علاج بيبي هالدار
قصة لجومبا لاهيري*
نُشرت في مجموعتها القصصية «ترجمان الأوجاع»
ترجمة: أميمة صبحي
نُشرت الترجمة لأول مرة في مجلة «داما» عام 2015
تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.
*جومبا لاهيري، كاتبة أمريكية من أصل هندي. حصلت على جائزة البوليتزر عام 2000 عن مجموعتها القصصية «ترجمان الأوجاع». رُشِّحَتْ لجائزة الأورانج للآداب عام 2004. وصلت روايتها «الأرض المنخفضة» إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية عام 2013. تم تحويل روايتها «السَّمي» إلى فيلم يحمل نفس الاسم.
عانت بيبي هالدار طوال سنوات عمرها التسع والعشرين من اعتلالٍ أربك عائلتها، أصدقائها، الكهنة، العرافات، العوانس، خبراء المعالجة بالأحجار الكريمة، المؤمنين، وحتى الحمقى في أثناء محاولات علاجها. أحضر الجيران المكترثون لأمرها الماء المقدس من الأنهار السبعة المقدسة من أجلها.
حين نسمع صراخها ونوباتها في الليل، حين يقيدون رسغيها بالحبال ويضعون اللبخات فوقهما، كُنَّا نَذكُرها في صلواتنا. دَعَك الحكماء صدغيها بدهان الكافور. بخَّروا وجهها ببخار السوائل العشبية. لتقوية إيمانها، اصْطُحبتْ ذات مرة بالقطار لتُقبِّل مقابر القديسين والشهداء. وضعوا تعاويذ حارسة من عين الشيطان حول ذراعيها ورقبتها. كما زيَّنتْ الأحجار المبشرة أصابعها. العلاج الذي قدمه الأطباء جعل الأمر أسوأ. الطب البديل، الطب التجانسي، الطب الهندي. بمرور الوقت كانوا قد استشاروا كل فروع الطب. كانت النصائح لانهائية.
بعد الأشعة السينية، الفحوصات السريرية، الحقن، نصح البعض بيبي بأن تزيد من وزنها، ونصحها البعض الآخر بخسارة الوزن. إذا منعها أحدهم من النوم بعد الفجر، يُصرُّ الآخر على بقائها في فراشها حتى الظهيرة. نصحوها بممارسة الوقوف على اليدين، كما نصحوها بترتيل آيات من الفيدا في أوقات معينة من اليوم. اقترح أحدهم:
«خذوها إلى كلكتا للعلاج بالتنويم المغناطيسي!»
رحلات مكوكية من اخْتِصَاصِيٍّ إلى آخر، تلقت خلالها بيبي نصائح بتجنُّب الثوم، باحتساء كميات كبيرة من خمر المر، بممارسة التأمل، بشرب سائل جوز الهند الأخضر، وبابتلاع بيض البط الصافي مخفوقًا بالحليب.
في وقت قصير أصبحت حياة بيبي عبارة عن محاولات علاج فاشلة، محاولة تلو الأخرى. طبيعة مرضها والنوبات المفاجئة جعلت عالمها مقتصرًا على المبنى الباهت ذي الطوابق الأربعة الخاص بعائلتها. استأجر ابن عمها الكبير وزوجته شقة بالطابق الثاني فيه. لم يُسمَح لبيبي بعبور الشارع أو ركوب الترام بمفردها، لأنها معرضة في أي لحظة لفقدان الوعي والدخول في هذيانٍ مخزٍ. شغلها اليومي كان الجلوس في المخزن على سطح المبنى الخاص بنا. مكان صغير بالكاد يمكنك الجلوس به، يضم مرحاضًا مجاورًا، بابًا مُزيَّنًا بالستائر، نافذة واحدة دون قضبان معدنية، أرفف مصنوعة من ألواح أبواب قديمة. هناك، تجلس القرفصاء فوق سجادة مربعة من القنب الهندي. تُعد قائمةَ جرد لمتجر مستحضرات التجميل الذي يملكه هالدار ابن عمها، ويديره في مدخل الفناء. لم تتلق بيبي أجرًا لقاء عملها ذلك. كان أجرها وجبات غذائية ومُؤن وأمتار وفيرة من القطن تتلقاها في إجازة أكتوبر من كل عام لملء خزانة ملابسها بثيابٍ يصنعها لها ترزي رخيص. وفي الليل، كانت تنام على سريرٍ نقال خاص بالمعسكرات قابل للطي في الطابق الأسفل من شقة ابن عمها.
في الصباح وصلت بيبي إلى المخزن مرتدية خُفًّا بلاستيكيًّا مشقوقًا وثوبًا يصل لأسفل ركبتيْها ببوصات قليلة، الطول الذي توقفنا عن ارتدائه منذ أن كُنَّا في الخامسة عشر من عمرنا. كانت قدميها غير مشعرة، مغطاة بعدد هائل من الكلف الشاحب.
