يظهر بوضوح تأثر جالبريث بالفكرة السائدة آنذاك، القائلة بأن إنتاج السلع والخدمات يجب أن يكون معيارًا للنجاح الحضاري، لكنه لم يكن مع اعتبار الإنتاج المادي المتزايد المؤشر الوحيد لسلامة النظام الاقتصادي.
مجتمع الوفرة لجون كينيث جالبريث
مقال: روبرت مكروم
نُشر في الجارديان، يوليو 2016
ترجمة: سمية عبد العليم
بدأ كتاب جون كينيث من أول عبارته الافتتاحية اللبقة –"لا تخلو الثروة من محاسن.."– هجومه على بعضٍ من أعز الأساطير الاقتصادية عند الشعب الأمريكي، فصمد أمامها وبقي مثالًا على طرح جديد ذكي لليبرالية الكلاسيكية أذهل العامة، فجاء كتابًا مثيرًا للذهن ومُحركًا للفكر وممتعًا، وساهم في تشكيل العقلية الأمريكية منذ الخمسينيات والستينيات حتى سقوط جدار برلين.
إضافة لتعرضه للشعارات الاقتصادية البائدة، صك جالبريث أيضًا عددًا من مفاهيمه اللافتة والمؤثرة. وغدت على سبيل المثال، "الحكمة التقليدية"، عنوان فصله الافتتاحي، جزءًا من القاموس الاقتصادي الآن. في البداية، كان هذا الكتاب مشروع دراسة عن الفقر تحت عنوان "لماذا الفقراء فقراء" Why the Poor Are Poor، حتى اقترحت زوجة جالبريث عنوانه الأكثر تفاؤلية "مجتمع الوفرة". بالطبع، أمدت هذه المسودة الأولى الكتاب ببعض أفكاره الممتعة المحطمة للأيقونات والمحفزة للذهن. وهكذا خرج الكتاب في النهاية عبارة عن مزاوجة بين النظرية البريطانية، خاصة الكينزية، وبين التجربة الصناعية الأمريكية، ما جعله الكتاب الأكثر مبيعًا في الولايات الصناعية الأمريكية في فترة ما بعد الحرب.
قبل التطرق لرسالته الرئيسية، خصص جالبريث النصف الأول من الكتاب للبرهنة على أن النظرية الاقتصادية الكلاسيكية، بدايةً من آدم سميث ومالتس وديفيد ريكاردو تعكس رؤية كئيبة للآفاق الإنسانية، ناشرة ظلالًا من التشاؤم على دراسة الأحوال الاجتماعية-الاقتصادية. وهذا بالضبط ما سعى جاهدًا لتبديده. فهو المتفائل الذكي الجذاب الذي يرى أن الناتج الإجمالي المحلي (GDP) هو "المقياس المناسب للحكم على مستوى الإنجاز الاقتصادي، بل الاجتماعي أيضًا".
يظهر بوضوح تأثر جالبريث بالفكرة السائدة آنذاك، القائلة بأن إنتاج السلع والخدمات يجب أن يكون معيارًا للنجاح الحضاري، لكنه لم يكن مع اعتبار الإنتاج المادي المتزايد المؤشر الوحيد لسلامة النظام الاقتصادي. عبر كتابه بدأ جالبريث، الكندي الذي أصبح شخصية بارزة في الحياة الأمريكية، خاصة لكونه كاتم أسرار مؤتمن للرئيس جون كينيدي، في الظهور كداعية غير رسمي لمزيد من المادية الأمريكية في الستينيات، العصر الذي أصبحت فيه الرأسمالية والحرب الباردة عقدة متضافرة. وأشار جالبريث، متابعًا في ذلك أستاذه كينيز، بأن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تستثمر بنشاط في بناء الطرق والمدارس والمستشفيات.
في أحد الأيام، كتب جالبريث، ذو الأسلوب الجذاب والعبارات السلسة، الجدير بأن يقتبس عنه: "إن دراسة النقود، دونًا عن كل المجالات الأخرى في الاقتصاد، يستخدم فيها التعقيد إما لإخفاء الحقيقة أو طمسها، لا كشفها. إن عملية خلق البنوك للنقود بسيطة لدرجة أن العقل يرفض قبولها. معتقدًا أن شيئًا بأهمية النقود، لا بد أن يكون أكثر تعقيدًا".
