أحد عوامل التناقضات بين توصيف "الشباب" في الطبقات المختلفة تكمن في الواقع في وجود نسبة كبيرة منهم في كل الطبقات تمر بنفس مرحلة التعليم الثانوي، حيث اكتشف بعض الشباب (بالمعنى البيولوجي) الذين لم يمر آباؤهم بمرحلة المراهقة، أنهم في الوقت الراهن في منتصف الطريق بين الطفولة والبلوغ.

حوار مع بيبر بورديو

ترجمة: تامر نادي، محمد عز، بسنت فؤاد، نيفين عبيد

نُشر في كتاب تحت اﻷسفلت شاطئ: ترجمات عن الشباب والمدينة من أعمال معمل الترجمة والكتابة بسكة معارف - تحرير أحمد السروجي - دار هنَّ للنشر والتوزيع 2022


بيير بورديو عن Arbeiterkammer Win

مقدمة المترجمين

يلمع اسم "بيير بورديو" بفضل إسهاماته المميزة في علم الاجتماع بوصفه عالمًا وفيلسوفًا اجتماعيًا من طرازٍ نادرٍ؛ فهو أكثر من مجرد أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الفرنسية بباريس "Le Collège de France"، ومحرر أول لمجلة العلوم الاجتماعية الفرنسية، بل إنه واحد من علماء الاجتماع المعاصرين القلائل المنضبطين منهجيًا، والقادرين على تشريح قضايا المجتمع، فهو يبهرك بقدرته على توليد التعميمات من خلال تأملاته، وحنكته في استخدام أدوات ومناهج علم الاجتماع.

يلج بورديو إلى علم الاجتماع باعتباره "عِلمًا مثيرًا للإزعاج"؛ لأنه يكشف عن أمور "مخفية"، حيث يعتقد أن مثل هذه القضايا لا يريد من يُطَالع علم الاجتماع أن يسمع عنها، وبهذا المعنى، فإن علم الاجتماع عند بورديو هو تخصص "مخيب للآمال"، لاختلافه البَيِّن عن العلوم "النقية" أو عن الفن أو الموسيقى حيث يهيم المرءُ في ذاته كليًا وينأى بنفسه عن العالم ومشاكله.

وما يؤكده بورديو أن العَالَم هو قضية علم الاجتماع؛ بمعنى أن علماء الاجتماع يهتمون كثيرًا بالتمثيلات الموضوعية والذاتية للعالم، حين يجاهد من أجل الوصول إلى "الحقيقة الكاملة" لهذا العالم، فغالبًا ما يثير بورديو ويتساءل عن ما الذي أضافه علم الاجتماع من "تصنيفات" أثناء دفاعه عن علم اجتماعي في العلوم الاجتماعية، ينتقد بورديو الباحثين الاجتماعيين الذين لا يقومون أولًا بإجراء "تحليل اجتماعي ذاتي"، ويُسَاءل "تصنيفات" العلوم الاستعمارية من خلال فهم الظروف الاجتماعية لإنتاجها، كما يعيد دراسة التصنيفات الاجتماعية، مثل "الطبقة الاجتماعية"، ويقترح أنه بالنسبة لبعض الناس توجد الطبقات الاجتماعية في الواقع، بينما بالنسبة لآخرين هي من تأليف عالم الاجتماع.

ويعبر هذا السؤال الذي يطرحه عن إشكالية: هل نعرف العَالَم الذي نعيش فيه وندرسه عن طريق تأليفه أم تسجيله؟ فيما يتعلق بمفهوم "الطبقة" مثلًا، يذهب بورديو أن هناك "منظومتين للموضوعية": (أ) الطبقات الموضوعية التي يتم تحديدها على أساس معدل الدخل والمؤهلات التعليمية وما إلى ذلك، و(ب) الطبقات الموضوعية "التي تدور في أذهان جميع الدارسين لها كتصنيف علمي، بحيث أن هذه المنظومة لا تخلو من الصراع حول التصنيفات، حين يسعى كل شخص إلى فرض "تصوره الذاتي باعتباره التوصيف الموضوعي".

في الواقع.. تؤكد هذه المسألة أنه لا يمكن أن تكون هناك تصنيفات مقلوبة؛ لأنه في الممارسة اليومية، ستكون المواقف سائلة وقابلة للتغيير في أذهان الباحثين، وكذلك هي الواقع الاجتماعي، وهنا ترتبط هذه الجدلية بمفاهيم بورديو عن رأس المال الرمزي ورأس المال الاجتماعي، وكيف أن ما يكتسبه الأفراد من خلال تغيير أو تبديل "نمط الحياة" يؤثر على تغيير مكانهم في التصنيف "العلمي"، مثل الحصول على المؤهلات العلمية.

النص الذي بين أيدينا جزء من كتاب "علم الاجتماع في سؤال Sociology In Question"، والكتاب بمثابة مدخل مبسط، رغم أنه وجبة دسمة من أفكار بورديو، حيث ينتظم الكتاب في سلسلة متصلة من المناقشات والمقابلات تتمركز حول بنية أفكار بورديو - شبكته المعرفية للعلاقات بين علم الاجتماع والحقول الأخرى- والتي تشمل قضايا الثقافة والتعليم واللغة والرمز، فالكتاب يقدم تنظيرًا لعلم اجتماع إنساني ومنفتح، ويجيب بورديو، خلال الكتاب، على أسئلة ألقيت عليه في مقابلات صحفية وندوات شارك فيها، عن استفسارات متعلقة بتخصص علم الاجتماع والقضايا المتعلقة بالشأن العام.