ترثي لحالها وتنعي حظها بينما ننشر نحن الثياب وننظف الموازين من السمك. لم تكن جميلة. كانت شفتها العليا رفيعة، وأسنانها صغيرة للغاية. تُبْرِز لثتها في أثناء الحديث. تقول:
«أتساءل: هل من العدل الجلوس هكذا طوال عمري؟ أرى سنوات شبابي تمر بإهمال، أدوِّن الأصناف والأسعار دون وعدٍ بأي مستقبل؟»
صوتها عال أكثر من اللازم، كما لو إنها تتحدث إلى شخصٍ أصم.
«هل من الخطأ أن أحسدكم، أحسد كل العرائس والأمهات المشغولات بحياتهن ورعايتهن؟ هل رغبتي في تزْيين عيوني بالمساحيق الملونة أو تعطير شعري خطأ؟ تربية طفل وتعليمه تمييز الحلو من الحامض، والخير من الشر؟»
كانت تشكو حرمانها الهائل كل يوم، حتى أصبح من الواضح إنها في حاجةٍ إلى رجلٍ في حياتها. تريد رجلًا يتحدث إليها، يحميها، يقرر لها مصيرها في الحياة. إنها مثل معظمنا، تريد إعداد وجبات العشاء، توبيخ الخادمات، ادخار جزء من أموالها في خزانة ملابسها لتنظيف حاجبيْها كل ثلاثة أسابيع في المركز الصيني للتجميل. ثرثرت كثيرًا حول تفاصيل حفلات عرسنا: المجوهرات، الدعوات، رائحة نبات المسك المربوط فوق فراش الزفاف. بعد إلحاحها، نريها أحيانًا صور زفافنا المُزيَّنة بالفراشات. تتأمل اللقطات التي سجلت المراسم: سكْب الزيت على النار، تبديل الأكاليل، السمكة المَطليَّة بالبرتقالي المائل للحُمْرَة، صواني الأصداف والعملات المعدنية. تلقي ملاحظاتها:
«عدد هائل من المدعوين».
تلمس بأصابعها الوجوه المُحيطة بنا في فوضى. تقول:
«عندما أتزوج سأدعوكم جميعًا».
عذَّبتْها تطلُّعاتها بضراوة. ففكرة الزوج التي علقت عليها كل آمالها كانت تهددها بنوباتٍ جديدة. وسط علب وصناديق دبابيس الشعر، تتكور على الأرض، وتتحدث في تذمُّرٍ بجملٍ غير مترابطة:
«لن أضع قدمي في اللبن أبدًا. لن يضعوا على وجهي قناع الصندل. من سيُمسِّد جسدي بالزعفران الهندي؟ لن يُطْبَع اسمي باللون القرمزي أبدًا على بطاقة دعوة».
كان مونولوجها مثيرًا للغثيان. عواطفها جيَّاشة. قلقها يتقاطر مثل الحمَّى من مسامها. وحين كان يصل سخطها إلى ذروته، كُنَّا نُغطيها بشالاتٍ، ونغسل وجهها بماءٍ من صنبور الحوض، ونشتري كوبًا من الزبادي وزجاجةً من ماء الورد من أجلها.
أما في الأوقات الأقل بؤسًا، كُنَّا نشجعها أن تصحبنا إلى الترزي لتكمل بلوزاتها وتنوراتها، لتخرج قليلًا من سجنها. ولأننا فكرنا أن هذا قد يزيد من احتمالات الزواج المُنتظر، أخبرناها:
«لا يوجد رجل يرغب في امرأة ترتدي مثل غسَّالة الأواني».
تنهدت في استياءٍ وتجهم. وقالت محتجة:
«هل أترك كل هذه الأقمشة إلى العث؟ أين أذهب؟ من سأرتدي له؟ من سيأخذني إلى السينما، إلى حديقة الحيوان، من سيشتري لي صودا الليمون والكاجو؟ عليَّ الاعتراف أن هذه مخاوفي؟ لن أُشْفى أبدًا، ولن أتزوج!»
ثم وُصِفَ علاجٌ جديد لبيبي. كان أسوأها. في إحدى الأمسيات بطريقها للعشاء، سقطت على منبسط درج الدور الثالث. أصابت كفيْها وقدميْها إصابة بالغة كما تصببتْ عرقًا.
