إيقاع العمل، ويُختزل العُمَّال الأفراد في الواقع إلى كائنات حيّة في خدمة الآلة، أي مُلحقات لها.
ثانيًا، لم يكن بوسع هيجل أن يتخيل الكيفيةَ التي يَحكم بها التَّجْريد في الرأسماليّة المتطوِّرة؛ عندما وصف كارل ماركس إعادة إنتاج رأس المال وتراكمه الجنونيّ، الذي يصل بمَساره الأنا واحديّ إلى ذروته في عالمنا الحاضر في المُضاربات الاقتصاديّة الانعكاسيّة على المُستقبل، فإنّنا نُبالغ في التّبسيط إذا قُلنا إنّ شبح ذلك الوحش المُتوالِد ذاتيَّا، الذي يسير في طريقه بغض النظر عن أي همٍ إنسانيّ أو بيئيّ، لهو تجريد أيديولوجيّ، فعلى المرء ألا ينسى أنّ ثمّة أناس حقيقيين وموضوعات طبيعيّة تقبع فيما وراء ذلك التّجريد، وعلى قدراتها الإنتاجيّة ومَواردها إنّما يقوم إعادة إنتاج رأس المال. وهو يتغذى عليها كطفيليّ بالغ الضخامة. والمشكلة أن ذلك التّجريد لا يتمثل في إساءة فهم الواقع الاجتماعيّ (عند المُضارب الماليّ) وإنما يكون «واقعيًّا» بالمعنى الدقيق لأنه يُحدد بنيةَ السّيْرورات الماديّة الاجتماعيّة: حيث مَصير طبقات كاملة من السكان، وبُلدان بأكملها في بعض الأحيان، تُقرّره رقصة رأس المال المُضارب الأنا واحديّة، السّاعية إلى غايتها ممثلة في الربح في طمأنينة لا مُبالية بأثر هذه الحركة على الواقع الاجتماعيّ. هنا يكمن العنف المنهجيّ الأساسيّ المميّز للرأسماليّة. وهو أغرب من العنف الاجتماعيّ-الأيديولوجيّ المُباشر المميّز لِما قبلها؛ ذلك أنه عنفٌ لم يعد بالإمكان أن يُعزَى إلى أفراد عيْنيين، ونواياهم «الشريرة»، بل إنه عنفٌ «موضوعيٌ» محض، ومنهجيّ ومجهول الشخصيّة. نقابل هنا التمييز اللاكانيّ بين الواقع والواقعيّ؛ فالواقع هو الواقع الاجتماعيّ الذي يتألف من أفراد حقيقيين مُتفاعلين ومُنتجين، بينما الواقعيّ هو المنطق الشبحيّ «المُجرّد» الجامد الرأسماليّ الذي يُحدد ما يحدث في الواقع الاجتماعيّ؛ تتضح هذه الفجوة حينما يعتبر الخبراء الاقتصاديين الدوليين الحالة الاقتصادية لدولة ما جيّدةً ومستقرةً، حتى إذا كانت الغالبية العظمى من شعبها يعيشون أسوأ من ذي قبل. ذلك أنّ الواقع لا يهم، ما يهم هو حالة رأس المال… مرة أخرى، ألا يصحّ ذلك في وقتنا الحاضر أكثر من أي زمان مضى؟ ألا تشير الظواهر التي عادةً ما تعيّن بصفتها ظواهر الرأسماليّة الافتراضية (virtual capitalism) (كالتعاملات المستقبليّة، والمُضاربات المالية المُجرّدة الشبيهة) إلى أننا نعيش في عهدٍ يغدو فيه تجريد الواقعيّ في أنصع صوره وأكثرها راديكاليّة مما كان عليه الحال في زمان ماركس؟ بإيجاز، لا تنحصر أوضح صور الأيديولوجيا في الانشغال بالطَّيْف الايديولوجيّ وتجاهل أساسها في الناس الواقعيين وعلاقاتهم، بل إنّها تكمن في التغاضي عن واقعيّة ذلك الطَّيْف، والتّظاهر بمخاطبة أناس واقعيين ومخاوفهم الحقيقيّة؛ إنّ زوار سوق لندن للأوراق الماليّة يتسلَّمون كُتيّبًا مجانيًّا يُبيّنُ أنّ سوق المال لا يتعلّق بتقلباتٍ ماليّةٍ غامضةٍ ولكن بأناس واقعيين وإنتاجاتهم – تلكم هي أنقى صور الأيديولوجيا.
لا ينبغي على المرء، أمام تحليل عالَم رأس المال، أن يضع هيجل في مُقابل ماركس فحسب، لكن ماركس نفسه لا بدّ وأن يصير راديكاليًّا؛ ذلك أن الرأسماليّة في شكلها العالميّ فيما بعد عصر التصنيع (postindustrial) المتحقق في أيامنا الحاضرة، تصل عنده فقط إلى أوّج تحقّق فكرتها، وفقًا للمصطلحات الهيجليّة؛ ربّما على المرء أن يهتدي مرة أخرى بشعار ماركس غير التطوريّ (anti-evolutionist) القديم (الذي أخذه بالمناسبة عن هيجل) القائل إن تشريح الإنسان يطلعنا كذلك على تشريح القردة؛ أي أنّ المرء لكي يوظّف البُنية المفاهيميّة المُتأصلة في شكل من أشكال التنظيم الاجتماعيّ عليه بالبدء من أكثر أشكالها تطوُّرًا.
إن رأس المال لهو مال لم يعد مُجرّد ثروة، أي تجسُّده العالميّ، ولكنه أضحى قيمةً تولِّد قيمًا أكثر من خلال إعادة إنتاجه. إنه قيمة تتوسط أو تفرض ذاتها، وتفترض مُقدماتها بأثر رجعيّ. يظهر المال، أولًا، بوصفه مُجرّد وسيلة لتبادل السّلع، فعوضًا عن المُقايضة غير النهائيّة، يستبدل المرء إنتاجه بالمُقابل العالميّ لكل السلع، والذي بدوره يمكن استبداله بأي سلعة يحتاج إليها المرء؛ ثم، وبمجرد أن توضع سَيْرورة تدوير رأس المال قيْد الحركة، فإن هذه العلاقة تنقلب؛ حيث تتحول الوسائل إلى غايات في ذاتها؛ أي أن المرور بالمجال «الماديّ» للقيم الاستعماليّة (أي إنتاج السلع التي تُلبي حاجات أفراد معينين) يُوضَع بوصفه لحظة فيما هو بالأساس المَسار الذاتيّ لتطور الرأسماليّة. وبدءًا من هذه اللحظة فصاعدًا، لم يعد الهدف الحقيقيّ إشباع حاجات الأفراد وإنما مزيد من المال، التكرار اللانهائيّ لإعادة تدوير رأس المال على ذلك النحو… هذه الحركة الدائريّة الغامضة من الوضع الذاتيّ (self-positing) تُساوي بالتالي العقيدة المسيحيّة المركزيّة حول هُوية الإله الآب، وابنه، والولادة الطاهرة التي بحسبها ولد الأب الواحد ابنه الوحيد مُباشرة (وبدون زوجة) وبالتالي تكوّن ما يُمكن أن نسميه بالأسرة وحيدة الوالد النهائيّة.