ومن هذا الكتاب، اخترنا نصًا حمل عنوانًا مميزًا هو "وما الشباب إلا كلمة"، وهو لقاء أجرته معه آن ماري ميتابيه، ونشر بعنوان "الشباب وأول وظيفة" في Association des âges، يتحدث فيه بورديو عن مجموعة من القضايا مثل الشباب والصراع الجيلي والصراع الطبقي، وقضايا النظام التعليمي، وعلاقات سوق العمل، والصراع على المناصب، في الوظائف وفي السياسة، فهو يتعامل مع كل هذه المفاهيم بأسلوبه الفريد، يجمع بين التحليل النظري والوصف المفصل، وهو الأسلوب الذي انتقده عدد من علماء الاجتماع الذين يريدون إجابات سريعة ومبسطة على استفسارات اجتماعية من الحجم الثقيل. 

ولم يكن هذا النص رغم قصره –لا يتجاوز 4000 كلمة- سهلًا، بل كان مليئًا بالأفكار والمصطلحات، وزاد صعوبة هذا النص، أنه لم يكن نصًا أصليًا، بل مترجمًا عن الفرنسية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فهو مبسط للعامة وغير المتخصصين، ومكتوب من قبل غير متخصص؛ مما جعل النص لا يتخذ شكل الكتابة الأكاديمية المعتادة (الحديث عن موضوع محدد يبدأ بمقدمات ثم متن وينتهي إلى نتائج)، فجاء النص مختلفًا يحمل بين طياته تشوشًا -إن صح التعبير- أو قل انتقالات فجائية من فكرة إلى أخرى دون تمهيد، ثم العودة لاستكمال الفكرة الأولى، إلى جانب ذلك، تبرز صعوبة المصطلحات التي يتبناها بيير بورديو، واحتمالها لتأويلات كثيرة، ومن ثم كان لزامًا علينا أن نضع إستراتيجية لعملية الترجمة، لنحاول إخراج ترجمة محكمة ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، فقمنا بترجمة النص من خلال مراجعة النصين؛ الأصلي المكتوب باللغة الفرنسية، والنص الإنجليزي المترجم؛ حيث قام كل منا بترجمة جزء من النص الإنجليزي، وتولت الزميلة "بسنت" ترجمة النص الفرنسي، ومطابقته بالنص الإنجليزي، ثم تبادلنا النقاش عبر جلسات عدة حول ما قمنا بترجمته، ودار جدلٌ كبيرٌ على ترجمة العديد من المصطلحات للوصول إلى أفضل صيغة للترجمة.

ودعنا قبل الانغماس في النص أن نشير إلى بعض هذه المصطلحات التي صار حولها جدل؛ فنأخذ ثلاثة أمثلة على ذلك وهي:

- المثال الأول: ترجمة كلمة elders التي ذكرت لأول مرة في الفقرة الأولى من النص وتكررت بعد ذلك في مواضع عدة من النص: تم ترجمة هذا المصطلح من قبل البعض بـ "الشيوخ"، وتم ترجمته من قبل البعض الآخرين بـ "الأعيان"، وقد دار نقاش حول هذا المصطلح، تمثلت وجهة نظر من استخدم كلمة "الأعيان" في أن الترجمة الحرفية للكلمة الموجودة بالفرنسية "vieux " تعني الأعيان، بينما تمثلت وجهة النظر من استخدم كلمة "الشيوخ" في أن المقصود هنا الكبار في السن الذي يعطون النصائح للصغار، وليس الأعيان؛ لأن في اللغة العربية هذه الكلمة تعني "علية القوم" أو "سادة القوم وأشرافهم"، ومن ثم فالترجمة الأقرب هي الشيوخ وليست الأعيان، وقد تم الاتفاق على استخدام كلمة "الشيوخ" في باقي النص لكل الكلمات التي تأتي بهذا المعنى “Elders” , “Old” “Adults”، وكذلك اعتماد كلمة الشباب مع كل الكلمات التي تأتي بهذا المعنى “youth”, “Young men”, “Young”. وبالتالي دار الحديث في كل النص بين مصطلحي "الشباب" و"الشيوخ"، وهو ما يتفق مع مقتضى السياق الذي يقارن فيه بورديو بين مرحلتين عمريتين والصراع الذي ينشأ بينهما أو ما يسميه "صراع الأجيال"، ورغم ذلك قد استخدمنا بعض المعاني الأخرى عندما وجدنا أنها تخدم النص أكثر، وخاصة في الجزء الخاص بالاضمحلال الطبقي.

- المثال الثاني: ترجمة كلمة “Violence” الموجودة في الفقرة الثانية من النص: تم ترجمة هذا المصطلح من قبل البعض "الشدة" وترجمها البعض الآخرين "العنف"، تمثلت وجهة نظر من استخدم كلمة "العنف" في أن الترجمة الحرفية للكلمة “Violence” هي العنف، وترجمة اللفظة الفرنسية "virilité" تعني العنف، ولكن كان لمن استخدم كلمة "الشدة" رأي آخر؛ حيث ارتأى أن المقصود من النص هو أن الشيوخ علموا الشباب معاني الرجولة والشدة وبالتالي استطاع الشباب أن يحافظوا على الحكمة ويحافظوا على السلطة، ومن ثم فهو لا يقصد العنف؛ لأن استخدام العنف لا يعد من الحكمة، ولكن استخدام الشدة -أي الحزم والقوة- تؤدي إلى الحكمة، وقد تم الاتفاق على ترجمتها بـ "الشدة".

- المثال الثالث: توقفنا عند تعبير "be alienated from their families" والذي وصف به بورديو حالة الشباب النفسية تجاه المجتمع، وداخل الأسرة أيضًا، فنتيجة الظروف السياسية للمرحلة التعليمية التي يمرون بها، تجدهم في حالة يمكن وصفها بـ"الاغتراب أو النفور أو الانعزال أو المنفصلين شعوريًا" تجاه مجتمعهم وأسرهم، وهو ما يتسبب في حالة من عدم الفهم أو التفاهم بين الآباء والأبناء، رغم الرعاية المادية التى توفرها الأسرة إلا أن هناك غيابًا للجانب المعنوي للتنشئة داخل الأسرة.

*

أولًا: علماء الاجتماع وإشكالية تعريف الشباب

يتمثل الرد المهني على التقسيمات بين الأعمار في توضيح أنها تقسيمات عشوائية، وهذه هي المفارقة التي حددها باريتو Pareto، الذي قال إننا لا نعرف في أي عمر تبدأ الشيخوخة، تمامًا كما لا نعرف من أين تبدأ الثروة، في الواقع، تعتبر الحدود الفاصلة بين الشباب والشيخوخة قضية محل جدل كبير في كل المجتمعات، فعلى سبيل المثال، قرأت منذ بضع سنوات قليلة مقالًا عن العلاقة بين الشباب والشيوخ في فلورنسا في القرن السادس عشر؛ وقد أوضح المقال كيف قدم شيوخ المدينة لشبابها أيديولوجية الرجولة والشدة، والتي كانت طريقة للحفاظ على الحكمة – وبالتالي الحفاظ على السلطة– لأنفسهم، وكذلك يوضح جورج دوبي كيف تم التلاعب بحدود الشباب في العصور الوسطى من قبل أصحاب الميراث، وذلك لإبقاء صغار النبلاء من الشباب، الذين قد يطمحون إلى الخلافة، في حال شباب دائم؛ أي حالة اللامسؤولية.

يمكن العثور على أشياء متشابهة تمامًا في الأقوال والأمثال عن الشباب، أو يمكن إيجادها ببساطة في الصور النمطية عن الشباب، أو حتى في الفلسفة، من أفلاطون Plato إلى آلان Alain، والذين خصصوا لكل مرحلة عمرية شغفها الخاص: الحب في المراهقة وتحقيق الطموح في عمر النضج، ويعطي هذا التمثيل الأيديولوجي للتفريق بين الشباب والكبار أشياءً معينة للشباب، مما يجعلهم في المقابل يتركون الكثير من الأشياء لكبار السن، ويظهر هذا بصورة أكثر وضوحًا في حالة الرياضة، كرة القدم الأمريكية، على سبيل المثال، حيث يتم تمجيد "اللاعبين الشباب الأقوياء" المطيعين، المحبوبين، والذين يتم الدفع بهم في المباراة القاسية ويرفعون شعار المدربين والمعلقين (استخدم قوتك فقط، واغلق فمك، ولا تفكر)، وتذكرنا هذه البنية، الموجودة أيضًا في بعض الأماكن الأخرى (كتلك البنية الموجودة في العلاقة بين الجنسين) بأن التقسيم المنطقي بين الشباب والشيوخ هو أيضًا مسألة قوة، وتقسيمها (يعنى المشاركة) للقوي، وأخيرًا نستطيع أن نقول إنه دائمًا ما تفضي التصنيفات حسب العمر (ولكن أيضًا حسب الجنس أو بالطبع حسب الطبقة) إلى فرض حدود لإنتاج نظام يجب على كل فرد الالتزام به، حيث يجب أن يتصرف كل واحد في حدود مكانته.

ثانيًا: مفارقة الشباب والشيوخ

عندما أقول صغيرًا/كبيرًا، فإنني أتحدث عن العلاقة في أكثر أشكالها عمومية، فالفرد الواحد في الغالب كبير وصغير في آن واحد، هذا هو السبب في أن التقسيمات، سواء في الفئات العمرية أو الأجيال، تكون متغيرة تمامًا وخاضعة للتلاعب، فعلى سبيل المثال، توضح عالمة الأنثروبولوجيا نانسي مون Nancy Munn أن في بعض المجتمعات في أستراليا، ينظر إلى مستحضرات ومعدات التجميل التي تستخدمها النساء المسنات لاستعادة شبابهن على أنه أمر شيطاني تمامًا؛ لأن ذلك يُحدث اضطرابًا كبيرًا بين الأعمار، ولم نعد نعرف من منهن الشابة ومن المسنة، ما أريد أن أذكره بكل بساطة هو أن الشباب والشيخوخة ليست معطيات بديهية، بل يتم تكوينها اجتماعيًا في الصراع بين الشباب والشيوخ.

إن العلاقة بين العمر الاجتماعي والعمر البيولوجي معقدة للغاية، فإذا كان على المرء أن يقارن بين الشباب من أجزاء مختلفة من الطبقة المهيمنة، على سبيل المثال، حيث يدخل كل الطلاب إلى المدرسة العادية، والمدرسة الوطنية للإدارة والاقتصاد، في الوقت نفسه، يمكن للمرء أن يرى أن هؤلاء الطلاب كلما اقتربوا من مركز السلطة، كلما اتخذ هؤلاء "الشباب الصغار" صفات كـالكبار، والشيوخ، والنبلاء، والأعيان، وما إلى ذلك، وعندما ينتقل المرء من المثقفين إلى الإدارة التنفيذية، يختفي كل ما يعطى مظهرًا شبابيًا- مثل الشعر الطويل، والجينز، وما إلى ذلك. 

وكما أوضحت، فإن لكل مجال، فيما يتعلق بالموضة أو الإنتاج الأدبي والفني، قوانينه الخاصة بالشيخوخة، ولفهم كيف يتم تقسيم الأجيال، يجب أن نعرف القوانين الخاصة لعمل المجال، والمزايا المحددة التي يتم التنافس من أجلها، والتقسيمات التي تظهر في الصراع (موجة جديدة، رواية جديدة، فلاسفة جدد، القضاة الجدد، وما إلى ذلك)، كل ذلك هو أمر طبيعي للغاية، ولكنه يوضح أن العمر يستند إلى أساس بيولوجي، يمكن التلاعب به، ويتم التلاعب به اجتماعيًا، وأن مجرد الحديث عن "الشاب" كوحدة اجتماعية، أو كجماعة مشكلة ذات اهتمامات مشتركة، مرتبطة بالعمر المحدد بيولوجيًا، هو في حد ذاته تلاعب واضح، على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يقارن بشكل منهجي بين ظروف الحياة، وسوق العمل، وإدارة الوقت، وما إلى ذلك، حيث يوجد من "الشباب" من يعملون بالفعل، ومن هؤلاء المراهقين في نفس الفئة العمرية (العمر البيولوجي) من هم في المدرسة، فمن ناحية، توجد قيود العالم الاقتصادي الحقيقي، والتي بالكاد يخففها التضامن الأسري؛ ومن ناحية أخرى، عالم التبعية المصنع، الحقيقي، والقائم على الإعانات، مع وجبات منخفضة التكلفة، وأسعار مخفضة في المسارح ودور السينما، وما إلى ذلك، ستجد اختلافات مماثلة في جميع مجالات الحياة، على سبيل المثال، الأطفال البائسون ذوو الشعر الطويل الذين يأخذون صديقاتهم في جولة على دراجة بخارية، هم نفس الأطفال الذين يتم القبض عليهم من قبل الشرطة.

بكلمات أخرى، يعد هذا إساءة استخدام هائلة من اللغة لاستخدام نفس المصطلح وتضمينه تحت مفهوم العوالم الاجتماعية، واللذان لا يوجد بينهما أي روابط مشتركة من الناحية العملية، في إحدى الحالات، لديك عالم من المراهقين، بالمعنى الحقيقي للكلمة، وبكلمات أخرى، حالة من اللا مسؤولية المؤقتة، هؤلاء الشباب هم نوع من الأرض الاجتماعية القاحلة؛ فهم بالغون بالنسبة لبعض الأشياء، وأطفال بالنسبة لأشياء أخرى، ولديهم كلا الاتجاهين، هذا هو السبب في أن العديد من المراهقين البرجوازيين يحلمون بإطالة مدة فترة المراهقة إلى أجل غير مسمى، هذه هي عقدة فريديك في كتاب "التربية العاطفية "لفلوبير"، الذي يطيل فترة المراهقة إلى ما لا نهاية، بعد هذا القول، فإن "صنفي الشباب" هما مجرد قطبين متعارضين، وهما الطرفان في فضاء من الاحتمالات المقدمة لـ "الشباب".

أحد الأشياء المثيرة للاهتمام التي ظهرت من عمل لوران ثيفنوت هو أنه بين هذه المواقف المتطرفة – الطالب الشاب البرجوازي في أحد طرفيه من ناحية، ومن ناحية أخرى الشاب العامل الذي يلقى نصيبه من مرحلة المراهقة - يجد المرء في الوقت الحاضر جميع المواقف الوسيطة. 

ثالثًا: تغير النظام التعليمي وإعادة إنتاج الطبقات

إن أحد عوامل التناقضات بين توصيف "الشباب" في الطبقات المختلفة تكمن في الواقع في وجود نسبة كبيرة منهم في كل الطبقات تمر بنفس مرحلة التعليم الثانوي، حيث اكتشف بعض الشباب (بالمعنى البيولوجي) الذين لم يمر آباؤهم بمرحلة المراهقة، أنهم في الوقت الراهن في منتصف الطريق بين الطفولة والبلوغ.

أعتقد أن هذه حقيقة اجتماعية مهمة للغاية، فاليوم، تجد أطفال الفلاحين والحرفيين يذهبون إلى المدرسة الثانوية المحلية، حتى في المناطق النائية مثل القرى الصغيرة والمهمشة، وليس كما كان الحال لطلاب القرن التاسع عشر، حيث كان يتم دفع من هم في مثل هذا العمر إلى سوق العمل، أما اليوم، فيتم وضع المراهقين لفترة طويلة في عزلة نسبية عن العالم الاجتماعي، وفي أوضاع تفرض قيودًا على المراهقين، ويبدو أن الأثر الأقوى لهذا الوضع الاجتماعي على الشباب هو "وجودهم المنفصل" اجتماعيًا عن العالم، الذي يجعلهم خارج المشهد).

تضع سلطات المدرسة، وخاصة المدارس الكبرى، الشباب في أماكن مغلقة منفصلة عن العالم، وأشبه بصوامع الرهبان، يعيشون فيها حياة منفصلة، ومنعزلة، وانطوائية عن العالم، وينحصر اهتمامهم فقط على الاستعداد لـ"المناصب العليا" - إنهم يقومون بأشياء غير مبررة على الإطلاق هناك، من أمثلة ذلك التمارين المدرسية باستخدام الذخيرة الفارغة.

منذ سنوات وحتى الآن، حصل جميع الشباب على نسخ من هذه التجربة، أقل أو أكثر تطويرًا، وأطول أو أقصر زمنًا، ومهما كانت موجزة أو سطحية، فإن هذه التجربة حاسمة؛ لأنها كافية لإحداث قطيعة مع ما هو "بديهيات" ودون أي اعتراض، وكما في المثل القديم، ترى ابن عامل المنجم الذي يتحرق شوقًا للنزول ركضًا إلى داخل المنجم بأسرع ما يمكنه؛ لأنه يظن أن هذا هو طريقهُ إلى عالم الكبار.

وحتى في يومنا فهذا، فإن أحد الأسباب التي تفسر رغبة المراهقين من أبناء الطبقة العاملة في ترك الدراسة وبدء حياتهم العملية مبكرًا هو رغبتهم في الوصول إلى وضع البالغين، والقدرات الاقتصادية المتاحة لهم، بأسرع ما يمكن.

فوفقًا لهذا الصبي - الذي ينصب اهتمامه على كسب المال حتى يتمكن من مجاراة أقرانه، والخروج مع زملائه ومع الفتيات – يكون هدفه أن يُنظَر إليه، فضلًا عن أن يرى نفسه على أنه أصبح "رجلًا"، هذا هو أحد العوامل وراء مقاومة أطفال الطبقة العاملة لمد سنوات الدراسة الإلزامية.

الحقيقة.. إنه يتم وضعك في حالة "الطالب" لتؤدي كل هذه الأشياء المكونة للحالة المدرسية، فلديك حزمة من الكتب مربوطة بخيط خلف ظهرك، وتسند ظهرك إلى دراجتك البخارية وأنت تتحدث مع الفتيات، ولا تتعامل إلا مع من هم في نفس عمرك، من الجنسين، ليس لديك عمل، وحتى في المنزل يتم إعفاؤك من المهام المنزلية على أساس أنك متفرغ للدراسة (ومن العوامل المهمة أيضًا، أن تتماشى الطبقات العاملة مع هذا العقد الضمني الذي يقود الطالب إلى أن يكون "خارج المشهد". 

أعتقد أن هذا الاستبعاد (التهميش) الرمزي له أهمية معينة، منذ أن ارتبطت بأحد الآثار الأساسية للنظام التعليمي، ألا وهي التلاعب بالطموحات، فدائمًا ما ينسى الناس أن المدرسة ليست مجرد مكان تتعلم فيه الأشياء، أو لاكتساب المعرفة والمهارات فقط، بل هي مؤسسة تمنح المؤهلات والاستحقاقات العلمية، ومن ثم توهب الطموحات والآمال.

كان النظام المدرسي القديم أقل إرباكًا من النظام الحالي بمساراته المعقدة التي تقود الناس إلى طموحات غير متلائمة لفرصهم الحقيقية، في الماضي، كانت المسارات واضحة إلى حد ما، فإذا تجاوزتَ شهادة المدرسة الابتدائية، فإنك تذهب إلى دورات تعليمية تكميلية أو "مدرسة ابتدائية عليا" [الإعدادية]، ثم مدرسة ثانوية، ثم إلى كلية، حيث كان هناك تسلسل هرمي واضح عبر هذه المسارات، ولم يشكك أحدٌ في ذلك.

واليوم، هناك مجموعة كبيرة من المسارات عبر هذا النظام يصعب التمييز بينها، ويجب عليك أن تكون في حالة تأهب شديد لتجنب انحراف المسار أو الوصول إلى طريق مسدود، وكذلك لتجنب الدورات التدريبية والمؤهلات التي انخفضت قيمتها، وهذا ما يساعد على زيادة درجة الانفصال بين طموحات الأفراد وفرصهم الحقيقية؛ ولذلك، فإن ثمة قيودٍ قوية للغاية تم تضمينها في النظام التعليمي القديم، وقد دفع ذلك الأفراد إلى تقبل الفشل أو القيود على أنه شيء حتمي أو عادل في وضع النظام التعليمي القديم، نفهم أن القيود تم تضمينها بقوة؛ أي عندما يتم دفع الناس إلى قبول الفشل أو القيود على أنها العادة أو المصير الحتمي، على سبيل المثال، كان يتم اختيار وتدريب مدرسي المدارس الابتدائية، بقصد أو بدون قصد، ليكونوا في مكانة أعلى من الفلاحين والعمال، بينما هم في نفس الوقت أقل منزلةً من معلمي المرحلة الثانوية.

أما الآن فقد سمح النظام للأطفال من الطبقات الاجتماعية المختلفة بالوصول لمستوى "المدرسة الثانوية"، وإن كانت قد انخفضت قيمتها، بعد أن كان من غير الممكن وصولهم إلى التعليم الثانوي سابقًا، وقد شجع هذا الأمر هؤلاء الأطفال وعائلاتهم، على توقع أن النظام سيوفر لأبنائهم ما كانت توفره المدارس الثانوية في وقت أن كانت هذه المدارس مغلقة أمامهم، أي تلك الفرص التي اعتاد أن يحصل عليها من يدخل المدرسة الثانوي في النظام التعليمي في الفترات السابقة؛ فالذهاب إلى المدرسة الثانوية كان يعني ارتداء الأحذية الأنيقة مثلًا، والتطلع إلى أن يصبح خريجها مدرسًا ثانويًا، أو طبيبًا، أو محاميًا أو كاتب عدل، وجميع الوظائف التي أتاحتها المدرسة الثانوية في فترة ما بين الحربين العالميتين.

أما في الوقت الحالي، لم يعد النظام التعليمي كما كان هو نفسه عندما لم يكن أطفال الطبقة العاملة داخل النظام؛ وذلك نتيجة لانخفاض في قيمة العملة كأثر بسيط للتضخم، وأيضًا نتيجة للتغيير في "الجودة الاجتماعية" لحاملي المؤهلات.