بهذه الروح، يشن النصف الثاني من مجتمع الوفرة هجومه على بعض المعتقدات والأساطير الاقتصادية المتجذرة. فما معنى الإنتاجية إذا كانت أغلب السلع التي ننتجها تعبر ببساطة عن حاجات اصطناعية تروجها الآلة الدعائية للمجتمعات كبيرة العدد؟ كتب جالبريث شارحًا، "كلما زاد مستوى الثراء في المجتمع، خلقت عملية الإشباع نفسها زيادة في الرغبات". إضافة لهذا الأثر الاعتمادي، لماذا نتجاهل التبديد والإسراف في القطاع الخاص وفي الوقت نفسه نَصِف الإنفاق الحكومي على الأشغال العامة بـ "المهدور"؟
كان جالبريث صريحًا في معارضته لرأي الأغلبية، وفي تشجيعه ودعوته لاستهلاكية أمريكية أرفع شأنًا. كما كان أيضًا مستشرفًا مستبصرًا، شديد الحرص على إيصال رسالة تحذيرية من التضخم. فلم يكن راضيًا عن فكرة العيش في مجتمع فيه "الأعمى يقود العميان"[1]. وكان هدفه الرئيسي في كتابه كسر "صنم الخرافة القائلة – بأن إنتاج السلع هو المشكلة الرئيسية في حياتنا".
في سعيه لتوضيح هذه الفكرة، يبدو جالبريث مثيرًا للاهتمام بشكل كبير. "في عالم شبه مجنون، تبدو العقلانية الكاملة والجنون المطلق غريبين بنفس الدرجة. في عالمنا اليوم، بات اعتقادنا بأن لعملية الإنتاج أهمية كبرى اعتقادًا قديمًا. وكذلك ردة فعلنا على هذه الحقيقة. إن اكتشاف انخفاض أهمية عملية الإنتاج يقتضي منا تغييرًا شاملًا في مواقفنا. فما اعتبرناه في السابق سلوكًا اقتصاديًا بحتًا لم يعد كذلك الآن".
رأى جالبريث، كنتيجةً منطقية لهذا التحليل، "أن الهدف الاقتصادي الرئيسي لمجتمعنا هو القضاء على العمل الشاق كعرف اقتصادي مُسلّم به" ويكمل كلامه "هذه ليست رؤية حالمة. فقد قطعنا بالفعل شوطًا على هذا الطريق". أو بحسب تعبير جالبريث كانت هناك دائمًا وأبدًا "طبقة مترفة". والآن حلت محلها طبقة جديدة، الطبقة عينها التي ستحب قراءة كتاب عنوانه "مجتمع الوفرة": الموظفون والمهندسون والأطباء والمعلمون والمخططون والمشتغلون بالأكاديميا والصحفيون ومديرو الدعاية والإعلان. بالنسبة لهذه الطبقة الجديدة، فإن النظريات الاقتصادية التي شكَّلها الفقر المستشري وشظف العيش لا معنى لها، لأنها لا تتلاءم مع واقع عصرهم الأكثر ثراء.
إذا قلبنا النظر وتأملنا، سنرى أن كثيرًا من كتابات جالبريث أشبه بحاشية على المقولة الأمريكية العظيمة القائلة بأن الهدف الحقيقي للمجتمع الحر يجب أن يكون" الحياة الكريمة والحرية والسعي نحو السعادة". في عام 1979، بعد مضي حوالي ربع قرن على إنهائه هذا النص وسط التفاؤل الاقتصادي، أظهر جالبريث آراء متجددة: "فلنضع هدف القضاء على الفقر على أجندتنا الاجتماعية والسياسية. ولنحمِ رخاء مجتمعنا من هؤلاء الذين، باسم الدفاع عنه، لا يمانعون تدمير هذا الكوكب وتخليفه حُطامًا. إن مجتمع الوفرة لا يخلو من العيوب. ولكنه مجتمع جدير بأن نحافظ عليه من ميوله الضارة أو التدميرية.
قبيل وفاته، تحدث جالبريث عبر شاشات تلفاز الولايات الأمريكية، معبرًا بوضوح عن اتجاه ليبرالي براجماتي هام: "حيثما يعمل السوق، فأنا معه. وحيثما كان التدخل الحكومي ضروريًا، فأنا معه. أستغرب كثيرًا ممن يقول، "أنا مع الخصخصة"، أو "أنا أؤيد وبشدة الملكية العامة". فأنا مع ما يكون ملائمًا للظرف الراهن أيًا كان".
اقتباس ختامي
"لا تخلو الثروة من محاسن.. أما القول بأن لها عيوبًا، فادعاء رغم كثرة تكراره، لم ينجح أبدًا في إقامة دليله المقنع".
[1] تحوير في التعبير المجازي" The blind leading the blind" الذي يعبر عن موقف يقود فيه الجاهل من هو أجهل منه.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها