يخبر إيفان أخيه بأن الإله نفسه "لا يساوي دموع طفل واحد معذب"، في النهاية، يُقَبِل أليوشا أخيه ويرحل. هذا التصرف المبهم ليس تواضعًا ولا تسليمًا، رغم أن الراهب وافق على أسباب إيفان. بدلًا من ذلك، فإنه يُعد اعتناقًا للعبثية؛ ما أسماه الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد (1813-1855) "وثبة الايمان"، وهو التزام بالصلاة حتى لو علمت بأن الله قد مات
كيف نصلي لإله ميت
مقال: إِد سيمون
نُشر في Aeon، ديسمبر 2021
ترجمة: محمد محمد عثمان
ذات مساء من العام 1851، نظر الشاعر والناقد الإنجليزي ذو السوالف العريض والثماني وعشرين عامًا إلى القناة الإنجليزية بصُحبة عروسه التي تزوجها للتو. تجولا على طول الجُرُف الطباشيرية البيضاء لساحل دوفر؛ خشن ويسطره الصِّوَّان الأسود وكأن الساحل انشق لتوه من القارة (الإنجليزية)، حينها قال:
"الليلة البحر ساج
المد في أقصاه، القمر يقبع جميلًا
عبر المضيق؛ على الساحل الفرنسي
تومض الأضواء وتختفي
والجُرُف الإنجليزية تنتصب جليلةً، وبراقةً
على الخليج الهادئ".
بعدها تنحو قصيدة ماثيو آرنولد Matthew Arnold (1822-1888) "شاطئ دوفر" منحى كئيبًا. فبينما يستمع إلى صوت الحصى الذي يُلقيه المدُّ الليلي جيئةً وذهابًا على ساحل كِنْت الصخري، هذا الإيقاع أثار به "نبرة خالدة من الحزن بداخله". اِعتقد بأن هذا الصوت هو مجاز لتقهقر الإيمان الديني، أو كما قال:
"بحر الإيمان
كان يومًا أيضًا في أقصاه، مُحيطًا بشاطئ الأرض...
لكن الآن أسمع فقط
هديره المتقهقر، المتواصل، الكئيب
مُرتدًا نحو زفير الليل".
قبل ثماني سنوات من صدور كتاب تشارلز داروين (1809-1882) Charles Darwin " أصل الأنواع" (صدر في العام 1859) وقبل ثلاثة عقود من صدور كتاب فريدريك نيتشه (1844-1900) Friedrich Nietzsche "هكذا تكلم زرادشت" (صدر في الفترة بين العامين 1883-1885) بتصريحه الصاعق بأن "الله قد مات"، كان آرنولد قد سمع بالفعل تقهقر الإيمان. نظرية داروين كانت واحدة من التحديات العديدة التي واجهت الإيمان التقليدي والتي شملت الفلسفات الراديكالية في القرن السابق، ومُكتَشَفَات علم الچيولوچيا، ودراسة مصادر الكتاب المقدس (النقد الأعلى) التي قام بها العلماء الألمان والتي أثبتوا بها أن الكتاب المقدس قد خَطَّه أُناسٌ عديدون وغير معصومين عبر عدة قرون. بينما كان الشكُ الصارخُ بالدين مستحيلًا، حتى بين مُتحرري الفكر، في الحِقَب السابقة، أصبح فجأة من الممكن فكريًا بالقرن التاسع عشر تأييد اللاأدرية والإلحاد. المد المُتقهقر لـ "بحر الإيمان" بقصيدة آرنولد كان تحولاً فكريًا ضخمًا في الوعي الإنساني.