إن تأثيرات التضخم التعليمي أكثر تعقيدًا مما يفترضه الناس عمومًا؛ نظرًا لأن قيمة المؤهل الجامعية دائمًا ما تنعكس على حاملها، ومن ثم فإن المؤهل الذي ينتشر على نطاق واسع، تنخفض قيمته تلقائيًا بحكم الواقع، ولكنه أيضًا يستمر في فقد المزيد من قيمته لأنه أصبح في متناول الجميع "بدون قيمة اجتماعية".

رابعًا: الفجوة بين الطموحات والفرص

الظواهر التي تحدثتُ عنها للتو، تعني أن "الطموحات" التي تم إدراجها بشكل موضوعي في النظام كما كانت في الحالة السابقة أصبحت "مخيبة للآمال"، بحيث أن الفجوة بين الطموحات التي يدعمها النظام المدرسي، من خلال مجموعة الآثار التي سبق الإشارة إليها والفرص التي يضمنها، هي جوهر "خيبة الأمل" الجماعية والرفض الجماعي، وهي ما يتناقض مع الالتزام الجماعي collective adherence الذي كان سائدًا في الفترة السابقة (مثل تطلعات ابن عامل المنجم) من الخضوع المتوقع للفرص الموضوعية التي كانت أحد الشروط الضمنية للأداء الاقتصادي، فالأمر يشبه إلى حد كبير نوعًا من "كسر الحلقة" التي كانت تدفع ابن عامل المنجم للنزول إلى الحفرة، حتى دون أن يتساءل عما إذا كان لديه أي خيار آخر أم لا.

بالطبع، ما أقوله قد لا ينطبق علي جميع الشباب: فلا يزال هناك جموع من المراهقين، وخاصة المراهقين البرجوازيين، الذين ما زالوا داخل الحلقة، كما كانت في السابق، الذين يرون الأشياء كما كانت تُرى في السابق، ويريدون الحصول عليها كما كانت في الماضي، والذين يرغبون في الالتحاق بالمدرسة العليا، أو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أو كلية هارفارد لإدارة الأعمال، أو الذين يرغبون في الجلوس في كل اختبار تتخيله، تمامًا كما كان يحدث في السابق.

خامسًا: الطبقة العاملة وسوق العمل

لا يكفي الشخص أن يكون جيدًا في النظام الدراسي، وهو فعليًا معزولٌ عن "سوق العمل"، فلن يمكِّنه المؤهل وحده من النجاح في العثور على عمل، (كان هذا بالفعل موضوعًا في الأدبيات المحافظة في ثمانينيات القرن التاسع عشر، والتي كانت تتحدث بالفعل عن الحاصلين على شهادة البكالوريا العاطلين عن العمل والقلق بشأن آثار كسر حلقة الفرص والطموحات والأدلة الذاتية المرتبطة بها)، يمكن أن يكون المرء غير سعيد للغاية في النظام التعليمي، يشعر بالاغتراب تمامًا، ولكن لا يزال يشارك في الثقافة الفرعية للطلاب، وشلة المدرسة التي يتسكع معها على المقاهي، تلك الثقافة التي تخلق أسلوبًا للطلاب وتندمج بشكل كافٍ في أسلوب حياتهم، فتجعلهم في اغتراب عن أسرهم (حيث لم يعودوا هم وأسرهم يفهمون بعضهم البعض، "رغم كل المزايا التي وفرتها لهم الأسرة!")، وفي نفس الوقت يكون لديهم شعور باليأس والاضطراب تجاه العمل.

في الواقع، كما أن هناك تأثيرًا لكسر الحلقة، هناك أيضًا إدراك مشوش عند بعض الناس لما يقدمه النظام التعليمي، أي من خلال الإدراك المشوش، وعلى الرغم من فشل هذا النظام، فإنه يقوم بإعادة إنتاج الامتيازات.

أعتقد - وقد كتبت ذلك قبل عشر سنوات - لكي تتمكن الطبقة العاملة من اكتشاف أن النظام التعليمي ما هو إلا أداة لإعادة الإنتاج الاجتماعي، كان عليهم المرور عبر النظام نفسه، وبما أنهم ليس لهم علاقة بالنظام، باستثناء المدرسة الابتدائية، فقد يقبلون الأيديولوجية الجمهورية القديمة القائلة بأن "التعليم قوة تحررية"، أو أيًا كان ما يُرفع من شعارات، فهم ليس لديهم رأي على الإطلاق، أما اليوم، قد اكتشفت الطبقة العاملة - البالغون والمراهقون على حد سواء - أن النظام التعليمي هو وسيلة للحصول على الامتيازات (لإعادة إنتاج الامتيازات)، بصرف النظر عن أن هذه الطبقة لم تجد قط أسلوبًا للتعبير عن نفسها. 

سادسًا: تسييس أم وعي سياسي؟

هذا العصيان المرتبك – التشكك في العمل والدراسة وما إلى ذلك – يعد أمرًا شاملًا، فهو يتحدى النظام التعليمي ككل، ويختلف تمامًا عن تجربة الفشل في الحالة السابقة للنظام، فرغم أنه لم يختف تمامًا، بالطبع - ما عليك سوى الاستماع إلى مقولات من قبيل: "لم أكن جيدًا في اللغة الفرنسية، ولم أستكمل الدراسة.. إلخ."، فإن ما يحدث من خلال الأشكال الفوضوية والأنومية للعصيان، ليس هو ما يُفسره البعض عادة على أنه تسييس، بل هو الأمر الذي تستعد أدوات النظام السياسي لتسجيله وتعزيزه.

هذا التشكك الغامض والأكثر عمومية، يعد نوعًا من عدم الارتياح في العمل، وشيء غير سياسي بالمعنى المألوف، ولكنه قد يكون شيئًا يشبه - إلى حد كبير - أشكالًا معينة من الوعي السياسي التي تكون غامضة بالنسبة لهم؛ لأنها لم تمثل أصواتهم، ومع ذلك فهي تتمتع بقوة ثورية غير عادية، قادرة على التغلب على الأدوات السياسية، والتي يجدها المرء أيضًا في الطبقة العاملة "البروليتاريين" أو في الجيل الأول من عمال المصانع ذوي الأصول الريفية، ولتبرير فشلهم، ليمكنهم تحمله، يتعيَّن على هؤلاء الأشخاص أن يُشككوا في النظام بأكمله، والنظام التعليمي، وكذلك الأسرة التي يرتبطون بها، وجميع المؤسسات، ويتم توصيف المدارس على أنها ثكنات، والثكنات على أنها مصانع، وهذا نوع من اليسارية المتطرفة العفوية، التي تستحضر خطاب البروليتاريا بأكثر من طريقة.

سابعًا: الاضمحلال الطبقي وصراع الأجيال

شيء واحد بسيط للغاية، لا يفكر فيه الناس، هو أن تطلعات الأجيال المتعاقبة، الآباء والأطفال، تتشكل فيما يتعلق بالحالات المختلفة لتوزيع القيم وفرص الحصول على القيم المختلفة، فما كان عند الآباء امتيازًا غير عادي (على سبيل المثال، عندما كانوا في العشرين من العمر، كان شخصٌ واحدٌ فقط من بين الألف، ممن في نفس عمرهم ووسطهم، يمتلك سيارة) أصبح أمرًا عاديًا من الناحية الإحصائية، وأن العديد من صراعات الأجيال هي في الأصل صراعات بين "أنظمة طموحات" تشكلت في فترات مختلفة، الشيء الذي كان بالنسبة للجيل الأول هو فرصة العمر التي انتزعها، يتم منحها للجيل الثاني منذ الولادة ببساطة. 

ويكون التناقض كبيرًا بشكل واضح في حالة الاضمحلال الطبقي، للذين لا يتوافر لديهم حتى ما كان لديهم في سن العشرين - في وقت أصبحت فيه جميع المزايا (التزلج، والعطلات الساحلية... إلخ) شائعة في تلك الأيام- وليس من قبيل المصادفة أن التعصب ضد الشباب (وهو أمر ملاحظ للغاية وفق إحصائيات، على الرغم من أنه ليس لدينا تحليلات حسب السمات الطبقية) هو سمة من سمات الاضمحلال الطبقي (مثل الحرفيين أو أصحاب المتاجر الصغيرة)، أو الأفراد في حالة اضمحلال وكبار السن بشكل عام. 

بالطبع، ليس كل كبار السن معادين للشباب، لكن الشيخوخة هي أيضًا نوع من الاضمحلال الاجتماعي، وفقدان للقوة الاجتماعية، وبهذه الطريقة، يتشارك كبار السن في علاقة صراعية مع الشباب، والتي هي أيضًا سمة من سمات الطبقات الآخذة في الاضمحلال، كما هو الحال، فإن كبار السن هم من الطبقة الآخذة في الاضمحلال، مثل التجار المسنين، والحرفيين المسنين، تتراكم لديهم جميع الأعراض بشكل متطرف: إنهم ليسوا معادين للشباب فقط، ولكنهم معادون للفن والفكر أيضًا، وضد الاحتجاج، وضد كل ما يغير ويحرك الأوضاع. وذلك، تحديدًا، لأن مستقبلهم وراؤهم، وليس لديهم مستقبل، بينما الشباب يعرِّفون أنفسهم بأنهم من لهم المستقبل، وأنهم المستقبل نفسه.

النظام التعليمي وصراع الأجيال

في وظائف الخدمة المدنية، يوجد العديد من المناصب المتوسطة التي يمكن الوصول إليها من خلال التعلم، وقد نجد في نفس المكتب - جنبًا إلى جنب - الشباب الحاصلين على البكالوريا أو حتى المؤهل الجامعي، الذين يتم أخذهم من النظام التعليمي بعد تخرجهم مباشرة، مع أشخاص في الخمسينيات من العمر، الذين دخلوا الخدمة قبل ثلاثين عامًا، وكانوا قد حصلوا فقط على الشهادة الابتدائية في فترة سابقة من تطور النظام التعليمي عندما كانت تلك الشهادة لا تزال مؤهلًا نادرًا نسبيًا، ومن خلال التعليم الذاتي والأقدمية، قد وصلوا إلى المناصب الإدارية التي أصبحت الآن متاحة فقط للحاصلين على البكالوريا.

يمكننا أن ننطلق من حالة ملموسة، هذا التعارض ليس فقط بين الشيوخ والشباب، وإنما بين نظامين تعليميين مختلفين، أي نوعين مختلفين من المؤهلات والشهادات التعليمية، وهذا التعرض يأخذ شكل الصراعات المتجاوزة للطبقات [الفوق طبقية]، ولأن الموظفين كبار السن لا يستطيعون القول بأنهم في مناصبهم بسبب أقدميتهم فقط، فسوف يبررون ذلك بالخبرة المكتسبة المبنية على أقدميتهم، بينما سيبرر الشباب أحقيتهم في تلك المناصب بالكفاءة المستمدة من المؤهلات التي حصلوا توًّا عليها، ونرى نفس التعارض في النقابات (مثل، نقابات العمال ونقابات البريد)، وأيضًا وفي شكل التوتر بين الشباب التروتسكي الملتحي وبين النشطاء الأكبر سنًا المنحازين للنمط القديم للحزب الاشتراكي الفرنسي.