إذن، هل رأس المال هو الذات/الجوهر الحقيقيّ؟ نعم ولا. بالنسبة إلى ماركس، فإن ذلك التدوير المُحدث ذاتيًا هو على وجه الدقة، وبلغة فرويديّة، الخيال (fantasy) الرأسماليّ اللّاواعيّ الذي يحيا كطفيليٍّ يتغذى على جوف البروليتاريا بوصفها ذاتيّة منزوعة الجوهر. لهذا السبب فإنّ رقصة مُضارَبة رأس المال المُولَّدة على نحوٍ ذاتيٍّ لها حدودها، وهي تكشفُ عن شروط انهيارها. تخبرنا خبرتنا اليومية بأن غاية تدوير رأس المال النهائيّة هي إشباع حاجات الإنسان، وأن رأس المال لهو مُجرد وسيلة للوصول إلى ذلك الإشباع بكيفيّة أكثر كفاءة. ثم هناك فكرة رأس المال بوصفه وحشًا مُحدَثًا ذاتيًّا. ومع ذلك، فإن رأس المال، في الواقع، لا يحدثُ ذاتَهُ وإنما يستغل فائض قيمة العامل؛ بالتالي، فإن ثمّة مستوى ثالثًا ضروريًّا يُضاف إلى التقابل البسيط بين الخبرة الذاتيّة (لرأس المال بوصفه وسيلة تشبع حاجات الناس بكفاءة) والواقع الاجتماعيّ الموضوعي (الاستغلال): التضليل الموضوعي (objective deception) الذي يتمثل في الخيال اللاواعيّ المُنكَر (لحركة التوليد الذاتيّ الدائريّة لرأس المال) التي هي حقيقة السّيرورة الرأسماليّة (مع أنها ليست واقعها). مرة أخرى فالحقيقة، على حد تعبير جاك لاكان، مُركبّة كالخيال. والطريق الوحيد لصوغ حقيقة رأس المال هي بكشف ذلك الخيال المتمثل في حركته «المُطهَّرة» المُولَّدة ذاتيًا، كما أن تلك الملاحظة تتيح لنا أن نرى مواطن الضعف في مقاربة جاك دريدا «التفكيكيّة» لتحليل ماركس للرأسماليّة؛ فعلى الرغم من أنها تؤكد على سيرورة الإرجاء اللانهائيّ التي تُميّز تلك الحركة، وكذلك افتقارها الأساسيّ للحسم، والتقييد الذاتيّ، إلا أن الرواية التفكيكيّة ما زالت تصف خيال رأس المال، إنها تصف ما يعتقده الأفراد على الرغم من جهلهم له.
إن ما يعنيه كل ذلك هو أن مهمة التحليل الاقتصادي الحاضر المُلّحة هي تكرار، مرة أخرى، نقد ماركس للاقتصاد السياسي دون الوقوع في إغواء تعدُّد الأيديولوجيات في مجتمعات ما بعد عصر التصنيع. والتغير الحاسم يتعلّق بوضعية الملكيّة الخاصّة؛ ذاك العنصر النهائيّ من القوّة والتحكم لم يعد يتمثل في الحلقة الأخيرة من سلسلة الاستثمارات، في المؤسسة أو الفرد الذي يملك بالفعل وسائل الإنتاج. ذلك أن الرأسماليّ النموذجيّ اليوم يعمل بطريقةٍ جد مختلفة؛ فهو يستثمر أموالًا مُقترَضة، و«يملك بالفعل» لا شيء، بل حتى إنه مَديونٌ، ولكنه مع ذلك يتحكم في الأشياء؛ شركة تملكها شركة أخرى، تقترض بدورها المال من البنوك، التي بدورها ربما تتلاعب تمامًا بأموال أناس عاديين مثلنا. ومع شركة مايكروسوفت لبيل جيتس، أضحت الملكيّة الخاصّة لوسائل الإنتاج فكرةً خاويةً من المعنى، على الأقل بالنسبة إلى معنى الملكيّة الخاصّة القياسيّ. إن مفارقة جعل الرأسماليّة افتراضية تُماثل مفارقة الإلكترون في فيزياء الجسيمات؛ ذلك أن الكتلة التي تدخل في كل عنصر من واقعنا تتألف من كتلتها في وضع السكون وكتلتها المُضافة في حالة تعجيل/تسريع (acceleration) حركتها؛ ومع ذلك، فإن كتلة الإلكترون في وضعية السكون تساوي صفرًا. إن كتلته تتألف فقط مما يُضاف إليه أثناء حركته المُعجَّلة، كما لو أننا نتعامل مع عدمٍ يكتسب جوهرًا وهميًا فقط بِدَوْرتِهِ السحريّة بنفسه حول ما يفيض منه؛ ألا يعمل رأسماليو الحاضر الافتراضيون بالطريقة عينها؟ إن صافي قيمتهم يعادل صفرًا، إنهم يعملون مباشرة بفائض القيمة، بالاقتراض من المستقبل.
يسهل تمييز المُفارقة الساخرة ههنا؛ إن حقيقة أن ماركس احتاج إلى هيجل لكي يصيغ منطق رأس المال (والوثبة الهامة التي حدثت في أعمال ماركس في منتصف الخمسينيات حدثت عندما بدأ ماركس في قراءة منطق هيجل مرة أخرى بعد فشل ثورات ١٨٤٨) تعني أن ما أخفق هيجل في رؤيته لم يكن الواقع ما بعد الهيجليّ أو ما بعد المثاليّ للجانب الهيجليّ للاقتصاد الرأسماليّ؛ فهنا، وعلى نحو مفارق، لم يكن هيجل مثاليًّا كفاية؛ لأن ما لم يره كان تحديدًا المضمون التأمليّ للمُضَارَبة الاقتصاديّة الرأسماليّة، والكيفيّة التي يعمل رأس المال وفقًا لها، كفكرة افتراضيّة محضة تُسيّر «أناسًا واقعيين».
أخيرًا وليس آخرًا، تتعلق النقطة الثالثة الهامة بصراع الطبقة الرأسماليّة الحديثة في تميّزها عن التراتبيات الطبقية والإقطاعيّة التقليدية. فلئن كان مفهوم هيجل عن الهيمنة إنما يقتصر على الصراع التقليدي بين السيّد والعبد، فإن ما لم يستطع هيجل تصوُّره كان علاقة الهيمنة المستمرّة في عصر ما بعد الثورة (تُشير الثورة ههنا بالطبع إلى ثورة البرجوازية وإلغاء الامتيازات التقليدية) حيث يتعرّف جميع الأفراد على بعضهم البعض كذوات مستقلّة حرّة. ذلك التقدم الكبير للديمقراطيّة الحديثة:
«لا يستبعد بالتأكيد ظهور الثروة والتميزات العميقة بين الغني والفقير، حتى في البلدان الاشتراكية. كما أن ذلك لا يُنظر إليه بأي حال من الأحوال على أنه نهاية الطبقات بمعناها الاقتصادي؛ فما زال هناك عُمّال ومُدراء في هذه المجتمعات، ولا يزال ثمّة ربح واستغلال، وجيوش من العاطلين عن العمل، إلى آخره. بيد أن المساواة الثقافية الجديدة.. ملؤها كراهية للتراتبيّة الاجتماعية والامتيازات الخاصة وتستثير نفورًا عاطفيًّا من الفروق الطبقيّة والتفوق الثقافي الموروث. بوسع المرء أن يكون غنيًّا، ما دام الغنيّ همجيًّا كغيره» (١٠١).
إلى جانب ذلك، قد يضيف المرء القول بأن ذلك الموقف يستجلب إمكانًا غير متوقع لإعادة تملك البروليتاريا لما يسمى بالثقافة الرفيعة؛ ويبدو أن هذه الحالات الثلاث كلّها تتطلب تحليلًا هيجليًّا: أعني اختزالَ العُمّال إلى ملحقات للآلة، والواقع، والتراتبيّة المستمرة في شكل من أشكال «التعميم» – وانعكاساتها المفارقة التي تجسد تقلبات سَيْرورةٍ جدليّةٍ أكثر تعقيدًا.
-ب-
يصف جيمسون الفَهْمَ (Verstand)، أي «التفكير التجريبيّ لدى الحسّ المشترك في الخارجيّة (externality)، الذي يتشكَّل في الخبرة بالموضوعات الجامدة، والخاضع إلى مبدأ عدم التناقض» (١١٩)، باعتباره نوعًا من الأيديولوجيا التلقائيّة لحياتنا اليوميّة، وخبرتنا المباشرة بالواقع. هو بذلك ليس مجرد ظاهرة تاريخيّة تُحل بواسطة النقد الجدليّ والتغيير العمليّ للعلاقات التي تولّده، ولكنه عامل دائم فوق تاريخيّ (transhistorical) من واقعنا اليوميّ. صحيح أن العقل (Vernunft) «يقوم بمهمة تحويل أغاليط الفهم الضروريّة إلى حقائق جديدة جدليّة» (١١٩) بيد أن ذلك التحويل لا يتعرّض إلى كفاءة الفهم في الحياة اليوميّة، أعني دوره التكوينيّ في خبرتنا الجاريّة. كل ما بوسع العقل أن يفعله إنما هو نوع من التحديد النقديّ الكانطيّ للمجال الصحيح للفَهم؛ أنه فقط يجعلنا ندرك الكيفيةَ التي بها نكون ضحايا أوهام ضروريّة (ترانسندنتاليّة). تقوم هذه القراءة التي تُقابل بين العَقل والفَهم على تصور لا-ماركسيّ في صميمه عن الأيديولوجيا (أو بالأحرى شقاق لا ماركسيّ في صميمه لهذا التصور) قد يكون مأخوذًا عن لوي ألتوسير (أو ربما لاكان). يبدو أن جيمسون يُشير إلى نمطين من الأيديولوجيا في إطارٍ كانطيٍّ. أحدها تاريخيّ (عبارة عن أشكال مرتبطة بأوضاع تاريخيّة محددة، تختفي عندما تُلغى هذه الأوضاع، كالنظام البطرياركيّ التقليديّ) والآخر ترانسندتاليّ قَبْليّ (هو نوع من النزوع التلقائيّ إلى التفكير الهوياتيّ، والتَّشييء، إلخ، وهو لذلك ضروري بالنسبة للغة، ولهذا السبب يمكن إدراكه في الوهم العظيم المُتمثل في فكرة الآخر بوصفه «الموضوع القمين بالمعرفة»).
ترتبط بهذا التصور عن الأيديولوجيا فكرة جيمسون عن ما لا يمكن قوله (unsayable) (التي نادرًا ما تُلحظ برغم إنها الفكرة الأكثر ظهورًا). على سبيل المثال، يُجادل في مراجعته على كتابيّ مَشهد المَنْظَر ٢٠٠٦ (Parallax View) في مجلة لندن لمراجعة الكتب ضد فكرة المَنْظَر بقوله إن الاسم الذي يُطلق على أكثر الانقسامات/الاختلافات الأوليّة من أجل أن يُسمي شيئًا حري بنا تركه بغير مسمى؛ وبطريقة مماثلة، يشارك جيمسون بعض علماء الدماغ في نزوعهم الكانطيّ نحو الاعتقاد بالجهل البنيويّ القَبْليّ بالوعي:
«إن ما أطلق عليه المعاصرون لهيجل اللّا-أنا كان الوعي الذي يعي آخريته، ليس غيابًا للوعي ذاته، إنه شيء لا يتصور إلا بوصفه صورة خيالية علميّة من صور التفكير، إنه نوع من التفكير في الآخرية (otherness)؛ بَيْد أن من الصعب فهم كيف نعرف شيئًا بدون معرفة ما يتضمنه غيابه؛ ربما كانت مشكلة الوعي، كما يجادل كولن مكجين (Colin McGinn)، إحدى المشكلات الفلسفيّة التي لا يمكن للبشر حلّها من حيث التكوين؛ لهذا كان موقف كانط الموقف الصحيح تبنيه، أي أنه على الرغم من أن وجود الوعي مؤكدًا تمامًا كالكوجيتو الديكارتي إلا أن الوعي لا بد أن يبقى مستغلقًا دومًا كشيء في ذاته» (٣٢).
أقل ما يمكن قوله عن هذه العبارات هي أنها لا-هيجلية في صميمها، حتى إذا راعينا النقطة الجدليّة التي تعرّض جيمسون لها: أعني، لمّا كان أي عنصر لا يُمكن فهمه بطريقة ملائمة إلا عن طريق اختلافه مع ضدّه، ولمّا كان نقيض الأنا –اللّا-أنا– لا تتهيأ معرفته إلى الأنا كشيء في ذاته، إذن، فإن نتيجة عدم إمكان معرفة اللّا-أنا كما هو في ذاته، بمعزل عن الأنا، هي عدم إمكان معرفة الوعي (الأنا) ذاته كشيء في ذاته. لهذا تبطل الفكرة التجريبيّة الأنا واحديّة الأساسية القائلة إن الذات لا يمكن أن تعرف سوى ذاتها، أي إحساساتها؛ فإذا كان من غير الممكن معرفة اللّا-أنا فإن الأنا ذاته لا يمكن معرفته؛ والسؤال الذي يطرح نفسه ها هنا: هل من مخرجٍ من الوقوع في ذلك الدَّوْر؟ أم أننا نعلق فيه إلى الأبد، إذ إنّ كل تأمل في الخارج يُمثل دومًا تخيلًا بأثرٍ رجعيّ من نقطة في الداخل، أو كما يقول هيجل، هل وُضِعَتْ بالفعل كل المُقدمات/الفروض المُسبقة؟
يطوّر جيمسون هذه الاستحالة من أجل الخروج من قراءته الواضحة لمفهوم الوَضْع (positing) بوصفه المفتاح لِما يعنيه هيجل بالمثالية؛ إذ تمثّلتْ خطوته الأولى في التَّوَسُّط الجدليّ لحل التناقض الواضح بين الوَضْع والافتراض المسبق؛ لا يكمن أساس الوضع في الإنتاج المُباشر للموضوعات، بما أن ذلك يظلّ في تقابلٍ مجردٍ مع المُعطى (given) (الأنا بوصفه ذاتًا مُتناهية تجد أمامها موضوعات ماديّة، ثم تستمر في وضعها بالعمل عليها) إن أساس الوضع يتعلق بحالة تلك المقدمات/الفروض المسبقة نفسها، أي أن ما يُوضَع بدئيًا هو الافتراضات ذاتها. يُذكرنا ذلك بمفهوم مارتن هايدجر عن جوهر التقنية الحديثة بوصفها تأطيرًا (Gestell): فمن أجل أن تتلاعب الذات بالواقع وتستغله تقنيًا لا بُدّ من أن تضع ذلك الواقع أو تفترض إياه بطريقة مسبقة (أو لا بدّ أن «ينكشف» ذلك الواقع على حدّ تعبير هايدجر) بوصفه موضوعًا لإمكانيّة الاستغلال التقنيّ، مثال ادّخار المواد الخام، والطاقات، إلخ. في ذلك المعنى لا بد أن يتصور المرء ما يُوضَع «بمقتضى الفروض المسبقة، ذلك أن الوَضْع دائمًا ما يكون بطريقة ما في مُقدمة صور أخرى من التفكير، وصور أخرى من الفعل والحدث» (٢٧). أو، بتحديدٍ أكثر «مثل التجهيزات المسرحيّة أو إعدادات ما قبل تصوير الفيلم، حيث توضع أشياء معيّنة على المسرح بطريقة مسبقة، وتُحسب أعماق معيّنة، ويُحدَّد مركزًا للرؤيّة بدقة، وتُستعمل في ذلك قواعد المنظور من أجل تعزيز الوَهْم المُراد تحقيقه» (٢٨):
«تتبدى نظرية كانط (في التمييز بين الظاهرة والشيء في ذاته) في مظهرٍ مختلفٍ إذا فهمناها على أنها طريقة مُحدَّدة لوضع العَالَم… إنها لم تعد مسألة تخص الاعتقاد أن نُسلم إيمانيًا بوجود الواقع الموضوعي، أي الشيء في ذاته (النومنون)، وعالَم يوجد بمعزلٍ عن الإدراك الإنسانيّ. ليست المسألة أيضًا هي اتباع خطى فشته والتأكيد على أن الواقع الموضوعيّ – أعني النومنون، الذي صار الآن اللّا-أنا، يُحضر إلى الوجود بفعل أوليّ يمارسه الأنا، الذي «يفرضه» (بالمعنى الميتافيزيقي للكلمة).