ما عبرت عنه قصيدة "شاطئ دوفر" هو سردية ثقافية للتحرر من الوهم. اعتمادًا على اعتقادك بأي المؤرخين يمكن الوثوق به؛ فالتحرر من الوهم ربما يبدأ بقرن الثورة الصناعية التاسع عشر، أو القرن الثامن عشر التنويري، أو بقرن الثورة العلمية السابع عشر، أو بالقرن السادس عشر الإصلاحي، أو حتى بالفلاسفة المدرسيين بالعصور الوسطى الذين اعتنقوا المذهب الاسمي الذي أنكر بأن يكون للكلمات أي علاقة بالواقع النهائي. بغض النظر فهناك توافق واسع على سِيَاق هذه السردية. في لحظة ما في التاريخ الغربي كان الجميع من كل طبقات المجتمع لديهم سبيل لكل ما هو ديني الذي كان يتخلل جميع مناحي الحياة مُعطيًا لها المعنى والهدف. في خلال عصر ما قبل الحداثة هذا كان الوجود مُفْعَمًا بالأهمية. في لحظة ما بوابات جنة عدن هذه أُغْلِقَتْ بإحكام. تُعَرَف حالة الحداثة بأنها فقدان نهائي لسهولة الوصول للتسامي. كتب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر Max Weber (1864-1920) في مقالته "العلم كمهنة" عام 1917: "القيم الجوهرية وأكثرها سموًا قد تراجعت من حياة العامة إما إلى نطاق متسامٍ في حياة غامضة أو إلى إخوة في العلاقات الإنسانية المباشرة والشخصية"، وقد نتج عن هذا التراجع أن "مصير عصورنا يتصف بالعقلنة والعقلانية، وقبل كل هذا بتحرير العالم من الأوهام".
رغم أنه عليم بعظمة التكنولوجيا الحديثة وبعجائب البحث العلمي، فما زال آرنولد يشعر بفقدان التسامي، والخشوع، والمقدس. كتب في كتابه "الله والإنجيل" (صدر في العام 1875) مُقرًا بأن "الشخصيات في الملكوت المسيحي ومحادثتهم مع بعضهم ليست أكثر حقيقةً من الشخصيات في الأوليمبس الإغريقي"، ومع ذلك نعى الإيمان و"هديره المتقهقر، المتواصل".
البعض يربط بين زوال القوى الخارقة للطبيعة بتنحية الخرافة وكل التراتبيات الدينية المستبدة، بينما آخرون لا يسعهم سوى نعي فقدان التسامي، وحياة الغموض والقداسة. بصرف النظر إذا كانت الحداثة مُرحب بها أم لا ولكنها حالتنا اليوم. حتى هؤلاء من معتقدي الأرثوذكسية وصولًا إلى مُتطرفي الأصولية يعملون ضمن نموذج أسسه التحرر من الوهم، هم حداثيون كبقيتنا تمامًا. شاعر إنجليزي آخر وهو توماس هاردي Thomas Hardy (1840-1928) تخيل جنازة سريالية لله في قصيدة بالعام 1912، وفيها يتفجع راويه قائلًا:
"متوجهين نحو نسيان أسطورتنا،
بوجوه قاتمة، وشفاه واهنة، نتزَحَّف، نتعثر بطرقنا
أتعس ممن بكوا في بابل،
الذين كان صهيونهم ما زال أملًا راسخًا ثابتًا".
كيف يمكن للبشر التمسك بالتحرر من الوهم؟ يظل هذا هو السؤال الديني الأهم الموجه للحداثة. كما يتساءل هاردي "من أو ماذا سيحل مكانه". كيف تصلي لإلهٍ ميت؟
*
كان السؤال محوريًا ليس فقط في القرن التاسع عشر بل بين الفلاسفة في القرن اللاحق رغم أن الجميع لم يوله نفس الأهمية. عندما يتعلق الأمر بأين، أو كيف، أو لمن، أو حتى لِمَ على شخص ما أن يتوجه بصلواته لأحد لا يرى توماس هكسلي (1825-1895) Huxley Thomas في كل هذا أي مشكلة. هذا الرجل المتين، والمشاكس، والمحاور الشرس؛ عالم الحيوان وعلم التشريح، لم يصبح مشهورًا حتى العام 1860، عندما ظهر ليناقش الداروينية في جامعة أكسفورد مع الأسقف الإنجيلي المتملق صموئيل ويلبرفورس (1805-1873) Samuel Wilberforce. كان هكسلي أكثر المعاصرين إلمامًا بالعلم ومُتلقٍ للعديد من الجوائز المرموقة؛ القلادة الملكية، وميدالية ولاستون، ووسام كلارك، ووسام كوبلي، وميدالية لينيان- جميعها كرست الإقرار بإسهاماته في العلم. بالمقابل كان ويلبرفورس رجل الكنيسة الأنجلو كاثوليكية المُبهرج، وأسقف أوكسفورد وعميد ويستمنستر؛ مَثَلَ الأول العقلانية، والتجريبية، والتقدم. بينما مَثَلَ الثاني القوى الخارقة للطبيعة، والتقليدية، والقِدَم. لسوء حظ ويلبرفورس كان هكسلي تؤيده معلومات يمكن إثباتها. في غرفة بأرض خشبية داكنة وحيوانات مُحنطة وأمام جمهور يقارب الألف شخص سأل ويلبرفورس هكسلي لأي فرع من النسل الكريم للعالم البيولوجي قد تنتسب الغوريلا؛ أجداد أمه أم أجداد أبيه؟ يُقال بأن هكسلي رد عليه بأنه "يفضل أن يكون من نسل قردين على أن يكون رجلًا يخاف مواجهة الحقيقة". المناقشة كانت هزيمة ساحقة.
بالطبع كان لنظرية التطور تأثيرات على أي تفسير حرفي للخَلْقِ، لكن منتقدي النظرية مثل ويلبرفورس خشوا بصدق من التأثيرات الأخلاقية لوجهات نظر هكسلي. لكن هكسلي كان لديه رد سريع. وكتب في دراسته "التطور والأخلاق" (صدر في العام 1893) معتقدًا بأن "علم الفلك، والفيزياء، والكيمياء جميعهم مروا بأطوار مشابهة، قبل أن يبلغوا مرحلة يصبح تأثيرهم عاملًا مهمًا في الشؤون الإنسانية" وهذا ما سيحدث للأخلاق؛ "ستمر بنفس التراتبية". وبدلًا من الاعتماد على الوصايا [العشر] المتحجرة، آمن هكسلي بأن العقل "سيحدث ثورة عظيمة في عالم التطبيق". مثل هذا الإيمان بالتقدم كان شائعًا بين النخبة المثقفة في القرن التاسع عشر؛ الاعتقاد بأن المعرفة العلمية ستطور ليس فقط الظروف المادية للإنسان بل وأخلاقه على السواء. لكن ماذا إذن عن التسامي؟ وارثو التعليم الإنجليزي الكلاسيكي مثل هكسلي وويلبرفورس (ولن نذكر آرنولد) كانوا يشعرون بالألفة تجاه مقطع من شعر ألكسندر بوب (1688-1744) Alexander Pope يحكي بحماس عن إسحاق نيوتن في العام 1730: "ذات مساء قبعت الطبيعة خفية مع قوانينها. / قال الله ليكن إسحاق نيوتن، فكان النور". بالنسبة للبعض فالجواب عمن يمكنه أن يحل محل الإله كان واضحًا؛ العلم.
أمجاد العلم الطبيعي كانت متنوعة. فَهِمَ داروين الأساليب التي يخضع فيها كل من القرود والعثث على حد سواء لقانون التأقلم. وبداية من نيوتن (1643-1727) Newton تمكن علماء الفيزياء من التنبؤ بالقطع المكافئ (parabola) لكوكب أو كرة كريكيت بنفس الدقة، والثورة التي أحدثها أنطوان لافوازييه (1743-1794) Antoine Lavoisier حَوَّلَتْ خيمياء العصور الوسطى إلى كيمياء دقيقة. بحلول القرن التاسع عشر قاد العلم التجريبي إلى عجائب تكنولوجية إضافية؛ مثل الديناميكا الحرارية (thermodynamics) لجيمس كلارك ماكسويل (1831-1879) James Clerk Maxwell، وأعطانا لورد كلفن (1824-1907) Lord Kelvin المحرك البخاري، بينما أنارت الكهرومغناطيسية (electrodynamics) التي أسسها مايكل فارارادي (1791-1867) Michael Faraday (حرفيًا) العالم للأبد. في أثناء ذلك كان التقدم الذي يحرزه الطب من قبل التجريبيين مثل لويس باستور (1822-1895) Louis Pasteur يتكفل بازدياد الأمل بالحياة.
ومع ذلك ظل البعض مشغولًا بالتحرر من الوهم. هؤلاء من هم مثل آرنولد لم يملكوا تفاؤل هكسلي ولا هوس عظمة الأسقف. العديدون يئِسوا من انحدار العالم إلى آلية باردة حتى وإن كانوا مُقرين بدقة هذه النظريات. ربما يرى هكسلي البراعة في وصل المفصل بالأربطة والطريقة التي يغطي بها الجلد والفراء العظم، ولكن شخص آخر ربما يري ببساطة لحم وجريمة قتل. حتى داروين كَتَبَ "النظرية التي يعتقد بها علماء الفيزياء، أعنى بأن الشمس مع كل الكواكب الأخرى ستبرد مع الوقت وللأبد.. هي فكرة لا يمكن تحملها". مِثْلَ هذه الأزمة كانت عسيرة على هؤلاء من معتنقي العلم ولكن ليس باستطاعتهم إيجاد معنى في نظرياته. بالنسبة للعديدين فالغاية ليست طابع العالم الفيزيائي، ولكن بالأحرى شيء يمكن للإنسانية تكوينه.
كان الفن هو حل هذه الأزمة. صلاتنا لن تتوجه للعلم، بل للفن والشعر. في كتابه الأدب والدوجما (صدر في العام 1873) كتب آرنولد: " كلمة (الله) ... ليست مصطلحًا علميًا أو عن معرفة محددة، ولكن مصطلح شعري وبلاغي.. باختصار مصطلح أدبي". منذ الرومانسيين، أكد المثقفون أن الإبداع الفني قادر على بعث الساحرية. المسيحيون الليبراليون الذين أيدوا العلم المعاصر لم يهجروا الشعائر الكنسية، والطقوس، والكتاب المقدس بل فسروهم كَعَارض ثقافي. في ألمانيا، رفض اللاهوتي المصلح فريدريك شلايرماخر (1768-1834) Friedrich Schleiermacher كل من عقلانية التنوير والمسيحية التقليدية، عَرَضَ مفهوم جمالي للإيمان كان ما يزال ينجزه في كتابه كلمة عن الدين في العام 1799 "الإيمان بالله، وبالخلود الشخصي، ليسا بالضرورة جزءًا من الدين" ومثل آرنولد يرى شلايرماخر بأن "الله" أداة مجازية للتأمل الذاتي، فاهمًا العبادة كـ "تأملٍ صافٍ في الكون". مثل هذا الافتراض كان مؤثرًا طوال القرن التاسع عشر، خاصة بين الترانسندنتاليين الأمريكيين (معتنقي الترانسندنتالية/الفلسفة المتعالية) مثل هنري وارد بيتشر (1813-1887) Henry Ward Beecher ورالف والدو إمرسون (1803-1882) Ralph Waldo Emerson.
لامان ستيورت (1840-1923) Lyman Stewart، تاجر من بنسلفانيا ومؤسس شركة "يونيون أويل" في كاليفورنيا، كان لديه حل مختلف لما يسمى مشكلة "موت الله". بين أعوام 1910 و1915 دعا ستيورت إلى عقد لقاء بين القساوسة البروتستانتيين المحافظين من كافة الطوائف من بينهم أتباع الكنيسة البريسبيتاريّة (المشيخية) وأتباع الكنيسة المعمدانية وأتباع الميثودية لتأليف كتاب من اثني عشر مجلدًا يحتوي تسعين مقالًا تحت عنوان "الأسس: دليل إلى الحقيقة". كتب في العام 1907 أنه ينوي أن "يرسل نوعًا من التحذير والدليل للقساوسة المتحدثين باللغة الإنجليزية، ومعلمي اللاهوت، والطلاب، والمبشرين المتحدثين باللغة الإنجليزية ... وهذا سيجعلهم يأخذون حذرهم ويعيدهم إلى الطريق الصحيح".