تردد أنينها في الدرج. هرولنا خارج شققنا لتهدئتها. معنا مراوح اليد ومكعبات الثلج وأكواب من الماء البارد لسكبها على رأسها. التصق أطفالنا بالدرابزين وشهدوا نوبتها المفاجئة. أرسلنا الخادمات لاستدعاء ابن عمها. مرت عشر دقائق قبل ظهور هالدار من متجره، غير مبالٍ رغم احمرار وجهه. أخبرنا أن نكف عن القلق. ودون أي محاولات أن يُخْفي ازدراءه، كومها في الريكاشة[1] واتجه إلى العيادة. هناك بعد إتمام سلسلة من تحاليل الدم، غضب الطبيب المعالج لحالة بيبي، وأنهى حديثه قائلًا إن علاجها الزواج.
انتشرت الأخبار بين قضبان نوافذنا، عبر حبال غسيلنا، فوق فضلات الحمام التي تلتصق على درابزين أسطح منازلنا. بحلول صباح اليوم التالي، ثلاث قارئات للكف قرأن كف بيبي، وأكدن دون شك أن دليل اقترانها برجلٍ ما محفورٌ على يدها. سرتْ همهماتٌ فظة حول مواعيد دورتها الشهرية، وراجعت الجَدَّات التقاويم ليحددن الوقت المواتي للزواج. امتدتْ همساتُنا لأيامٍ تالية، في الطريق بأطفالنا إلى مدارسهم، وفي أثناء تنظيف منازلنا، وفي طابور المؤن الغذائية. كان واضحًا أن ما تفتقده الفتاة المسكينة بعض الحيوية. للمرة الأولى، نتخيَّل وجود تضاريس أنثوية تحت ثوبها المنزلي. حاولنا تقييم اللذة التي قد تقدمها لرجلٍ. للمرة الأولى نلاحظ صفاء بشرتها، طول وتراخي رموش عينيها، أناقة يديها الملحوظة. تقول:
«لقد قالوا إنه الأمل الوحيد. حالة من الإثارة الكاملة».
هنا صمتنا خجلًا. أكملت:
«قالوا إن العلاقة الجنسية ستُهدِئ دمي».
ليس ضروريًّا أن نذكر سعادة بيبي بهذا التشخيص، حيث بدأت فورًا الاستعداد لحياتها الزوجية. طلتْ أظافرها ودهنتْ الكوعين، ليكونا أكثر ليونة، ببعض السلع التالفة من متجر هالدار.
أهملتْ السلع الجديدة التي وصلت للمخزن. كما بدأتْ في مطاردتنا من أجل وصفات الطعام، بودِنج الشعرية ويخني البابايا. ودوَّنتْها بحروفٍ ملتوية في صفحات دفتر الجَرْد. أعدت قوائم المدعوين، وقائمة الحلويات، وقائمة الأماكن التي تنوي قضاء شهر العسل فيها. وضعتْ الجلسرين من أجل نعومة شفتيْها. قاومتْ الحلوى لتُقلِّل وزنها. في مرةٍ طلبتْ من إحدانا اصطحابها للترزي الذي فصَّلَ لها شلوارًا جديدًا فضفاضًا مثل المظلة، كما كانت الموضة وقتها. في الشوارع، كانت تسحبنا إلى كل دكاكين المجوهرات. تُحدِّق في الخزانات الزجاجية. تطلب آراءنا في تصاميم الأكاليل والقلادات المُرصَّعة. وفي محلات الساري، أشارتْ إلى ساري حرير أرجواني، وآخر تركواز، ثم ساري من قطيفة كالزهور المخملية. تقول:
«في الجزء الأول من المراسم سأرتدي هذا، ثم هذا، ثم ذلك».
لكن كان لهالدار وزوجته رأيٌ آخر. في مأمن من أهوائها، غير مباليْن بمخاوفنا، مارسا أعمالهما كالمعتاد. محشوران معًا في متجر مستحضرات التجميل الذي لا يفرق كثيرًا عن مجرد مخزن. ازدحمتْ جدرانه الثلاث بالحناء وزيوت الشعر وأحجار الخفاف ودهانات الجمال. كان هالدار يجيب مَن يتطرق لصحة بيبي قائلًا:
«ليس لدينا وقت للاقتراحات البذيئة. ما لا يُعالَج لا بُد مِن احتماله. لقد سببتْ بيبي قلقًا كافيًا، زادتْ من النفقات بشكلٍ كاف ولطختْ سمعة العائلة بشكلٍ كاف».
زوجته تجلس بجواره وراء المنضدة الزجاجية الصغيرة. جلد صدرها مبرقش، وتومئ بالإيجاب. كانت امرأة سمينة. تضع بودرة شاحبة لا تُلائم لون بشرتها. تُلطِخ طيَّات رقبتها.
«بجانب ذلك، مَن سيتزوجها؟ الفتاة لا تعلم أي شيء عن الحياة. تتحدث مثل معتوهة. بجانب أنها في عقدها الثالث ولا تعرف كيف تشعل فحم الفرن أو تسلق الأرز. لا تستطيع التفرقة بين حبوب الشَمَر وحبوب الكمون. تخيَّل محاولاتها لإطعام رجل!»