ونجد أيضا، جنبًا إلى جنب، في نفس المكتب، في نفس الوظيفة، مهندسين من خريجي المعاهد الفنية والمهنية، وآخرين ممن تخرجوا من كلية الفنون التطبيقية. وفي نهاية الأمر، تختفي الهوية الظاهرة للمنصب أمام حقيقة أن إحدى المجموعتين - كما تقول العبارة - ما زال أمامها مستقبل، وأن المنصب الحالي ليس نهاية المطاف، وإنما مرحلة من المراحل التي يمرون بها، بينما يمثل المنصب للمجموعة الأخرى المحطة النهائية، وفي هذه الحالة يأخذ الصراع أشكالًا مختلفة؛ لأن كلًا من "الشباب والشيوخ" من المحتمل أن يكونوا قد استوعبوا أن احترام المؤهلات الأكاديمية من علامات الاختلافات الطبيعية.

إنها علاقة مشتركة لحالة محددة من النظام التعليمي، وفي المصالح المحددة، تختلف عن تلك الخاصة بالجيل المرتبط بحالة أخرى، المختلف تمامًا عن النظام الذي نحتاجه (اليوم)؛ للبحث عن أحد المبادئ الموحدة لجيل: ما هو مشترك بين جميع الشباب، أو على الأقل لجميع أولئك الذين استفادوا إلى حد ما من النظام المدرسي، والذين استفادوا من الحد الأدنى من المؤهلات، هو الحقيقة أن هذا الجيل، بشكل عام، مؤهل للحصول على فرص عمل متساوية أكثر من الجيل السابق (بالمناسبة، يمكننا أن نلاحظ أن النساء اللائي، من خلال نوع من التمييز، لا يصلن إلا إلى الوظائف على حساب الاختيار الزائد، في هذه الحالة، أي أنهن دائمًا ما يكنّ أكثر تأهيلًا من الرجال في المناصب المماثلة...). 

ولذلك، فإن الصراعات التي نفترض أنها صراعات أجيال، يتم التعامل معها في الواقع، من خلال الأشخاص أو الفئات العمرية باعتبارها نتائج لعلاقات مختلفة مع النظام التعليمي، ومن المؤكد أنه بغض النظر عن الاختلاف الطبقي، فإن الشباب لديهم اهتمامات جماعية للأجيال، لأنه بصرف النظر عن تأثير التمييز "ضد الشباب"، فإن الحقيقة البسيطة هي أنهم اضطروا للتعامل مع أوضاع مختلفة من النظام التعليمي، في الواقع، قد تجعلهم يحصلون دائمًا على قيمة أقل للمؤهلات مما كان سيحصل عليها الجيل السابق، هناك حالة بنيوية من عدم التأهيل المهاري للجيل، وهو ما قد يفسر لنا انتشار حالة خيبة الأمل لدى جيل بأكمله، ربما يفسر أيضًا بعض الصراعات الحالية في الطبقة البرجوازية، من خلال حقيقة أن المدى الزمني لعملية التوريث/الخلافة (succession) يطول، في الواقع، وكما أوضح هيرفي لو براس، Hervé Le Bras في مقال "في السكان In Population"، فإنه يتم تأخير سن التوريث أو نقل المناصب إلى الفئة العمرية "الأصغر سنًا" مرارًا وتكرارًا، لتظل الطبقة المهيمنة تتصدر المشهد، وبلا شك، ذلك ليس بعيدًا عن المنافسة التي يمكن رؤيتها بين المهن (بين المهندسين والمحامين والأطباء... إلخ) وفي الجامعات أيضًا، فمثلما يتعمد الشيوخ إبقاء الأقل منهم عمرًا في مرحلة الشباب، كذلك يهتم الشباب بدفع من هم "أكبر سنًا" إلى مرحلة الشيوخ.

هناك فترات يحتدم فيها السعي وراء "التجديد"، حين يقوم "المتطلعون الجدد للمناصب" (الذين هم أيضًا أصغر سنًا من الناحية البيولوجية) بدفع شاغلي المناصب إلى الموت الاجتماعي بوصفهم "لقد ولَّى زمانهم"، وعلى المنوال نفسه، تحتدم الصراعات بين الأجيال بصورة أكبر، في مثل هذه اللحظات، وعندما تتصادم مسارات "الأقل سنًا" و"الأكبر سنًا"، قد يتطلع الشاب بصورة مبكرة جدًا لخلافة، قد يتم تجنب مثل هذه الصراعات طالما كان الشيوخ قادرين على ضبط وتيرة تصعيد الشباب، وكانوا قادرين على توجيه حياة الشباب المهنية، وكبح جماح أولئك الذين لا يستطيعون كبح جماح أنفسهم، وبذلك يكون الشيوخ/ الصقور هم من يتدافعون ويسعون من أجل التقدم.

في الواقع، في معظم الأوقات، لا يحتاج الشيوخ إلى كبح جماح الشباب، لأن من يسمون حينها بـ"الشباب" يكونون قد بلغوا تقريبا عمر الخمسين سنة، ويكونون قد استوعبوا الحدود، والأعمار النموذجية، أي العمر الذي يمكن للمرء فيه أن يطمح "بشكل معقول" إلى منصب، ولن يفكروا حتى في المطالبة بالمنصب مبكرًا، أو قبل أن "حان وقتها". بينما، عندما يفقد "الإحساس بالحدود"، تنشأ الصراعات حول حدود السن والحدود بين الأعمار، حيث يكون انتقال السلطة والامتيازات بين الأجيال على المحك أو [على حافة الخطر].


** يحتفظ المترجمون بحقهم في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهم دون إذن منهم