أخذًا في الاعتبار معجزات الكتاب المقدس، وعصمة الانجيل، وعلاقة المسيحية بالثقافة المعاصرة، قُصِدَ بمجموعة المقالات هذه أن تكون "إعلانًا جديدًا لأسس المسيحية". المستهدفون لم يكونوا فقط من أتباع الليبرالية المسيحية، أو الداروينية ودارسي علم الدراسات الكتابية بل أيضًا الاشتراكية، والنسوية، والروحانية. الكتابة حول "النظرة الطبيعية للكتاب المقدس" وهي من الممكن اعتبارها تفسيرًا كتابيًا، المساهم في المقالات فرانكلين جونسون أعاد بشكل غريب استخدام مجاز آرنولد عن المحيط، كتب بأن الليبرالية "بحر يرتفع مده خلال ثلاثة أربع قرن.. صار الآن طوفانًا، مُقتلعًا، مُدمرًا، وباطشًا".
كالعديد من الراديكاليين، القساوسة الذين دعاهم ستيوارت مثل لويس ماير، وجيمس أور، وسايروس سكوفيلد رأوا أنفسهم يستعيدون المبادئ الأولى، لأن توجههم الجوهري هو أنهم "أصوليون". لكنهم كانوا ملتصقين بالحداثة مثل آرنولد، وهكسلي، وشلايرماخر. برغم مسعاهم الانتقامي فإن الأصوليين تبنوا مواقف لاهوتية كانت ستكون عديمة المعنى قبل الإصلاح، وصراعهم القلق مع العلمانية - خاصة تأييدهم للمجادلات العقلانية- لم يقدم شيئًا سوى دحض مشروعهم.
الصلاة للعلم، أو للفن أو لأي وثن كلها ردود فعل تجاه التحرر من الوهم، ولكنها غير جدية. بنظرة فاحصة فقد كَوَّن نيتشه تشخيصًا دقيقًا في كتابه "العلم المرح" (صدر في العام 1882) كتب يقول:
"مات الله، وسيظل الله ميتًا، ونحن من قتلناه.. أعظم وأقدس ما ملكه العالم يومًا قد نزف حتى الموت بخناجرنا، من سيمسح هذه الدماء عنا؟"
أحيانًا يُساء فهم نيتشه على أنه يستعرض إلحاده ببذاءة. برغم إنكاره وجود خالق شخصي [إله مجسم له ذات وشخصية]، إلا أنه لم يكن من ضمن العلمانيين البرجوازيين مثل هكسلي، الفيلسوف الألماني كان مُدركًا للتأثيرات المرعبة للتحرر من الوهم. هناك نتائج أخلاقية وميتافزيقية لموت الله وحتى إن كانت وصفة نيتشه محل شك – "ألا يجب على أنفسنا أن نصير آلهة حتى نستحق ببساطة أن نفعل فعلتنا؟"- فتقييمه لورطتنا الروحية تأسيسي. نيتشه النجم الصاعد لوجودية القرن العشرين عَبَّرَ عن تقبل جدي لعبثية الواقع، متسائلًا كيف يمكننا أن نواصل العيش بعد موت الله.
مبشر آخر للوجودية كان الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي (1821-1881) Fyodor Dostoevsky الذي كان لديه حل مختلف. في رواية الأخوة كارامازوف (صدرت في العام 1879) يستعرض نقاش حول الإيمان أكثر دقة من الثرثرة بين هكسلي وويلبرفورس. أخوان -إيفان وأليوشا- يناقشان الإيمان: الأول مادي ينكر وجود الله، والثاني راهب أرثوذكسي مبتدئ. اللاهوت التوحيدي دائمًا ما تصارع مع سؤال كيف يمكن لإله مطلق الخيرية وقدير أن يسمح بوجود الشر. نظرية العدالة الإلهية قدمت العديد من الحلول ولكن جميعها ثبت أنها غير مرضية. أن نتصور إلهًا ليس خيرًا أو ليس قديرًا يعني أنه ليس إلهًا على الاطلاق: وأن نعقلن معاناة الأبرياء أمر شنيع أخلاقيًا. ولذا يخبر إيفان أخيه بأن الإله نفسه "لا يساوي دموع طفل واحد معذب"، في النهاية، يُقَبِل أليوشا أخيه ويرحل. هذا التصرف المبهم ليس تواضعًا ولا تسليمًا، رغم أن الراهب وافق على أسباب إيفان. بدلًا من ذلك، فإنه يُعد اعتناقًا للعبثية؛ ما أسماه الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد (1813-1855) Søren Kierkegaard "وثبة الايمان"، وهو التزام بالصلاة حتى لو علمت بأن الله قد مات.