لديهما وجهة نظر. بيبي لم تتعلم قط كيف تكون امرأة؛ تركها المرض ساذجة في أغلب الأمور الحياتية. زوجة هالدار واثقة أنها تحت سيطرة الشيطان نفسه. أبقتْها بعيدةً عن النار واللهب. لم تتعلم ارتداء الساري دون شَبْكِهِ بدبابيس في أربع مواضع مختلفة، ولا يمكنها تطريز المفارش أو عمل شالات من الكروشيه بمهارةٍ فائقة. لم يكن يُسْمَح لها بمشاهدة التلفزيون لاقتناع هالدار أن خصائص الإلكترونيات ستثير نوباتها، لذلك كانت تجهل الأحداث العالمية ووسائل الترفيه. توقفتْ دراستها الأساسية بعد المستوى التاسع.
لكننا تناقشنا من أجلها. ومن أجل العثور على زوج. قلنا:
«هذا ما أرادته بيبي طوال الوقت».
لكن كان من المستحيل مشاركة هالدار وزوجته في الحوار. كان حقدهما تجاه بيبي واضحًا على شفاههما، أكثر نحافة من الخيوط التي يعقدا بها مشترياتنا. عندما أكدنا أن العلاج الجديد يستحق فرصة، قال هالدار مدعيًا:
«بيبي تملك قدرًا غير كاف من الاحترام والتحكم بالذات. إنها تبالغ في مرضها لتلفت الانتباه إليها. أفضل شيء هو إبقائها مشغولة، بعيدًا عن المتاعب التي تختلقها».
«لماذا لا تزوجها إذن؟ لن تكون مسؤولًا عنها على الأقل».
«ونُضيِّع مدخراتنا في الزفاف؟ نطعم المدعوين، ونشتري الأساور والسرير، ونجمع المهر؟»
لكن تذمُّرات بيبي استمرت. في وقتٍ متأخر من نهار أحد الأيام، ارتدت بيبي تحت إشرافنا ساري شيفون أرجوانيًّا وخُفًّا فضيًّا عاكسًا مثل مرآة. أقرضناها إياه من أجل تلك المناسبة. أسرعتْ إلى متجر هالدار بخطى متفاوتة. أصرتْ على اصطحابها إلى أستوديو التصوير الفوتوغرافي لالتقاط صورة مثل كل العرائس المُنْتَظِرات. ثم إرسال الصورة إلى منازل الرجال المُرشَّحين للزواج. كُنَّا نراقبها من مصراع نوافذنا، كان العرق يترك أهلة سوداء تحت إبطيها. تقول بغضب:
«بخلاف الأشعة السينية، لم أُصوَّر فوتوغرافيًّا قط. حمواي المرتقبيْن في حاجةٍ لمعرفة كيف أبدو».
لكن هالدار رفض. قال إن مَن يرغب في رؤيتها عليه ملاحظتها من تلقاء نفسه، ويمكنه رؤية البكاء والعويل وصد العُملاء. أخبرها أنها سبب خراب عمله، عائق وخسارة. مَن بالبلدة يحتاج صورة ليعرف هذا؟ في اليوم التالي توقفتْ بيبي عن تسجيل قائمة الجرد تمامًا وأبهجتنا، عوضًا عن ذلك، بتفاصيلٍ مُتهوِّرة عن هالدار وزوجته. قالت:
«في أيام الآحاد يقتلع الشعر من ذقنها. يحفظا أموالهما بالثلاجة المغلقة جيدًا».
تبخترتْ فوق أسطح الجيران المتجاورة، وتحدثتْ بصوتٍ مرتفع. لذلك ازداد جمهورها مع كل تصريحٍ عنهما.
«تضع دقيق الحُمُّص على ذراعيها في أثناء الاستحمام، لاعتقادها أنه سيجعلهما أكثر بياضًا. الإصبع الثالث من قدمها اليمنى مفقود. السبب في طول قيلولتهما هكذا هو استحالة إرضائها».
لتهدئتها، نشر هالدار إعلانًا من سطرٍ واحد في جريدة المدينة للعثور على عريس: «فتاة، غير مستقرة، طولها 152 سم، تبحث عن زوج».
شخصية العروس المرتقبة لم تكن سرًا على آباء شبابنا، ولا توجد أسرة ستحمل على عاتقها هذه المجازفة المزعجة. مَن بوسعه إلقاء اللوم عليهما؟ كانت هناك شائعات أن بيبي تتحدث مع نفسها في طلاقة لكن بلغة مبهمة تمامًا، وأن نومها بلا أحلام. حتى الأرمل الوحيد ذو الأسنان القليلة، والذي يُصلح حقائبنا بالمتجر، لن يقتنع بها ولن يتقدم لخطبتها. ورغم ذلك بدأنا في تدريبها لتكون زوجة لنصرف انتباهها. قلنا:
«العبوس مثل وعاء الأرز لن يصل بك إلى شيء. الرجال يحتاجون إلى الملاطفة».