بل بالأحرى، يصير ذلك الما بعد المميّز للنومنون أشبه بمقولة للفكر؛ فالذهن يضع الشيء في ذاته بحيث تنطوي كل خبرة بالظواهر على ما بعدها فيه؛ فالنومنون ليس شيئًا مُنفصلًا عن الظاهرة، بل إنه المقوِّم لماهيتها. إنما بداخل الذهن «تُوضَعُ» الحقائق الموجودة خارج الذهن ووراءه» (٢٩).
يجدر بنا هنا أن نقدّم تمييزًا دقيقًا بين الجانب المُفترض مسبقًا الغامض من الظاهرة، بوصفها موضوعات موجودة (ontic)، والأفق الأنطولوجي لظاهرها؛ فمن ناحية، كل إدراك حتى لموضوع عاديّ، كما انتهى إدموند هوسرل في تحليله الفينومينولوجيّ للإدراكات، ، ينطوي على سلسلة من الافتراضات حول جانبه المتواري عنّا، كذلك بالنسبة إلى خلفيته؛ ومن ناحية أخرى، يظهر الموضوع دومًا ضمن أفق هرمينوطيقيّ معيّن من التحيّزات (prejudices)، الذي يُهيأ الإطار القَبْليّ لكي نحدد ذلك الموضوع من خلاله، ونجعل الموضوع معقولًا – أن نُعاين الواقع بدون تحيُّزات يعني ألا نفهم شيئًا؛ تلعب هذه الجدلية من الوَضْع والافتراض المُسبق دورًا خطيرًا في فهمنا للتاريخ:
«مثلما نفترض دومًا أسبقية موضوع بدون مسمى، إلى جانب اسمه أو فكرته التي حددناها عنه توًا، فإننا أيضًا نفعل ذلك فيما يخص الزمانيّة التاريخيّة، أي نضع دومًا الوجود المُسبق لموضوعٍ ما منعدم الشكل (formless)، ليكون المادة الخام للتعبير الاجتماعيّ والتاريخيّ الذي ننشئه» (٨٥ – ٨٦).
يجدر فهم انعدام الشكل ذاك باعتباره محوًا عنيفًا للأشكال (السابقة)؛ ذلك أنه كلما وُضِع فعلًا معينًا بوصفه تأسيسيًا، بوصفه قطيعةً تاريخيّةً، وبداية حقبة جديد، فإن الواقع الاجتماعيّ السّابق، كقاعدة، يُختزَل إلى لُغزٍ فوضويٍّ لا تاريخيٍّ – على سبيل المثال، عندما «اكتشف» المستعمرون الغربيُّون إفريقيا السوداء قُرئ ذلك الاكتشاف بوصفه لقاء البدائيين الذين يعيشون في «ما قبل التاريخ» بالتاريخ المتحضّر الصّحيح، وطُمسَ تاريخهم السابق بوصفه مادةً لا شكل لها. وبذلك، فإن مفهوم وضع الفروض المسبقة ليس «حلًا للمشكلات التي تطرحها المقاومة النقديّة للسرديات الأسطوريّة التي تتعلق بالأصل فحسب.... بل إنه يستحضر كذلك إلى الوجود بأثرٍ رجعيّ، بمجرد ظهور شكل تاريخيّ معيّن، المادةَ منعدمة الشكل التي خرج منها» (٨٧). لا بدّ من توضيح ذلك القول الأخير، أو بالأحرى تصحيحه؛ فما يحضر إلى الوجود بأثر رجعي ليس المادة منعدمة الشكل، وإنما على وجه الدقة مادة كانت مُحدَّدةً جدًا قبل ظهور المادة الجديدة، وقد طُمست مَعالمها، وتوارت من أفق الشكل التاريخي الجديد، وبظهور الشكل الجديد يُدرك القديم إدراكًا خاطئًا، بوصفه مادة غير مُشكَّلة، ولهذا فإن انعدام الشكل ذاته لهو أثر رجعي، محو عنيف للشكل السابق. (وماذا عن الحجة المضّادة الواضحة المتمثلة في وفرة الدراسات الإثنية عن تلك جماعات ما قبل التاريخ تلك، وتوصيفاتها التفصيلية لطقوس هذه الجماعات وأنظمة الوراثة، وأساطيرهم، وغيرها؟ إن علم الأعراق والأنثروبولوجيا الكلاسيكيين كانا يتألفان من دراسات حول جماعات «ما قبل التاريخ» أهملت بالضبط، وبطريقة ممنهجة، خصوصيّة تلك الجماعات، ونظرت إليها في تقابلٍ مع المجتمعات «المتمدينة». من ذلك توصيف هذه الدراسات لأساطير النشأة البدائيّة، ذلك أن الانثروبولوجيين الأوائل قد قرأوا، على سبيل المثال، الجملة التي تقول إن قبيلة ما نشأت عن بومة، قراءةً حرفيّةً: («إنهم يعتقدون بالفعل أن أسلافهم كانوا بومًا») يفقد المرء تمامًا الطريقة التي تعمل بها هذه العبارات إذا غفل عن الأثر الرجعيّ لمثل هذه الافتراضات المسبقة، فيجد المرء نفسه في عالَم أيديولوجيا التقدُّم الغائيّ؛ أعني السرديّة الايديولوجيّة، حيث تُصَوّرُ الحقبُ التاريخيّةُ الأسبق كمراحل أو خطوات تقدميّة نحو الحقبة «المتحضرة» الحالية؛ وهنا يكمن السبب في أن وضع الفروض بأثرٍ رجعيّ هو «البديل المادي لتلك (الغائيّة) التي عادةً ما يوصم بها هيجل» (٨٧) (ويجب قراءة عبارة ماركس السابق ذكرها التي تقول إن الهيكل التشريحيّ للإنسان يُزوِّدنا بمفتاح تشريح القردة بالطريقة نفسها، بوصفها العَكْسَ الماديَّ لفكرة التقدُّم الغائيّ).
تثير وجهة نظر جيمسون برغم ذلك عددًا من النقاط النقديّة؛ أجل، إن الفروض المسبقة توضع (بأثر رجعيّ) بيد أن النتائج المترتبة على ذلك ليست أننا نعلق في حلقة الأثر الرجعيّ هذه إلى الأبد بحيث تصبح كل محاولة لإعادة بناء خروج الجديد من القديم ليست إلا سرديّة أيديولوجيّة، وإنما هي إعادات للشمل متتابعة، تخلق (تضع) كل واحدة منها ماضيها الخاص (وتستشرف مُستقبلها الخاص). وبتعبير آخر، فإن جدل هيجل هو علم الفَجوة فيما بين القديم والجديد، العلم الذي يفهم هذه الفجوة. إن موضوعها الحقّ المباشر ليس على وجه الدقة الفجوة بين القديم والجديد، وإنما تضعيف انعكاسها الذاتيّ، ذلك أن الجدل عندما يصف القطيعة بين القديم والجديد فإنما يصف في الآن ذاته الفجوةَ، ضمن القديم ذاته، بين القديم في ذاته (أي كما كان قبل الجديد) والقديم الموضوع بأثرٍ رجعيٍّ بواسطة الجديد؛ وبسبب هذه الفجوة المُضعَّفة فإن كل شكل جديد يظهر كأنه مخلوقًا من العدم؛ فالعدم الذي منه ينجبس الجديد هو بعينه الفجوة بين القديم في ذاته والقديم بالنسبة للجديد، إنها الفجوة التي تجعل من المستحيل فهم ظهور الجديد من خلال سرديّة اتصاليّة (كان ماركس نفسه واعيًا بتلك الفجوة، وهو يستعمل في الفصل الأخير من الجزء الأول من كتاب رأس المال سرديّة «ما يُعرف بالتراكم الأولي لرأس المال» ليواجه الوحشيّة الفوضويّة المُصاحبة للظهور التاريخيّ الفعليّ للرأسماليّة).
على المرء أن يضيف قيدًا إضافيًّا ها هنا؛ إن ما يتملص منّا ليس النحو الذي كانت عليه الأشياء قبل وصول الجديد، وإنما ميلاد الجديد نفسه، الجديد كما كان «في ذاته»، أي من منظور القديم، قبل أن يعمد الجديد إلى وَضْع فروضه المُسبقة. لهذا السبب دائمًا ما يتضمّن الخيال (الفانتازيا)، أعني السرديّة الوهميّة، نظرة إلى المُستحيل، بها تُحضر الذات بالفعل في مشهد غيابها؛ إن هذا الوهم يُماثل الواقع البديل الذي تُوضع أيضًا آخريته (otherness) من قبل الكليّة (totality) الفعليّة، ولهذا السبب يظلّ داخل إحداثيات هذه الكليّة. ليس الطريق من أجل تجنب ذلك الردّ الطوباويّ للذات إلى نظرةٍ مُستحيلةٍ تتّجه إلى واقع بديل تغيب فيه الذات هو أن نهجر ذلك الواقع البديل بما هو كذلك؛ لنتذكر مفهوم فالتر بنيامين عن الثورة بوصفها خلاصًا من خلال تكرار الماضيّ. بخصوص الثورة الفرنسيّة، فإن مهمة المؤرخ الماركسيّ الحق ليست وصف الأحداث كما وقعت فعلًا (وأن يشرح كيف ولدت هذه الأحداث الأوهام الأيديولوجية المُصاحبة لها)؛ بل إن مهمته هي الكشف عن الإمكانية المستترة (الإمكانات الطوباويّة التحرُّريّة الكامنة) التي بُدِّدَتْ في خضم الثورة، ونتائجها النهائيّة (ممثلة في ظهور السّوق النفعيّ الرأسماليّ). لم تكن المسألة بالنسبة إلى ماركس أن يسخر من الآمال الجامحة لحماسة اليعاقبة الثوريّة، أو أن يُبيّن كيف أن خطابهم التحرريّ العال كان مُجرد وسيلة استعملها دهاء العقل التاريخيّ لتأسيس الواقع الرأسماليّ التجاريّ الفجّ. وإنما أن يبيّن كيف صمدت هذه الإمكانات التحرُّريّة الراديكاليّة المبددة واستمرّت كأشباح تاريخيّة تُطارد الذاكرة الثوريّة، وتطالب بتفعيلها، بحيث يتوجب على ثورة البروليتاريا القادمة أن تُخلّص أشباح الماضي تلك (بأن تريحها). إن تلك النسخ البديلة من الماضي التي تستمر في صورةٍ شبحيّةٍ تؤلِّف الانفتاح الأنطولوجيّ على السَّيْرورة التاريخيّة، كما تبيَّن ج. ك. تشيسترتون:
«إن الأشياء التي كان من الممكن أن تحدث لا تتوفر حتى للخيال. لو أن شخصًا قال إن العالم لكان أفضل إذا لم يسقطْ نابليون أبدًا ولكنه أسس ذرّيته الإمبراطورية عوضًا عن ذلك لهزهز الناس رؤوسهم بحماقة؛ فالفكرة ذاتها جديدة بالنسبة إليهم. مع ذلك، كان من المحتمل أن يُخمد ردّ الفعل البروسيّ، وربّما حُفظت المساواة، والتنوير، بدون الدخول في معركة دامية مع الدين. وربّما اجتمع الأوروبيون وتجنبوا الفساد البرلمانيّ، والصّراعات الفاشيّة والبلشفيّة. لكن في عصر المفكرين الأحرار، فإن عقول الناس ليست حرّة فعلًا حتى يفكرون في مثل ذلك.
إن شكوتي هي أن من يقبل بحكم القَدَر بهذه الطريقة فهو يقبله بدون معرفة بالأسباب؛ إن أولئك الذين يفترضون أن التاريخ يسير دائمًا في اتجاهه الصّحيح هم أنفسهم، بمفارقة غريبة، الذين لا يعتقدون في وجود أي تدابير خاصّة لتوجيهه. إن العقلانيين الذين يسخرون من المُحاكمة بالمبارزة، في النظام الإقطاعيّ القديم، هم أنفسهم الذين يقبلون بأن مُحاكمة كهذه قد تُقرّر التاريخ الإنسانيّ بأكمله».
في عمله الأقل شهرة الرجل الأبدي (١٩٢٦) (Everlasting Man) يتصوّر تشيسترتون في هذه السطور تجربة ذهنية رائعة، حين يتخيّل الوحش الذي ربما بدا عليه الإنسان أوّل الأمر في نظر حيوانات الطبيعة من حوله:
«تتمثّل أبسط الحقائق المتعلقة بالإنسان في أنه كائن غريب للغاية؛ تقريبًا بمعنى أنه غريب عن الأرض. بكل حصافة، إنّ مظهره الخارجيّ يوحي كأنه يجيء بعادات غريبة من أرض أخرى غير هذه الأرض. إنه يتميّز بأفضليّة غير مُنصفةٍ، ونقيصةٍ غير عادلةٍ. وهو لا ينام مُطمئن البال، ولا يمكنه الوثوق في غرائزه. إنه خالقٌ، يُحرِّك يديه المُعجزتَيْن وأناملهما وفي الآن نفسه به نوع من العَجْز. تكسوه ضِمادات صناعيّة تُسمى ملابس، ويتكئ على دُعامات صناعيّة تسمى أثاثًا. يتميّز عقله بالقدر نفسه من الحريّة والقيّود. وحده من بين الحيوات يرتعد بجنونٍ جميلٍ يُسميه ضَحكًا. كما لو أن سرًا عن تكوين العالَمِ مُستترًا عن العالَمِ ذاته قد انكشف له؛ وحده من بين الحيوات يشعر بالحاجة إلى كبح تفكيره عن واقع وجوده الجسديّ الأصليّ، ليخفيه في حضرة إمكانيّة أعلى تخلق لغزَ الخَجَلِ. وسواء مَدَحنا هذه الأشياءَ بوصفها طبيعيّةً لدى الإنسان أو ذَمَمْنَاها بوصفها صناعيّةً في الطّبيعة، فإنها تبقى فريدة من نوعها».
ذلك ما يسميه تشيسترتون التفكير نحو الوراء. لا بد أن نضع ذواتنا في الماضيّ، قبل اتخاذ القرارات المصيريّة، أو الحوادث التي أحدثت الوضع القائم الذي يبدو الآن طبيعيًّا بالنسبة لنا. والطريقة المثلى لأن نعيّن لحظة القرار تلك هي أن نتخيّل الكيفيّة التي كان من الممكن أن يتخذ بها التاريخ مُنعطفًا مغايرًا عند هذه اللحظة. (لا يعني ذلك، على أيّ حال، إننا في التكرار التاريخيّ، بالمعنى الراديكاليّ الذي قصده بنيامين، نعود ببساطة إلى زمن اتخاذ القرار، وأننا نقوم هذه المرّة بالقرار الصائب؛ بل إن الدرس من التكرار، بالأحرى، يتمثل في أن الخيار الأوّل كان بالضرورة الخيار الخاطئ، ذلك بالضبط لأن الخيار الصائب ليس ممكنًا إلا في المرّة الثانية، التي تعقب الاختيار الخاطئ؛ ذلك أن الاختيار الخاطئ هو ما يخلقُ شروط إمكانيّة الخيار الصحيح. ولهذا، فإن الفكرة القائلة بأنه كان في إمكاننا أن نصنع الخيار الصّائب منذ البداية، وأننا قد ضيّعنا هذه الفرصة خطأً، لَهي وَهْمٌ بأثرٍ رجعيٍّ).
-ج-
يمكن أن يثير المرء، ضد ذلك، مسألتين نقديتين بشأن فكرة جيمسون عن الفَهْم كشكل أبديّ من الأيديولوجيا لا يمكن تجاوزه؛ أوّل ما ينبغي ملاحظته أن سمة عدم التجاوز تلك مُضعَّفة في حد ذاتها: أولًا، ثمّة الفهم بوصفه نزوع الفكر الإنساني القبلي نحو التشييء الهوياتيّ. ثم هناك فكرة عدم تجاوز حلقة وَضْع الفروض المسبقة، التي تمنعنا من الخروج من ذواتنا نحو اللّا-أنا في كل مظاهره، المكانيّة والزمانيّة (أي من خارج واقعنا، مثلما ينفصل ماضينا التاريخي عنّا). أوّل نقطة هامة نشير لها هي أن السمات التي يعزوها جيمسون إلى الفهم («ذلك التفكير التجريبيّ لدى الحسّ المشترك في الخارجيّة (externality)، الذي يتشكَّل في الخبرة بالموضوعات الجامدة، والخاضع إلى مبدأ عدم التناقض») محدودة تاريخيًا بوضوح، إنها تُعيِّن الحس المشترك الحديث العلمانيّ التجريبيّ بطريقة مختلفة تمامًا عن، لنقل مثلًا، التصور الكلّانيّ (holistic) البدائيّ للواقع الذي تتخلله القوى الروحيّة.
على أيّ حال، تتعلق نقطة أكثر أهمية بالطريقة التي يصوغ بها جيمسون الثنائية بين الفهم والعقل؛
فالفهم يُفهم بصفته الصورة البدئية للتحليل، وتعيين خطوط الفروق الثابتة، وتحديد الهويّات؛ وبالتالي فإنه يختزل الواقع الثرّ إلى فئة من السمات المجردة. إن ذلك النزوع التلقائي نحو التشييء الهوياتي لا بد أن يصححه إذن العقل الجدليّ، الذي يعيد إنتاج التركيب الديناميكي للواقع بطريقة
بحيث يرسم شبكة العلاقات المتبدّلة حيث تتحدد كل هويّة؛ تولّد هذه الشبكة كل هويّة وفي الآن ذاته تسبب انهيارها الأخير... برغم ذلك إلا أن تلك ليست الطريقة التي يتصور بها هيجل التمييز بين الفهم والعقل، لنقرأ بتمهل فقرة معروفة جيدًا من مقدمة فينومينولوجيا الروح:
«إن تفكيك تصوُّر ما إلى عناصره الأصليّة إنما هو الرجوع إلى لحظاته التي ليست لها، على أي حال، صورة التصور الحاصل بعد، بل الصّفة الحاصلة للذات. وما من شك في أن ذلك الحلّ لا ينتهي إلا إلى أفكار هي نفسها تعيينات مألوفةٌ وراسخةٌ وساكنةٌ. أمّا ذلك المنفصل، غير الواقعيّ ذاته فإنما هو لحظة جوهريّة؛ فليس المتعيّن المتحرك بذاته هكذا إلا لأنه ينفصل ويجعل من نفسه اللا-واقعيّ. ونشاط الفصل إنما هو قوة الفهم وعمله، وهو المَلَكة الخارقة والأعظم من بين جميع المَلَكات، بل بالأحرى المَلَكة المُطلقة؛ والدور الذي يسكن منغلقًا في ذاته، فيشد وثاق لحظاته كأنه جوهر، إنما هو الصلة الحاصلة، وبالتالي غير الخارقة، أمّا كون العَرَض المُنفصل بما هو كذلك عن مساره أو كون الموصول الذي لا يكون واقعيًا إلا في ترابطه مع آخر يحصلان كيانًا خاصًا وحرية مفردة، فتلك إنما هي القدرة الجليلة التي للسلبيّ؛ إنها الفعل الذي للتفكير والأنا الخالص. والموت، إن شئنا تسمية ذلك اللا-واقعي هكذا، إنما هو أشد ما يُخشى، والإبقاء على ما مات، وحفظه، يقتضي القوّةَ الأعظم».
إن الفهم، لا سيّما في جانبه التحليليّ، الذي يُفكك وحدة الشيء أو السيرورة إلى أجزاء، يُحتفى به ها هنا بوصفه «المَلَكة الخارقة والأعظم من بين جميع المَلَكات، بل بالأحرى المَلَكة المُطلقة»؛ هكذا، من المدهش (بالنسبة لأولئك المتمسكين بوجهة النظر العامة عن الجدل) تمييز الرّوح بالطريقة عينها الذي، فيما يخص المقابلة بين الفهم والعقل، يتخذ جانب العقل بوضوح: «الروح كحقيقة بسيطة هو الوعي-الذي يتخلل كل لحظاته»، ويتحوّل كل شيء إلى الكيفية التي نفهم بها تلك الهويّة وذلك التمايز بين الفهم والعقل: ليس يضيف العقل شيئًا إلى القوة المُفصِّلة للفهم، ولا يعيد تأسيس (في مستوى أعلى) الوحدة العضوية لما حلله الفهم، بحيث يدمج التحليل مع التركيب؛ ولكن العقل هو، بطريقة ما، لا أكثر من الفهم ولكنه أقل منه؛ إنه الفهم في فعاليته (إذا أردنا قول ذلك بمصطلحات هيجلية معروفة حول القسمة بين ما يريد المرء قوله وما يقوله فعلًا) ما يفعله بالفعل، في مقابل ما يوّد أو يعمد إلى فعله. ليس العقل إذن مَلَكة أخرى مُكملة للفهم أحاديّ الجانب؛ إن فكرة وجود شيء (صميم المضمون الجوهريّ للشيء المُحلَّل) الذي يتملص من الفهم، ويقع فيما وراء حدوده هو الوهم الأساسيّ بالنسبة إلى الفهم؛ بتعبير آخر، كل ما نحتاجه من أجل الانتقال من الفهم إلى العقل هو أن نطرح من الفهم وهمه التّكوينيّ؛ إن الفهم ليس مجردًا أو عنيفًا لهذه الدرجة. إنه، على النقيض، كما يقول عنه هيجل في حديثه عن كانط، هشٌ جدًا تجاه الأشياء، ويخشى أن تنكشف حركته العنيفة التي تمزق الأشياء إلى أشياء. إنها المعرفة، على نحو ما، في مقابل الوجود؛ أعني إن وَهْم الفَهْم هو قدرته التحليليّة، تلك القدرة التي تُحدث «العَرَض بما هو كذلك»، عندما يُفْصَل عن محيطه – ذاك الذي يتصل ويتقوّم بشيء آخر ويتحقق فعليًا باتصاله به... يمتلك وجوده الخاص، وحريّة واستقلالًا، إنه مجرد تجريد، شيء خارجيّ عن الواقع الحق الذي يبقى مستغلقًا بالكامل؛ بتعبير آخر يكمن صميم وَهْم الفَهْم في النظر إليه وقدرته على التّجريد (التي تمثل مَرانًا عقليًا غير متمرس يفتقر إلى وفرة الواقع). ونقول ذلك بطريقة مغايرة: إن خطأ الفهم يكمن في إدراك فعاليته السلبيّة (كونه يفصل، ويمزق الأشياء عن بعضها) فقط من حيث جانبه السلبيّ بغض النظر عن الإيجابيّ (البنائي)، فإن العقل هو الفهم بعينه في جانبه البنائيّ.
-د-
حتى إن جيمسون يسلم بذلك الموضوع الكلاسيكي الضد هيجليّ حينما يحدد النرجسيّة بأنها «قد تبدو منفّرة في بعض الأحيان في النسق الهيجليّ» (١٣٠)، أو إنها، باختصار، نقطة الضعف المركزية في فكر هيجل المعبر عنه في أن العقل عليه أن يجد ذاته في العالم الفعلي:
«هكذا، فإننا نبحث في العالم بأسره، ونجوب الفضاء الخارجيّ، لننتهي إلى ذواتنا فحسب، ودومًا نرى وجوهنا فقط في الفروق المتعددة غاية التعدد وصور الغيريّة؛ فلا نقابل أبدًا ذاك اللا-أنا، أو نواجه آخرية راديكالية (أو أسوأ من هذا، أن نجد ذواتنا في حركية تاريخيّة حيث نقضي على الاختلاف والغيرية تمامًا)؛ هذه معضلة الجدل الهيجلي، ويبدو أن فلسفات الاختلاف والغيريّة المُعاصرة تواجهها فقط بابتهالات وأوامر صوفيّة» (١٣١).
فبدلًا من محاولة تقويض أو مجاوزة هذه النرجسية من الخارج والتأكيد على غلبة الموضوعي (أو القول بأن الكل باطل، والموتيفات الشبيهة الأخرى كلها التي تعبر عن رفض تيودور أدورنو للمثاليّة الهوياتية)، على المرء، بالأحرى، أن يؤشكل الصورة المنتقدة في هذا السياق من هيجل بأن يطرح سؤالًا بسيطًا: عن أي هيجل نتحدث في هذا الصدد؟ ألا يشير جورج لوكاتش وأدورنو كلاهما إلى القراءة الخاطئة لهيجل بوصفه مثاليًا ذاتيًا، أي صورة هيجل القياسيّة بوصفه المثاليّ المُطلق الذي أكد على الروح بوصفه المُحرك الحقيقيّ للتاريخ، ذاته -وجوهره؟ من هذه الوجهة من النظر يمكن النظر إلى رأس المال بوصفه التجسيد الجديد للروح الهيجليّ. إنه وحشٌ مجردٌ، يتحرك بتوسُّطٍ من ذاته، يتطفل على فعالية أفراد حقيقيين. لهذا السبب يظل لوكاتش مثاليًا للغاية عندما يقترح استبدال البروليتاريا ببساطة بالروح الهيجليّ، بوصفها ذات التاريخ وموضوعه. ولوكاتش عندما يقول ذلك فهو ليس هيجليًّا بالفعل، وإنّما مثاليٌ من طراز مثاليين ما قبل هيجل.
إذا حوّل المرء ذلك الفرض المسبق الذي يتشاركه لوكاتش مع أدورنو فسيظهر هيجل آخر. هو صورة أكثر مادية من هيجل، إذ لا يعني التأليف بين الذات والجوهر عنده أن الذات قد ابتلعت جوهرها، أو استوعبته في لحظتها التابعة الخاصّة. إنما يحدث التأليف بين انفصالَينِ أكثر بساطة، ومتداخلَينِ أو متضاعفَينِ. على الذات أن تميّز، في اغترابها عن الجوهر، انفصالَ الجوهر عن ذاته. ذلك التداخل هو ما يفتقر إليه منطق سَلْبِ الاغترابِ الفيورباخيّ-الماركسيّ، حيث تتجاوز الذات اغترابها بالتعرُّف على ذاتها بوصفها الفاعل الذي يضع ما يتبدى إليه على أنه افتراضه الجوهريّ. في التوفيق الهيجليّ بين الذات والجوهر، لا يوجد ذات مطلقة في شفافية ذاتية تامّة تملك أو تستوعب المضمون الموضوعي الجوهريّ برّمته؛ إن التأليف لا يعني أيضًا (كما كان معناه عند المثاليين الألمان، من هولدرلن حتى شيلنج) أن الذات لا بد أن تتخلى عن غطرستها في إدراك ذاتها كمحور العالَم، وأن تقبل لا مركزيتها الأساسيّة، واعتمادها على مُطلق أوّليّ لا يسبر غوره، يقع فيما وراء القسمة بين الذات والموضوع، وبهذا، يقع وراء الإدراك الذاتي. إن الذات ليست هي أصلها: يرفض هيجل بكل وضوح تصور فيشته عن الأنا المطلق، الذي يضع نفسه وهو لا شيء سوى فعاليته الخاصة لهذا الوضع الذاتي (self-positing). بيد أن الذات أيضًا ليست عَرضًا ثانويًا، أو مُلحقًا، أي ثمرةً لواقع أساسيّ قبل-ذاتيّ؛ لا يوجد كائن أساسيّ يمكن أن تعود إليه الذات، ولا نظام عضويّ من الوجود يحيط بها، بحيث لا بدّ أن تجد الذات فيه مكانها الملائم. إن التأليف بين الذات والجوهر يعني قبول ذلك الافتقار الجذريّ لأي نقطة تأسيسيّة. الذات ليست أصلها، إنها تأتي ثانيًا، تستند إلى فروضها التأسيسيّة؛ بيد أن هذه الافتراضات أيضًا تعدم الاتّساق الأساسيّ، وهي موضوعة دومًا بأثر رجعيّ.
معنى ذلك أيضًا أنه لا ينبغي النظر إلى الشيوعيّة باعتبارها إعادة تملك الذات من المضمون الأساسيّ المغترب؛ لا بد من رفض جميع أشكال التوفيق بوصفه «الذات التي تبتلع جوهرها». ومرةً أخرى، إن التأليف هو القبول الكامل لِهُوّة السيرورة غير المؤسَّسة بوصفها الفعليّة (actuality) الوحيدة الموجودة؛ فالذات تعدم الفعليّة التأسيسيّة، إنها تأتي ثانيًا، فقط من خلال سيرورة انفصالها، وتجاوز فروضها، كما أن تلك الفروض هي مجرد أثر رجعيّ لسيرورة التجاوز عينها. ونتيجة ذلك هي أنه يوجد على نهايتي السيرورة إخفاق وسلبية، يكمنان في صميم الكينونة إزاءنا. إذا كانت وضعيّة الذات سيروريّة (processual) بالكامل، فإنها تنبثق من خلال إخفاقها في تحقيق ذاتها. يعود بنا ذلك إلى إحدى التعريفات الصورية الممكنة للذات: الذات تحاول التعبير عن ذاتها في قيد دلاليّ، ثم يفشل ذلك التعبير، بواسطة ذلك الفشل ومن خلاله تنبثق الذات: الذات هي فشل تمثيلها دلاليًا؛ لهذا كتب لاكان عن ذات الدال (signifier) باعتباره «معقودًا». عندما يكتب المرء خطابًا غراميًا، فإن إخفاق الكاتب في صوغ اعترافه بوضوح وفعالية، وتذبذب عباراته، وتجزئة الخطاب، إلخ، تشهد كلها (بل ربما كانت البرهان الضروري والوحيد) على أن الحب المُعترف به حبًا أصيلًا؛ هنا، فإن الإخفاق في إيصال الرسالة حري أن يفهم على أنه علامة أصالتها. وعندما تصل الرسالة فإنها تثير شبهات ما إذا كان كل ذلك معد مسبقًا، أو أن الكاتب يحب نفسه، وجمال عباراته، أكثر من موضوع حبه. لهذا فإن الموضوع يردّ إلى ذريعةٍ يشتبك بواسطتها بالفاعلية النرجسية للكتابة.
ينطبق القول نفسه على الجوهر، فالجوهر لا يكون مفقودًا دائمًا وإنما يأتي فقط من خلال فقدانه، كعَوْد إلى الذات بطريقة ثانوية، ما يعني أن الجوهر دائمًا ما يكون متذيتًا (subjectivized)؛ في التوفيق بين الذات والجوهر فإن القطبين كليهما يفقد هويته الراسخة. دعنا نضرب مثالًا من علم البيئة: لا بدّ ألا تهدف السياسات التحررية الراديكاليّة سواء إلى السيطرة الكاملة على الطبيعة أو التسليم الإنسانيّ المتواضع لهيمنة الطبيعة الأم؛ وبدلًا من ذلك، لا بدّ أن تكشف عن الطبيعة في كافة كوارثها المحتملة، وكيف أن الإنسان غير قادرٍ على التنبؤ الكامل بعواقبها. إن الفعل الثوريّ، منظور إليه من منظور «هيجل آخر» لا ينطوي على فكرة لوكاتش عن الجوهر-الموضوع ، أي المُحرك الذي يعرف ما يفعل أثناء فعله.
بخصوص توفيق هيجل في الحالة ما بعد الثورية الحديثة، فإن جيمسون يقترح خطوطًا عامة لنسخة مضخمة من التوفيق الهيجلي، نسخة تلائم عصرنا الرأسماليّ العالميّ؛ مشروع عصر إنساني يتميّز بالإنتاج لأجلنا (نهاية الطبقات الاجتماعية) واعتبار البيئة (١١٣–١٥). يذهب جيمسون إلى أنه بقطع النظر عن فكرة النهاية القصوى للتاريخ، فإن التوفيق المقدم في نهاية فصل فينومينولوجيا الروح لهو تأليف هش ومؤقت - كان هيجل نفسه واعيًا أن ذلك التأليف مُهدد، كما يتضح من ردة فعله على ثورة ١٨٣٠ وأول بوادر الديمقراطية العالميّة. (يذكرنا ذلك برفضه العنيف لمشروع قانون الإصلاح الانتخابي الإنجليزي، الذي كان الخطوة الأولى لانتخابات شاملة) ألا ينتج عن ذلك أنه في ضوء التناقضات الجديدة للنظام الرأسماليّ في القرن التاسع عشر تفجرّ التأليف الهيجليّ الهشّ، إلا أن نهجًا هيجليًا يظلّ مُخلصًا للفكرة الكونيّة العينية، والحقوق الكونيّة للجميع، «يطلب في صميم بنيته التضخمات التالية في التاريخ اللاحق» (١١٥). ومشروع جديد من أجل التوفيق؟ برغم ذلك، إلا أن مثل هذه الخطوة يعوزها التبرير؛ فهي لا تقدر أن المفارقة عينها حول وضع الفروض بأثر رجعي تنطبق كذلك على المستقبل. لنضرب مثالًا بفكرة الأمّة، ونعيد صياغة أحد النقاد القدامى إرنست رينان (Ernest Renan) الذي رأى أن الأمّة هي مجموعة من الناس تجمعهم رؤية خاطئة عن الماضي، وكراهية لجيرانهم الحاليين، وأوهام خطيرة عن مستقبلهم. (إن مواطني سلوفينيا اليوم، على سبيل المثال، تجمعهم أساطير حول المملكة السلوفينية في القرن الثامن، وكراهيتهم الحالية للكروات، والوهم بأن الشعب السلوفيني في طريقه لكي يصير سويسرا القادمة). كل شكل تاريخي هو كليّة (totality) لا تشتمل فقط على وضع ماضيها بأثر رجعي، وإنما مستقبلها كذلك، مستقبل لا يُحقَّق أبدًا من حيث التعريف؛ ذلك لأنه المستقبل الراهن لهذا الحاضر. لذا، عندما يتحلَّل الشكل التاريخي الحاضر، فإنما بذلك يقوّض ماضيه ومستقبله.
لهذا كان هيجل محقًا عندما أصرّ على أن بومة منيرفا تبدأ فقط في الطيران عندما يرخي الظلام سدوله؛ ولهذا السبب كان المشروع الشيوعيّ طوباويًا بالضبط بقدر أنه لم يكن راديكاليًا كفاية، أي بقدر ما استطاع الزخم الرأسماليّ الإنتاجيّ المُطلق أن ينجو، ويُجرد من شروط وجوده المتناقضة العينية. يكمن قصور هايدجر، وأدورنو، وهوركهايمر، وغيرهم، في تخليهم عن التحليل الاجتماعي العيني للرأسماليّة. وهم في نقدهم أو مُجاوزتهم لماركس إنما يكررون خطأ ماركس؛ ذلك أنهم اعتقدوا، مثل ماركس، أن الطاقة الإنتاجية المطلقة للرأسماليّة توجد بمعزل تمامًا عن التكوين الاجتماعي العيني الرأسمالي؛ إن الرأسماليّة والشيوعيّة ليسا تحقيقين تاريخيين مختلفين، أو نمطين من العقل الأداتي، إن العقل الأداتي بوصفه كذلك هو رأسماليّ، مؤسس على علاقاتٍ رأسماليّةٍ، و«الاشتراكيّة الموجودة في الواقع» تُخفق بسبب أنها كانت نوعًا متفرعًا من الرأسماليّة، مُحاولة أيديولوجية لأخذ استراحة من الرأسماليّة، وأكل قطعة من الكعك، بينما تحتفظ بمكوِّنها الأصليّ. بتعبير آخر، إن تصور ماركس عن المجتمع الشيوعيّ نفسه خيال رأسماليّ أصيل؛ إنه سيناريو وهمي لحل التضاد الرأسمالي الذي وصفه ماركس بمهارة. رهاننا هو أنه، بكلمات أخرى، حتى إذا أزلنا التصوّر الغائيّ الشيوعيّ (فإن مُجتمع القوة الانتاجية المطلقة، بوصفه المقياس الضمنيّ الذي سعى ماركس إلى تعيين الاغتراب من خلاله في المجتمع القائم، ومجمل نقد الاقتصاد السياسيّ، وإعادة الإنتاج الرأسماليّ الخاويّة، كلها سوف يبقى مع ذلك.
إذن، مهمة الفكر اليوم مزدوجة: فمن ناحية، ثمة مسألة كيفية تكرار النقد الماركسيّ للاقتصاد السياسيّ بدون التصوّر الأيديولوجيّ الطوباويّ عن الشيوعيّّة كنموذج قياسيّ؛ ومن ناحية أخرى، كيفية تخيُّل الخروج من الأفق الرأسماليّ بدون الوقوع في براثن العَوْدة إلى التصوّر قبل الحداثيّ المُتمثل في المُجتمع المتوازن، المنضبط ذاتيًا (أي الإغواء قبل الديكارتيّ الذي تذعن له غالبية إيكولوجيا اليوم).
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.