*
في روايته "صمت" (صدرت في العام 1966) حول اضطهاد القرن السابع عشر للمسيحيين اليابانيين يتساءل شوساكوا إندو (1923-1996) Shūsaku Endō: "إلهي، لِمَ أنت صامت؟ لِمَ أنت دائمًا صامت؟" بعد بربرية الهولوكوست وهيروشيما كل النظريات اللاحقة للعدالة الإلهية كانت محاولة للإجابة على إندو. بالحروب التي توقعها نيتشه واجه البشر آلهة جديدة من التقدم والعقلانية لأن الدافع التقني جعل من الممكن ارتكاب مجزرة صناعية [على غرار الثورة الصناعية]. لو أن التحرر من الوهم مَيَزَ القلق الذي أصاب الرومانسيين والفيكتوريين فإن أحلام القرن العشرين عن عالم أكثر عدلًا، وحكمةً، وتعقلًا قد بددتها أدخنة أوشفيتس وناجاساكي. فانتازيا هكسلي قد دحضها ببراعة الانقسام الكارثي للذرة.
هذه الأمور لم يتم تجاهلها في المعاهد اللاهوتية، بالنسبة للصحفي جون تي اِلسون (1931-2009) John T Elson الذي كتب في مجلة تايم Time للعام 1966: "حتى بين المسيحية.. مجموعة صغيرة من اللاهوتيين ناقشوا بجدية بأن على الكنائس أن تقبل حقيقة موت الله، والمضي قدمًا بدونه". هذه المقالة كانت في واحدة من الملفات الصحفية الأكثر جدلية والأعلى مبيعًا في مجلة تايم. إلسون أعلن عن حركة محرضة ناقشت موت الله جديًا، وتساءل كيف يمكن أن تكون الساحرية ممكنة في عصرنا الفاقد للمعنى. المفكرون الذين ألمحوا لذلك من بينهم جابرييل فاهاناين (1927-2012) Gabriel Vahanian، ووليم هاملتون (1924-2012) William Hamilton، وباول فان بيرن (1924-1998) Paul van Buren، وتوماس التيزير (1927-2018) Thomas J J Altizer، كلهم آمنوا بأن "في الحقيقة فبالتأكيد الله ميت، لكن [يقترح] أن نواصل ونكتب اللاهوت.. بدون الله" حركة موت الله، بمختلف درجاتها، توسعت في المعاهد البروتستانتية التقدمية روجت لـ "إلحاد مسيحي".
هذه الحركة الغريبة بطبيعة الحال متشعبة، وتتراوح بين هؤلاء الذين آمنوا بأن الله قد مات حرفيًا وبين هؤلاء الذين فهموا هذه اللغة على أنها رمز للضائقة التي أصابت الكنيسة والمجتمع. ما يوحد هؤلاء المفكرون -البروتستانت، والكاثوليك، واليهود- هو رغبتهم للقيام بـ "عمل جديد، وكتابة جديدة، وترانيم جديدة، ووعظ جديد، وبُرهان جديد، واحتجاج جديد، ومقاومة جديدة، وعقيدة جديدة ومؤمنة، ومعانٍ جديدة ومتجددة من التعبيرات الجمالية". كما يشرح كل من جوردن ميلر وكريستوفر رودكي في كتابهما "كتيب بالجريف للاهوت الراديكالي" (صدر في العام 2018) عن مناهج التحرر من الوهم- تراجع الأصولية، واعتناق الإلحاد، وإنكار بأن أي شيء قد تغير على الإطلاق- اللاهوت الراديكالي هو الذي قُدِرَ له فحص انعدام المعنى مباشرة وانتزاع ما تبقى من التسامي من الهاوية. "في العالم الغربي، يبحث العامة أكثر من أي وقت مضى عن لغة لاهوتية وأجوبة لمشكلة لاهوتية واضحة التي هي العالم الغربي نفسه"، ويواصل كل من ميلر ورودكي، ومع ذلك فخيار "الإلحاد الجديد" والعلمانية الإنجيلية متاحة في أي لحظة ومن السهل الوصول لها لكنهما مع ذلك "لا يساعدان ولا يقدمان أجوبة مثمرة لمشاكل لاهوتية أكبر".
في المقابل، فاللاهوت الراديكالي قادر على التعامل بجدية مع الدين- وتحدي الدين. فاهاناين عالم اللاهوت الأمريكي الفرنسي وأحد أتباع الكنيسة البريسبيتاريّة (المشيخية) والذي قام بالتدريس في جامعة سيراكيوز بمدينة نيويورك، نحت نظرة أكثر تقليدية، وكتب أيضًا في كتابه "انتظار بلا أوثان" (صدر في العام 1964) بأن "الله ليس ضروريًا، هذا ما علينا قوله، لا يمكن التسليم بصحته، ولا يمكن ببساطة اعتباره نظرية. سواء معرفيًا، أو علميًا، أو وجوديًا، إلا إذا سحبنا الاستنتاج المخزي بأن الله هو الأسباب". ألتيزير، الذي عمل في معهد اللاهوت الميثودي بجامعة إيموري بمدينة أطلنطا، كان لديه منهج مختلف وكتب في كتابه "إنجيل الإلحاد المسيحي" (صدر في العام 1966) بأن " كل شخص اليوم منفتح على التجربة يعلم بأن الله غائب، ولكن المسيحي يعلم بأن الله مات، وبأن موت الله حدث نهائي وبات وبأن موت الله قد أحدث في تاريخنا إنسانية جديدة ومتحررة". ما يوحد تلك المناهج اليائسة هو طرح من الألماني اللوثري بول تيليش (1886-1965) Paul Tillich الذي كتب في كتابه "اللاهوت المنهجي: الجزء الأول" (صدر في العام 1951) وجَانَبَ مفارقةً عندما قال باستفزاز "الله غير موجود، هو نفسه وراء الجوهر والوجود، لذا لمناقشة وجوده علينا أن ننكره".
ماذا يعني أي من هذا عمليًا؟ اللاهوت الراديكالي قاسٍ: لا يعطي شيئًا بسهولة. يتطلب شدة، وتركيز، وجدية، والأهم إيمان عجيب. لقد أطلق العنان للعديد من ردود الفعل في الحقبة المعاصرة، تتراوح من الاعتقاد بحياة ثقافية بغياب الإيمان وأي ادعاءات فوق طبيعية، إلى منهج صارم من الغموض والتأمل الذي يذهب إلى ما هو أبعد من الإيمان التقليدي. بالنسبة للبعض مثل فاهاناين فهذا يعني وعي نقدي بأن طقوس الدين يجب أن تمر بلحظة "بعد المسيحية"، بينما غياب المعنى ربما يرتبط باعتقاد ثقافي مضاد بأن المسيح مرشد أخلاقي. آخرون اعتنقوا منهجًا جماليًا وتفسيرًا ليبراليًا للدين في منهج يعرف باسم "ثيوبويتكس theopoetics"[1]. ألتيزير فهم موت الله كثورة تحولية عرضية، مُفسرًا التمزقات التي أحدثتها العلمانية كطريق نجاة لنغير نظرتنا حول للألوهية.
في كتابها "ما بعد الله والأب: نحو فلسفة تحرير المرأة" (صدر في العام 1973) كتبت الفيلسوفة ماري دالي (1928-2010) Mary Daly- التي تعمل في جامعة بوسطن- مُقَوِضَة الرموز الذكورية التقليدية والمستبدة للألوهية، داعية إلى "ثورة روحية ووجودية" التي ستصوب "ما بعد عبادة أوثان المجتمع الجنسانيّ" وتشعل "فعلًا إبداعيًا نحو التسامي وفيه". استخدام دالي لمثل هذه الكلمات المقدسة بل والتوراتية مثل "عبادة الأوثان" يلقي الضوء كيف أن اللاهوت الراديكالي مُستمد من التَقلِيد، ويجد دافعه من أسلاف عاشوا منذ ألف سنة. الحاخام ريتشارد روبينستين (1924-2021) Richard L. Rubenstein في كتابته عن الهولوكوست استعار من ساحرية القبالة[2] ليتخيل إلهًا صامتًا. كتب جون كابوتو (وُلِدَ 1940) John Caputo في "كتابه حماقة الله: لاهوت للا متوقع"[3] (صدر في العام 2015) بأن "أكثر الأمور فضولًا في اللاهوت لا توجد في الله في أعاليه بل أعمق من الله، ولنفس السبب، عميقًا بداخلنا، نحن والله دائمًا كنا متشابكين".