من ضمن تدريبات مقابلة العريس المحتمل، تشجيعها على الدخول في محادثات مع رجالٍ محيطين. عندما وصل حامل الماء إليها بعد انتهاء جولته لملء الجرة، جعلناها تقول:
«كيف حالك؟»
عندما أفرغ بائع الفحم سِلالهِ على السطح، كانت نصيحتنا أن تبتسم وتُعلِّق على أحوال الطقس. حشدنا كل خبراتنا، وأعددناها للمقابلة.
«في الغالب سيأتي العريس بصحبة أحد الوالدين، جدة وعم أو عمة. سيحدقون بكِ، سيسألون العديد من الأسئلة. سيفحصون باطن قدميك وكثافة ضفيرتك. سيسألونك عن اسم رئيس الوزراء، وسيجعلونك تُلْقينَ شعرًا. تُطْعمينَ دستةً من الرجال الجائعين نصف دستة من البيض».
عندما مر شهران دون أي رد على الإعلان، شعر هالدار وزوجته أنهما قد أبرأا ذمتيْهما.
«الآن، أرأيتم أنها غير مؤهلة للزواج؟ أرأيتم أنه لا يوجد رجل عاقل سيلمسها؟»
لم تكن الأمور بهذا السوء مع بيبي قبل وفاة والدها. (لم تصمد الأم بعد ولادتها). في سنواته الأخيرة، صمم الرجل العجوز مدرس الرياضيات في مدرستنا الإبتدائية، على تقفي أثر مرض بيبي وكل أمله أن يجد منطقًا في حالتها. كان يجيبنا عندما نسأل عما وصل إليه:
«كل مشكلة لها حل».
كان يُطمْئِن بيبي. لفترة زمنية كان يُطمْئِننا جميعًا. كتب خطابات إلى الأطباء في إنجلترا. قضى لياليه يقرأ المراجع الطبية بالمكتبة. توقف عن تناول اللحم في أيام الجمعة ليرضي إلهه المنزلي. وأخيرًا توقف عن التدريس أيضًا، وصار يلقي الدروس في حجرته فقط، ليتمكن من متابعة بيبي طوال الوقت. رغم أنه حصل في شبابه على جائزة لقدرته على استنتاج الجذور التربيعية من الذاكرة، لم يستطع حل لغز مرض بيبي. ونتيجةً لعمله، قادتْه تسجيلاته إلى استنتاج أن نوبات بيبي تتكرر في الصيف أكثر من الشتاء، وإنها عانت تقريبًا من 25 نوبة عظيمة. رَسَمَ جدولًا للأعراض التي تنتابها مع إرشادات لتهدئتها، ووزَّعَ نسخه على الجيران، لكنها ضاعت في النهاية. تحوَّلتْ إلى مراكب شراعية في أيدي أطفالنا. أو استخدمناها في حساب ميزانية البقالة على الجانب الآخر.
بعيدًا عن البقاء بصحبتها، بعيدًا عن تخفيف آلام مصائبها، بعيدًا عن إبقاء عين من حين لآخر عليها، كان هناك القليل نفعله لتحسين الموقف. لم يكن أحد منا بقادرٍ على فهم هذا الأسى. في بعض الأيام، بعد القيلولة، مشَّطنا شعرها، وكُنَّا نتذكر بين الحين والآخر أن نغيِّر تسريحة شعرها حتى لا يكبر الفرق كثيرًا. وبناءً على طلبها، كنا نضع لها البودرة أسفل شفتيها ورقبتها ونحدد حاجبيْها بالقلم، ونتمشى معها حتى بركة السمك حيث يلعب أطفالنا الكروكيت في الظهيرة. كانت لا تزال مصممة على إغراء رجل. تقول:
«بعيدًا عن حالتي، لكنني ما زلت في تمام صحتي».
تجلس على مقعد على طول ممر حيث الرجال والنساء المتحابين يتجوَّلون بأيادٍ متشابكة.
«لم أُصَب يومًا بالبرد أو الأنفلونزا. لم أُصَب باليرقان. لم أعانِ قط من المغصٍ أو سوء الهضم».
أحيانًا كُنَّا نشتري لها كوز ذرة مدخن مع عصير ليمون، أو ندفع بيستيْن مقابل الكراميل. كُنَّا نواسيها. وعندما كانت مقتنعة أن رجل ما سيوليها اهتمامه، كُنَّا نوافقها. لكنها لم تكن تحت مسؤوليتنا، وفي أوقاتنا الخاصة كُنَّا ممتنين لهذا.
في نوفمبر، عرفنا أن زوجة هالدار حامل. في هذا النهار بالمخزن، بكت بيبي. قالت:
«قالت إنني مرضٌ مُعْدٍ، مثل الجدري. قالت إنني سأعدي الطفل».
كانت تتنفس بصعوبة، وعيناها مثبتة على بقعة مقشرة في الجدار.
«ماذا سيحدث لي؟»
لم يكن هناك رد بعد على الإعلان بالجريدة.
«أليس عقابًا كافيًا أنني أتحمل هذا الشقاء بمفردي؟ هل لا بُد أن أُوَبخ على عدوى أخرى؟»
زادت الاحتجاجات داخل أسرة هالدار. بدأت زوجته، المقتنعة أن وجود بيبي سيعدي الطفل، تلف الشالات الصوفية حول بطنها المنتفخ. وضعت لبيبي بالحمام صابون ومناشف منفصلة. قالت الخادمة التي تساعد في غسيل الأطباق إن أطباق بيبي لا تُغْسَل مع أطباق الآخرين. بعد ذلك في ذات ظهيرة، ودون إنذار، حدثتْ نوبةٌ أخرى. على ضفاف بركة السمك، سقطتْ بيبي على الرصيف. ارتجفتْ. اهتزتْ. عضتْ شفتيها. حاوطتْها مجموعة من الناس في الحال، متحمسين للمساعدة بأي طريقة ممكنة. ثبت فاتح زجاجات الصودا أعضاءها المهتزة بعنف. حاول بائع شرائح الخيار أن يفك أصابعها. غمرتْها إحدانا بماءٍ من البركة. وأخرى بللتْ فمها بمنديلٍ معطر. كما أمسك بائع الكاكايا برأسها التي قاومت حتى تحرُّكها من جانب لآخر. والرجل الذي يعصر قصب السكر في العصَّارة اليدوية، قبض على مروحة يد يستخدمها عادةً في طرد الذباب، وحرك الهواء فوقها من كل زاويةٍ ممكنة.
«ألا يوجد طبيب في هذا الحشد؟»
«تأكد من أنها لم تبتلع لسانها!»
«هل أخبر أي شخص هالدار؟»
«إن حرارتها مرتفعة أكثر من الفحم!»
رغم جهودنا، استمرتْ النوبة. صارعت عدوها، عصفت بالكرب، صرَّتْ على أسنانها وارتعشت ركبتاها. مرَّ أكثر من دقيقتيْن. كُنَّا نراقبها في قلق. وتساءلنا ما العمل.
«جلد!»
صرخ أحدهم فجأة:
«إنها في حاجة إلى شم الجلد».
وقتها تذكرنا؛ في المرة الأخيرة حدثت لها النوبة، وضعنا خُفًّا من جلد البقر تحت خياشيمها وهو ما حررها أخيرًا من قبضة العذاب. سألناها عندما فتحت عينيها:
«ماذا حدث يا بيبي؟ أخبرينا عما حدث!»
«لقد شعرت بارتفاع حرارتي، ثم ارتفعت أكثر. ومر دخان أمام عينيْ. استحال العالم إلى اللون الأسود. ألم تروه؟»
رافقتْها مجموعة من أزواجنا إلى منزلها. تكاثف الظلام، ونُفِخَ في أصداف المحارة، وعبق الهواء ببخور المصلين. تمتمتْ بيبي وترنحتْ لكنها لم تقل شيء. كانت الكدمات بوجنتيها، والجروح في كل مكان. تلبد شعرها، وكسا الوحلُ كوعيْها، وكُسِرَتْ قطعة صغيرة من سنها الأمامية. كُنَّا نتابعها، وافترضنا أننا على مسافة آمنة، ممسكين أطفالنا بأيدينا. كانت تحتاج إلى بطانية، كمادة، ودواء مهدئ. تحتاج إلى صحبة أحدهم. لكن عندما وصلنا إلى ساحة دار هالدار وزوجته رفضا أن يستقبلاها. أصر هالدار قائلًا:
«هناك خطر طبي عظيم على المرأة الحامل التي تعيش بالقرب من شخصٍ هستيري».
قضت بيبي ليلتها في المخزن.
ولدت ابنتهما على يد جراحٍ في نهاية يونيو. حتى ذلك الوقت عادت بيبي تنام بالدور الأسفل، أبقيا سريرها في الرواق ولم يسمحا لها بلمس الطفلة مباشرة. كل يوم كانا يرسلاها إلى السطح لتدوِّن الجرد حتى الغداء، ثم يحضر لها هالدار فواتير بيع الفترة الصباحية وصحنًا من البازلاء الصفراء المشقوقة لغدائها. وفي الليل تشرب اللبن وتأكل الخبز بمفردها على الدرج. انتابتها النوبات، الواحدة تلو الأخرى، دون أن يفحصها الأطباء.
عندما عبَّرنا عن قلقنا، قال هالدار إن الأمر ليس من شأننا، ورفض مناقشته معنا بحدة. ولنعبر عن استيائنا، بدأنا في شراء احتياجاتنا من متجر آخر: كان هذا انتقامنا الوحيد. بعد أسابيع تكاثرتْ الأتربة فوق أرفف بضائع هالدار. ذبلتْ الملصقات وتحولت الكولونيا لرائحة عطنة. عندما كُنَّا نمر بالصدفة في الليل، نجد هالدار جالسًا بمفرده، يضرب البعوض بنعلِ خُفِّه بعنفٍ. بالكاد كُنَّا نرى زوجته. وفقًا لخادمة غسل الأطباق، فإنها ما زالت طريحة الفراش، كان جليًّا أن آلام مخاضها كانت قوية.
جاء الخريف، اقترب موعد عطلات أكتوبر، وانشغلت البلدة بالتسوُّق والتخطيط لهذه المناسبة. انطلقت أغاني الأفلام من مكبرات الصوت المُعلَّقة في الأشجار. كانت المعارض والمتاجر تفتح أبوابها طوال اليوم. ابتعْنا لأطفالنا البالونات والشرائط الملونة واشترينا الحلويات بالكيلو، مكالمات مدفوعة الأجر بسيارات الأجرة للأقارب الذين لم نرَهم خلال العام. أصبحت الأيام أقصر والليالي أشد برودة. أغلقنا ستراتنا وسحبنا الجوارب لنرتديها. البرودة التي جاءت أثارت الحكة في حلوقنا. جعلنا أطفالنا يتغرغرون بماءٍ ملح دافئ وقمنا بلف الكوفيَّات حول رقابهم. لكن ابنة هالدار مَن سقطت مريضة.
اسْتُدعي الطبيب في منتصف الليل واستطاع السيطرة على الحمى. تضرَّعتْ إليه زوجة هالدار:
«اشفِها!»
أيقظنا بكاؤها الحاد.
«سنعطيك ما تريد، فقط عالجها!»
كتب الطبيب على جلوكوز، أسبرين مطحون بالهاون، وأخبرهما أن يلفا الطفلة بالألحفة والأغطية. لم تتزحزح الحمى رغم مرور خمسة أيام. انتحبت الزوجة:
«بيبي السبب. هي مَن فعلتها، لقد أصابت طفلتنا بالعدوى. لا بُد أن نمنعها من العودة إلى الطابق الأسفل. لا بُد أن نمنعها من العودة إلى هذا المنزل».
وبدأت بيبي في قضاء لياليها بالمخزن مرة أخرى. تحت إلحاح زوجته، نقل هالدار سرير المخيم الخاص بها إلى الأعلى، ومعه صفيحة من القصدير بها أمتعتها. كان يترك وجباتها مغطاةً بمصفاةٍ في أعلى الدرج. تقول بيبي:
«لا أكترث. من الأفضل أن أعيش بعيدًا عنهما، وأُصمِّمُ منزلي بطريقتي».
أفرغتْ محتويات العلبة الصفيح. بعض الأثواب المنزلية، صورة مؤطرة لوالدها، أدوات خياطة، مجموعة من الأقمشة. رتبت أشياءها على الأرفف القليلة الفارغة. في الإجازة الأسبوعية، تعافتْ الطفلة، لكنهما لم يسمحا لبيبي بالعودة إلى الطابق الأسفل. قالت بيبي لنا لتهدئتنا:
«لا تقلقوا. إن الأمر ليس كأنهما احتجزوني هنا. لقد بدأت حياتي من قاع الدرج، الآن أنا حرة في اكتشاف الحياة كما أرغب».
لكن في الحقيقة، توقفت بيبي عن الخروج تمامًا. وعندما نسألها أن تخرج معنا إلى بركة الصيد أو لترى زخارف المعبد، كانت ترفض. تدعي إنها تُخيِّط ستارةً جديدة لتُعلِّقها على مدخل المخزن. بدت بشرتها شاحبة. تحتاج إلى الهواء المنعش. نقترح:
«ماذا عن البحث عن زوج؟ كيف تتوقعين أن تسحرين رجلًا وأنتِ تجلسين هنا طوال اليوم؟»
لكن لم يحركها شيء.
في منتصف ديسمبر، أزال هالدار كل البضائع التي لم تُبَع من على أرفف متجره، ونقلها بصناديقٍ إلى المخزن بالأعلى. نجحنا في زعزعة تجارته. قبل انتهاء العام، انتقلت الأسرة وتركت مظروفًا مغلقًا به ثلاثمئة روبية تحت باب بيبي. لم نعرف عنهم أي أخبار بعد ذلك. كان بحوزة أحدنا عنوان أحد أقارب بيبي في حيدر آباد، فكتبنا له خطابًا نستفسر عن الوضع. عاد الخطاب إلينا دون أن يُفْتَح، لم يُستَدلّ على العنوان. قبل حلول الأسابيع الأكثر برودة، أصلحنا قفل مصراع نافذة المخزن، ووضعنا لوحًا من القصدير على إطار الباب، وبذلك توفر لها على الأقل بعض الخصوصية. تبرع أحدنا بمصباح كيروسين، وأعطاها آخر ناموسية قديمة وزوجًا من الجوارب دون كعوب.
في كل فرصة نذكرها أننا حولها، وأن عليها فقط أن تأتي إذا احتاجت إلى نصيحة أو مساعدة. لفترة كُنَّا نرسل أطفالنا ليلعبوا على السطح في أوقات الظهيرة، وبذلك يحذرونا إذا انتابتْها نوبة أخرى. لكن في الليل كُنَّا نتركها بمفردها. مرت بضعة أشهر. انسحبت بيبي في صمتٍ عميق وممتد. كُنَّا نتناوب تقديم صحون من الأرز وأكواب من الشاي إليها. كانت تشرب القليل وتأكل أقل، بدأت في الاستسلام لتعبيرٍ لا يناسب عمرها. في الغروب تدور حول الدرابزين مرة أو مرتين. لكنها لم تترك السطح قط. وفي المساء تبقى خلف لوح القصدير ولا تخرج لأي أسباب. لم نزعجها. تساءل بعضنا إذا كانت قد رحلت عن الحياة. استنتج الآخرون أنها قد فقدت عقلها.
في أحد صباحات شهر أبريل، عندما عاد الحر مرة أخرى ليجفف رقائق العدس على السطح، لاحظنا أن أحدًا ما تقيأ بجانب صنبور الحوض. كما وجدنا هذا في اليوم التالي أيضًا، فطرقنا باب بيبي القصدير. ولما لم نجد أي استجابة، قمنا بفتحه بأنفسنا. حيث لا توجد أقفال لتُحكم إغلاقه. وجدناها ملقيةً على سرير المعسكرات. كانت حاملًا في الشهر الرابع تقريبًا. قالت إنها لا تتذكر ما حدث. لم تخبرنا مَن فعل هذا. أعددنا لها السميد مع الزبيب المنقوع في اللبن الساخن، لكنها لم تكشف عن شخصية الرجل. عبثًا بحثنا عن آثارٍ للاعتداء، ما قد يشير إلى اقتحام، لكن الحجرة كانت مُنظَّفة بعناية. على الأرض بجانب الفراش، دفتر قائمة الجرد، مفتوحًا على صفحات جديدة مُدوَّنة فيها قائمة من الأسماء. حملت الطفل تسعة أشهر كاملة. وفي إحدى ليالي سبتمبر، ساعدناها في ولادة الطفل. وضحنا لها كيف تطعمه، وكيف تهدئه لينام. اشترينا لها مشمعًا وساعدناها في خياطة ملابس وأغطية للوسادات من الأقمشة التي حفظتْها على مر السنين. في خلال شهر، استردتْ بيبي عافيتها بعد الولادة، وطلتْ المخزن باللون الأبيض بالنقود التي تركها لها هالدار، ووضعتْ أقفالٌ على النافذة والأبواب. ثم نُظِّفتْ الأرفف من الأتربة، ورُتِبتْ عليها بقية مستحضرات التجميل، وباعتْ منتجات هالدار القديمة بنصف الثمن. طلبت منا أن نذيع خبر فتح المتجر من جديد، وفعلنا. ابتعنا منها الصابون والكحل، الأمشاط والبودرة. عندما باعت آخر بضائعها، ذهبت بتاكسي إلى متجر البيع بالجملة، استخدمتْ ربحها في شراء مستحضرات جديدة وإعادة ملء الرفوف. وبهذه الطريقة ربت الطفل وعملتْ بتجارتها بالمخزن، وفعلنا ما بوسعنا لمساعدتها. لسنوات بعد ذلك، تساءلنا مَن ببلدتنا ألحق العار بها. استجوبنا بعض خَدَمنا. وفي أكشاك الشاي ومحطات الحافلات، ناقشنا المُشتبه بهم وطردناهم. لكن لم تكن ثمَّة أهمية لمتابعة التحقيق. على حد معرفتنا، لقد شُفِيَتْ تمامًا.
وسيلة مواصلات هندية تقليدية عبارة عن عربة خشبية تُجرُّ باليد[1]