التحديات لإيمان بسيط- أو انعدام إيمان بسيط- دائمًا ما كانت ضمن الدين. إنها جدلَّية في قلب التجربة الروحية. ربما أعظم مفسدة للتحرر من الوهم هو أن الإجابة عن كيفية الصلاة لإله ميت سبقت موت الله. في المسيحية هناك تقليد يعرف باسم "اللاهوت السلبي" غالبًا ما ارتبط بالأرثوذوكسية اليونانية. اللاهوت السلبي يؤكد بأن الله -الإلهي، والمقدس، والمتعالي، والحَدْسِيّ- لا يمكن التعبير عنه بلغة. الله ليس شيئًا- ولكنه أساس الوجود. ممن اعتنقوا اللاهوت السلبي كان إكليمندس الإسكندري في القرن الثاني الميلادي، وغريغوريوس أسقف نيصص في القرن الرابع الميلادي وپسيودو ديونيسيوس ذا أريوپاجيت في القرن السادس الميلادي نشروا طريقة عرفت باسم عن طريق النفي. طبقًا لهذا المنهج، لا يوجد شيء إيجابي حقيقي يمكن أن يقال عن الله، في القرن التاسع قال اللاهوتي الأيرلندي جون سكوتوس أريجينا "الله نفسه لا يعرف ما هو لأنه ليس كشيء. حرفيًا الله هو لَمْ". [هذا ما أكده].
كيف أمكن لهؤلاء اللاهوتيين السلبيين أن يمارسوا التسامي قبل عقود من أن نفهم من اجتثاث نيتشه المغمور أن الله لا يوجد في وصفات، ولا عقائد، ولا دوجما، ولا لاهوتيين ولا أي شيء آخر. حتى الإيمان بالله لا يخبرنا شيئًا عن الله، هذه الهاوية، هذا الخواء، هذا الوجود وراء أفهامنا. إنهم أبعد من أن يكونوا ملحدين بسطاء، اللاهوتيون السلبيون جعلوا الله في صدارة أفكارهم، في مكان قريب من قلوبهم بشكل يجل عن الوصف. وهذه هي الإجابة عن كيفية الصلاة "لإله ميت" بالفهم أن كلمة "إله" و "ميت" لا تعنيان شيئًا.
قبل احدى عشر قرنًا من سماع آرنولد لهدير الإيمان المتراجع وإعلان نيتشه لموت الله، الحكيم الهندوسي آدي شانكارا حكى حكمة في براهما سوترا، وهو نص أكمل بالفعل أكثر من ألف عام.. يكتب شانكارا عن المعلم الأعظم بهادفا، سأله تلميذ عن حقيقة براهما -أساس كل الوجود-. طبقًا لشانكارا، بهادفا كان صامتًا. فكر التلميذ بأنه ربما لم يسمعه، فسأله التلميذ مجددًا، لكن بهادفا ظل صامتًا، سأله مجددًا "ما هو الإله؟" ومجددًا لم يجبه بهادفا. في النهاية ثار الطالب الصغير مطالبًا أن يعرف لما لم يرد بهادفا على سؤاله. فأجاب بهادفا "أنا أُعَلِّمَك".
[1] قد تُترجم على الشعر الإلهي.
[2] معتقدات وشروحات روحانية فلسفية يهودية تفسر الحياة والكون
[3] العنوان به إشارة كما يذكر المؤلف في الكتاب لمقولة جهالة الله التي ذكرت في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 1:25
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه